الفصل الأول

تطوُّر العالم الاقتصادي وعناصر اليُسر الحديثة

اختلفَت العوامل التي وَجَّهَتْ نشاط الأمم في مختلف أدوار تاريخها، فكانت عوامل حربيةً حينًا وعوامل دينيةً أو سياسيةً حينًا آخر، وبين هذه العوامل المختلفة، أي: العرقية أو الدينية أو السياسية أو الحربية أو الاجتماعية، التي أثرت في مختلف مراحل التاريخ، مثلت العوامل الاقتصادية دورًا لم تَزَل أهميته تَعظُم، وقد بلغت هذه العوامل الاقتصادية من النفوذ ما جعل أنصار المذهب المعروف ﺑ «المادية التاريخية» منها جوهر جميع الحضارات.

وترى الشأن الحديث للعوامل الاقتصادية مَدينًا — على الخصوص — لاكتشافات العلم التي غَيَّرَتْ شروط الحياة تغييرًا تامًا.

واليوم إذا عدوت زراعة بلدٍ وجدت ثروته تتوقف على مقدار ما يتصرف فيه من قوة بخارية، فما كانت إسبانية وإيطالية والبلقان الفقيرات في الفحم الحجري لتساوي اقتصاديًّا إنكلترة وأمريكة الغنيَّتَين به مثلًا، ولو عَرَفَت القرون القديمة أمر الفحم الحجري ما بَقِيَتْ بلاد اليونان وإيطالية قُطبَي الحضارة الكبيرَين لا ريب.

•••

وقد جعلت كثرة وسائل النقل الحديثة مُختلف الأمم من كثرة التضامن ما يكون عمل حكوماتها معه دون عمل صِلاتها التجارية.

وتُشاهَد نتائج مثل هذا التواصُل يوميًّا حتى بين البِقَاع البعيد بعضها من بعض، ومن ذلك أن مُرَبِّي الحيوانات الأُستراليين مثلًا يُضطرُّون عن عدم وجود الفحم الضروري للمصانع إلى إرسال صوف ضأنهم إلى إنكلترة ليُنسَج فيها، على الرغم من نفقات النقل المُضاعَفَة.

ولا يستطيع بلدٌ في الوقت الحاضر أن يعيش من مُنتجاته حصرًا، وكان أوليس في جزيرته قائمًا بحاجات نفسه مُستعينًا ببنيلوب وبعض الرعاة، والآن يتطلب صُنع ثوبٍ بسيط تعاوُن قارَّاتٍ كثيرة، واليوم ترانا مُحاطين بأشياءَ تأتي من جميع أجزاء العالم، فتُبصِرُ أحقر مواطن مدينًا بحياته اليومية للعالم بأسره.

ولسهولة العلاقات الأُمَميَّة الحديثة في التاريخ كثيرًا نتائج لا يُمكن إلا أن تَعظُم، فكلُّ أمةٍ مُضطرةٌ إلى البحث في الأقاصي عمَّا يعوزها، وهي تدفع ما يفيض من إنتاجها ثمنًا له، ولا تعيش الأمم الحاضرة إلا بتبادلها ما تنتج، وقد بلغ الإصدار من فرنسة عشر مرات زيادةً على ما كان عليه سنة ١٨٤٠، وقد بلغ الإصدار من الولايات المتحدة عشرين مرةً زيادةً على ما كان عليه في تلك السنة.

وهكذا تقوم الأمم بمزاحمةٍ اضطرارية يُحَدَّدُ بها ثمن بيع السلع، ومن ثمَّ عادت الأجور لا تُعَيَّن بإرادة العامل ولا بإرادة صاحب المصنع، بل بإمكانيَّات البيع، وفي الاقتصاد السياسي تكون للحوادث البادية النفع في الغالب نتائجُ مخالفةٌ للمرجُوِّ منها. ومن ذلك أن نال عُمَّال الإنكليز ارتفاعًا عظيمًا في الأجور بواسطة نقاباتهم، فأدَّى هذا إلى زيادة ثمن التكلفة، فإلى بطالةٍ واسعة المدى لِما حدث من صعوبة البيع تبعًا لذلك، أي: جاءت هذه النتيجة المخالفة مخالفةً مطلقة لِما كان العمال وزعماؤهم يعتقدون نَيلَه.

•••

يوجد بين الحوادث الاقتصادية التي تصبح ناظمةَ العالم الكبرى ما سيكون أعظم من العوامل السياسية القديمة بمراحل، ومن ذلك مثلًا: نقص الأسواق الخارجية بالتدريج، هذا النقص الذي يزيد يومًا بعد يوم، والواقع أن جميع البلدان تُجَهَّز بالآلات مقدارًا فمقدارًا لتقوم بحاجات نفسها وتصير مُصْدِرة.

وفي أيامنا تبدو التدابير الاشتراعية البالغة النفع في طفولة الأمم من عدم الجدوى ما لا تُحَلُّ المشاكل الاقتصادية معه.

وتُعَدُّ البطالة التي تُشاهَد لدى كثيرٍ من الأمم الأوربية كإنكلترة مثلًا نتيجة إغلاق الأسواق الخارجية بالتدريج.

وتعتقد بعض الدول قدرتها على معالجة أخطار هذا الوضع برسوم الجمارك التي تَحُول دون مزاحمة المنتجات القومية، ولكن هذه الدول إذ تخشى المقابلة بالمثل فإنها تُضْطَر إلى عدم الإيغال في هذا السبيل، ولا ريب في أن آخر حاصلٍ للإفراط في الإنتاج لدى مختلَف الأمم هو حدوث نقصٍ كافٍ في السكان يكون به مناسبًا لوسائل العيش.

ويمكن تَمَثُّل مقدار ما تؤدِّي إليه البطالة من خرابٍ عند التفكير في اضطرار إنكلترة إلى تموين ثلاثة ملايين بَطَّال، وتُعَدُّ هذه المشكلة من أصعب مشاكل الحياة الاقتصادية في العالم، وقد لخَّصَتْ «الطَّان» ناحية هذه الأزمة العامة في السطور الآتية:

… مرضٌ مزمنٌ لدى بعض الدول، حادٌّ لدى الأخرى، من غير أن يُمكن التفريق بين الدول الرأسمالية والدول الشيوعية، وإذ إن هذه الدول تُصاب بهذا المرض على نحوٍ واحدٍ فإنه يُهدِّدُ بإهلاك أقوى الأمم، وذلك بتعرُّضها لعدم صبر الجمهور، أو لأن هذه الأمم تَسَع تلك الدول في مقابل تضحياتٍ مُبيدة.

… ونرى أنه يوجد لدى البلاشفة من البطَّالين بمقدار عمال الإنكليز وممولي الأمريكيين، وما سبب هذا المرض الذي يبدو الخبراء الاجتماعيُّون عاجزين تجاهه إذن؟ …

… ومع ذلك لم يصل الإنكليز الذين يعانون هذه المصيبة منذ ثمانية أعوامٍ إلى نتيجةٍ عملية حتى الآن، خلا ما هو واقعٌ من دفعهم في كلِّ سنةٍ ملياراتٍ إلى عُمَّالٍ يائسين، يفقدون ذوق العمل وعادته شيئًا فشيئًا.

… وعند سكرتير المالية السابق مستر صموئيل: أن البطالة ناشئةٌ عن نقص المبيعات الإنكليزية في الأسواق الخارجية نتيجةً لارتفاع ثمن التكلفة، فقد قال: «إن عُمَّالنا أرادوا تعيين أجورهم إجمالًا، مع أن المشترين من الأجانب هم الذين يُعَيِّنون هذه الأجور.»

… والوضع في جميع البلدان هو أن الصناعات التي تقوم بالخِدم هي ما تؤلَّف به بالتدريج طبقةٌ ممتازة إجحافًا بالزُّرَّاع أولًا، وبالعُمَّال ثانيًّا. والخلاصة: هي أنه كلما ثقلت وطأة الاستخدام العام والخاص على الأمة قلَّ إنتاجها، وهي تصبح بذلك كالمصنع الذي يعتصر نفقاته العامة.

… وقد تذرَّعَتْ فرنسة بما لم تتذرَّع به إنكلترة من حكمةٍ، فلم تُضَحِّ بزراعتها في سبيل صناعتها، ولا ريب في أنها عاشت ضِمن أحوالٍ أقلَّ رغدًا وأنها لم تُثْرِ على ذات الوزن، ولكنها تمتَّعَتْ باستقرارٍ يحسدها عليه جميع العالم. وليس أقلَّ من هذا صحة كون سكون تناسلها يُهَيِّئ لها فرصة زيادة العمل، وإن كان يجعلها على مستوًى متأخرٍ في المسابقات العسكرية.

وكيف تُعَدُّ وسائل العيش لجمع البَّطَّالين المتكاثر؟ تقترب الساعة التي لا تستطيع ميزانيةٌ أن تُمَوِّنهم فيها، ولا يمكن أن يُوجد ما لا نهاية له من الأعمال العامة لإعاشتهم، والآن يُكتفى بإيجاد طرقٍ لذلك. ومن ذلك أن قَلَّلَتْ إيطالية رواتب جميع موظفيها ومنهم الوزراء، بمقدار اثني عشر في المائة. ومن ذلك أن كثيرًا من الشركات في إنكلترة يحاول خفض الأجور على السواء، ولا بُدَّ من انتحال هذا الحل الموقت بحكم الضرورة في جميع البلدان التي يزيد سكانها على وسائل العيش فيها.

•••

وتكفي الملاحظات السابقة — على اختصارها — لبيان كون الحوادث الاقتصادية في أيامنا تؤلِّف شبكةً من العلل والمعلولات أعلى من جميع العزائم، فيخضع لسلطانها جميع عناصر الحياة الاجتماعية المترَجِّحَة بين عدد السكان وأدقِّ جزئيَّات العيش.

ومن ذلك أن أصبح عدد سكان ألمانية ٦٧ مليونًا في سنة ١٩١٤، بعد أن كان ٣٦ مليونًا في سنة ١٨٧١، أي أنه صار ضِعف ما كان عليه تقريبًا، فوجب لتغذية سكانٍ أخذوا يجاوزون وسائل عيشهم بهذا المقدار أن يُبحث عن منافذ في البلدان البعيدة، فأدَّتْ هذه الضرورة إلى إيجاد بحرية تجارية، ثم إلى إيجاد بحرية حربية لحمايتها.

ووجد هؤلاء الواردون الجُدد على الأسواق الاقتصادية الأجنبية أنفسهم مزاحمين لأممٍ أخرى مُصدرةٍ مستقرةٍ منذ زمنٍ طويل، فنشأَتْ عن ذلك منازعاتٌ كانت من أسباب الحرب الأخيرة.

ومع أن الحروب السابقة كانت حروب ضَمٍّ ناشئة عن طموح الملوك على العموم، فإن الحروب الحاضرة تنشأ عن مصالح اقتصادية على الخصوص.

•••

وبما أن أجور العُمَّال تُحَدَّد بثمن التكلفة ولا تتبع إرادة العمال ولا إرادة أصحاب المصانع، فإنه صار يُبحث عن إمكان زيادة الأجور من غير أن يُزاد ثمن التكلفة.

حُلَّتْ هذه المُعضلة المستعصية حَلًّا جزئيًّا بتجارب أدَّتْ إلى ما سُمِّيَ: مذهب العمل العقلي، وقام هذا المذهب على سلسلةٍ من الطُّرُق التي يُزاد بها الإنتاج من غير أن يُزاد العمل، فإذا ما أُفرِطَ في توسيع مدى هذا المذهب الرائع في ذاته أمكن أن يؤدِّي إلى زيادة في الإنتاج مُوجِبةٍ بطالاتٍ جديدة.

وكان من النتائج النهائية لمقتضيات الاقتصاد التي أشرنا إلى بعض عناصرها، ولا سيما هبوط ثمن التكلفة: إيجاد مصانع واسعةٍ؛ حيث يؤدي التخصُّص في العمل إلى دخلٍ أكثر اقتصادًا. وقد أدَّى هذا الاحتياج إلى مصانع أكثر اتِّساعًا، ومن ثَمَّ أغلى ثمنًا، إلى جعل إيجادها جماعيًّا، فبما أن قليلًا من المُستصنِعِين يكون على شيءٍ من الثراء ما يُنشِئها معه، فإن مُعظم المصانع المهمة وُضع على شكل شركات مُغفلة يَملكها ألوفٌ من أصحاب الأسهُم.

إذن تسفر مقتضيات الاقتصاد التي نُعَدِّدها إلى تحوُّل الرأسمالية الفردية إلى رأسمالية جماعية، وتختلف هذه الرأسمالية الجماعية عن الرأسمالية الحكومية التي يحلم بها الاشتراكيُّون، فتؤدي دائمًا إلى زيادة ثمن التكلفة، ومن ثمَّ تؤدي إلى نقص أجور العمال.

وقد أثبتت الوقائع، خلافًا لزعم كارل ماركس: أن أسهم مواثقات الولايات المتحدة العظيمة موزَّعة بين عدد متصاعد من الأيدي، ومما لاحظه مسيو بول رينو «أن عدد أصحاب الأسهم في شركة الزيت بلغ ٧٧٢٠٠ في سنة ١٩٢٦ بعد أن كان ٧٦٥٩ في سنة ١٩١٧ … فالمشروع الكبير يتحول إلى شيءٍ مشترك بين العامل والمستصنِع.»

وبذلك يمكن تصوُّر مقدار الازدراء الذي ينظر به العمال الأمريكيُّون إلى الاشتراكية الأوربية، فهي لا تُعَدُّ عندهم غير عنوان لتعطيل كل جهد وللاستعباد الحكومي وللمساواة في البؤس.

•••

ومن أشدِّ العوامل الاقتصادية الحديثة فعلًا هو زيادة السرعة باستمرارٍ في جميع ناظمات الحوادث، ويُشتقُّ تأثيرها من السنن العلمية التي لا يخلو ذكرها من فائدة.

تقوم معادلات الكون الكبرى على الحركة، أي القوة، وعلى مقاومة الحركة، أي السكون، أعني: خاصية المادة الجوهرية.

وتدلُّ المعادلة الميكانِيَّة الأساسية١ على ما للجِرم والسرعة من شأنٍ متقابل، وعلى الوجه الذي يقوم به كلٌّ من هذين العنصرين مقام الآخر من غير تغييرٍ في النتيجة، ومن الممكن إذن أن يَحُلَّ صِغَر الأجرام محل زيادة سرعتها، ومن ذلك أن قام تقدُّم المدفعية على إحلال القنابل الصغيرة ذات السرعة العظيمة محل القنابل الضخمة ذات السرعة الضعيفة.

وقد بيَّنتُ في كتابٍ آخر أن من الممكن تصوُّر آلةٍ نظرية مؤلفةٍ من كُرَيَّةٍ دقيقة تدور في دائرة فصِّ خاتم، فتُنتج بسرعة دورانها حول المركز من القوة ما يعدل قوة ألف قاطرة بخارية.

ويتم إحلال السرعة محل الجِرم في الصناعة مقدارًا فمقدارًا، ففي الماضي كانت تُستخدم دواليب ضخمة ذات محورٍ عمودي يدور بالمياه الجارية، وفي الزمن الحاضر تَتَّخذ المصانع المائية القائمة في أسفل الجبال دواليب يبلغ قُطرها بضعة سنتيمترات فقط، ولكن مع تزويدها بحركةٍ دورانيةٍ سريعةٍ جدًّا، فيُنال الإنتاج نفسه بفصل ارتفاع الحوض الذي يمدها.

وإلى زمنٍ قريب كانت سرعة الآلات محدودة جدًّا ما قامت المحركات على قوة الإنسان والحيوان والريح والماء فقط.

ولما اكْتُشِفَت الطاقة المحركة الكامنة في الفحم الحجري زادت سرعة الآلات وعددها زيادةً عظيمة، فبالنظام الآلي ظهر عصر السرعة، أجل، استمرت المصانع على استخدام عددٍ من العمال المنظورين، ولكنه يعمل بجانبهم جمعٌ من العبيد الخافين الذين يزيدون الإنتاج زيادةً هائلة، ويتألف هذا الجمع من القُوى المستخرجة من الفحم الحجري، وفي كتاب «المعارف النفسية حول الحرب» بيَّنْتُ أن ما يُنتجه العمل حين الصراع باﻟ ١٩٠ مليون طن من الفحم الحجري الذي تستخرجه ألمانية من أرضها، يعدل إنتاج ٩٥٠ مليون عامل؛ ولذلك يمكن أن يُقال إن عدد عمال ألمانية الخافين في ذلك الحين كان ٩٥٠ من الملايين، أي أكثر بمراحل من ملايين السكان اﻟ ٦٥ الذين أشارت الإحصاءات إليهم.

•••

ويبدو شأن السرعة العظيم في جميع حوادث الحياة، ولا سيما في إيجاد الثروة، ويظهر هذا الإيجاد مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا في سرعة تداول النقد.

والواقع أنه يمكن استبدال سرعة التداول بضخامة رأس المال، كما أنه يمكن أن يُعتاض من صِغَر الجِرم بزيادة سرعته، وليس المهم في التجارة الحديثة مقدار الربح من بيع إحدى السلع، بل سرعة تجديد هذه السلعة، ومن الممكن — كما هو واضح — أن يؤدي ربح خمسةٍ في المائة من بيع السلعة بيعًا مكررًا في الغالب إلى ثمرةٍ أعظم من ربح خمسين في المائة من ذات السلعة التي تُترَك زمنًا طويلًا في المخزن.

والسرعة تمثل دورًا مهمًّا في العلاقات الدولية أيضًا، فهي إذ قَلَّلَت المسافات عمليًّا أسفرت عن تماس أممٍ غير متعارفة سابقًا، فغيَّرَتْ أحوال معايشها غالبًا، وإلى وقتٍ قريب كان لا بد من مدة خمسة عشر يومًا يُقضَى في السفر بين باريس ومَرسِليَة، فصار يكفي قضاء ما بين ثلاث ساعات وأربع ساعات لقطع عين المسافة.

ولكن تقريب المساوف إذا كان قد أوجب جمع ما بين مصالح الأمم فإنه لم يُوَحِّد بين مشاعرها بعدُ، فالتواصُل الاقتصادي لا يُحدِث تواصُلًا نفسيًّا.

وقد امتدت زيادة السرعة من العالم المادي إلى العالم النفسي، ويلوح أن الإنسان العصري حائزٌ نمطًا أشدَّ سرعة في الرؤية والإحساس والترجيع، ولو أمكن أن تُقاس مدة أيامنا بمقدار العمل المُنجَز ومجموع المشاعر المتراكمة في هذه الأيام لأمكن أن يُقال إن طول الحياة زاد زيادةً بالغةً باكتساب السرعة.

•••

والسرعة على الخصوص هي التي تُميز الحضارة من الحضارات السابقة، وهي تَبْرز بين أهم القوى الاقتصادية التي تميل — إذ ينضمُّ بعضها إلى بعضٍ — إلى تكوين سلطةٍ عالمية مُغْفَلة بالغة من القدرة ما تسيطر معه على إرادة الأمم والمشترعين والملوك، وتؤدي هذه القوى الجديدة إلى تقدُّم من يعرف ملاءمتها من الأمم، وتسوق إلى انحطاطٍ مُقَدَّرٍ مَن يعجز عن ملاءمتها من الأمم.

وإذ إنني لا أستطيع هنا أن أبحث في سلسلة التحوُّلات الاقتصادية التي يُعانيها العالم في الوقت الحاضر، فإنني أُلخص أهمها ضمن تأمُّلاتٍ قصيرة، فأقول:
  • لم يكد يمرُّ قرنٌ على الزمن الذي كان بعض الأمم فيه مستقلًّا عن بعض، واليوم لا يستطيع بعض الأمم أن يستغني في الحياة عن بعض.

  • من الأدلة على تواصُل الأمم في الوقت الحاضر ما حدث من اشتراك الولايات المتحدة في الحرب، وكانت هذه الحرب التي لاح أنها لا تكترث لها من نتائج تطور العالم الاقتصادي حديثًا.

  • من نتائج تواصل الأمم أن تؤدي حربٌ بين أمتين إلى حربٍ بين جميع الأمم.

  • يؤلف مختلف بلدان العالم إمبراطوريةً صناعيةً عظيمة في الوقت الحاضر، وإن كان بعضها منفصلًا عن بعض ظاهرًا.

  • يتوقف غِنَى الأمة أو فقرها — في الغالب — على الصلات التجارية البعيدة المستقلة عن الحكومات تمامًا.

  • تميل قدرة بعض البلاد المالية إلى تمثيل دورٍ أعظم بمراحل من الدور الذي كانت تُمثله قدرتها الحربية، وينشأ قسمٌ من تفوُّق الأمريكيين الحاضر عن أنهم أصبحوا أصحابًا لعددٍ كبير من الصناعات الأوربية، وقد تكون هذه الظاهرة أكثر تأثيرًا في حفظ السلم من جميع القرارات الفقهية التي تصدر عن جمعية الأمم.

ويكفي التعداد البسيط السابق لإثباتنا قلة أهمية عزائم الملوك والمشتركين ونظريِّي جميع الأحزاب تجاه الضرورات الكبرى التي تُهيمن على سير العالم الاقتصادي في الوقت الحاضر، ولم يُسَجِّل التاريخ قط معلوماتٍ أصحَّ من هذه.

١  T=mv2/2

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤