الفصل الثالث

الحركة الزبيرية

(١) الأسباب التي ساعَدَت ابْن الزبير على النجاح

كان للزعماء من الصحابة مطامِعُ سياسية عظيمة، فعَمِلَ أكابرهم على بَذْل الأموال والأرواح في سبيل الوصول إليها، ولم يَتَوَانَ ابن الزبير في السعي وراء تسنُّم عَرْش الخلافة؛ خصوصًا بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان، لكن أنَّى له النجاح وقد تَطَلَّب الزعامةَ ابنُ بنت الرسول والْتَفَّ الناس حَوْلَه في الحجاز، أمَّا الأسباب التي جَعَلَتْه يلعب دورًا كبيرًا في التاريخ الأموي ويظهر بمظهر الزعيمِ القويِّ الشكيمةِ فهي كما يأتي:

(١-١) السبب الأول: فاجعة كربلاء ومقتل الحسين

أعلن عبد الله ابن الزبير دَعْوَتَه للناس وحقَّه في الخلافة بعد مقتل الحسين، وكان قبلًا لا يجرأ على التصريح بِطَلَبِها، فاستفاد من فاجعة كربلاء وأخذ يحمل الحملات الخطابية الواحدة إثر الأخرى ضد بني أمية، فعرَّض بيزيد ووصف استهتاره وتمتُّعه بملاذ الحياة الدنيا، ثم رجع فبكى حسينًا واستبكى الناس عليه، وعدَّد مزاياه الشريفة، فذَكَرَ وَرَعَه وتقاه وشجاعته وفَضْله وإحسانه، ولام أهل الكوفة وعاب عليهم غَدْرهم بالحسين ورياءهم وحماسهم الفارغ من أجل قضيته، فأثَّرَ على الحجازيين خاصة وعلى الأحزاب المعارضة الغاضبة عامة، فالتفوا حَوْلَه ورأوا به الزعيمَ القادر على أن يثأر للدم الزكي المسفوك ظلمًا وعدوانًا، فأنت ترى أن الرجلَ الذي كان يُشَجِّع الحسين على الرحيل إلى العراق ويمدح الكوفيين ويَرْفَع ذِكْرهم، هو الرجل نفسه الذي كان يقف يومذاك على منابر مكة ليُعَرِّض بهم ويغمز من قناتهم.

وقد أثبت التاريخ لنا أيضًا أن ابن الزبير كان يكره الحسين ويُضْمِر له العداء، ويراه «أثقل خلق الله»،١ فتحوَّل كُرْهُه للحسين إلى حبِّه بعد وفاته، ومديحُه للكوفيين إلى ذَمِّهم بعد خيانتهم، وكل هذا في سبيل تنفيذ مآربه السياسية، وإليك البرهان على صحة دعوانا، فقام يخطب في مكة بعد سماعه بمقتله:
«أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونُصَدِّق قولهم ونقبل لهم عهدًا، ألا ولا نراهم لذلك أهلًا، أمَا والله لقد قتلوه طويلًا بالليل قيامُه، كثيرًا في النهار صيامُه، أحقَّ بما هو فيه منهم وأولى به في الدين والفضل، أمَا والله ما كان يبدل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شُرْب الحرام، ولا بالمجالس في حِلَق الذِّكْر الركضَ في تِطْلاب الصيد (يُعَرِّضُ بيزيد)، فسوف يلقون غيًّا.»٢

(١-٢) السبب الثاني: الصحابة لا تنازع ابن الزبير

خلا الجو لابن الزبير بعد مَقْتل الحسين، فلم يتنازَعْه منازِعٌ من الصحابة ولا أبناء الصحابة، وقد كنَّا نأمل أن يقوم عبد الله بن عمر ويدَّعي الخلافة لنفسه فلم يَفْعَل حبًّا بالسلام واتقاءً للفتنة وحقنًا لدماء المسلمين، ولا ريبَ أن عبد الله كان يَحِنُّ إلى التربع في دَسْتِها، لكنه فضَّل العافية والسلامة على القتال والهلاك، وسعى سعيًا حثيثًا ليحمل ابن الزبير والحسين على جمع كلمة الأمة بدلًا من تفرقتها، وطَلَبَ إليهما مبايعة يزيد الأول فأَبَيَا، ويذكر الطبري أنه خاطَبَهُما بقوله: «اتقيا الله ولا تفرِّقا جماعة المسلمين …» وأقام أيامًا فانتظر حتى جاءت البيعة من البلدان فتقدم إلى الوليد بن عتبة فبايعه.»٣
وقد تألَّمَ لمقتل الحسين، فنوَّه حينما رثاه وترحم عليه بما صرح به مرارًا من وجوب الاتحاد والتعاضد والانتصار لرأي الجماعة، فقال: «غلبنا الحسين على الخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له أن لا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالِحِ ما دَخَلَ فيه الناس، فإن الجماعة خير.»٤

(١-٣) السبب الثالث: ضعف الحامية الأموية وتعدُّد الولاة في الحجاز

وساعَدَ ابن الزبير على نَشْر دعوته ضَعْفُ الحامية الأموية في الحجاز، وتعدُّد الولاة الذين تقلبوا في إدارته لأمدٍ قصيرٍ، فلم يُتِحْ لهم الحظ دَرْسَ الأحوال الحجازية درسًا دقيقًا، وكان بعضهم ضعفاء الإرادة لم يُجَرِّبْهم الدهر ولم تُحنِّكهم الأيام، فارتكبوا أغلاطًا فادحة كبَّدت الأمويين كثيرًا من الدماء، نستنتج هذا من دفاع عمرو بن سعيد أمير الحجاز عن نفسه يوم اتُّهِم بسوء الإدارة، قال: «إن جلَّ أهل مكة وأهل المدينة قد كانوا مالوا إليه — ابن الزبير — وحَوَوْه وأعطوه الرضا، ودعا بعضهم بعضًا سرًّا وعلانية، ولم يكن معي جندٌ أقوى بهم عليه لو ناهضْتُه، وقد كان يَحْذَرُني ويتحرز مني، وكنت أُرْفِق به وأداريه لأستمكر منه فأثب عليه، مع أني قد ضيَّقْتُ عليه ومنعته في أشياء كثيرة لو تركْتُه وإياها ما كانت له إلا معونة، وجعلْتُ على مكة وطرقها وشعابها رجالًا لا يَدَعُون أحدًا يدخلها حتى يكتبوا إليَّ باسمه واسم أبيه ومن أي بلاد الله هو، وما جاء به وما يريد، فإن كان من أصحابه أو ممن أرى أنه يريده رددته صاغرًا، وإن كان ممن لا أَتَّهِم أخليْتُ سبيله.»٥
ويصف الطبري أحدَ الولاة وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان بقوله: «فتقدم فتى غرٌّ حدثٌ غمرٌ لم يجرِّب الأمور ولم يحنِّكه السن ولم تُضرسه التجارب، وكان لا يكاد ينظر في شيء من سلطانه ولا عمله.»٦

(١-٤) السبب الرابع: فقر الحجازيين واغتصاب الأمويين لأملاكهم وأراضيهم

لا ريبَ أن لاقتصاديات الأمة الشأن الأكبر في مجاري حياتها السياسية، فإن كانت المشاريع التجارية والزراعية والمعدنية وغيرها سائرةً سيرًا حسنًا يضمن لأهلها ربحًا جزيلًا تظلُّ تلك الأمة ناعمةَ البال قريرةَ العين لا تفكر في الثورة ولا في العصيان، ولو دَرَسْنا طبيعة الوسط الحجازي لوجدناها فقيرة قاحلة إلا فيما ينتجه نخيلها من التمور التي يصدِّرونها للخارج فيعيشون عليها، وكان معاوية يسعى لإضعاف الحجاز وتقوية الشام، فلم يبذل للحجازيين في العطاء فأُجبِروا على بَيْع أملاكهم فاشتراها منهم بأبخس الأثمان، فلما قام ابنُ الزبيرِ عاضَدُوه آملين أن يُنْصِفَهم ويردَّ عليهم أموالهم وأملاكهم.

أمَّا قلب الثورة الخفَّاق وعصبها النابض فكانت المدينة، ويقصُّ علينا ابن قتيبة كيفية تألُّمِهم من اغتصاب معاوية لأموالهم فيقول: «… وأقبل ابن ميثاء — قَيِّم أملاك معاوية — بسراحٍ له من الحرة يريد الأموال التي كانت لمعاوية، فمُنِع منها وأزاحه أهل المدينة عنها، وكانت أموالًا اكتسبها معاوية ونخيلًا يجد منها مائة ألف وسقٍ وستين ألفًا، ودخل نفرٌ من قريش والأنصار على عثمان بن محمد — والي المدينة — فكلَّموه فيها فقالوا: قد عَلِمْتَ أن هذه الأموال كلها لنا، وأن معاوية آثر علينا في عطائنا، ولم يعطنا قط درهمًا فما فوقه، حتى مضَّنا الزمان ونالتنا المجاعة فاشتراها منَّا بجزءٍ من مائة من ثمنها، فأَغْلَظَ لهم عثمان في القول وأغلظوا له، فقال لهم: لأكتبنَّ إلى أمير المؤمنين بسوء رأيكم وما أنتم عليه من كُمُون الأضغان القديمة والأحقاد التي لم تزل في صدوركم، فافترقوا على موجدة، ثم اجتمع رأيهم على مَنْع ابن ميثاء القيم عليها.»٧
اغتصب معاوية أموال أهل المدينة وضيَّق على الحجازيين الخناق، وضَرَبَهُم في صميم اقتصادياتهم كي لا تقوم لهم قائمة، أمَّا يزيد فجرى على عكس سياسة أبيه فغَمَرَهُم بعطاياه وأكرم زعماءهم وأحسن إلى فقراءهم ووعدهم بإجراء العطاء عليهم مضاعفًا إن هم أَخْلَدُوا إلى السكينة وارتاحوا إلى الحكم الأموي، ولم يكن لابن الزبير تجاه هذه المواعيد إلا أن يسرف الإسراف الكلي في ذم يزيد وانتقاده الانتقاد المرير، ومع أن الخليفة في دمشق أَكْرَمَ وفادة الوفود الحجازية فهو لم يَظْهَر أمامهم بمظهر الرجل المتحفظ في سلوكه الخاص وآدابه الشخصية، فشرب الخمر وعزف بالطنابير وجالَسَ القيان والفتيان، وراح يلهو متنعِّمًا لا يعبأ بالتقاليد التي سنَّها القوم، فغضبوا وقالوا: هو ذا رجل يحطِّم تعاليمنا ويقوِّض أركان ديننا، وانتشرت الدعوة ضد الأمويين المغتصبين لأموال الأمة المُعْرضين عن الكتاب الكريم والسنة الشريفة والشريعة المطهرة السمحاء، وهاك الدليل على سياسة الكرم التي امتاز بها يزيد واستهتاره الذي وصفناه: قال ابن قتيبة: «فإن أقرُّوا بالطاعة ونزعوا من غيِّهم فلهم عليَّ عهْدُ الله وميثاقه أن لهم عطاءين في كل عام، ما لا أفعله بأحدٍ من الناس طول حياتي، عطاء في الشتاء وعطاء في الصيف، ولهم عليَّ عهدٌ أن أجعل الحنطة عندهم كسعر الحنطة عندنا … والعطاء الذي يذكرون أنه احْتُبِسَ عنهم في زمان معاوية فهو عليَّ أن أخرجه لهم وافرًا كاملًا.»٨
وروى الطبري: «قدم وفدٌ من أهل المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيلِ الأنصاري ورجال كثير من أشراف المدينة على يزيد بن معاوية، فأكْرَمَهُم وأَحْسَنَ إليهم وأعْظَمَ جوائزهم، فلما قدم أولئك النفر الوفد المدينة قاموا فيها فأظهروا شَتْم يزيد وقالوا: إنَّا قَدِمْنا من عند رجل ليس له دين، يشرب ويعزف بالطنابير ويضرب عنده القيان ويلعب بالكلاب ويسامر الخراب والفتيان، وإنَّا نشهدكم أنَّا قد خلعناه فتابعهم الناس.»٩
ثار أهل المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة الغسيل ووثبوا على الأمويين وأحزابهم فيها، فأُجْبِروا على الهرب والالتجاء إلى دار مروان بن الحكم — في ظاهر المدينة — وهي حصينة متينة الأركان، وأخذوا يرسلون الكتب إلى يزيد يسألونه بها المعونة والإمداد، فمن رسائلهم إليه: «… أمَّا بعد فإنَّا قد حُصِرنا في دار مروان بن الحكم ومُنِعنا العذب ورُمينا بالحبوب، فيا غوثاه يا غوثاه.»١٠
فجهز إليهم يزيد جيشًا قويًّا بقيادة مسلم بن عُتبة المري، ويقول عنه الفخري: «إنه أحد جبابرة العرب وشياطينهم»،١١ واستمالت الحكومة الناس لقتال الحجازيين بما وَهَبَتْه لهم من الأموال، فنادى مناديها في الشام: «سيروا إلى الحجاز على أَخْذ أعطياتكم كملًا ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل مِنْ ساعته، فانْتُدِب لذلك اثنا عشر ألف رجل»،١٢ ويقدِّر المؤرخون عدد هذا الجيش باثني عشر ألفًا.
استعرض يزيد الأول الجيوشَ الأموية في دمشق قبيل خروجها لإخماد الثورة في المدينة، فأتى إلى الخيل يتصفحها وينظر إليها وهو متقلدٌ سيفًا متنكبٌ قوسًا عربية، وأخذت الفرق تمرُّ أمامه ومعها راياتها، وكان واقفًا على نشزٍ من الأرض يحيط به الحرس الفرسان،١٣ ولم يشأ يزيد إلا أن يودع جنده قبل مبارحتها العاصمة بكلمات حماسية، فوجَّه خطابه إلى القائد العام وقال: «إذا قَدِمْت إلى المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نَصَبَ لك حربًا فالسيف السيف، ولا تبقي عليهم وانتهِبْها ثلاثًا وأجهز على جرحاهم واقْتُل مُدْبِرهم، وأنشأ يردد:
أبْلِغْ أبا بكر١٤ إذا الأمر انبرى
وانحطَّت الرايات من وادي القرى
أَجَمْع سَكْران من القوم ترى
أم جَمْع يقظان نفى عنه الكرى١٥

ويروي الفخري أنه استشهد بالبيت الآتي حينما بَلَغَتْه ثورة المدينة:

لقد بدَّلوا الحلم الذي في سجيتي
فبدَّلْتُ قومي غلظة بليان١٦
التقى الجيش الأموي بثوار المدينة في الحرة، وهو مكان بظاهر يثرب، وقد استقتل أنصار ابن الغسيل واستماتوا في الدفاع عن حصونهم وأموالهم وأهلهم حتى كادوا يَهْزِمون جيوش مسلم مرارًا، فقام مسلم خطيبًا يهزُّ أوتار قلوبهم ببلاغته ويحضُّهم على القتال واكتساب أجْر الشهادة وجزاء أمير المؤمنين، والغريب أنه كلما كانت تشدُّ عليه خيول الأعداء تراه يغضب فتتردد على لسانه كلمات الإهانة أيضًا شأن الكثيرين من القواد العسكريين، فهم يمدحون ويذمون في آنٍ واحد، قال من خطاب له مرةً: «يا أهل الشام إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها ولا أنسابها، ولا أكثرها عددًا ولا أوسعها بلدًا، ولم يَخُصَّصُكم الله بالذي خصَّكم به من النصر على عدوكم وحسن المنزلة عند أئمتكم إلا بطاعتكم واستقامتكم … فتِمُّوا على أحسن ما كنتم عليه يتمم الله لكم حسن ما ينيلكم من النصر … إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة، والله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم … إن لكل امرئٍ منكم ميتة هو ميت بها، والله ما من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة وقد ساقها إليكم فاغتنموها، فوالله ما كُلَّما أردتموها وجدتموها»،١٧ وقال يُؤَنِّب جيشه لمَّا حَمَلَ عليه أهل المدينة حملات منكرة: «يا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم ويعزُّوا به نَصْر إمامهم، إن قبَّح الله قتالكم منذ اليوم ما أوجعه لقلبي وأغيظه لنفسي، أما والله ما جزاؤكم عليه إلا أن تُحرموا العطاء وأن تجمروا في أقاصي الثغور، شدُّوا مع هذه الراية ترح الله وجوهكم.»١٨
هزم مسلمٌ الثوار وأباح المدينة ثلاثًا، فأرهب القوم وجعل الرعب يسود في قلوبهم، وقد قُتِل نحوٌ من سبعمائة رجل من المهاجرين والأنصار وأبنائهم ومواليهم وخلفائهم، وعددٌ غير قليلٍ من الأهلين بينهم النساء والأطفال، ويقدره بعضهم بعشرة آلاف،١٩ وصالحهم على أنهم خول وقن ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء.٢٠
انتصر مسلم لبراعته الحربية، فكان دائمًا يُسْرع إلى عدوه فيفاجئه ويضربه في قلبه قبل أن يمكِّنه من الاستعداد وتهيئة الخطط، ويعجِّل معه الوقيعة الفاصلة حتى يصدمه الصدمة الأولى فيوهن قواه المعنوية والمادية، ثم كان له إدارة منظمة لمعرفة أخبار أعدائه ونَشْر الدعوة ضدها وتنوير الأذهان لما يريد بثه من الأفكار والآراء التي ترتئيها الحكومة لخيرها، واعتمد اعتمادًا تامًّا على أهل الشام، فكانوا مادَّة جُنْده القوية المخلصة، ولم يستعن بالزعماء القرشيين، فقال مرة للحصين بن نمير السكوني نائبه في قيادة الجيش: «لا تمكِّن قرشيًّا من أذنك … ولا تردَّن أهل الشام عن عدوهم.»٢١
تابعت الحملة سيرها إلى مكة بعد إخضاع الثوار في المدينة؛ وذلك لمناجزة ابن الزبير الوقيعة، فتوفي مسلم بن عقبة في الطريق في «قفا المشلل» أو «ثنية هرشا» في آخر المحرم سنة ٦٤ﻫ/٦٨٣م، وكان شيخًا مريضًا، فاستولى الحصين بن نمير على قيادة الجند بعده، ويُلَقِّبه المؤرخون ببرذعة الحمار، والتجأ فلول أهل المدينة إلى ابن الزبير لينصروه ويثأروا لدمهم المهدور، فشدَّت الحملة عليه شدة مُنْكَرة فصابرها وجالَدها أربعة وستين يومًا، وهو محصور ضمن أسوار الكعبة، ويدَّعي الكثيرون من المؤرخين أن الأمويين حرقوا البيت، وفي هذا الادعاء شيءٌ كثيرٌ من الصحة إذ قذفوه بالمجانيق، ولكن لا يَغْرب عن بالنا أنه كان للزبيريين نصيب طيب في إحراق الكعبة، فقال الطبري: «كانوا — أشياع ابن الزبير — يوقدون حول الكعبة، فأَقْبَلَت شرارة هبَّت بها الريح فاحترقت ثياب الكعبة واحترق خشب البيت.»٢٢
وروى ما سمعه من المشاهدين العيانيين عن أسباب اشتعالها فقال: «قد خلصَتْ إليها — إلى الكعبة — النار ورأيتها مجرَّدَة من الحرير، ورأيت الركن قد اسْوَدَّ وانصدع في ثلاثة أمكنة، فقلت: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجلٍ من أصحاب عبد الله بن الزبير قالوا هذا احْتَرَقَتْ بسببه، أخذ قبسًا في رأس رمح له فطيَّرت الريح به فضرب أستار الكعبة ما بين الركن اليماني والأسود.»٢٣
ووصف العقد الفريد الضرر الذي أصاب الكعبة فقال: «احترق الخشب والسقف وانصدع الركن واحترقت الأستار وتساقطت إلى الأرض»،٢٤ والحقيقة التي لا مريةَ فيها أن ابن الزبير أحبَّ أن يستفيد من حرمة الكعبة وقداستها فعاذ بها، كما أن الأمويين لم يتأخروا عن إحراقها في سبيل التخلص من عدوهم الجبار، وإن كان في ذلك إغضاب المسلمين، فاعتنى ابن الزبير في التحصن بالكعبة كيما يضع الأمويين تجاه أمرٍ واقعٍ فيعملون فيها نيرانهم، ويكون له من ذلك سلاحٌ يطعنهم به، فنجح في خطته التي دبَّرها نجاحًا باهرًا.

بينما كان الأمويون يحاصرون ابن الزبير ويضيِّقون عليه الخناق إذ جاءت الأخبار بوفاة يزيد في حوارين من أعمال حمص ١٤ ربيع الأول سنة ٦٤ﻫ/٦٨٣م، واختلاف الأحزاب الأموية فيما بينها من أجل العرش، فنشط ابن الزبير إذ ذاك وجَرَّبَ أن يفتح باب المفاوضات على مصراعيه آملًا أن يجتذب خصومَهُ المحاربِين إلى حزبه، فأفلح وكفَّ القومُ عن قتاله — بعد وفاة يزيد بأربعين يومًا — وسعى في عقد مؤتمر الأبطح، وإليك وصف المخابرات فيه ونتائجه.

كانت نقطة الخلاف والمشادة بين مندوبي الأمويين والزبيريين في مؤتمر الأبطح تنحصر فيما يلي: هل تكون الشام مركز الحركة الزبيرية أم الحجاز؟ وهل يظل الشاميون أصحاب الدولة والسيطرة والسلطان إذا انتقل ابن الزبير إلى دمشق ونَشَرَ دعوته هناك أم لا؟ تلك هي الأسئلة التي وجَّهها الحصين بن نمير إلى ابن الزبير فأبى الأخير الإجابة عليها والقبول بها؛ لأنه كان لا يَثِقُ بالشاميين وفيهم أبناء يزيد وآل مروان، ولأن الحجازيين ناصَرُوه فكانوا جنده الأمين ورجاله المخلصين؛ ولذا لا يعدل بهم احدًا، ولم يناصره أهل الحجاز إلا لتكون العاصمة عندهم فيستلمون زمام الأمور ويُدِيرون دفَّة الأحكام ويودِّعون الفقر الذي أحاق بهم وكاد يقضي عليهم، وقد شجَّع الحصينُ ابنَ الزبير على قبول آرائه ووَعَدَهُ بأخْذ البيعة له من وجوه أهل الشام في جيشه إن اتَّبع نصائحه فرَفَضَ، وإنَّا لنعتقد أن ابن الزبير ارتكب غلطًا فادحًا في عدم ثقته بالحصين؛ لأن الأمويين كانوا عازمين على بيعته لقيام القادة الشاميين في نصرته من أقصى فلسطين إلى أقصى قنسرين — كما سيأتي — معنا، وهاك ملخص المفاوضات والأحاديث التي دارت بين الحصين وابن الزبير.

الحصين يخاطب ابن الزبير: إن يكُ هذا الرجل قد هَلَكَ فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك ثم اخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذي معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتُؤَمِّن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك والتي كانت بيننا وبين أهل الحرة.

ابن الزبير : أنا أهدر تلك الدماء؟! أما والله لا أرضى أن أَقْتُل بكل رجل منهم عشرة.
الحصين : قبَّح الله من يعدُّك بعد هذه داهيًا قط أو أديبًا، قد كنت أظن أن لك رأيًا، ألا أراني أكلِّمك سرًّا وتكلِّمني جهرًا، وأدعوك إلى الخلافة وتعدني القتل والهلكة.
ابن الزبير : إما أن أسير إلى الشام فلست فاعلًا، وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمِّنكم وعادلٌ فيكم.
الحصين : أرأيت إن لم تقدم بنفسك ووجدت هنالك أناسًا كثيرًا من أهل هذا البيت يطلبونها يجيبهم الناس.

(١-٥) السبب الخامس: تخاذُل الأمويين من أجل العرش

لو أُتيح ليزيد الأول أن يعمَّرَ لعامَلَ ابنَ الزبير معامَلة شديدة، ولَأَرسل عليه الحملة تلو الحملة، يدلُّنا على هذا سياسة الإرهاب التي ما فتئ منذ ولايته الخلافةَ يسير بحسبها، وكان من نتائجها فاجعة الحسين بن علي وقد أسهبنا في وصفها، فما قَوْلُك بابن الزبير الذي أوصى معاويةُ ابنَه بإعدامه وهو على فراش الموت، قال معاوية: «إن الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب فإن أمكنته فرصة وثب، فذاك عبد الله بن الزبير، فإن فعل وظفرت به فقطِّعه إربًا إربًا، إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل منه واحقن دماء قومك بجهدك وكف عاديتهم بنوالك وتغمدهم بحلمك»،٢٥ ولكن مات يزيد وهو في ريعان الشباب، فعقبه على عرشه ابنه معاوية الثاني، وهو شابٌّ ضعيفٌ ربعةٌ في الرجال يعتريه صفار، غلب عليه الزهد والتقشف في الحياة، وكان من دعاة القدرية، ويعتقد هؤلاء أن معاوية نازع عليًّا بغير حق، وأن ولاية يزيد للخلافة ليست صادقة، فاعتزل وأعلن في خطاب العرش ما يؤيد فلسفته هذه فقال: «إن جدي معاوية نازَعَ الأمرَ من كان أولى به وأحق، ثم تقلَّده أبي، ولقد كان غير خليق به، ولا أحب أن ألقى الله عز وجل بتبعاتكم، فشأنكم وأمركم ولُّوه من شئتم.»٢٦
ويروي لنا الطبري أنه قال: «أمَّا بعد، فإني قد نظرت في أمركم فضعفت عنه، فابتغيت لكم رجلًا مثل عمر بن الخطاب رحمة الله عليه حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت لكم ستة في الشورى مثل ستة عمر فلم أجدها، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم»،٢٧ ويظهر أن الرجل كان عاجزًا عن القيام بالأمر ضعيف الإرادة، استهواه عمر المقصوص زعيم القدرية يومئذٍ فملكت تعاليمه عليه لبَّه حتى أفقَدَتْه معنى الرجولة والبطولة في مكافحة الحياة، ولعل هذا ناتجٌ عن كثرة ما حمَّل نفسه من أنواع العبادة، إن تخلي معاوية الثاني عن عرشه وتصريحاته هذه آلَمَت الحزب الأموي فسعى لاغتياله، وتضاربت الأقوال في كيفية وفاته فقال بعضهم: إنه دُسَّ إليه فسقيَ سمًّا، وقال غيرهم إنه طُعِن، ولم تَدُم خلافَتُه أكثر من ثلاثة أشهر.

ومهما يكن من ضعف معاوية الثاني وعَجْزه عن استلام زمام الأحكام فإن تنازله عن العرش خَلَقَ مشاكل عظيمة كادت تفتُّ في ساعد بني أمية، فصحَّت عزيمة الزبيريين على مهاجمة صفوف أعدائهم في كل قُطْر، فقام زُفر بن عبد الله الكلابي والي قنسرين وبايع لعبد الله بن الزبير، كذلك فعل النعمان بن بشير الأنصاري بحمص، وكان الضحَّاك بن قيس الفهري حاكم دمشق يهوى هوى ابن الزبير ويدعو إليه سرًّا، وانتشرت دعوتهم بفلسطين فطَرَدُوا الأمويين منها، ولم يَبْقَ ثابتًا على ولائهم إلا الأردن، وهي تحت أمرة حسان بن مالك بن بحدل الكلبي، فترى مما تَقَدَّمَ أن الشام شَمالَها وجنوبها تقريبًا أخذ يدين لابن الزبير، هذا هو المشكل الأول في عرفنا.

وأمَّا المشكل الثاني فهو اختلاف بني أمية بعضهم مع بعض وانقسامهم على أنفسهم، فتعدَّدَ المرشحون منهم للخلافة، وأشهرهم اثنان: الأول خالد بن يزيد الوريث الشرعي للعرش، وكان صبيًّا لم تحنِّكه الأيام ولم تعركه التجارب، والثاني مروان بن الحكم شيخ بني أمية، وأمَّا المشكل الثالث فهو طلب الضحَّاك بن قيس للخلافة، فدعا قيسًا وغيرها إلى البيعة لنفسه فبايَعُوه،٢٨ ويظهر أنه أراد استعمال ابن الزبير سُلَّمًا يرقى عليه إلى أطماعه ومآربه؛ لأن مصلحته ومصلحة ابن الزبير واحدة في الشام، فالأمويون أعداؤهما على السواء، فإذا تمكَّن الضحَّاك من الاستعانة بالزبيريين على آل مروان وأبناء يزيد يسهل عليه بعدُ مناوَأَتَهُم والاستعداد لمُنَازَلَتِهم.
لا بدَّ للأمويين تجاه هذه الأخطار المحدقة بهم من التكاتف والاتحاد والتذرع بالصبر والتمسك بحبال المفاوضة، فاتفقت الأحزاب في الشام كلها على عقد مؤتمر يحلُّون به جميع العقد السياسية التي أَوْجَدَت الخلاف والضعف في جميع أنحاء القطر، فقررت الأحزاب المروانية «دعاة مروان بن الحكم» والأموية الشرعية «دعاة خالد بن يزيد» ومعظمهم من بني كلب مع الأحزاب القيسية الداعية إلى ابن الزبير ونصرة الضحَّاك على الاجتماع في الجابية، وكان الضحَّاك يأمل أن ينال من الأمويين الكثير من مطالبه السياسية لعشيرته فيما إذا انضمَّ إليهم، فيتربع رجالها في دست المناصب العالية، فرضي بالتخلي عن ابن الزبير إن أجابوه إلى ما يبغيه من المطامع، فاشتمَّ دعاة الزبيريين منه ذلك فسَعَوْا سعيًا حثيثًا لإحباط مفاوضات الجابية ونادوا أن السيف خيْر حَكَم بينهم وبين خصومهم، وبرهاننا على هذا ما قاله ثور بن معن بن يزيد الأخنس السلمي للضحَّاك: «… دَعَوْتَنَا إلى طاعة ابن الزبير فبايعناك على ذلك وأنت تسير إلى هذا الأعرابي من كلب «يعني حسان بن مالك» تستخلف ابن أخيه خالد بن يزيد»، فقال له الضحَّاك: فما الرأي؟ قال: الرأي أن نُظْهِر ما كنَّا نُسرُّ وندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها، فمال الضحَّاك بمن معه من الناس فعطفهم ثم أقبل يسير حتى نزل بمرج راهط،٢٩ فغُلِب الضحَّاك على أَمْره وسار بجيشه إلى مرج راهط بدلًا من أن يبعث مندوبيه إلى مؤتمر الجابية.
اجتمعت الأحزاب الأموية على اختلافها في الجابية، وقررت — بعد جدالٍ عنيفٍ — مبايَعَةَ مروان بن الحكم لأمرين: الأمر الأول لسنه وشيخوخته،٣٠ وبلوه الحياة ومعرفته حلوها من مرِّها، ولأن العرب تميل بطبعها إلى الزعيم الشيخ المحنك، فقال أهل الأردن لمروان: أنت شيخ كبير وابن يزيد غلام وابن الزبير كهل، وإنما يُقْرَع الحديد بعضه ببعض فلا تباره بذا الغلام، وارْمِ بنحرك في نحره ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسطها فبايَعوه بالجابية يوم الأربعاء لثلاث خَلَوْنَ من ذي القعدة سنة ٦٤ﻫ/٦٨٣م.٣١
والأمر الثاني لجهاده الدائم في نصرة قومه، وللصفات السياسية الباهرة التي تحلَّى بها، فكان من أكبر أنصار عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية، فعدَّد له مناقبه هذه أنصارُه، فقال روح بن زُنباع الجذامي: «أمَّا مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدعٌ قط إلَّا وكان مروان ممن يشعب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، والذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنَّا نُسري للناس أن يبايعوا الكبير ويستشبُّوا الصغير.» يعني بالكبير مروان بن الحكم وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية.٣٢ وقال ابنه عبد العزيز بن مروان: «ما أحدٌ أولى بهذا الأمر من مروان بن الحكم، إنه لَكَبير قريش وشيخها وأفرطها عقلًا وكمالًا ودينًا وفضلًا، والذي نفسي بيده لقد شاب شعر ذراعيه من الكبر»،٣٣ فتَعَاوَنَت الأحزاب كلها على الوقوف وقفة الرجل الواحد أمام الزبيريين وعلى رأسهم الضحَّاك بن قيس.
كان جيش الضحَّاك يتألف من جلِّ أهل دمشق وحمص وقنسرين وفلسطين، ومعظمهم من قيس ومضر، ويقدَّرون جميعًا بثلاثين ألفًا وأكثرهم فرسان، أمَّا مروان فكان في ثلاثة عشر ألفًا من اليمن وكلب والسكاسك والسكون وغسان وسواهم،٣٤ والتقى الجيشان في مرج راهط، ودامت المعارك مستمرة بين الطرفين نحوًا من عشرين يومًا، والحرب يبنهما سجال إلى أن كادهم مروان ودعاهم إلى الموادعة والصلح، فلما اطمأنوا إلى ذلك «أَخَذَهُم على حين غرة وحمل عليهم حملة منكرة، وهم على غير عدة ولا أهبة»،٣٥ فتمَّ النصر له، وقُتِل الضحاك مع ثمانين شريفًا من أشراف الشام أصحاب القطيفة، وهؤلاء يأخذ كلٌّ منهم ألفين في العطاء.٣٦

ومما ساعد مروان على الانتصار اشتعال الثورة في دمشق بقيادة يزيد بن أبي النمس الغسَّاني، فغَلَبَ عليها ووضع يده على الخزائن وبيت المال، وبايع مروان وأمدَّه بالرجال والأموال والسلاح، فقطع على الضحاك سُبُل الإمداد والمخابرة مع العاصمة، ويقول المؤرخون: إن هذه الثورة فتَّت في عضد الزبيريين، وكانت أول فتْح فُتح على بني أمية.

أَكْثَرَ شعراء اليمن من التفاخر على قيس في هذه المعركة فأنشد الفرزدق:

وقد جعلت للدين في المرج بالقنا
لمروان أيامٌ عظامُ الملاحمِ
رأيت بني مَرْوانَ سُلَّت سيوفهم
عشَّا كان في الأبصار تحت العمائمِ
ولو رام قيسٌ غيرهم يوم راهطٍ
للاقى المنايا بالسيوف الصوارمِ
ولكن قيسًا روغمت يومَ راهطٍ
بِطَوْد أبي العاصِ الشديد الدعائمِ
فترى أن العصبية القبائلية كانت داء وبيلًا٣٧ يسري في مفاصلهم سريان الحمَّى الفتَّاكة في الجسم الإنساني، وسنصف لك الويلات والمصائب التي حلَّت في الدولة من جرَّائها.

لما رأى ابنُ الزبير ما أصابه من الانكسار في معركة مرج راهط أراد أن يُطْلِق آخر سهم في كنانته صوب الشام، فبعث أخاه مصعب بن الزبير نحو فلسطين، فسرح له مروان عَمْرو بن سعيد بن العاص في جيش، فصدَّه وهزمه وأرجعه على أعقابه، ففقد آماله في الشام.

وجَّه مروان وَجْهه نحو مصر الخاضعة لابن الزبير لِفَتْحها وتثبيت أقدامه فيها بعد أن وطَّد نفوذه من أقصى الشام إلى أقصاه، فسيَّر حملة على رأسها ابنه عبد العزيز، ورجا أن يكون الفتح عن طريق أيلة، فأجمع ابن حجوم والي مصر على حربه فحصَّن الفسطاط وحفر حولها الخنادق، وبعث أسطولًا إلى السواحل السورية ليناوش المرابطين فيها ويشاغلهم، فيهتم مروان بإرسال الفرق من جيشه لهذه الجبهة الساحلية الجديدة، وجهَّز حملة لمقاوَمة الجيوش المهاجمة، أمَّا الأسطول فنزل عليه عاصف غرق معظمه، وأمَّا الحملة فانهزمت أمام الفاتحين واستسلم قسم كبير منهم.٣٨
دخل مروان مصر فوضع العطاء في الناس فبايَعوه وأقدموا على نصرته، ثم بنى القصر المعروف: «بالدار البيضاء» في الفسطاط، وجعلها مَقَرَّ الأحكام لنائبه فيها، وولَّى عليهم ابنه عبد العزيز، وأَمَرَهُ بالإحسان إليهم والمشورة في تدبير أمورهم وبذل الهمة في تفريق زعمائهم، نستنتج هذا من الوصايا التي أوصاه بها، فقال له مرة: «يا بُنَيَّ، عُمَّهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقًا تصفُ لك مَوَدَّتُهم، وأوقِعْ إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره يكون عينًا لك على غيره، وينقاد وقومه إليك»،٣٩ وقال له أيضًا: «وأوصيك أن لا تعد الناس موعدًا إلَّا أنفذته، وإن حُمِلْتَ على الأسنة، وأوصيك أن لا تُعَجِّل في شيء من الحكم حتى تستشير.»٤٠
كل ما قدَّمناه يؤكد لنا أن مروان لم يتغلب على ابن الزبير إلَّا بعد الجهد الطويل، فاستمال الزعماء وقَبِلَ شروطهم القاسية، وكان يعتقد بعضهم أنهم شركاء له في ملكه، فاشترط الحصين بن نمير جزاء نُصْرَته له أن يجعل البلقاء مأكلةً لكندة،٤١ وقد ظل يوجس خوفًا من آل يزيد لئلا يَثِبَ لهم رأي في التخلص منه، فتزوج أم خالد بن يزيد وهي فاختة ابنة أبي هاشم بن عتبة ليُسْقِطَ خالدًا عن درجة الخلافة،٤٢ وكان مروان لا يعتبر خالدًا ويجرب أن يصغِّر أمْرَه عند أهل الشام، فينسبه إلى الحمق مع أنه كان فصيحًا بليغًا، فتآمر عليه مع والدته وأَعْدَمَاه خنقًا حسبما يروي لنا معظم المؤرخين.

(١-٦) السبب السادس: حركة التوَّابين، الثأر للحسين بن علي

كان اختلاف الأمويين بعضهم على بعض سببًا كبيرًا في نشاط الحركة الزبيرية كما أسهبنا في قولنا، لكن حركة التوَّابين التي قامت على أثر فاجعة الحسين بن علي أخذت تناوئ بني أمية وتسعى في إعدام من اشترك في التدبير على ابن بنت الرسول ، وتنشر الدعوة ضد سياسة الشدة التي اتبعها عبيد الله بن زياد وأمثاله. وقد استفاد ابن الزبير من هذه الحركة واستعان بأكابر الرجال على تشجيعها سرًّا وعلانيةً حتى يشغل الأمويين في الساحة العراقية وينال الفرصة الكافية لتثبيت مركزه وتقوية جيشه.

دعت الشيعة الحسين إلى الكوفة، ووعده رجالها بالنصرة فلم يبرُّوا بوعدهم وتخلَّوْا عنه في الساعة الأخيرة، فوقع في معركة كربلاء مضرجًا بدمائه، فرأت فئة منهم أنه لا يَغْسِل عارَهم ولا يمحو إثمهم وذلهم إلَّا إعدامهم قتلته، فأسسوا حزبًا جديدًا دَعَوْه «بحزب التوابين» كان من أركانه سليمان بن صُرَد والمسيب بن نجبة الفزاري وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي وعبد الله بن وال التميمي ورفاعة بن شداد البجلي، عَقَدَ هؤلاء الخمسة مع دُعاتهم اجتماعًا خاصًّا في دار سليمان بن صُرَد زعيمهم، فأَنَّبوا بعضهم البعض على تراخيهم في الذود عن حرمة الحسين، وأقسموا على الأخذ بثأره إلى النَّفَس الأخير، وهيَّئوا الأسباب التي تؤمِّن لحركتهم النجاح، وكانت علائم الحماس والألم والتأثر لقتل الحسين بادية في خُطَبِهم، فقام المسيب بن نجبة يحرِّض القوم على الاستشهاد في سبيل آل البيت، أولئك الذين قُتِلوا على مقربة منهم وهم عنهم لاهون، فقال: «… كنَّا مغرمين بتزكية أنفسنا وتقريظ شيعتنا حتى بلا الله أخيارنا، فوَجَدَنا كاذِبِين في موطِنَيْن من مواطن ابن ابنة نبيِّنا ، وقد بَلَغَتْنا قبل ذلك كُتُبه وقَدِمَت علينا رُسُلُه، وأَعْذَرَ إلينا يسألنا نَصْره عَوْدًا وبدءًا وعلانيةً وسرًّا، فبَخِلْنا عنه بأنفسنا … حتى قُتِل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جدلنا عنه بألسنتنا ولا قوَّيناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عُذْرُنا إلى ربنا وعند لقاء نبيِّنا ، وقد قُتِل فينا وَلَدُه وحبيبه وذُرِّيَّتُه ونَسْلُه، ألا والله لا عُذْرَ دون أن تُقَتِّلُوا قاتِلَه والموالين عليه، أو تُقْتَلُوا في طلب ذلك، فعسى ربنا أن يرضى عنَّا عند ذلك …»٤٣
فأمَّن رفاعة بن شداد على كلامه وقال: «… دُعوْتَ إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسوغٌ منك مستجابٌ لك مقبولٌ قولك …»٤٤ ثم تكلَّم سليمان فشجَّعَهم على الاستعداد لأعدائهم بالسلاح والأموال والرجال فقال: «… فإني والله ألا يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نَكِدَتْ فيه المعيشةُ وعَظُمَتْ فيه الرزيةُ وشَمِلَ فيه الجورُ أولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير، إنَّا كنَّا نَمُدُّ أعناقنا إلى قدوم آل نبيَّنا ونمنِّيهم النصر ونحثُّهم على القدوم، فلما قَدِمُوا وَنَيْنا وعجزنا وأُذهلنا وتربعنا وانتظرنا ما يكون حتى قُتِل فينا ولَدَيْنا وَلَدُ نبيِّنا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه؛ إذ جَعَلَ يَسْتَصْرِخ فلا يُصْرَخ ويسأل النصف فلا يُعطاه، اتخذه الفاسقون غرضًا للنبل ودربة للرماح حتى أقصدوه وعدوا عليه فسلبوه، ألا انهضوا فقد سخط ربكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله، واللهِ ما أَظُنُّه راضيًا دون أن تناجزوا من قتله … ألا لا تهابوا، فوالله ما هابه امرؤٌ قط إلَّا ذَلَّ … اشحذوا السيوف وركِّبوا الأسنة وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل حتى تدعوا حين تدعوا وتستنفروا.»٤٥
تمكَّن حزب التوَّابين الركن المتين من أركان الشيعة مِنْ لمِّ شعثه والالتفاف حول زعيمه لسببين.
  • السبب الأول: لتبرع الزعماء بالأموال الكثيرة لأجل الدعوة، فمكَّنهم هذا من استنفار الناس للجهاد وتشويقهم للقتال، فقدَّمَ خالدُ بن سعيد بن نفيل كلَّ أمواله وأملاكه ومزارعه في سبيل الحزب فقال: «أُشهِد اللهَ ومَنْ حضر من المسلمين أن كلَّ ما أَصْبَحْتُ أملكه — سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوي — صدقةٌ على المسلمين أقوِّيهم به على قتال الفاسقين»،٤٦ وقال غيره مِثْل قوله.
  • والسبب الثاني: لاستعمالهم البلغاء من الرجال في نشر دعوتهم، فمثَّلوا مقتل الحسين تمثيلًا محزنًا مبكيًا، فكانوا أينما حلُّوا ينالون من أعدائه الذين انتهكوا حُرْمته، فاحتزُّوا رأسه وداسوا بخيلهم على جسده، وحملوا على قتلته أولئك الذين لا تَعْرِفُ الشفقةُ قلوبهم ولا المرحمة نفوسهم، فكانوا يبكون ويستبكون الناس على القتيل حفيد رسول الله .
وإليك خطبة عبيد الله بن عبد الله المرِّي أَشْهَر دُعَاتهم، فإنه كان يجوب الأنحاء العراقية ويلقيها على مسامع الناس: «… لله أنتم ألم تروا ويَبْلغكم ما اجترم إلى ابن بنت نبيكم، أما رأيتم إلى انتهاك القوم حُرْمته واستضعافهم وحدته وترميلهم إياه بالدم وتجرارهموه على الأرض، لم يراقبوا فيه ربهم ولا قرابته من الرسول ، اتَّخذوه للنبل غرضًا وغادروه للضباع حزرًا، فلله عينَا من رأى مِثْله ولله حسين بن علي، ماذا غادروا به ذا صدق وصبر، وذا أمانة ونجدة وحزم، ابن أول المسلمين إسلامًا وابن بنت رسول رب العالمين، قلَّتْ حُمَاته وكَثُرَتْ عِدَاتُه حَوْله، فقتله عدوه وخذله وليه، فويلٌ للقاتل وملامةٌ للخاذل، إن الله لم يجعل لقاتله حجة ولا لخاذله معذرة إلَّا أن يناصح الله في التوبة فيجاهد القاتلين وينابذ القاسطين، فعسى الله عند ذلك أن يَقْبَل التوبة ويقيل العثرة، إنَّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل بيته وإلى جهاد المحلِّين والمارقين، فإنْ قُتِلْنَا فما عند الله خيرٌ للأبرار، وإن ظَهَرْنا رَدَدْنا هذا الأمر إلى أَهْل بيت نبيِّنا.»٤٧

واستمال حزبُّ التوَّابين سكانَ المدائن، فبثُّوا بينهم دعوتهم ورجوهم إلى قتال أعدائهم، فانتصروا لهم ووجَّهُوا قُواهم لتنشيط هذا الحزب … ولو دققنا في الأسباب التي جعلت أهل المدائن ينضمون إلى الكوفيين لتحقَّقْنا أنها مبنية على الأسس المالية، فسكان المدائن وأرباب الثروة فيها هم شركاء لأهل الكوفة في نخيلهم ودورهم وعطائهم؛ ولذا لم يكن بوسعهم أن يَتَخَلَّوْا عنهم ويناضلوهم، فلمَّا طلب إليهم سليمان بن صُرَد الالتحاق بالحزب في رسائله المشهورة إليهم سمعوا له وأجابوا، وإني موردٌ لك نص بعض الرسائل التي جرت بين الفريقين لِتَفَهُّم روح المفاوضة ومعناها إذ ذاك:

رسالة سليمان بن صرد لأهل المدائن

… إن أولياء الله من إخوانكم وشيعة آلِ نبيِّكم نظروا لأنفسهم فيما ابْتُلُوا به مِنْ أمْر ابن بنت نبيهم الذي دُعيَ فأجاب ودعا فلم يُجَبْ، وأراد الرجعة فحُبِس وسأل الأمان فمُنِع، وتَرَكَ الناسَ فلم يتركوه وعَدَوْا عليه فقتلوه، ثم سلبوه وجرَّدوه ظلمًا وعدوانًا … وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ٤٨ … فلما نظر إخوانكم وتَدَبَّرُوا عواقب ما استقبلوا رأوا أنْ قد خُطِّئوا بخذلان الذكي الطيب وإسلامه وترك مواساته … ولا توبةَ دون قتل قاتليه أو قتلهم … فقد جدُّوا إخوانكم فجدُّوا وأعدُّوا واستعدوا وقد ضربنا لإخواننا أجلًا يوافوننا إليه وموطنًا يَلْقَوْنَنَا فيه، فأمَّا الأجل فغرة شهر ربيع الآخر سنة ٦٥ﻫ/٦٨٤م، وأمَّا الموطن الذي يلقوننا فيه فالنخيلة … وإنكم جدراء بتطلاب الفضل والتماس الأجر والتوبة إلى ربكم من الذنب، ولو كان في ذلك حزُّ الرقاب وقَتْل الأولاد واستيفاء الأموال وهلاك العشائر … إن التقوى أفضل الزاد في الدنيا … ولتكن رَغْبَتُكم في دار عافيتكم وجهاد عدو الله وعدوكم وعدو أهل بيت نبيكم …٤٩

من رسائل أهل المدائن للتوَّابين

… نجيبهم ونقاتل معهم ورأينا في ذلك مثل رأيهم … نحن جادُّون مجِدُّون معِدُّون مُسَرِّجُون ملجِّمون، سننتظر الأمر ونستمع الداعي فإذا جاء الصريخ أَقْبَلْنا.٥٠

انتشرت دعوة التوَّابين انتشارًا عظيمًا بعد وفاة يزيد الأول، فأصبحوا عددًا رهيبًا يخاف الناسُ جانِبَهُم، وأخذت الدولة في دمشق تعدُّ عدَّتها لمُنَازَلَتِهم وإخماد ثورتهم، والناظر بعين بصيرة نقَّادة إلى حركتهم من أولها إلى منتهاها يرى أنها صارت إلى الانحلال لأسبابٍ خمسة هي كما يأتي:

السبب الأول: «الدعوة تَتَطَلَّب إعدام أشراف الكوفة لقتلهم الحسين، خوف التوَّابين من إعدامهم»: قرأنا فيما سَبَقَ أن أشراف الكوفة كانوا الساعد الأقوى في إعدام الحسين، ومع ذلك فقد تردد سليمان وأتباعه في قتالهم لأن بينهم إخوانهم وبني عمومتهم وأعز أقاربهم، ولأنهم إن علموا بنوايا التوَّابين نحوهم صمدوا لهم وقاتلوهم قتالًا شديدًا، ولا ريبَ أن التوَّابين ارتكبوا غلطًا فادحًا في استعدادهم لمنازلة الأمويين الأقوياء قبل اقتصاصهم من الزعماء الأشراف القتلة الذين كانوا يرتعون في بحبوحة من العيش بين ظهرانيهم، والذين كانوا على اتصال تامٍّ مع الحكومة الأموية، فمَنَحُوا أعداءهم الأشراف بذلك فرصةَ الاستعداد لكيدهم والتدبير عليهم.
نستشهد على صحة هذه الفكرة من الأقوال التي صدرت من زعماء التوابين بذا الخصوص، قال أحد زعمائهم: «إنما خرجنا نَطْلب بدم الحسين، وقَتَلَةُ الحسين كلهم بالكوفة، منهم عُمَرُ بن سعد بن أبي وقاص ورءوس الأرباع وأشراف القبائل، فأنَّى نذهب ها هنا وندع الأقتال والأوتار.»٥١ وقال سُليمان بن صُرَد: «والله لو قاتلتم غدًا أَهْل مِصْرِكم ما عدم رجلٌ أن يرى رجلًا قد قتل أخاه وأباه وحميمه أو رجلًا لم يكن يريد قتله»،٥٢ وروى لنا الطبري: «جاء إلى سليمان أصحابُه من الشيعة فقالوا: قد مات هذا الطاغية — يزيد الأول — والأمر الآن ضعيف، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حُريث — نائب عبيد الله بن زياد على الكوفة — فأخرجناه من القصر، ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبعنا قَتَلَتَه ودعونا الناس إلى هذا البيت المستأثَر عليهم المدفوعين عن حقهم، فقالوا في ذلك فأكثروا فقال لهم سليمان بن صُرَد: رويدًا لا تعجلوا، إني قد نظرت فيما تذكرون فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف أهل مكة وفرسان العرب، وهم المطالَبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون وعلموا أنهم المطلوبون كانوا أشدَّ عليكم.»٥٣
السبب الثاني: «التوابون ضعافٌ في جيشهم وعدتهم»: ذكرنا أن التوَّابين تَكاتَفوا وتَعاضدوا وأقسموا الأيمان على الفتك بقتلة الحسين وبذلوا الأموال في سبيل هذه الغاية، ولكن أموالهم كانت قليلة نسبةً لأموال الأمويين، وجيشهم ضعيفًا لا حول له ولا قوة على الثبات أمام الجيش الأموي، هذا عدا أولئك الذين تَخَلَّوا عنهم بتأثير الذهب الوهاج الذي كانت تدفعه الحكومة بسخاء، فيروي لنا الطبري: «دعا سليمان بن صُرَد إلى ديوانه لينظر فيه إلى عدة مَنْ بايعه حيث أصبح فوجدهم ستة عشر ألفًا، فقال: سبحان الله! ما أرانا إلَّا أربعة آلاف من ستة عشر ألفًا»،٥٤ ويروي أيضًا: «أتى سليمان عَسْكَره فداره ووجوه أصحابه فلم يعجبه عدة الناس.»٥٥
ويقول بذا الخصوص: «خاطب سليمان بن صُرَد حزبه فقال: ونظرت فيمن تبعني منكم فعَلِمْتُ أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يثنوا أنفسهم ولم ينكوا عدوهم …»٥٦
وقد صرَّح التوَّابون أنهم فقراء، وأنه ليس عندهم مالٌ يَهَبُونه للناس كما تَفْعل الحكومة في دمشق، وأن لا غاية لهم سوى التوبة بثأرهم للحسين، وكان هذا اعترافٌ ظاهرٌ على عجزهم وضَعْفهم، والناسُ لا يستهويهم الكلام الجذاب إلى أمدٍ طويل، وإن استهواهم فإلى حين، قال سليمان بن صُرَد: «… أيها الناس من كان إنما أخرجته إرادة وَجْه الله وثواب الآخرة فذلك منَّا ونحن منه، فرحمة الله عليه حيًّا وميِّتًا، ومن كان إنما يريدُ الدنيا وحَرْثها فوالله ما نأتي فيئًا نستفيئه ولا غنيمة نغنمها ما خلا رضوان الله رب العالمين، وما معنا من ذهبٍ ولا فضةٍ ولا خزٍّ ولا حريرٍ، وما هو إلَّا سيوفنا في عواتقنا ورماحنا في أكفنا، وزاد قَدْر البلغة إلى لقاء عدوِّنا، فمن كان غير هذا ينوي فلا يصحبنا.»٥٧
السبب الثالث: «المنافَسة في طلب الزعامة تهيض جناحهم»: كان بين الشيعة رجالٌ ينافسون سليمان بن صرد في طَلَبِ الزعامة والرئاسة، أشهرهم المختار بن أبي عبيد الثقفي — وسنتكلم عنه مفصَّلًا — فخرج رجاله يُثَبِّطون هِمَم الناس عن اللحاق بسليمان مدَّعين جَهْلَه في الأمور العسكرية وضَعْفه في قيادة الجند، وقالوا: إن المختار إنما يدعو لمحمد بن علي ابن الحنفية فهو وزيره وأمينه، فانقسم التوَّابون بعضهم على بعض، فئة تدعو لسليمان وفئة تدعو للمختار، فكان هذا الانقسام مما سهَّل على الحكومة الأموية ضَرْب سليمان وأتباعه ضربةً قاضيةً، قال الطبري بهذا الشأن: «… فسليمان أثقل خَلْق الله على المختار، وكان المختار يقول لأصحابه: أتدرون ما يريد هذا — يعني سليمان بن صرد — إنما يريد أن يَخْرج فيَقْتل نفسه ويقتلكم، ليس له بصرٌ بالحروب ولا علم بها.»٥٨
السبب الرابع: «التوَّابون يرفضون مساعدة ابن الزبير»: أراد ابن الزبير أن يستفيد من التوَّابين، فجرَّب أن يُقْنِع زعماءهم في الانضمام إليه والانتصار له، فأَبَوْا أن يقاتلوا في صفوفه لئلا يكونوا سُلَّمًا يَرْقَى عليه لِمَطَامِعِهِ وآلةً هنيةً لينةً يديرها كيفما شاء، ولقد حَاوَلَ أنصار ابن الزبير أن يؤكِّدوا للتوابين أن الأمويين أعداء لكلا الطرفين على السواء، وعرضوا عليهم المساعدات المالية فما أعاروهم أُذنًا صاغية ولا قلبًا واعيًا؛ لأن دعوتهم مُعَيَّنة مفهومة لا تتجاوز طلب الثأر للحسين وإرجاع الإمامة لأهلها من العلويين.
إنَّ التوابين لم يفيدوا الزبيريين الإفادةَ الكلية إذا لم ينضموا إليهم، ولكنهم شاغلوا الأمويين في الساحة العراقية مدة ليست بالقليلة، استراح في خلالها ابن الزبير وهيَّأ الأسباب القوية لِمناجَزتهم في معركة فاصلة، فقال دعاة ابن الزبير للتوَّابين لإقناعهم: «أنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحب أهل مِصْرٍ خَلَقَهُ الله إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم ولا تستَبِدُّوا علينا برأيكم، ولا تنقصوا عدونا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حتى نتيسر ونتهيَّأ، فإذا علمنا أن عدونا قد شارف بلدنا خرجنا إليهم بجماعتنا فقابَلْنَاهم.»٥٩
وذكر المؤرخون أن ابن الزبير لم يتأخر عن بَذْل الأموال لهم، فيروي الطبري: «عرضوا على سليمان أن يقيم معهم حتى يلقوا جموع أهل الشام على أن يخصُّوه وأصحابه بخراج «جوخي» خاصة لهم دون الناس»،٦٠ وكان يَعْتَقِد التوَّابون أن القتال مع ابن الزبير ضلال في ضلال، قال سليمان في ذلك: «… ولا أرى الجهاد مع ابن الزبير إلَّا ضلالًا، وإن نحن ظَهَرْنا رَدَدْنا هذا الأمر إلى أهله، وإن أُصِبْنا فعلى نياتنا تائبين من ذنوبنا، إنا لنا شكلًا ولابن الزبير شكلًا.»٦١
السبب الخامس: «أهل المدائن يتأخرون عن اللحاق بإخوانهم التوِّابين»: أَجْمَعَ التوَّابون أن يكون معسكرهم في النخيلة، وموعد اجتماعهم في ربيع الثاني سنة ٦٥ﻫ/٦٨٤م، وذلك لتعبئة صفوفهم ولتهيئة الخطط الحربية الضرورية قبل الزحف لملاقاة الجيوش الأموية القادمة بقيادة عبيد الله بن زياد، فلم يوافِهِمْ أنصارهم من أهل البصرة وأهل المدائن للميعاد المضروب بينهم، وقد أَقْعَدَهم عن اللحاق بهم قلة النفقة وسوء العدة، فأقاموا مدة يتجهزون، فانتهز الأمويون الفرصة وناجزوا التوَّابين الوقيعة في «عين الوردة» قبل قدوم الإمداد لهم فكسروهم شرَّ كسرة.

المعركة

أقام التوَّابون يومًا وليلة بالقرب من قَبْر الحسين قبل زحفهم للقتال، يُثيرون أحقادهم ويُشْعِلون نار الضغائن في صدورهم ويستفزون هِمَمَهُمْ لطلب الثأر بالبكاء على الحسين، وقد ازدحموا حول قبره ازدحامًا شديدًا يترحَّمون عليه ويستغفرون له ولأنفسهم، فزادهم هذا حنقًا على حنقٍ وألمًا على ألمٍ، ثم ساروا لملاقاة عدوهم الزاحف إليهم من دمشق بطريق الرقة، فانتهوا إلى عين الوردة، ورَسَمَ لهم حاكم قرقيسيا الخطة الحربية التي يجب أن يسيروا بحسبها، وهي تأمرهم بالانتباه إلى حماية خط الرجعة لئلا يفقدوا الماء والمادة والذخيرة من أيديهم، وأن لا يُنَازِلوا أعداءهم في فضاءٍ وسيع يتم لهم به الالتفاف حولهم، وأن يشاغلوهم بالكتائب بدلًا من النزول إليهم دفعة واحدة في صفٍّ واحدٍ.

وقد حفظ لنا التاريخ نصَّ هذه الخطة وهاك هي: «… إن القوم قد فصلوا من الرقة فبادِرُوهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم وما بين مدينتنا ومدينتكم فأنتم له آمنون … اطووا المنازل الساعة إلى عين الوردة، فإن القوم يسيرون سير العساكر وأنتم على خيول … وإن بدرتموهم إلى عين الوردة فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم، فإنهم أكثر منكم، فلا آمن أن يحيطوا بكم، ولا تَقِفوا لهم ترامونهم وتطاعنونهم، فإنه ليس لكم مثل عددهم، فإن استهدفتم لهم لم يلبثوا أن يصرعوكم، ولا تصفُّوا لهم حين تلقونهم فإني لا أرى معكم رجالة ولا أراكم كلكم إلَّا فرسانًا والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان، فالفرسان يحمي رجالها والرجال يحمي فرسانها، وأنتم ليس لكم رجالٌ يحمي فرسانكم فالْقَوْهُم في الكتائب … ثم بُثُّوها ما بين مَيْمَنَتِهِم ومَيْسَرَتِهم، واجعلوا مع كلٍّ كتيبةً إلى جانبها، فإن حمل على إحدى الكتيبتين ترجَّلَت الأخرى فنفست كتيبة عنها الخيل والرجال، ومتى شاءت كتيبة ارتفعت ومتى شاءت كتيبةٍ انحطت، ولو كنتم في صفٍّ واحدٍ فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصف انتقض وكانت الهزيمة.»٦٢

بعث عبيد الله بن زياد الحصين بن نمير على مقدمته في اثني عشر ألفًا لملاقاة التوَّابين، فاجتمع بهم في عين الوردة، فدارت المفاوضات بين مندوبي الفريقين لِحَقْن دماء المسلمين، فلم يَصِلُوا إلى نتيجة مُرْضية؛ لأن التوَّابين أصرُّوا على خَلْع عبد الملك بن مروان — وكان قد وُلِّيَ الخلافة — أولًا، وتسليم عبيد الله بن زياد لهم ثانيًا، ولم يتساهلوا إلَّا في طرد آل الزبير ودعاتهم من العراق على أن يكون حقُّ الخلافة لآل بيت النبي .

أدَّت هذه المفاوضات حتمًا إلى القتال، فاشتبك الطرفان في معركة دامية انتصر بها التوَّابون في اليوم الأول، وأَظْهَرُوا من ضروب الشجاعة والتضحية ما جعل أعداءهم يُقرُّون لهم ببطولتهم، فشهدوا لهم وقالوا: «إنهم كانوا يُقْدِمون على شوكة شديدة ويقاتلون فرسانًا شجعًانا ليس فيهم سقط رجل»،٦٣ لكن هَبَطَت الأمداد على الأمويين في اليوم الثاني فأكثروا فيهم الجراح وأفشوها، فاستمات التوَّابون في اليوم الثالث فكُسِرُوا — جفون سيوفهم — فقُتِلَ أكثرُ زعمائهم وبينهم سليمان بن صرد، فتقهقروا بعد هذه الهزيمة في الظلام حاملين جرحاهم، وعبروا الخابور متجهين إلى بلادهم، وقد تركوا وراءهم فرقة من الجند لتحمي مؤخرتهم وتشاغل أعداءهم لدى ارتدادهم.
ويَجْدُر بنا أن نَذْكُر وصايا سليمان بن صرد للتوَّابين قبل دخولهم المعركة، وهي كلها تأمر بالرحمة والمواساة والعطف على الجرحى والمصابين والأسرى، قال: «لا تقتلوا مدبِرًا، ولا تُجْهِزُوا على جريح، ولا تقتلوا أسيرًا من أَهْل دعوتكم؛ إلَّا أن يُقَاتِلَكم بعد أن تأسروه أو يكون مِنْ قَتَلَة إخواننا … فإن هذه كانت سيرةَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.»٦٤

(١-٧) السبب السابع: الأزارقة الخوارج يساعدون ابن الزبير

الخوارج في عُرف الإسلام هم كُلُّ مَنْ خَرَجَ على الإمام الحقِّ الذي اتَّفَقَت الجماعةُ عليه، — سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بَعدَهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان،٦٥ ويُطْلَق اسم الخوارج على جماعات عديدة تختلف في مبادئها ونواحي تفكيرها، ويهمنا مِنْ أمرهم في بحثنا هذا التعرف إلى طائفة الأزارقة وعلاقتها مع ابن الزبير.
قامت هذه الطائفة غاضبةً على جماعة المسلمين لاختلافها وإياهم في بعض المبادئ الدينية السياسية، فهم:
  • أولًا: يكفِّرون عليًّا ويقولون: إن الله أَنْزَلَ في شأنه، وزادوا على ذلك تكفير عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في النار، ويَحْمِلون الحملات المنكرة على عثمان ويَصِمُونه بوصمات بعضها بعيدٌ عن الحق، ويبالغون في ذلك أَشَدَّ المبالَغة، فيقولون عنه: إنه «آثر القربى … ورفع الدرة ووضع السوط ومزَّق الكتاب وحقَّر المسلم وضرب منكري الجور وآوى طريد الرسول — الحكم … — وضرب السابقين بالفضل وسيَّرهم وحرمهم، ثم أخذ فيء الله الذي أفاءه عليهم فقَسَمَه بين فُسَّاق قريش ومُجَّان العرب، فسارت إليه طائفة من المسلمين أَخَذَ الله ميثاقهم على طاعته لا يبالون في الله لومة لائم، فقتلوه فنحن لهم أولياء ومن ابن عفان وأولياءه برآء.»٦٦
  • ثانيًا: يوجبون على كُلِّ من ينضم إليهم أن لا يتأخر عن القدوم إلى ديار هجرتهم للذود عن بيعة دينهم، فهم يُكَفِّرون القَعَدَة من رجالهم عن قتال أعدائهم، ويُظْهرون البراءة منهم أينما كانوا وحيثما حلُّوا.
  • ثالثًا: يأمرون بقتل نساء مخالفيهم وأطفالهم، وهذا غاية القسوة والهمجية، وهم يرون وجوب التخلص من أعدائهم باستعمال الشدة معهم وإعدام نسلهم.
  • رابعًا: يُسْقطون الرجم عن الزاني إذ ليس في القرآن ذِكْره، ويسقطون حدَّ القذف عمَّن قذف المحصنين من الرجال، ويوجبون الحد على قاذف المحصنات من النساء.
  • خامسًا: يأمرون بالتصريح في مبادئهم ونَشْرها، ويقولون: إن التقية غير جائزة في قول ولا عمل.
  • سادسًا: يعتقدون أن جميع المشركين في النار.
  • سابعًا: يجوِّزون أن يبعث الله تعالى نبيًّا يعلم أنه يكفر بعد نبوته أو كان كافرًا قبل البعثة.
  • ثامنًا: يُجْمِعون على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر ويكون مخلَّدًا في النار.٦٧
وكان أول خروج هؤلاء الأزارقة في أربعين رجلًا وذلك في خلافة يزيد الأول، أمَّا مقرهم فكانت الأهواز، وهم يُلَقَّبون بالأزارقة نسبة لرئيسهم نافع بن الأزرق، والغريب أن ابن الزبير — حُبًّا في توطيد سلطانه وتمكينًا لسيادته ودعوته تجاه الأمويين — أَظْهَرَ أنه على مبادئهم وآرائهم «فأعطاهم الرضا من غير توقف ولا تفتيش»،٦٨ فقاتلوا في صفوفه واستماتوا في الدفاع عن البيت الحرام، وكانوا من أشد أعداء الأمويين، وقد وفدوا عليه ولحقوا به وانتصروا له،٦٩ فكانوا ركنًا متينًا من أركان جيشه، لكنه لما مات يزيد الأول تزحزح كابوس الأمويين عن صدر ابن الزبير، فأخذ يناقشهم في مبادئهم ويجرب أن يجلبهم إلى حظيرة الجماعة الإسلامية، حتى إنه صرَّح مرة لما جادلهم في عثمان بقوله: «إني وليٌّ لابن عفان في الدنيا والآخرة وولي أوليائه وعدو أعدائه.»٧٠

حقًّا لقد جاء هذا التصريح سابقًا لأوانه؛ إذ جعل هذه الطائفة تناصبه العداء وتكيده، مع أنه كان في حاجة ماسة إلى مَنْ يُنَاصِره ويأخذ بيده أمام الحكومة الأموية.

قلنا: خرجت طائفة الأزارقة في ولاية يزيد الأول، فعَهِدَ هذا إلى عبيد الله بن زياد والي البصرة يومئذٍ أن يُنَازِلهم ويعاملهم بالشدة، فكان لا يدع أحدًا ممن يُتَّهَم برأي الخوارج إلَّا قَتَلَه حتى قُتِلَ بالتهمة والظنة تسعُمائة رجل حسبما يروي لنا الدينوري،٧١ والحقيقة أن هذه السياسة القائمة على الدم لم تُمِتْ حركة الأزارقة ولم تخنقها، بل زادتها قوةً ونشاطًا، خصوصًا حينما توفي يزيد وأُجْبِر ابن زياد على الهرب إلى دمشق خوفًا على حياته، فبدلًا من أن يكون الأزارقة في العراق وفارس رجالَ ابن الزبير وسيفَه البتَّار أصبحوا عليه، يناوئونه ويضربونه الضربة تلو الضربة، فنستنتج أن الأزارقة بعد أن كانوا من أحزابه أخذوا يفتُّون في عضده ويخنقون دعوته في البصرة وفارس.
لما ضَعُفَت الدولة الأموية عن القيام بحماية العراقيين خصوصًا سكان الجنوب راسل أهلُ البصرة ابنَ الزبير يُعْلِمُونه أن لا إمام لهم، ويسألونه حمايتهم وصدَّ الخوارج عنهم، وهم لقاء ذلك ينصرونه ويثبِّتون أقدامه ويجهِّزون له الجيوش، فبَعَثَ إليهم المهلب بن أبي صفرة القائد المشهور — وسنصف فتوحه في وقتها — من خراسان، فقدم البصرة وبثَّ روح الإقدام والجهاد في القبائل والعشائر، واشترط عليهم الطاعة، وأن له ما يَغْلُب عليه من البلاد فقَبِلُوا ذلك درءًا للأخطار المُحْدِقة بهم وتخلُّصًا من الفوضى، وكان المهلب نزر الكلام إلَّا فيما يختص بمصلحته، فصعد منبر المسجد الجامع في البصرة وألقى خطبته التي أملى بها شروطه وهي: «إنه قد غَشِيَكُم عدوٌّ جاهدٌ يسفك دماءكم وينتهب أموالكم، فإن أعطيتموني خصالًا أسألكموها قُمْتُ لكم بحربهم واستعنت بالله عليهم … انتخب منكم أوساطكم لا الغني المثقل ولا السبروت المخف، وعلى أن لي ما غلبت عليه من الأرض، وألا أخالف فيما أدبر من رأيي في حربهم، وأترك ورائي الذي أراه وتدبيري الذي أدبِّره.»٧٢

بَلَغَت الحملةُ التي قادها المهلب لقتال الأزارقة نحوًا من عشرين ألفًا، فواقعهم في نهر «تُستر» فهزمهم، ثم في «نسلي» من أعمال الأهواز فهزمهم أيضًا، وقَتَلَ زعيمهم نافع بن الأزرق، وما زال يلاحقهم من بلدٍ إلى بلدٍ حتى ضَرَبَهُم في سابور من أرض فارس، وقد ضيَّق عليهم وسدَّ السبل دونهم بعد ذلك في أيام عبد الملك بن مروان حتى قال أحدهم:

حتى متى يَتْبَعُنَا الْمُهَلَّبُ
ليس لنا في الأرض منه مَهْربُ
ولا السماء أَيْنَ أينَ المَذْهَبُ٧٣

والغريب أن هؤلاء الأزارقة كانوا يناضلون نضالًا هائلًا، وينتخبون الزعيم إثر الزعيم بعد مَقْتَلهم، فترى قائمة من أسماء قادتهم بعد مصرع ابن الأزرق أشهرهم عبد الله بن ماحوز وقُطْرِي ابن الفجاءة وعبد ربه وغيرهم، والحقيقة التي نُريد تأييدها من كلامنا هذا كله أن الأزارقة كانوا يدًا قوية في نجاح دعوة ابن الزبير في أول أَمْرها، وكان بوسعه أن يحتفظ بهم لو أحسن أساليب السياسة فأجَّل المناقَشَة معهم في مبادئهم أو غضَّ الطرف عنها، فيظلون جنده القوي في الساحة العراقية ومدَدَه العظيم في قتال بني أمية، لكنه أخطأ في مناقشتهم ومجادَلَتِهِم في آرائهم، فحملوه أحمالًا باهظة لا قِبَل له بها إذ أثاروا عليه حربًا ضروسًا في العراق وفارس كَلَّفَتْه دماءً غزيرةً وأموالًا كثيرةً كان بوسعه أن يتجنبها.

(١-٨) السبب الثامن: الحركة المختارية تنشط ابن الزبير

يتحقق الباحث عن الحركات الثورية التي قامت في صَدْر الإسلام أنها نهضت تدفعها عوامل سياسية جمَّة قد لا تظهرها في البدء إنما تجعل الدين ستارها، فتَضْرِب على وَتَرِه فتهز عاطفات التعصب الكامنة في النفوس، وتستهوي عامة الناس فتجعلهم آلة تسيِّرهم حسبما تشاء ونعاجًا تذبحهم على مذبح الجشع والمصلحة.

رأى المختار بن أبي عبيد الثقفي حَبْل الأمن مضطربًا في الأقطار العربية، ومَطَامِع الزعماء تقرض بمقراضها جِسْم المملكة الأموية، فغلب عبد الله بن الزبير على الحجاز والعراق، ونجدة الحروري على العروض، وعبد الله بن خازم على خراسان، فتحركت في نفسه محبة السيطرة والسيادة، فدعا القومَ في العراق إلى الثورة فأجابوه، وسنبيِّن لك الأسباب التي رَفَعَتْ شأنه وقدَّرَتْ لحركته النجاح نوعًا.

حياة المختار السياسية

نرى المختار لأول مرة على مسرح التاريخ حينما نزل مسلم بن عقيل رسول الحسين في داره، وجعل يبايع له ويدعو الناس إلى معونته، وذلك قبيل الْتِجاء مسلم إلى دار هاني بن عروة المرادي، ثم كانت فاجعة كربلاء فقَبَضَ عليه عبد الله بن زياد وضربه وسجنه وأهانه في كبريائه، فاستعطف عبدُ الله بن عمر صِهْرُ المختار يزيدَ الأول ورجا منه إخلاء سبيله مشترطًا أن لا يتداخل في سياسة الحكومة، فأجابه إلى ذلك على أن يخرج من العراق، وإن لم يفعل برئت منه الذمة، فرحل إلى مكة وفي نفسه من الحقد والضغينة على ابن زياد ما جَعَلَهُ ينتهز كل فرصة للإيقاع به والانتقام لِأَنَفَتِه، حتى لقد قال: «قتلني الله إن لم أقطع أنامله … وأعضاءه إربًا إربًا.»٧٤

أراد ابن الزبير أن ينتصر بالمختار، فرحَّب به وأوسع له وغَمَرَه بإحسانه وعطفه، فاشترى منه دينه على الشروط الآتية: أولًا: يبايع المختار ابن الزبير على أن لا يقضي الأمورَ دونه، ثانيًا: يكون المختارُ الوزيرَ الأول في دولته، فلا يأذن لأحد قَبْله ويوله على أحسن عمله، وقد أبلى المختار البلاء الحسن في أعداء ابن الزبير، وشهد الحصار الأول يوم أُحْرق البيت وخدم رئيسَه خدمةً صادقة، والظاهر أن المختار تألَّم ألمًا شديدًا من ابن الزبير، لأنه لم يوفِّ له بالعهود التي أخذها على نفسه فلم يستعمله، وجعل يُقَدِّم عليه مَنْ هم دونه منزلةً وكفاءةً، فأقام يستطلع أخبار الكوفة ويتزود بالمعلومات الكثيرة عنها إلى أن انتهز فرصة قيام حزب التوَّابين فرحل إليها، وجعل يدسُّ الدسائس بين أعضاء هذا الحزب حتى انشعبت إليه فرقةٌ تؤيده وتُعَظِّمه وتَبُثُّ دَعْوَته.

قضت الدولة الأموية على حركة التوَّابين في معركة عين الوردة، ولكنها لم تَقْضِ على الأحقاد المتأصلة في نفوس الشيعة، فكانت تغلو مراجلُ الضغينة في صدورهم إذ لاقوا من المذلة والإهانة بعد معركة كربلاء وعين الوردة ما جعلهم مستعدين استعدادًا تامًّا لِقَبُول زعيمٍ نشيط يُدِير دفة سياستهم ويستلم زمام أمورهم، وقد كان المختار شابًّا طموحًا عاليَ الهمة٧٥ لم تفتر همته عن جمعهم تحت لوائه، فتَكَلَّلَتْ مساعيه بالنجاح، وإنَّا موردون لك الأسباب التي أعانته على الثورة وهاكها:
أولًا: «المختار يطلب بثأر الحسين ويدعو لابن الحنفية»: لا ريب أن السبب الرئيسي الذي دفع المختار للثورة هو محبته للزعامة والتغلب كما نوَّهنا سابقًا، وكان لا يتأتى له النهوض إن لم يَجْعَل طَلَب الثأرِ للحسين وإرجاع الإمامة إلى آل بيت النبي غايتَه التي ليس وراءها غاية، فنشر هذه الدعوة بين المَوْتُورين من الشيعة، فلاقت أرضًا خصبةً وجوًّا صالحًا للنمو والحياة، ويؤكد لنا الشهرستاني أن أَمْرَه لم ينتظم إلَّا بانتسابه إلى محمد ابن الحنفية أخي الحسين علمًا ودعوةً ولاشتغاله بقتال الذين أجمعوا على الفتك بآل البيت،٧٦ فدعا الناس قائلًا: «إن المهدي ابن الوصي محمد بن علي بعثني إليكم أمينًا ووزيرًا ومنتخَبًا وأميرًا، وأمرني بقتال الملحدين والطلب بدماء أهْل بيته والدفع عن الضعفاء.»٧٧
ومن أقواله يدعوهم أيضًا: «إني قد جئتكم من قِبَل ولي الأمر ومعدن الفضل ووصي الوصي والإمام المهدي بأمرٍ فيه الشفاء وكشف الغطاء وقتل الأعداء وتمام النعماء … إني إنما أعمل على مثالٍ قد مُثِّلَ لي وأمرٍ قد بُيِّن لي، فيه عزُّ وليِّكم وقتل عدوِّكم وشفاءِ صدورِكم، فاسمعوا مني قولي وأطيعوا أمري، ثم أبشروا وتباشروا، فإني لكم — بكل ما تأملون — خيرُ زعيم»،٧٨ ونشط في بثِّ دعوته نشاطًا عظيمًا بعد مقتل سليمان بن صُرَد ورجوع فلوله إلى أوطانها، فكتب للتوَّابين يعزيهم بمصرع أبطالهم ويهنئهم بما نالوه من الأجر والفوز عند ربهم، ويدعوهم إلى الانضمام إليه ليجرد في عدوهم السيف ويثأر لابن بنت الرسول، وهاك رسالته لشيعته: «… أمَّا بعد … فإن الله أَعْظَمَ لكم الأجرَ وحطَّ عنكم الوِزْرَ بمفارقة القاسطين … فإني لو قد خرجت إليكم جَرَّدْتُ … في عدوكم السيف … فرحب الله بمن قارَبَ منكم واهتدى، ولا يُبْعِدُ الله إلَّا من عصى وأبى»،٧٩ فانضم إليه قسمٌ كبيرٌ منهم كانوا من أشد أنصاره في حركته وأعظم أحزابه في حروبه.

لقد كان المختارُ أعظمَ خطورةً في دعوته من سليمان بن صُرَد، إذ اجتمعَتْ فيه صفات الزعامة، فخافه ابن الزبير في الكوفة فقبضوا عليه وأَوْدَعُوه السجن، والحقيقة التي لا شبهة فيها أن المختار أراد الوثوب على العراق والتخلص من النفوذ الزبيري، بينما كان سليمان يسعى لقتال بني أمية أعداء ابن الزبير، فشتَّان بين الزعيمين، فإن لكل منهما مبدأ كما ترى.

اتفقت الشيعة على القيام بتأييده، فصار دعاتُه يبايعون له وهو مسجون إلى أن أُخليَ سبيله، ولا شكَّ في عرفنا أن المختار أَخَذَ يدعو لابن الحنفية، وابن الحنفية جاهلٌ تمامَ الجهل ما يَنْتَحِلُه باسمه، وذلك لضعفه وأثرته الخمول على الشهرة، إن هذا الضعف في زعماء آل البيت كان من أكبر المصائب على الإسلام، إذ جعل لأحزابهم وأصحاب النفوذ والمطامع من رجالاتهم الفرصَ الكافية لادِّعاء مبادئ باسمهم لم يفكِّروا بها ولم تخطر لهم على بال.

فاستثمر المختار بعضَ التصريحات التي صرَّح بها ابن الحنفية بعد مقتل الحسين وأخذ يقول للناس: إن إمامكم ابن الحنفية يدعوكم لطلب الثأر لآل بيت نبيكم. وقِسْ على ذلك من الأقوال المأثورة المؤلمة، ومن هذه التصريحات ما قاله ابن الحنفية لأحد الوفود العراقية في الحجاز: «… وأمَّا ما ذَكَرْتُم من دعاءِ مَنْ دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوددت أن الله انتصر لنا من عدوِّنا بمن شاء من خلقه.»٨٠
وقد استمال المختار هذه الوفود فأكَّدت صِدْق دعوته للناس بقولها: «كنَّا أَحْبَبْنا أن نتثبت لأنفسنا خاصة ولجميع إخواننا عامة، فقَدِمْنا على المهدي ابن علي فسألناه عن حزبنا هذا وعن ما دعانا إليه المختار منها فأَمَرَنَا بمظاهرته ومؤازرته وإجابته إلى ما دعانا إليه، فأَقْبَلْنا طيِّبةً أنفسنا منشرحةً صدورنا، وقد أُذهِب منها الشكُّ والغلُّ والريبُ.»٨١
وما فتئ المختار منذ ذلك الحين يُلْقِي الخطب إِثْر الخطب في المجالس، وكلها ترمي إلى الدعوة لابن الحنفية بواسطته، فترى أن الرجل عرف كيف يستفيد من أقوال ابن الحنفية المبهمة الصادرة عن قلبٍ طيِّبٍ ونفسٍ زكيةٍ تحبُّ العافية وترجو السلام وتود أن لا تُسْفَك الدماء باسمها، فأَعْلَن عن رغبته هذه بكتاب بعثه له: «… وأن أحب الأمور كلها إليَّ ما أُطِيعَ اللهُ فيه، فأَطِعِ الله ما استطعت فيما أعلنت وأسررت، واعلم أني لو أردت القتال لوجدْتُ الناسَ إليَّ سراعًا والأعوانَ لي كثيرًا، ولكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.»٨٢ وأوصاه مرة بالكف عن القتال، فروى الطبري أنه ذكر: «قل للمختار فَلْيَتَّقِ الله وليكفف عن الدماء.»٨٣
ثانيًا: «المختار يستميل كبار الزعماء إلى حِزْبه ويطمعهم بالفوائد المالية»: عَلِمَ المختار حقَّ العلم أن لا سبيل إلى اجتذاب قلوب الزعماء أرباب المصالح إلَّا بمنحهم ما تصبو إليه نفوسهم من المناصب، وما تَتُوقُ إليه ذواتهم من الأرباح المادية، فكتب رسالة عن لسان ابن الحنفية إلى إبراهيم بن الأشتر سيد الكوفة، وبها يؤكد على أنه إنْ نَصَرَهُ وأطاعه وطَلَبَ دماء أهل بيته فله كل ثغر ظَهَرَ عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام، فاستماله وبسط له يده فبايعه على الجهاد في أعدائه. وليس بوسعنا أن نمرَّ بهذه الرسالة دون أن نُثْبِتَ أنها مزوَّرة ليس عليها مسحة من الحقيقة، نستشهد على ذلك بما قاله الشعبي وهو يتهم المختار بأن الكتاب مزور، وأن من شهد بصحته كاذب.
قال الشعبي: «أنا والله لهم على شهادتهم مُتَّهِم، غير أنه يعجبني الخروج، وأنا أرى رأي القوم وأحبُّ تمام ذلك الأمر، فلم أُطْلِعه على ما في نفسي من ذلك»،٨٤ أمَّا نص الكتاب الذي ادَّعى المختار أنه من ابن الحنفية فهاكه: «بسم الله الرحمن الرحيم … من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر … سلامٌ عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلَّا هو، أمَّا بعد فإني قد بعثت إليكم بوزيري وأميني ونجيي الذي ارتضيته لنفسي، وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي، فانهض معي بنفسك وعشيرتك ومَنْ أطاعتك، فإنك إن نصرتني وأَجَبْتَ دعوتي وساعَدْتَ وزيري، كان عندي بذلك فضيلة ولك بذلك أعنة الخيل وكل جيش غازٍ وكل مِصْرٍ ومنبر وثَغْرٍ ظهَرْتَ عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد أهل الشام، على الوفاء بذلك على عهد الله، فإن فَعَلْتَ ذلك نِلْتَ به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هَلَكْتَ هلاكًا لا تستقيله أبدًا، والسلام عليك.»٨٥
ثالثا: «المختار يؤمِّن الأشراف ويعدل بين الناس»: لم يكد المختار يُعْلِن عن عزيمته في طلب الثأر للحسين، وإرجاع الإمامة إلى ابن الحنفية حتى أحسن السيرةَ جهدَهُ، فقعد للعدل وأَمَّنَ الناسَ وأَمَرَ بالمعروف ونهى عن المنكر، وأدنى الأشراف فكانوا جلساءه وحدَّاثه، فظنُّوا أنه صادِقُ النية فيما رمى إليه فتهافتوا عليه، لكن العقد الفريد يقول: إن هذه كلها كانت مظاهر لإدراك بغيته، فلما أَدْرَكَها بانت مقاصده السياسية.٨٦
رابعًا: «الأمويون لا يحسنون صُنْعًا بانتخاب عبيد الله بن زياد للاستيلاء على العراق، العراقيون يبغضون عبيد الله، يلتفون حول المختار»: كلنا يعلم سياسة الشدة التي جرى عليها عبيد الله بن زياد في العراق، تلك السياسة التي أدَّت إلى قتل الحسين بن علي، فكَرِهَه الناس وأرادوا الفتك به بعد وفاة يزيد الأول، فتمكَّن من الهرب إذ التجأ إلى الأزد، وقد قدم به هؤلاء إلى الشام آمنًا مطمئنًا،٨٧ زِدْ على هذا استعماله الدهَّاقين من الفرس لجباية الأموال؛ لأنهم أبصر بالمسائل المالية في عُرْفه من العرب، وأوفى بالأمانة وأهون بالمُطَالَبة، وكان عبيد الله بن زياد بخيلًا فجرَّب أن لا يبذل في العطاء إذا تمكن من ذلك. إنَّ كل هذه العوامل دفعت العراقيين إلى الالتفاف حول المختار ومناصرته.
خامسًا: «المختار يستفيد من ثارات العصبية القبائلية»: قلنا فيما سبق أن العصبية القبائلية كانت داءً وبيلًا، ولا نزال نَذْكُر معركة مرج راهط وما أحلَّت اليمن فيها بقيس من المذلة الشنيعة، فلما قدم جَيْش عبيد الله بن زياد من قبل مروان بن الحكم لإخضاع العراق، ومرَّ بالجزيرة أَصْلَاه أَهْلُها القيسيون نارًا حامية؛ وذلك لأنهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، ولأنهم أرادوا الانتقام ليوم راهط، إن هذه الحرب التي أشعلها القيسيون على اليمنيين أنصار مروان كَلَّفَتْ عبيد الله ثمنًا باهظًا إذ سُفكت فيها دماءٌ غزيرة، وأخَّرته سنة كاملة عن القدوم إلى العراق، وقد تمكن المختار من الاستعداد خلال هذه المدة استعدادًا كاملًا.
سادسًا: «المختار يداري ابن الزبير لئلا يُصبح بين نارين»: ثار المختار في العراق وطَرَدَ الحامية الزبيرية وأعلن استقلاله، وهو متأكد كُلَّ التأكد أنه لا بدَّ له من مناجزة عدوِّين قويين طامعين في تثبيت سلطانهما في بلاد الرافدين، الأول بنو أمية في الشام والثاني ابن الزبير في الحجاز، أمَّا بنو أمية فمن الصعب المفاوَضة معهم لِكُرْهِ الشيعة لهم وما ارْتَكَبَهُ وُلَاتُهُم من المظالم في المصرين حسب اعتقادهم، وأمَّا ابن الزبير فقد تَسْهُل المخابرة معه؛ لأن المختار سيقوم بقتال أعدائه الأمويين الذين كادوه كيدًا عظيمًا، فإن انتصروا على المختار تخلَّص منه وإن انتصر عليهم كان أهون شوكةً منهم عليه، فتوادعا حتى يستجمع لأحدهما الأمر فيثب بصاحبه، وهاك ما كتبه المختار لابن الزبير بهذا الشأن: «… أمَّا بعد فقد عَرَفْتَ مناصحتي إياك وجهدي على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتني إذا أنا فعلت ذلك من نفسك، فلما وفيت لك وقضيت الذي كان لك عليَّ خست بي ولم تَفِ بما عاهَدْتَنِي عليه ورأيت مني ما قد رأيت فإن تُرِدْ مراجعتي أراجعك، وإن تُرِدْ مناصحتي أنصح لك.»٨٨
سابعًا: «المختار يدعي مبادئ جديدة في الإسلام، كرسي علي عند شيعته كالتابوت عند بني إسرائيل»: أحبَّ المختار أن يصبغ مبادئه السياسية بصبغة دينية تؤثِّر في قلوب العامة من أتباعه، فادَّعى أنه يوحى إليه، واخترع «مبدأ البدء»، ويفسِّره لنا الشهرستاني بقوله: «ومن مذهب المختار أنه يجوز البدأ على الله تعالى، والبدأ له معانٍ: البدأ في العلم وهو أن يَظْهَرَ له خِلَافَ ما عَلِمَ، والبدأ في الإرادة وهو أن يَظْهَرَ له صوابٌ على خِلَافِ ما أراد وحَكَمَ، والبدأ في الأمر وهو أن يأمر بشيءٍ ثم يأمر بعده بخلاف ذلك، وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبدأ لأنه كان يَدَّعِي عِلْمَ ما يحدث من الأحوال، إمَّا بوحيٍ يُوحَى إليه وإمَّا برسالة من قِبَلِ الإمام، فكان إذا وَعَدَ أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة فإنْ وَافَقَ كَوْنُه قَوْلَه جعله دليلًا على صِدْق دعواه، وإن لم يُوَافِق قال قد بدا لربكم.»٨٩
ثم أتى بكرسيٍّ قديم قد غشاه وعصبه بالحرير والديباج وزيَّنه بأنواع الزينة، وكان يخرج به على بغل يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، وادَّعى أن به قوةً معنوية، فإذا حارب خصومه ووضعه في براح الصف فلهم الظفر والنصرة؛ لأن فيه «السكينة والبقية والملائكة من فوقكم ينزلون مددًا لكم»،٩٠ وطالَما ذَكَرَ لهم أن هذا الكرسي محله فيهم كمحل التابوت في بني إسرائيل، وإذا علمنا بعد ذلك أن المختار أَخَذَ يعتمد على الأعاجم الفرس، فلا بِدْعَ أن يأتي لهم بمثل هذه المبادئ القريبة من أفهامهم والمغروسة في دمائهم.

وللشعراء العرب قصائد جمة في وصف هذا الكرسي، وهي كلها تقريبًا تُظهر لنا كُفْرَهم به واستصغارهم إياه، قال أعشى همدان:

شَهِدْتُ عليكم أنكم سبايةٌ
وأني بكم يا شُرْطَةَ الشِّرْك عارفُ
وأُقْسِمُ ما كُرسيُّكم بسكينةٍ
وإن كان قد لُفَّتْ عليه اللفائفُ
وأن ليس كالتابوت فينا وإن سَعَتْ
شبامٌ حوالَيْهِ ونهدٌ وخارفُ

وقال المتوكل الليثي:

أبلغ أبا إسحاق (المختار) إن جِئْتَهُ
أني بكرسيِّكُمُ كافرُ

ذكرنا لك الأسباب التي وفَّقت المختار في حَرَكَتِهِ بعض التوفيق، وجَعَلَتْه يستقل بالكوفة استقلالًا لا شائبةَ عليه، ولقد كان بوسعه — لو أَحْسَنَ السياسة في هاتيك الربوع — أن يتمتع زمنًا طويلًا بسيادته وسلطانه، فارتكب سلسلة من الأغلاط الفادحة رَمَتْ به من شاهق مَجْده إلى الحضيض، فقُتِلَتْ حركته بعد أن كاد يقتطف ثمارها.

اعتمد المختار في دعوته على الفرس بدلًا من العرب، فأَخَذَ يقرِّبُهُمْ ويُسْنِد إليهم المناصب ويبذل لهم في العطاء، وكان ذلك بعد أن اشتد ساعده وعَظُمَت هيبته، فاغتاظ أشراف الكوفة مِنْ عمله وأضمروا له السوء، واجتهدوا في إعدامه واغتياله، فكادهم كيدًا عظيمًا بعد أن غَمَرَهُمْ بإحسانه وعمَّهم بعدله، وطَلَبَ قَتَلَةَ الحسين منهم، فثاروا به ثورتهم المشهورة والمعروفة بثورة أهل السبيع والكناسة٩١ سنة ٦٦ﻫ/٦٨٥م فأَخْمَدَهَا وضَرَبَ عنق كل من شهد مَقْتَل الحسين أو اشترك في التدبير عليه، وقامت طائفة الموالي والعبيد تنتقم من أشراف الكوفة؛ لأن فئة كبيرة منهم آذتهم وعامَلَتْهُم — فيما سلف — معامَلَةً قاسية، فاستفاد المختار من عداء طبقة الموالي لطبقة الأشراف، وبعبارة ثانية من عداء العرب الأشراف للفرس الموالي، فجعل يوسِّع شُقَّةَ الخلاف بين الطرفين، ويوغر الصدورَ بالأحقاد لتكون له الطاعة العليا.
قال الدينوري: «… وأكثر من استجاب له — للمختار — همدان وقومٌ كثيرٌ من أبناء العجم الذين كانوا بالكوفة، ففرض لهم معاوية وكانوا يسمَّوْن بالحمراء، وكان منهم بالكوفة زهاء عشرين ألفًا … وجمع ألف رجل من الفعلة بالمعاول، وتتبع دور من خَرَجَ إلى قتال الحسين بن علي فهدمها وجعل يستقصي مَنْ ظفر به منهم، وأَمَرَ أن يكون عطاءهم وأموالهم لأبناء العجم الذين كانوا معه … ومكث المختار يطلب قَتَلَة الحسين وتُجْبَى إليه الأموال من السواد والجبل وأصبهان والري وأذربيجان والجزيرة ثمانية عشر شهرًا، وقرَّب أبناء العجم وفرض لهم ولأولادهم الأعطيات، وقرَّب مجالسهم وباعَدَ العرب وأقصاهم وحَرَمَهُمْ فغضبوا من ذلك.»٩٢
ويقول الطبري في هذا المعنى: «المختار معه عبيدكم — عبيد أهل الكوفة — ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، وعبيدكم ومواليكم أشد حنقًا عليكم من عدوِّكم … وانظروا كل من شهد منهم — مِنْ أشراف الكوفة — قَتل الحسين فأعلموني به، فأخذوا لا يُمَرُّ عليه برجل قد شَهِدَ قَتْل الحسين إلَّا قيل له: هذا ممن شَهِدَ قَتْلَهُ فيقدمه فيضرب عنقه؛ حتى قَتَلَ منهم قبل أن يخرج مائتين وثمانية وأربعين قتيلًا، وأخذ أصحابُهُ كلما رأوا رجلًا قد كان يؤذيهم أو يماريهم أو يغريهم خَلَوْا به فقتلوه حتى قُتِلَ ناسٌ كثير منهم … وتجرَّد المختارُ لقَتَلَة الحسين فقال: ما من ديننا تَرْك قومٍ قَتَلُوا الحسين يمشون أحياءً في الدنيا آمنين … الحمد لله الذي جعلني سيفًا ضَرَبَهُمْ به ورمحًا طَعَنَهُمْ به وطَالِبَ وترهم والقائم بحقهم، إنه كان حقًّا على الله أن يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَهُمْ وأن يُذَلَّ من جَهِلَ حَقَّهم، فسمُّوهم لي ثم اتْبَعُوهم حتى تُفْنُوهم … اطلبوا في قتلة الحسين، فإنه لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أُطَهِّر الأرض منهم وأنقِّي المصر منهم.»٩٣

فترى أن الضعف الداخلي كان جليًّا كل الجلاء في الحركة المختارية، فالتجأ أشراف الكوفة إلى مصعب بن الزبير والي البصرة لأخيه عبد الله بن الزبير، وجعلوا يُعِينُون الزبيريين بكل ما لديهم من مالٍ وقوة، ويشجعونهم على تجهيز حملة ينتقمون بها لسيطرتهم المُضَاعَة وأملاكهم المفقودة، فتربَّص ابن الزبير ليرى ما سيكون بين بني أمية والمختار.

وجَّه المختارُ لقتال عبيد الله بن زياد «يزيد بن أنس» مع ثلاثة آلاف فارس، فالتقى مع مقدمة الجيوش الأموية في «بنات تلي» من أعمال الموصل، فقُتِل وانْهَزَمَ أصحابه، وأخذوا يَتَسَلَّلُون ويرجعون إلى الكوفة، وقد أُسْقِطَ في يد المختار آنئذٍ؛ إلَّا أن ابن الأشتر الشجاع جمع صفوفه وخرج إليهم بجيشه وأمعن في السير حتى جاوز الحدود العراقية وأوغل في الموصل، فالتقوا في «باربيثا» على الخازر — وبينها وبين الموصل خمسة فراسخ — وكانت جموع ابن الأشتر من الأعاجم، حتى لقد روى لنا الدينوري أن عمير بن الحباب — أحد قادة الشام — قال له قبل المعركة: «لقد اشتد غمي منذ دخلت عسكرك، وذلك أني لم أسمع فيه كلامًا عربيًّا، وإنما ملك هؤلاء الأعاجم وقد جاءوك صناديد أهل الشام وأبطالهم، وهم زهاء أربعين ألف رجل، قال إبراهيم: وما قوم أشدُّ بصيرة في قتال أهل الشام من هؤلاء الذين تراهم معي، وإنما هم أولاد الأساورة من أهل فارس والمزاربة»،٩٤ وقد انضم عمير هذا إلى ابن الأشتر وكان قيسيًّا ونادى في قيس: يا لثارات مرج راهط، فنكَّسوا أعلامهم وانهزموا، فأعمل ابن الأشتر ورجالُه السيف في الأمويين، فدبَّ الرعب في صفوفهم، فقُتِلَ عبيدُ الله بن زياد والحصين بن نمير وغيرهما من القادة المشهورين، وغلب ابن الأشتر على الموصل وبعث عماله على سنجار ودارا وما والاها من أرض الجزيرة.٩٥

سَطَعَ نجم المختار في الديار العراقية بعد معركة الخازر وتشتيت شمل الجيش الأموي ومقتل قائده عبيد الله بن زياد، ولم يَبْقَ أمامه لتأمين استقلاله إلَّا طرد الزبيريين من البصرة، وكانوا أصحاب الحول والقوة في الجنوب، كذلك ابن الزبير؛ فإنه بعد انكسار الأمويين أمام المختار رأى أن مجابهته واقعة لا بدَّ منها، فأخذ كلٌّ من الفريقين يستعد للوثوب بصاحبه ولِضَرْبه ضربةً قاضية لا يرجو الحياة من بعدها، فأرسل ابن الزبير أخاه مصعبًا واليًا على البصرة ليناظر أعمال المختار ويراقبها مراقَبة شديدة، وقد كان الأشراف الكوفيون يستنجدون مُصْعبًا على قتال المختار ويهيِّئون له أسباب الفتح، ويبثون الدعوة ضد المبادئ الدينية الجديدة التي قام يؤيدها، ويقولون: إنه من الذين يودُّون القضاء على النفوذ العربي واستبداله بالنفوذ الفارسي، أمَّا يد الزبير البطاشة في قتال المختار فكان المهلب بن أبي صفرة صاحب الوقائع المشهورة مع الخوارج فاستقدمه من فارس ومعه الجموع العديدة والأموال الكثيرة، ويظهر لنا أن ابن الأشتر بعد فَتْحه الجزيرة أراد استثمار الأرباح التي وَعَدَهُ بها المختار في الموصل آنفًا، فتقاعد عن مساعدته وتهاوَنَ في أَمْره، فأُجْبِرَ على إسناد القيادة في جيشه لأحمر بن شُميط، فالتقى الجيشان في «المذار» وتزاحفا ثم اشتبكا في معركةٍ دموية قُتِل بها القائد ابن شميط وقسمٌ عظيمٌ من جموعه، وتراجعت البقية الباقية إلى الكوفة، ولو دققنا في الأسباب التي أدَّت إلى هذا الانكسار المريع لَتَحَقَّقْنا أنها ترجع للمنافَسة الشديدة بين العرب الأشراف أصحاب الإقطاعات الواسعة والموالي عبيدهم، فأحبَّ الكوفيون أن ينتقموا لأنفسهم فاستمالوا عبد الله بن وهب بن أنس أحد قادة المختار — وهو من أشراف الكوفة أيضًا — وأَوْعَزُوا إليه أن يوقع بالموالي والعبيد الفرس، فأشار على أحمر بن شميط أن لا يركب هؤلاء الخيل ليثبتوا في ساحة الوغي لدى اشتداد القتال، وليصابروا حين الأزمة فلا يولُّوا الأدبار على متونها، فعمل برأيه وكان لا يتَّهمه ففتكوا بهم فتكًا ذريعًا.

ويثبت لنا الطبري مناصحة عبد الله بن وهب بن أنس لابن شميط وقوله له، فيروي: «إن الموالي والعبيد آل خورٍ عند المصدوقة، وإن معهم رجالًا كثيرًا على الخيل وأنت تمشي، فمُرْهم فلينزلوا معك فإن لهم بك أسوة، فإني أتخوَّف إن طوردوا ساعة وطوعنوا وضوربوا أن يطيروا على متونها ويسلموك، وإنك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بُدًّا، وإنما كان هذا منه غشًّا للموالي والعبيد لما كانوا لقوا منهم بالكوفة، فأحب إن كانت عليهم الدبرة أن يكونوا رجالًا لا ينجو منهم أحد ولم يتهمه ابن شميط، وظهر أنه إنما أراد بذلك نُصْحَه ليصبروا ويقاتلوا»،٩٦ وقد انتقم الأشراف الكوفيون من الموالي انتقامًا هائلًا، فلم يُدْرِكوا مُنْهَزِمًا إلَّا قَتَلُوه ولا أسيرًا إلَّا ضربوا عنقه.
فلما علم المختار ما أصاب جَيْشَه في «المذار» صمد لهم في «حروراء» أو «نهر البصريين»، وحال بينهم وبين الكوفة، وحصَّن قَصْره فيها وأدخل إليه المؤن والذخيرة، فحمل عليه أصحاب مصعب حملة شعواء وانقضوا على رجاله وأعملوا فيهم السيف، حتى ليصف بعض المؤرخين حالَهُم بقوله: «كأنهم أجمةٌ فيها حريق.»٩٧

فلم يَبْقَ أمام المختار إلَّا التحصن في قَصْره ومناوشة أعدائه، ولكن كيف يتأتى له الفوز والثبات أمام مصعبٍ، وأهلُ الكوفة أنفسهم من أعظم أعدائه وأشدهم بلاءً عليه، فكانت لا تخرج فرقة من رجاله من القصر لقتال الزبيريين إلَّا رموهم بالحجارة وصبُّوا عليهم الماء القذر، ثم قَطَعَ مصعب عنهم الماء والمادة، أمَّا جيشه فكان يأتيه الإمداد بواسطة السفن في الفرات.

ويروي لنا المؤرخون أنه كان يبني سفنه هذه من قصب واسط ولم تكن بُنِيَتْ بَعْدُ،٩٨ واستَحْكَمَت الضائقة في صفوف المختار، حتى لقد كانت نساء الجند تأتي أزواجها ببعض القوت، فأجبر مصعب أن يَضَعَ الحرس لِمَنْع النساء من القدوم نحو الحصن، ويَذْكر لنا الطبري ذلك فيقول: «… فكانت معايشهم أفضلها من نسائهم، فكانت المرأة تخرجُ من منزلها معها الطعام واللطف والماء قد الْتَحَفَتْ عليه، فتخرج كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة وكأنها تأتي أهلها وتزور ذات قرابةٍ لها، فإذا دنت من القصر فُتح لها فدخلت على زوجها وحميها بطعامه وشرابه ولطفه … فجعل المصعب دوريًّا حتى يمنع من يأتيهم من أهليهم وأبنائهم … وكان القوم إذا اشتد عليهم العطش في قَصْرهم استقوا من ماء البئر، ثم أَمَرَ لهم المختار بعسلٍ فصُبَّ فيه ليغيِّر طعمه فشربوا منه.»٩٩

ثم استقتل المختار وخَرَجَ مِنْ قَصْره مع بعض جنده فخرَّ صريعًا، ونزلت بقية الجيش على حُكْم مُصعب فأَعْدَمَهَا وجلها من العجم، وكان يودُّ لو يُبْقِي على العرب ويُطْلِق لهم الحرية فتغلبت عليه العصبية الدينية دون العصبية الجنسية فساقهم جميعًا للموت، وكان مقتل المختار في ١٤ رمضان سنة ٦٤ﻫ/٦٨٣م، وذلك بعد أن ثبت في قَصْره نحوًا من أربعة أشهر.

والخلاصة أننا قد أَسْهَبْنا لك في وصف الأسباب التي دفعت ابن الزبير لمطاولة الأمويين وكفاحهم كفاحًا مستمرًّا، أمَّا سياسة الشدة التي اتَّبعوها فيما بعد فقد جَعَلَت ابن الزبير وأمثاله يسقطون أمامهم الواحد إثر الأخر، وسنأتيك في الفصل التالي على إيراد أشكال هذه السياسة وتطوراتها. ا.ﻫ.

١  الطبري، S2 V1، ص٢٣٢.
٢  المصدر نفسه، S2 V1، ص٣٩٦.
٣  الطبري، S2 V1، ص٢١٣.
٤  ابن عساكر، ج٤ ص٣٢٨.
٥  الطبري، S2 V1، ص٤٠١.
٦  المصدر نفسه، S2 V1، ص٤٠٢.
٧  ابن قتيبة، ج١ ص٣٢٥.
٨  ابن قتيبة، ج١ ص٣٢٦.
٩  الطبري، S2 V1، ص٤٠٢-٤٠٣.
١٠  الطبري، S2 V1، ص٤٠٦.
١١  الفخري، ص١٠٨-١٠٩.
١٢  الطبري، S2 V1، ص٤٠٧-٤٠٨.
١٣  المسعودي، ص٣٠٤.
١٤  يعني ابنَ الزبير.
١٥  «المسعودي، ص٣٠٥». الطبري، S2 V1، ص٤٠٦.
١٦  الفخري، ص١٠٨-١٠٩.
١٧  الطبري، S2 V1، ص٤١٦-٤١٧.
١٨  المصدر نفسه، S2 V1، ص٤١٤.
١٩  المسعودي، ص٣٠٥-٣٠٦.
٢٠  المصدر نفسه، ص٣٠٥-٣٠٦. والطبري، S2 V1، ص٤٢٣.
٢١  الطبري، S2 V1، ص٤٢٤-٤٢٥.
٢٢  المصدر نفسه، S2 V1، ص٤٢٧.
٢٣  الطبري، S2 V1، ص٤١٧.
٢٤  العقد الفريد، ج٣، ص١٤٤.
٢٥  الدينوري، ص٢٤٠.
٢٦  ابن العبري، مختصر الدول، ص١٩٠-١٩١.
٢٧  الطبري، S2 V1، ص٤٦١.
٢٨  الطبري، S2 V1، ص٤٧٣.
٢٩  الطبري، S2 V1، ص٤٧.
٣٠  الفخري، ص١١٠-١١١.
٣١  الطبري، S2 V1، ص٤٧٣.
٣٢  الطبري، S2 V1، ص٤٧٦.
٣٣  ابن قتيبة، ج٢، ص٢٣.
٣٤  المسعودي، ٣٠٧–٣٠٩.
٣٥  المسعودي، ص٣٠٧–٣٠٩.
٣٦  الطبري، S2 V1، ص٤٧٧-٤٧٨.
٣٧  المسعودي، ص٣١٠.
٣٨  كتاب الولاة وكتاب القضاء لابن الكندي، ص٤٠–٤٥.
٣٩  الولاة والقضاء، ص٤٧.
٤٠  المصدر نفسه، ص٤٨، راجع أيضًا المسعودي ص٣١١، والطبري، S2 V1، ص٤٨١.
٤١  الطبري، S2 V1، ص٤٨٧.
٤٢  الفخري، ص١٠٩-١١٠.
٤٣  الطبري، S2 V1، ص٤٩٨.
٤٤  المصدر نفسه، S2 V1، ص٤٩٨.
٤٥  المصدر نفسه، S2 V1، ص٥٠٠-٥٠١.
٤٦  الطبري، S2 V1، ص٥٠١.
٤٧  الطبري، S2 V1، ص٥٠٨.
٤٨  سورة الشعراء، الآية ٢٢٧.
٤٩  الطبري، S2 V1، ص٥٠٣-٥٠٤.
٥٠  المصدر نفسه، ص٥٠٤-٥٠٥.
٥١  الطبري، S2 V1، ص٥٤١.
٥٢  المصدر نفسه، ص٥٤٢.
٥٣  المصدر نفسه، ص٥٠٦-٥٠٧.
٥٤  الطبري، S2 V1، ص٥٣٩-٥٤٠.
٥٥  المصدر نفسه، ص٥٣٨.
٥٦  المصدر نفسه، ص٥٠٧.
٥٧  الطبري، S2 V1، ص٥٤٠.
٥٨  المصدر نفسه، ص٥٠٩-٥١٠.
٥٩  الطبري، S2 V1، ص٥٤٣-٥٤٤.
٦٠  المصدر نفسه، ص٥٤٤.
٦١  المصدر نفسه، ص٥٥٥.
٦٢  الطبري، S2 V1، ص٥٥٤-٥٥٥.
٦٣  المصدر نفسه، ص٥٦٦.
٦٤  الطبري، S2 V1، ص٥٥٦. وراجع عن حركة التوابين في المسعودي ص٣١١، والفخري ص١١٠-١١١.
٦٥  الشهرستاني ج١٠، ص١٥٥.
٦٦  الطبري، S2 V1، ص٥١٦.
٦٧  الشهرستاني، ص١٦٣-١٦٤. ابن حزم ج٤، ص١٨٩.
٦٨  الطبري، S2 V1، ص٥١٦.
٦٩  الولاة والقضاة، ص٤٠-٤١.
٧٠  الطبري، S2 V1، ص٥١٧.
٧١  ص٢٧٨–٢٨٢.
٧٢  الدينوري، ص٢١٨–٢٨٢.
٧٣  الدينوري، ص٢٨٦.
٧٤  الطبري، S2 V1، ص٥٢٤.
٧٥  الفخري، ص١١١.
٧٦  الشهرستاني ج١، ص١٩٧.
٧٧  الطبري، S2 V1، ص٥٣٤.
٧٨  المصدر نفسه، ص٥٣٤.
٧٩  الطبري، S2 V1، ص٥٩٩.
٨٠  الطبري، S2 V1، ص٦٠٧.
٨١  المصدر نفسه، ص٦٠٨.
٨٢  المصدر نفسه، ص٦٩٢.
٨٣  الطبري، S2 V1، ص٦٩٢.
٨٤  المصدر نفسه، ص٦١٢.
٨٥  الطبري، S2 V1، ٦١١. والدينوري ص٢٩٧.
٨٦  العقد الفريد، ج٣، ص١٥٢.
٨٧  الدينوري ص٢٩١، ٢٩٢، ٢٩٣.
٨٨  الطبري، S2 V1، ص٦٨٧.
٨٩  الشهرستاني، ص١٩٧-١٩٨.
٩٠  الشهرستاني، ص١٩٨–٢٠٠.
٩١  محلتان في الكوفة.
٩٢  الدينوري، ص٢٩٧–٣٠٦.
٩٣  راجع الطبري، S2 V1، ص٦٥١ و٦٦٠ و٦٦٧.
٩٤  الدينوري، ص٣٠٢.
٩٥  المسعودي، ص٣٠٢.
٩٦  الطبري، S2 V1، ص٧٢١.
٩٧  المصدر نفسه، ص٨٢٧.
٩٨  راجع عن واسط في معجم البلدان، ج٤، ص٨٨٢.
٩٩  الطبري، S2 V1، ص٧٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤