الفصل الثامن

أحوال الاجتماع الأموي

أَتَحْنا لأنفسنا في الفصل الذي سَلَفَ أن نزور دمشق في أواخر عهد الوليد، وأن نتمتع بمناظرها الجميلة الفتَّانة، وأن نشاهد عمرانها، فرأينا المسجد الجامع وقَصْر الخضراء، ثم تجوَّلنا في أطرافها فكحَّلنا العيون بمرأى الغوطة الملتفة الأشجار ونهر بردى مع روافده السبعة، وإننا الآن نودُّ لو نسير وإياك فنختلط مع سكَّانها كبيرِهم وصغيرهم، شريفهم ووضيعهم؛ لنتعرف إلى أحوال اجتماعهم وطراز حياتهم وأساليب تجارتهم وأنواع نقودهم وشكل بريدهم ومعاني التربية والأخلاق عندهم، إننا بذلك نَفْهَم ما ورثنا من عادات وتقاليد، وما طرأ عليها من التطور والتغيير خلال هذه العصور.

(١) التجارة

اشتدت الحركة التجارية في الشام حينما كَثُرَت الأموال وبدأ الأغنياء ينزعون للترف ويقلِّدون البيزنطيين في لبس الحرير واتخاذ الأثاث الغالي في بيوتهم، فكُنْتَ ترى التجار من الفرس والبيزنطيين والأندلسيين والصقالبة وبعض العرب يجلبون من المغرب الخَدَمَ والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور والسيوف، ثم يمضون إلى المشرق فينتابون السند والهند والصين فيحملون منها المسك والعود والكافور والدارصيني، وقِبْلَتُهم في ذهابهم وإيابهم دمشقُ عاصمة الخلافة، وكانوا يسافرون من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق برًّا وبحرًا، أمَّا الطرق التي يتبعونها في رحلاتهم الطويلة فكانت إمَّا من فرنسا إلى مصر — من فرنجة إلى الفرما — ومنها يركبون البحر الأحمر — القلزم — إلى جدة، ثم يمضون إلى الصين والهند، وإمَّا من فرنسا إلى أنطاكية فالجابية، ثم يركبون في الفرات فالدجلة إلى بغداد فالبصرة، ومنها يُبْحِرون إلى عمان فالهند.١

واشتهر لدى الدمشقيين جماعات التجار الصقالبة، وكان يحمل هؤلاء جلود الخز وجلود الثعالب السود والسيوف من أوروبا، فيُبْحرون إمَّا من فرنسا وإمَّا من الأندلس إلى السوس الأقصى، فيصيرون إلى طنجة ثم إلى تونس فمصر فالرملة فدمشق فالكوفة فبغداد فالبصرة فالأهواز ففارس فكرمان فالسند فالهند فالصين، وكان يصحبهم في رحلاتهم الخدم الصقالبة المستعربة وغير المستعربة فيترجِمون لهم.

أمَّا البلاد الشامية فكانت تصدِّر الزيت والصابون والفواكه والحبوب والكاغد والثياب والسكر والزجاج والقطن والحديد والحوارة — وبه تبيَّض السقوف والسطوح — والحجارة البيضاء والرخام وغيرها، وقد ذَكَرَ المقدسي ما تُصَدِّره كل بلد في الشام، فقال: «يرتفع من فلسطين الزيت واليقطين والزبيب والخرنوب والملاحم والصابون، ومن بيت المقدس الجبن والقطن والتفاح والمرايا وقدور القناديل والإبر، ومن بيسان النيل والتمور، ومن عمان الحبوب والخرفان والعسل، ومن طبرية شقاق المطارح والكاغد، ومن القدس الثياب المنيرة والبلعيسية والحبال، ومن صور السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات، ومن مآب قلوب اللون، ومن بيسان الأرز، ومن دمشق المعصور والديبا ودهن البنفسج والصفريات والكاغد والجوز، ومن حلب القطن والثياب والأشنان والمغرة وقصب السكر والرطب والزيتون والنارنج والجوز والهليون والموز والسماق والكرنب والكمأة والترمس.»٢
وتعامَلَ التجارُ الأجانب في المملكة الأموية بواسطة النقود البيزنطية والفارسية، وقد عَرَفَها العرب منذ الجاهلية، فقال البلاذري: «كانت دنانير هرقل تَرِدُ على أهل مكة في الجاهلية وتَرِدُ عليهم دراهم الفرس البغلية، فكانوا لا يتبايعون إلَّا على أنها تبر»،٣ وكانت مختلفةَ الأوزان فوَزَنَ بعضُها عشرين قيراطًا واثني عشر قيراطًا، والبعض الآخر عشرةَ قراريط.

ولا يغرب عن بالنا أنه كانت لقريش في مكة أوزان في الجاهلية، فدَخَلَ الإسلام فأقَرَّهَا وثبَّتها، فكانت تَزِن الفضة بوزن تسميه درهمًا، وتَزِن الذهب بوزن تسميه دينارًا، وكان عندهم وزن الشعيرة وهو واحد من الستين من وزن الدرهم، والأوقية وتزن أربعين درهمًا، والنش وتزن عشرين درهمًا، والنواة وتزن خمسة دراهم.

(٢) النقود

قلنا إن النقود المتداوَلة بين أيدي الناس في المملكة الأموية كانت بيزنطية وفارسية، فلما استولى عبد الملك بن مروان على زمام الأمور نَقَلَ السكة والنقود إلى العربية، ويُروى أن خالدَ بن يزيد بن معاوية أشار على عبد الملك بقوله: «يا أمير المؤمنين حرِّم دنانيرهم، فلا يُتعامل بها، واضرب للناس سككًا ولا تعف هؤلاء الكفرة مما كرهوا في الطوامير …» وكانت الأقباط تذكر المسيح في رءوس الطوامير وتنسبه إلى الربوبية وتجعل الصليب مكان «بسم الله الرحمن الرحيم»،٤ فضَرَبَ الدنانير وأَمَرَ عمَّاله بِضَرْبها، فأنشأ الحجاج دارًا لضرب السكة في العراق وجَمَعَ فيها الطبَّاعين، فكان يضرب المال للخليفة مما يجتمع له من التبر، وختم أيدي الطبَّاعين وشَدَّدَ النكير عليهم ووَضَعَ قانونًا يقضي بالقصاص الصارم والعذاب الشديد على المزيفين، ويذْكُر البلاذري أن عمر بن هبيرة وخالد بن عبد الله القسري ويوسف بن عمر ولاة العراق بعد الحجاج أَفْرَطوا في الشدة على الطبَّاعين وأصحاب الغيار، فقطعوا الأيدي وسجنوا المزيفين؛ لذلك كانت الدراهم الهبيرية والخالدية واليوسفية أَجْوَد نقود بني أمية، وكتب الحجاج على النقود التي سكَّها «بسم الله الرحمن الرحيم»، وكتب أيضًا بعد ذلك «الله أحد الله الصمد.»

(٣) دواوين الحكومة

قد تعجب فئة منَّا كيف أن الحكومة الأموية لم تعجل حالًا لدى استلامها زمام الأحكام في ضَرْب نقود عربية باسمها تقوم مقام نقود الأغيار، وقد تستغرب هذه الفئة إذا قُلْنَا لها: إن دواوين الحكومة الأموية ظلَّت تُكتب باليونانية في الشام، وبالفارسية في العراق، وبالقبطية في مصر، حتى عهد عبد الملك بن مروان، ولكن ليس هناك ما يدعو إلى العجب والاستغراب، فكان الفرس والآراميون والقبطيون يفوقون العرب في إدارة الدواوين وضَبْط حسابات المالية وتدقيق المسائل الكتابية، هذا عدا أن العربية كانت تُصَارع اللغة القبطية في مصر والآرامية واليونانية في سورية والفارسية في العراق ولم تَتَغَلَّب عليها، فلما كانت سنة ٨١ﻫ/٧٠٠م اشتدت حركة التعصب للعربية ومقاتَلة اللغات الغريبة عن العرب، وكَثُرَ عددُ المتعلمين من الشبَّان الأمويين الذين أَخَذُوا ينافسون الأجانب، فأمر عبد الملك بنقل جميع دواوين الحكومة إلى العربية في جميع الأقطار، وألَّف لجنةً للقيام بهذا العمل الخطير عهد رئاستها إلى سليمان بن سعد، وأمدَّه بالمال فأعانه بخراج الأردن سنة كاملة — ويُقَدَّر بمائة ألف وثمانين ألف دينار — فلم تَنْتَهِ السنة إلَّا ونُقِلَتْ جميع الدواوين إلى العربية، فتأثر الكتَّابُ البيزنطيون من ذلك إذ فقدوا وظائفهم وأُجبروا أن يَتَطَلَّبوا العيش مِنْ غيرها، روى ذلك البلاذري فقال: «فلم تَنْقَضِ السنة حتى فرغ من نقله وأتى به عبد الملك، فدعا بسرجون كاتبه فعَرَضَ ذلك عليه فغمَّه وخرج من عنده كئيبًا، فلقيه قومٌ من كتَّاب الروم فقال: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة فقد قَطَعَهَا الله عنكم.»٥
وقد بَذَلَ الموظفون الفرس مالًا كثيرًا لصالح بن عبد الرحمن رئيس اللجنة التي أُوكِل إليها نَقْل الديوان من الفارسية إلى العربية في العراق فلم يفلحوا؛ لأن الحجاج كان من ورائه يُشْرِف على كل صغيرة وكبيرة، ولأن صالح بن عبد الرحمن يصبح رئيسًا لشعبة كبرى من هذه الدواوين إن نَجَحَ في إتمام تعريبها، فلم يَزَل مكبًّا على تعريبها مع زملائه حتى تمَّ له ما أراد، واعترف أحد الكتبة الفرس عمَّا أصابهم من الألم مِنْ نَقْل هذه الدواوين إلى العربية فقال: «بذلت لصالحٍ مائةَ ألف درهم على أن يُظْهِر العجزَ عن نقل الديوان ويمسك عن ذلك فأبى ونَقَلَه.»٦
ولم يَنْقَضِ عام ٨٧ﻫ/٧٠٥م حتى أَمَرَ عبد الله بن عبد الملك بالدواوين فنُسِخَت بالعربية، وكانت قبل ذلك تُكتب بالقبطية، وصَرَفَ الأمير عبد الله أشناس عن الديوان.٧

(٤) الموازين

أمَّا الموازين التي كان يستعملها التجار فكانت تختلف باختلاف البلاد الأموية، وقد عرفنا منها: (١) القفيز (٢) الوَيْبة (٣) المكوك (٤) الكيلجة (٥) والقب (٦) والمدى (٧) والغرارة (٨) والرطل (٩) والأوقية (١٠) والدرهم (١١) والحبة (١٢) والدانق.

فأمَّا الكيلجة فهي نحو صاع ونصف، والمكوك نحو ثلاث كيالج، والويبة مكوكان، والقفيز أربع ويبان، والمدى نحو ثلثي القفيز، والغرارة قفيز ونصف، وكل رطل اثنا عشر أوقية، والدرهم ستون حبة، والحبة شعيرة واحدة، والدانق عشر حبَّات، وهذه الأوزان تتفاوت في البلاد.

(٥) البريد

ولا شبهةَ لدينا أن البريد كان يسهِّل على التُّجار أمورهم، فكانوا دومًا على اتصال مع زملائهم في بقية الأقطار الأموية، وديوان البريد مصلحةٌ تختص بالحكومة رأسًا، فيبعث صاحبها بتحارير الخلافة وأوامرها ومراسيمها إلى مواضعها، ويتولى عَرْضَ الكتب من جميع النواحي على مقام الخلافة، ويحسن بصاحب البريد أن يكون عالمًا بأسماء البلدان والمواضع والمنازل وعدد الأميال والفراسخ التي بينها، قادرًا على وَصْفها وبيان عمرانها وطبيعتها وطرقها ومسالكها، وهو الذي يعيِّن المأمورين الضليعين في هذا المسلك في المحطات المختلفة.

قال أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي: «ويكون إليه — لصاحب البريد — النظر في أَمْر المرتبين في السكك وتنجز أرزاقهم وتقليد أصحاب الخرائط في سائر الأمصار، والذي يُحْتَاج إليه في صاحب هذا الديوان هو أن يكون ثقةً إمَّا في نفسه أو عند الخليفة القائم بالأمر في وقته؛ لأن هذا الديوان ليس فيه من العمل ما يحتاج معه إلى الكافي المتصفح، وإنما يحتاج إلى الثقة المتحفظ، والرسوم التي يحتاج إليها من أَمْر الديوان ما يضبط بها أعماله وأحواله، ولا غنًى بصاحب هذا الديوان أن يكون عارفًا بأَمْر الطرق ومواضع السكك والمسالك إلى جميع النواحي، ولا يحتاج في الرجوع بهذه المعرفة إلى غيره، وما أن سأله عنه الخليفة وقت الحاجة إلى شخوصه وإنقاذ جيش يهمه أَمْره وغير ذلك مما تدعو الضرورة إلى علم الطرق بسببه وجده عتيدًا عنده ومضبوطًا قبله ولم يحتج إلى تكلُّف عَمَلِه والمساءلة عنه.»٨

(٦) العلم والتربية

عَرَفْنا شيئًا عن تجارة الدولة الأموية وأحوال تُجَّارها والطرق التي سلكوها، ونقودهم وموازينهم والبريد الذي سهَّل عليهم سبل مواصلاتهم ومخابراتهم، وإنَّا سنجرِّب الآن أن نفهم شيئًا عن العلوم التي اشتغل بها الأمويون وأصول التربية التي استناروا بنورها.

اعتنى العرب منذ الجاهلية بأحكام اللغة ونَظْم الشعر وتأليف الخطب ومعرفة الأخبار والسير، وكان لهم بعض الاطِّلاع بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وبأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم،٩ وكانت العرب في صدر الإسلام لا تهتم بشيءٍ من العلم إلَّا بلغتها ومَعْرِفة أحكام الشريعة وصناعة الطب لاحتياج الناس إليها في جميع الأدوار.١٠

كانت الدولة الأموية دولة فتوح وتوسُّع، فلَمْ تَعْتَنِ الاعتناءَ اللازمَ في إنشاء المدارس وتهيئة المناهج العلمية ليسير الطلاب بحسبها، بل جلَّ ما نعرفه أن الخلفاء والنبلاء والقادة كانوا يأتون بمؤدِّبين ليؤدبوا أطفالهم، ويُعْرَف هؤلاء المؤدِّبون عادةً بسمو أخلاقهم وغزير علمهم وشدة وَرَعِهِم وتقاهم، ولو درسنا الوصايا والنبذ التي اقتطفناها من مختلف المصادر لتحققنا أن النبيل الأموي كان يعلم الدين فيقرأ القرآن الكريم ويحفظ الحديث الشريف، ثم يروي الشعر والأقوال المأثورة ويلقن الحساب واللغة، وقد يَحْذَرون حذرًا شديدًا من اللحن، وكان المُربُّون يُنشئون في طلابهم خصالًا حميدة، فيطلبون إليهم الاعتماد على النفس والابتعاد عن الملاهي والمعازف والغناء ومراعاة سنن الاقتصاد ونبذ الصلف والعجب بالنفس، وأمروهم بمؤازرة الغير ومساعدته جهد الطاقة، وكانوا يهتمون بالرياضة فيشجِّعونهم على النزول في ميادين السباق والفروسية ويُمَرِّنُونهم على الصيد والقنص والمصارعة، وهاك فقرات تؤيد لك ما قدمناه:

ذَكَرَ الكلبي مؤدب محمد بن سليمان بن عبد الملك قال: «بعث إليَّ سليمان بن عبد الملك فدَخَلْتُ عليه فسلَّمْتُ عليه بالخلافة فرد عليَّ السلام، ثم أومأ إليَّ فجلسْتُ، فسكت عنِّي حتى إذا سَكَنَ جأشي قال لي: يا كلبيُّ إن ابني محمدًا قرة عيني وثمرة قلبي، وقد رَجَوْتُ أن يبلغ الله به أَفْضَلَ ما بلغ رجلًا مِنْ أهل بيته، وقد وليتك تأديبه فعلِّمه القرآن، وروِّهِ الأشعار فإن الشعر ديوان العرب، وفهمه أيام الناس، وخُذْهُ بعِلْم الفرائض، وفهِّمْه السنن، ولا تَفْتُر عنه ليلًا ولا نهارًا، فإذا أخطأ بكلمة أو زلَّ بحرف أو هفا بقول فلا تؤنبه بين يدي جلسائه، ولكن إذا خلا لك مجلسه لئلا تمحكه، وإذا دخل عليه الناس للتسليم فخذه بألطافهم وإظهار برِّهم، وإذا حيَّوْه بتحية فليحيِّهم بأحسن منها، وأَطِيبَا لِمَنْ حضر بمائدتكما الطعام، واحمله على طلاقة الوجه، وحُسْن البِشْر، وكَظْم الغيظ، وقلة القذر، والتثبت في المنطق، والوفاء بالعهد، وتنكب الكذب.»١١
وقال عتبة بن أبي سفيان لعبد الصمد مؤدب ولده: «ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإنَّ أعينهم معقودة بعينك، فالحُسْن عندهم ما اسْتَحْسَنْتَ والقبيح عندهم ما استقبحْتَ، وعلِّمهم كتاب الله، ولا تُكْرِههم عليه فيمَلُّوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم رَوِّهم من الشعر أَعَفَّه ومن الحديث أَشْرَفه، ولا تُخْرِجهم مِنْ عِلْم إلى غيره حتى يُحْكِموه، فإنَّ ازدحام الكلام في السمع مَضَلَّة للفهم، وتَهَدَّدْهم بي وأَدِّبْهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يَعْجَل بالدواء قبل معرفة الداء، وجنِّبهم مُحادَثة النساء، ورَوِّهم سِيَر الحكماء، واستزدني بزيادتك إياهم أزدْك، وإياك أن تتكل على عذرٍ مني لك فقد اتكلت على كفايةٍ منك، وزد في تأديبهم أزدْك في برِّي إن شاء الله تعالى.»١٢
وقال عبد الملك لرومان مؤدِّب أولاده: «مُرْهم بإحراز ما أَقْبَل قَبْل إدباره، وكتمان ما في الأنفس دون الخلصان، ومؤازرة الثقة من الإخوان، وتوقَّعِ انتقاد الإخوان، وقلة التعجب من عذر الخلَّان.»١٣
وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك: «فإن ابتلاك الله بغنًى فاقتصد في غناك، وضَعْ لله نفسك، وأدِّ إلى الله فرائض حقِّه من مالك … وإياك أن تفخر بقولك وتعجب بنفسك أو يُخَيَّل إليك أن ما رزقه لكرامةٍ لك على ربك وفضيلة على مَنْ لم يُرْزَق مثلَ غِناك.»١٤
وقال عمر بن عبد العزيز إلى مؤدِّب ولده: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سهل مولاه، أمَّا بعد فإني اخترتك على عِلْم مني بك لتأديب ولدي، فصرفْتُهم إليك عن غيرك من موالي وذوي الخاصة بي، فحدِّثهم بالجفاء فهو أمعن لإقدامهم، وترْك الصحبة فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك فإن كثرته تميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون مِنْ أدبك بُغْض الملاهي التي بَدْؤها من الشيطان وعاقبتها سَخَط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها يُنْبِت النفاق بالقلب كما يَنْبُت العشبُ الماء، ولعمري لَتَوَقِّي ذلك بترك حضور تلك المواطن أَيْسَرُ على ذي الذهن في الثبوت على النفاق في قلبه … وليفتتح كلُّ غلام منهم بجزءٍ من القرآن يتثبت في قراءته، فإذا فرغ تَنَاوَلَ قَوْسَه ونَبْله وخرج إلى الفرض حافيًا فرمى سبعة أرشاق ثم انصرف إلى القائلة.»١٥
وقال الحَجَّاج لمعلِّم ولده: «عَلِّم ولدي السباحة قبل الكتابة، فإنهم يصيبون مَنْ يَكْتُب عنهم ولا يصيبون مَنْ يَسْبَح عنهم.»١٦
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى ساكني الأمصار: «أمَّا بعد، فعلِّموا أولادكم السباحة والفروسية، ورَوُّوهم ما سار من المثل وحَسُن من الشعر.»١٧
وقال ابن التوأم: «عَلِّم ابنك الحساب قبل الكتاب، فإن الحساب أَكْسَب من الكتاب، ومئونة تَعَلُّمه أيسر، ووجوه منافعه أكثر.»١٨
وكان ابن التوأم يقول أيضًا: «مِنْ تمام ما يجب على الآباء مِنْ حفظ الأبناء أن يعلِّمه الكتاب والحساب والسباحة.»١٩
ودخل على الوليد فتًى من بني مخزوم فقال له: «زوِّجني ابنتك»، فقال: «هل قرأت القرآن؟» قال: «لا»، قال: «أَدْنُوه مني»، فأدْنَوه فضرب عمامته بقضيبٍ كان في يده وقَرَعَ رأسه به قرعات، ثم قال لرجل: «ضُمَّه إليك فإذا قَرَأَ زوَّجناه.»٢٠
وقال عبد الملك: «اللحن هجنة على الشريف»،٢١ وكان يقال: «اللحن في المنطق أَقْبَح من آثار الجدري في الوجه.»٢٢
وقال عبد الملك — وكان ينفر من لَحْن الوليد: «أَضَرَّ بالوليد حُبُّنَا له فلم نوجِّهه إلى البادية.»٢٣

(٦-١) تعليم القبائل

وأرسل الأمويون المعلمين إلى القبائل الرحَّل ليعلِّموهم أمور دينهم وشيئًا من القرآن الكريم والكتابة ومبادئ الحساب، فذَكَرَ ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز بعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس في البدو، وأجرى عليهم رزقًا،٢٤ وأحسنوا إلى الفقهاء وَوَصَلُوهم بالجوائز وأَغْدَقوا عليهم النعم المتوالية، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حِمْص: «انظر إلى القوم الذين نصَّبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طَلَب الدنيا، فأَعْطِ كل رجلٍ منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا، وإنَّ خيْرَ الخير أَعْجَلُه، والسلام عليك.»٢٥

(٦-٢) تعليم البنات

أمَّا البنات فكُنَّ يتعلمن القرآن ويحفظن الشعر، فذكر كتاب الأمالي أنه كانت مولاةٌ لبني الحَجَّاج تحفظ شعرًا وترويه وتُنشده فتيات بني الحجاج.٢٦
ولا ريبَ أن بعض المحافظين كانوا يتجنبون تعليم البنات جهدهم سوى ما يختص بتعليمهم أمور دينهم، حتى قيل: «لا تعلِّموا بناتكم الكتاب ولا تُرَوُّوهن الشعر، وعلِّموهن القرآن ومن القرآن سورة النور.»٢٧

(٦-٣) الطب

عَرَفَ العربُ الطب منذ الجاهلية، وذلك لاحتكاكهم بفارس وبيزنطية، فلما جاء الإسلام أباح دراسته وأكرم الأطباء، وقد كان النبي يحثُّ الناس على الاهتمام به٢٨ لحاجتهم إليه، وشجَّعت السياسةُ الأطباء على الاقتراب من أولي الأمر ليكونوا أعوانًا لهم على التخلص من أعدائهم، فقال معاوية بن أبي سفيان حينما بَلَغَه أن ابن أثال الطبيب سقى الأشتر قائد علي بن أبي طالب شَرْبَة عسل فيها سم: «إن لله جنودًا منها العسل.»٢٩

أشهر الأطباء في العصر الأموي

وكان معظم الأطباء من الذميين وأَغْلَبهم نصارى في أيام بني أمية، ونبغ من الأطباء رجالٌ معدودون، أَشْهَرُهم الحارث بن كلدة الثقفي، وهو شابٌّ حجازيٌّ وُلِد في الطائف، ورحل في طَلَب صناعة الطب، فذهب إلى اليمن وفارس فأخذ عن أشهر أطباء جنديسابور وأصاب في بلاد العجم مالًا كثيرًا لمداواته عظمائها وكبرائها، وتمرَّن في طبابة العيون حتى طار صيته فيها، وكان معاصرًا للنبي والخلفاء الراشدين وأَدْرَك أيام معاوية بن أبي سفيان، ثم هزَّه الحنين فاشتاقت نفسه إلى موطنه فرجع إلى الحجاز، فدَرَس أمراض العرب وعرف ما تعتاده القبائل من المعالجات، وكان الحارث موسيقيًّا ماهرًا، فضَرَبَ على العود، ولعله اقتبس ذلك من فارس، وله كلمات ونصائح طبية مأثورة يتناقلها العرب منها:
  • «الداء الدوي إدخال الطعام على الطعام.»

  • «لا تدخل الحمام شبعانًا، ولا تقم بالليل عريانًا، ولا تقعد على الطعام غضبانًا، وأرفق بنفسك يكن أَرْضَى لبالك، وقلِّل من طعامك يكن أهنأ لنومك.»

  • «من سرَّه البقاء — ولا بقاء — فليباكر الغداء وليعجِّل العشاء وليخفف الرداء وليقلِّل الجماع.»٣٠
ونَبَغَ من الأطباء عبد الملك بن أبجر الكناني، وهو من الشبان الذين اشتغلوا في صناعة التدريس بالإسكندرية، وقد اعْتَنَقَ الإسلام على يد عمر بن عبد العزيز، ولما أراد عمر أن يهيئ الأسباب لدراسة الطب في أنطاكية وحرَّان كان الطبيب عبد الملك ساعده الأيمن، وكان هذا الخليفة العادل يعتمد عليه ويُجِلُّه.٣١
وعُرِف منهم ابن أثال، وهو طبيبٌ دمشقيٌّ ممتازٌ، عاش في أيام معاوية الأول، وكان خبيرًا بالأدوية المفردة والمُرَكَّبة وقواها، ملِّمًا بالسموم القواتل، ويَتَّهِمه المؤرِّخون أن معاوية لم يقرِّبْه إلَّا ليكون آلته في التخلص من بعض الأمراء والخصوم السياسيين، ويستشهدون على صحة دعواهم بقولهم: إن معاوية دسَّ إلى ابن أثال أن يسقي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد سمًّا حينما حَدَّثَتْه نَفْسه بطلب الخلافة، قال ابن أبي أصيبعة: «إن معاوية لما أراد أن يُظْهِر العقد ليزيد قال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كَبِرَتْ سنه ورقَّ جلده ودقَّ عظمه واقترب أَجَلُه، ويريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون؟ فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسكت وأَضْمَرَها ودسَّ إلى ابن أثال الطبيب النصراني فسقاه سمًّا، فمات ففَتَكَ ابن أخيه بالطبيب، فألزم معاويةُ بني مخزوم ديةَ ابن أثال اثني عشر ألف درهم.»٣٢
واستعمل معاوية بن أبي سفيان أبا الحكم الدمشقي في المقاصد السياسية التي كان يريد تنفيذها وإتمامها، وكان هذا زميلًا لابن أثال عالمًا بأنواع العلاج والأدوية، وعمَّر الحكم حتى تجاوز المائة سنة، وطبَّب يزيدًا الأول وعبد الملك بن مروان، ويروي القفطي أن معاوية كان يسيِّره مع الحُجاج إلى مكة.٣٣

وعُرِف ابنه الحكم من بعده، وقد تَعَلَّم على أبيه ومارَسَ هذه الصناعة ونال صيتًا طيِّبًا كوالده.

واختص ثياذوق الطبيب النصراني بخدمة الحَجَّاج وصحبه، وكان يعتمد عليه ويَثِقُ بمؤازرته، فأغدق عليه نِعَمَهُ وأجرى عليه رزقًا كثيرًا، ودرس عليه طلاب مشهورون، وقد أدرك بعضهم الدولة العباسية كفرات بن شحتاثا طبيب عيسى بن موسى الأمير العباسي، ومات فرات في زمن المنصور،٣٤ وألَّف بعض الكتب القيمة «كالكناش الكبير»، وكتاب إبدال الأدوية وكيفية دقِّها وإيقاعها وإذابتها، و«شيء من تفسير أسماء الأدوية»، وله حِكَم ونصائح طيِّبة منها:
  • «لا تأكل طعامًا وفي معدتك طعام.»

  • «ولا تأكل ما تَضْعُف أسنانك عن مَضْغه فتَضْعف مَعِدَتك عن هضمه.»

  • «ولا تشرب الماء على الطعام حتى تفرغ ساعتين، فإن أصل الداء التخمة وأصل التخمة الماء على الطعام.»

  • «وعليك بدخول الحمام في كل يومين مرة واحدة، فإنه يُخْرِج من جَسَدِك ما لا يصل إليه الدواء.»

  • «وأكثر الدم في بدنك تحرس به نفسك.»

  • «وعليك في كل فصل قيئة ومسهلة.»

  • «ولا تحبس البول وإن كنت راكبًا.»

  • «واعرض نفسك على الخلاء قبل نومك.»

  • «ولا تكثر الجماع فإنه يقتبس من نار الحياة.»

واختص بخدمة الحجاج أيضًا الطبيب ثاودون، وله مؤلفات جمة منها «الكناش» صنَّفه لابنه ليستعين به، وعرف من الأطباء ماسَرْجويه وهو بصري سريانيُّ اللغة يهودي المذهب، وتولَّى تعريب بعض الكتب الطبية عن السريانية ككناش أهرون القس وغيره، وقد عاش في زمن مروان بن الحكم.٣٥

(٧) الثياب والعادات الاجتماعية

لو ساعَدَنا القدر ورأينا أحد الخلفاء الأمويين في المسجد الجامع حين صلاة الجمعة أو في أحد أيام الأعياد الرسمية لاسْتَلْفَتَتْ أنظارَنا البردةُ التي عليه، وهي ثوبٌ كان يلبسه الرسول ، قال ابن الأثير: وهي شملة مخططة، وقيل كساء أسود مربع فيه صفر، وقد اُختلف في وصولها إلى الخلفاء،٣٦ ولرأينا القضيب الذي يحمله، وهو عود كان النبي يأخذه بيده، ثم لو اقتربنا من الخليفة وحدَّقنا في يده اليمنى لشاهدنا خاتمًا، والأصل في اتخاذ الخاتم أن النبي قيل له: إن الملوك لا يقرءون كتابًا غير مختوم، فاتَّخَذ خاتمًا من ورق وجعل نقشه «محمد رسول الله»، واتخذ الخلفاء بعد ذلك خواتيم، وصار كلٌّ ينقش ما يشاء من الكلمات، فنقش معاوية على خاتمه «لا قوة إلَّا بالله»، ونقش يزيد الأول على خاتمه «ربنا الله»، ونقش معاوية الثاني «بالله ثقة معاوية»، ونقش مروان بن الحكم «آمنت بالله مخلصًا»، ونقش الوليد «يا وليد إنك ميت»، ونقش غيرهم ألفاظًا كلها تدلُّ على خضوعهم للعزة الإلهية واعتمادهم عليها، وكان الخاتم والقضيب والبردة من شعائر الخلافة، وظَلَّ يتوارثها الخلفاء الواحد إثر الآخر.

أمَّا مجالس الخلفاء فكان فرشها الأثاث القطني في الصيف، والأثاث الصوفي في الشتاء، وكل ذلك على أتمِّ أسلوب وأَفْخَم طريقة.

ويؤكد صاحب البيان والتبيين أن ظهور دوائر الحكومة بمظاهر الأبهة ضروري فيقول: «وهل يملأ عيون الأعداء ويُرْعب قلوب المخالفين ويحشو صدور العوام إفراط التعظيم وتعظيم شأن السلطة والزيادة في الأقدار إلَّا الآلات؟ وهل دواؤهم إلَّا في التهويل عليهم؟ وهل يُصْلِحهم إلَّا إخافتك إياهم؟ وهل ينقادون لما فيه الحظ لهم ويسلمون بالطاعة التي فيها صلاح أمورهم إلَّا بتدبيرٍ يجمع المحبة والمهابة؟»٣٧ ويلبس الناس الخِفاف والقلانس في الصيف كما يلبسونها في الشتاء إذا دخلوا على الخلفاء وعلى الأمراء وعلى السادة والعظماء؛ لأن ذلك أشبه بالاحتفال والتعظيم والإجلال، وأبعد من التبذل والاسترسال،٣٨ ويتعممون أحيانًا، أمَّا «العقداء» وهو أن تُعقد العمامة في القفا، وأمَّا الميلاء وهو أن تُعقد ميالة على الرأس.٣٩

(٧-١) التأنُّق في الثياب

وكان بعض الخلفاء يتأنَّقون في ملابسهم ويُكْثِرون منها، حتى لقد قيل: إنه لم يكن في بني مروان أَعْطَر ولا ألبس من هشام بن عبد الملك، ويُبالغ المؤرخون في تعداد ثيابه، فيُروى أنه خَرَجَ حاجًا فحمل ثياب ظهره على ستمائة جمل،٤٠ ويقول ابن قتيبة عن إسراف هشام في ملبسه: «وكان قد حبِّب إليه التكاثر من الدنيا والاستمتاع بالكساء، لم يلبس ثوبًا قط يومًا فعاد إليه، حتى لقد كان كساء ظهره وثياب مهنته لا يستقل بها ولا يحملها إلَّا سبعمائة بعير من أجلد ما يكون من الإبل … وكان مع ذلك يتقللها»،٤١ وكان سليمان بن عبد الملك شابًّا وضيًّا جميلًا يعجبه التأنُّق في اللباس، فيُروى أنه لبس ذات يوم وتهيأ ثم قال لجارية له حجازية: كيف ترين الهيئة؟ قالت: أنت أجمل الناس، قال: أنشديني على ذلك، فقالت:
أنت خيرُ المتاع لو كُنْتَ تبقى
غير أنْ لا بقاء للإنسانِ
أَنْتَ خلوٌ من العيوب ومِمَّا
يَكْرَهُ الناس غَيْرَ أَنَّكَ فَانِ٤٢
والحقيقة التي نريد إيرادها أن بعض الخلفاء أَسْرَفوا في اقتنائهم الثياب إسرافًا زائدًا، كما أن بعضهم قتر على نفسه كعمر بن عبد العزيز الخليفة العادل، فكان لا يلبس إلَّا جبة بسيطة وسراويل رخيصة ولا يَعْتَمُّ إلَّا بعمة غليظة، وزهد عمر في الثياب والعطر منذ أن تولى مصالح المسلمين، فقال ابن الجوزي: «صلى عمر بن عبد العزيز الجمعة، ثم جلس وعليه قميصٌ مرقوعُ الجيب من بين يديه وخلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد أعطاك، فلو لبست، فنكس مَلِيًّا ثم رَفَعَ رأسه فقال: إن أفضل القصد عند الجدة وأفضل العفو عند المقدرة.»٤٣
وذَكَرَ شاهد عيان: «رأيت على عمر قلنسوة بيضاء لاطيةً برأسه وعمامة غليظة يعتمُّ بها، ورأيته وعليه قميصٌ قطريٌّ كتان ثمن دينار ودرهمين، وملاءة قرقتية مثل ذلك في الصيف، وكان عليه في الشتاء طيلسان، ورأيت عليه جبة مبطنة بفراء مكان القطن وفوق الجبة ثوب أبيض ظهارة وبطانة.»٤٤
وكان عمر يهتم بالثياب الفاخرة والعطر قبل خلافته، فذَكَرَ ابن الجوزي: «كان عمر بن عبد العزيز يُسْرِف في عطره، فلقد كان يُدْخِل في طيبه حمل القرنفل، ولقد رأيت العنبر على لحيته كالملح، فلما أَفْضَتْ إليه الخلافة تَرَكَ ذلك وتبذل … وكان عمر يعامل رياح بن عبده وكان تاجرًا من أهل البصرة، أَمَرَهُ وهو بالمدينة أن يشتري له جبة خزٍّ، فاشتراها له بعشرة دنانير، ثم أتاه بها فمسَّها فقال: إني لأستخشنها، فلم ولي الخلافة أَمَرَني فاشتريت له جبة صوف بدينار، فأتاه بها فجعل يُدْخل يده فيها ويقول: ما ألينها! فقال التاجر: عجيبًا! تَسْتَخْشِن الخز أمس وتَسْتَلْيِن الصوف اليوم.»٤٥
عُرِف عمر بن عبد العزيز بالعدل والإنصاف والإحسان لجميع أفراد شعبه، ومع ذلك فقد خصَّص الثياب التي يجب أن يلبسها النصارى ووضع شروطًا طَلَبَ إليهم حِفْظَهَا، فأَمَرَ أن «لا يركب نصراني سرجًا ولا يلبس قباءً ولا طيلسانًا ولا سراويلَ ذات خدمة، ولا يمشين بغير زنارٍ من جلدٍ، ولا يمشي إلَّا مفروق الناصية، ولا يوجد في بيت نصراني سلاح إلَّا أُخِذ.»٤٦

(٨) السلاح

عَرَفَ العرب كثيرًا من أنواع السلاح، فاستعملوا الترس — وهو المجن — وعليه تدور الدوائر، والرمح — ويسمُّونه رشاء المنية — والنبل — ويقولون عنها إنها رسل لا تؤمر ومنايا تخطئ وتصيب — والسيف — وهو ظلُّ الموت — والقوس والكنانة، والسهم،٤٧ والرمح، وهو طبقات، فمنها الخطل وهو الذي يضطرب في يد صاحبه لإفراط طوله، ولا يحمله إلَّا القوي الساعد الشديد العضل، والنيزك، وهو أقصر الرماح، والمربوع والمخموس والتام، وقد اعتنى العرب بسلاحهم؛ لأنهم أُمِروا دينًا أن يذودوا عن حوضهم بسلاحهم، وأن يحافظوا على استقلالهم وكيان أوطانهم، فقال الرسول : «اركبوا وارموا، وأن ترموا أحبُّ إليَّ من أن تركبوا»، وروى عقبة بن عامر قال: «سمعت رسول الله يقول وهو قائمٌ على المنبر: وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي.»٤٨

وتطورت الأسلحة منذ عهد الجاهلية إلى زمن الأمويين، فاقتبس العرب أنواعًا عديدة من الأسلحة الحربية كالمجانيق والرتيلة والعراوة والرمي بالبنجكان والزرق بالنفط والنيران، وراحوا يتعلمون الفنون والأساليب العسكرية الفارسية، فقسَّموا جيوشهم إلى فرقٍ عُرِفت بالميمنة والميسرة والقلب والجناح والطليعة والكمين، ونظموا ثيابهم وأَمْتِعَتهم وأَجْهِزَتهم، فأخذوا عنهم السراويلات والأقبية والطبول والبنود والخود والأعلام.

ولدينا وثيقة تاريخية تُثْبِت لنا أن العرب اقتبسوا بعض هذه الفنون عن الفرس، قال أحد الأعاجم — يَفْتَخِر على العرب في هذا المعنى: «إنما كانت رماحكم من مران، وأسنتكم من قرون البقر، وكنتم تركبون الخيل في الحرب أعراء، فإن كان الفرس ذات سرج فسرجه رحالة من أدم، ولم يكن ذا ركاب، والركاب من أجود آلات الطاعن برمحه والضارب بسيفه، وربما قام فيهما أو اعتمد عليهما، وكان فارسكم يطعن بالقناة الصماء، وقد عَلِمْنا أن الجوفاء أخفُّ مَحْملًا وأشدُّ طعنة، وتفخرون بطول القناة ولا تعرفون الطعن بالمطارد، وإنما القنا الطوال للرجالة والقصار للفرسان والمطارد لصيد الوحش … ولا تعرفون البيات ولا الكمين ولا الميمنة ولا الميسرة ولا القلب ولا الجناح ولا الساقة ولا الطليعة ولا النفاضة ولا الدراجة، ولا تعرفون من آلة الحرب الرتيلة ولا العراوة، ولا المجانيق ولا الدباب، ولا الخنادق ولا الحسك، ولا تعرفون الأقبية ولا السراويلات ولا تعليق السيوف ولا الطبول ولا البنود والتجفافيف ولا الجواشن ولا الخود ولا السواعد ولا الأجراس ولا الوهق والرمي بالبنجكان ولا الزرق بالنفط ولا النيران، وليس لكم في الحرب صاحِب عَلَم يَرْجِع إليه المُنْحاز ويتذكره المنهزم، وقتالكم إمَّا سلة وإمَّا مزاحفة، والمزاحفة على مواعد متقدمة، والسلة مسارقة وفي طريق الاستلاب والخلسة.»٤٩

(٩) السباق

أقام الخلفاء الأمويون حفلات جليلة للسباق، وكانوا يعدُّون الخيل ويروِّضونها ويستجلبونها من البلاد البعيدة، وكان يشترك في بعض الحفلات المولعون والغواة من جميع أقطار المملكة، وقد تعلن الحكومة عن ميعاد السباق وتنشر أخباره، فبذل الناس الأموال في سبيل الحصول على الجوائز والمفاخرة بخيولهم المجلية والمصلية، ويروي لنا المؤرخون أن بعض الخلفاء كانوا يقتنون الخيول للسبق فقال ابن عبد ربه: «وكان هشام بن عبد الملك رجلًا مُسْبَقًا لا يكاد يَسْبِق، فسَبَقَتْ له فرسٌ أنثى وَصَلَتْ أختها ففَرِحَ لذلك فرحًا شديدًا»،٥٠ واشتهر منهم الفرسان الأبطال كالوليد بن يزيد، قال الجاحظ: «كان عمر بن الخطاب يأخذ بيده اليمنى أُذُنَ فَرَسِه اليسرى ثم يجمع جراميزه٥١ ويثب، فكأنما خُلِقَ على ظَهْر فرسه، وفعل مثل ذلك الوليد بن يزيد وهو يومئذٍ وليُّ عَهْد هشام.»٥٢
وبذلت الحكومة الأموال لتشجيع السباق حتى يكون غيظًا للعدو، ذَكَرُوا أن سليمان بن عبد الملك «أَمَرَ أَهْل مملكته أن يقودوا الخيل بسبقٍ بينهم، فمات من قبل أن تجري الحلبة، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أبى أن يُجريها، فقيل له: يا أمير المؤمنين تَكَلَّفَ الناس مئونات عظامًا وقادوها من بلادٍ بعيدة وفي ذا غيظٌ للعدو، فلم يزالوا يكلِّمونه حتى أجرى الحلبة وأعطى الذين سبقوا، ولم يخيِّب الذين لم يسبقوا، أعطاهم دون ذلك.»٥٣

(١٠) الزواج

اتبع الأمويون كتاب الله وسنة رسوله في زواجهم، فما غالوا في أثمان المهر، ولا طلبوا من الزوج شروطًا قاسية إن كان صحيح البدن عفيفًا نزيهًا، وكانوا يعتقدون أن المتزوج أسعد بالًا وأهنأ عيشًا من العازب، لا سيما إن شاركته زوجته في بؤسه وسعادته وأتراحه وأفراحه، أمَّا المرأة الجميلة المطيعة النظيفة المقتصدة الكريمة الأصل الشريفة المحتد، فهي الجوهرة المكنونة التي لا تقدر بثمن، قال ابن القرية — الخطيب المشهور — يعدِّد صفات الزوجة الطيبة: … وَجَدْتُ أسعد الناس في الدنيا وأقرَّهم عينًا وأطيبهم عيشًا وأبقاهم سرورًا وأرخاهم بالًا وأشبَّهم شبابًا مَنْ رَزَقَه الله زوجةً مسلمةً أمينةً عفيفةً حسنةً لطيفةً نظيفةً مطيعةً، إن ائتمنها زوجها وَجَدَها أمينة، وإن قتر عليها وَجَدَها قانعة، وإن غاب عنها كانت له حافظة، تجد زوجها أبدًا ناعمًا وجارها سالمًا ومملوكها آمنًا وصبيها طاهرًا، قد سَتَرَ حِلْمُها جَهْلَها، وزيَّن دينُها عَقْلها … قوَّامة صوَّامة ضاحكة بسَّامة، إن أيسرت شَكَرَتْ، وإن أعسرت صَبَرَتْ … وإنما مثل المرأة السوء كالحمل الثقيل على الشيخ الضعيف يجرُّه في الأرض جرًّا، فبعلها مشغول وصبيها مرذول.٥٤
وقال خالد بن صفوان: «اطلب لي زوجة أدبها الغنى وذللها الفقر، لا ضرعةً صغيرةً ولا عجوزًا كبيرةً، قد عاشت في نعمة … لها عقلٌ وافرٌ وخلقٌ طاهرٌ وجمالٌ ظاهرٌ … كريمة المحتد رخيمة المنطق، لم يداخلها صلف.»٥٥
وكانت الأميرات الأمويات خاضعات لجميع الأحكام الإسلامية، فهن عُرْضة للطلاق ولاحتمال الضرائر، خطب محمد بن الوليد بن عتبة إلى عمر بن عبد العزيز أخته فقال: «… أَحْسَنَ بك ظنًّا مَنْ أَوْدَعَكَ حرمته واختارك ولم يختر عليك، وقد زوَّجناك على ما في كتاب الله في إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.»٥٦

(١١) الموت والدفن

لا نعلم تمامًا مراسم الدفن حين الموت، ولكن يغلب على ظننا أنها لم تتغير عمَّا هي عليه اليوم، ولم نعثر على وصفٍ لها فيما قرأنا من المصادر التاريخية، إنما ذَكَرَ الجاحظ كيفية دَفْن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فقال: إنهم سَوَّوا عليه قَبْره بالأرض وجعلوا على ضريحه خشبتين من زيتون إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه، ثم قام والده يؤبِّنه ويطلب له الرحمة والمغفرة ويُشْهد الناس على رضائه بما أقسم له الله، قال في معرض رثائه له: «رحمك الله يا بني، فقد كُنْتَ برًّا بأبيك وما زلت منذ وهبك الله لي بك مسرورًا، ولا والله ما كنتُ قطٌّ مسرورًا بك ولا أرجى لحظي من الله فيك منذ وضعتك في الموضع الذي صيَّرك الله إليه، فغفر الله لك ذنبك وجازاك بأحسن عملك وتجاوَزَ عن سيئاتك، ورَحِمَ الله كل شافعٍ يشفع لك بخيرٍ من شاهِد وغائب، رضينا بقضاء الله وسلَّمنا لأمره فالحمد لله رب العالمين»،٥٧ وأخذ الناس بعد تشييع جنازته يعزُّونه ويرجون له الصبر والسلوان.
وكانت النساء ذوات المصائب تتزاحم في الجنائز لتوديع راحلهن العزيز، فقال الأصفهاني في كتاب الأغاني: «إنه غلب النساء على جنازة كثير عزة الشاعر يبكينه ويذكرن عزة في ندبتهن له في المدينة، حتى جعلنا ندفع عن جنازته النساء»،٥٨ وكنَّ يُقِمْن المناحات ويَضْرِبن صدورهن بالنعال حزنًا على فقيدهن.٥٩
وقال المقدسي: إن الناس كانوا يمشون خلف الجنائز ويَخْرُجون إلى المقابر لختم القرآن ثلاثة أيام إذا مات ميت،٦٠ ولا تزال هذه العائدة شائعة في بيروت موطني.

(١٢) أعيادهم

وكان الأمويون يقيمون الأفراح والليالي الملاح في عيدي الفطر والأضحى وعيد المولد النبوي، وتعارفوا أعياد النصارى وقدَّروا بها الفصول فقالوا إن الفصح وقت النيروز، والعنصرة وقت الحر، والميلاد وقت البرد، وعيد بربارة وقت الأمطار، وعيد الصليب وقت قطاف العنب، ومن أمثال الناس في ذلك: «إذا جاء عيد بربارة فليتخذ البناء زمارة، يعني فليجلس في البيت»، «وإذا جاء القلندس فتدفأ واحتبس.»٦١

(١٣) شهورهم

أمَّا الشهور المعروفة بينهم فكانت الرومية وهي: كانون الثاني، شباط … إلى آخر شهور السنة، واستعملت الحكومة الحساب الهجري الإسلامي.

(١٤) مآكلهم المحبوبة

ومن مآكلهم المحبوبة التي تراها في الأسواق خصوصًا في الشام فهي أولًا الفول المنبوت بالزيت والمسلوق، وهو يُباع مع الزيتون، ثانيًا: الترمس المملح ويُكْثِرون من أكله، ثالثًا: الزلابية وتُصنع من العجين وهي غير مشبكة، رابعًا: الناطف، ويُصنع من الخرنوب ويسمونه القبيط.

(١٥) حِرَفهم

ولو زرت أسواق الأمويين في الشام لَوَجَدْت أن أكثر الصبَّاغين والصيارفة والدبَّاغين من اليهود، وأكثر الأطباء والكتبة من النصارى، ومعظم الموظفين وأرباب المناصب وأصحاب الأملاك والمزارعين ورجال الحرب من المسلمين.

١  المسالك والممالك، لابن خرداذبه، ص١٥٣-١٥٤.
٢  المقدسي، ص١٨٠-١٨١.
٣  البلاذري، ص٤٧١.
٤  البلاذري، ص٢٤٩.
٥  البلاذري، ص٢٠١.
٦  البلاذري، ص٣٠٩.
٧  كتاب الولاة والقضاء، ص٥٨-٥٩.
٨  نُبَذ من كتاب الخراج وصفة الكتابة، ص١٨٤-١٨٥.
٩  طبقات الأمم، ص٤٥.
١٠  طبقات الأمم، ص٧.
١١  الأخبار الطوال، ص٣٣٢-٣٣٣.
١٢  البيان والتبيين، ج٢، ص٣٥-٣٦.
١٣  ابن عساكر، ج٥، ص٣٤٠.
١٤  سيرة عمر بن عبد العزيز، ص٢٥٩-٢٦٠.
١٥  سيرة عمر بن عبد العزيز، ص٢٥٧-٢٥٨.
١٦  البيان والتبيين، ج٢، ص٩٢.
١٧  المصدر نفسه ج٣، ص٩٢.
١٨  المصدر نفسه، ج٢، ص٩٢.
١٩  المصدر نفسه، ج٢، ص٩٢.
٢٠  البيان والتبيين، ج٢، ص١٠٦-١٠٧.
٢١  المصدر نفسه، ج٢، ص١١٢.
٢٢  المصدر نفسه، ج٢، ص١٢٢.
٢٣  المصدر نفسه، ج٢، ص١٠٧.
٢٤  سيرة عمر بن عبد العزيز، ص٧٤.
٢٥  المصدر نفسه، ص٩٥.
٢٦  كتاب الأمالي، ج٢، ص٦٢.
٢٧  البيان والتبيين، ج٢، ص٩٢.
٢٨  طبقات الأمم، ص٢٧.
٢٩  عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص١١٦–١١٩.
٣٠  عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص١١٠–١١٢.
٣١  المصدر نفسه، ص١١٦.
٣٢  عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص١١٦–١١٩.
٣٣  أخبار العلماء بأخبار الحكماء، ص١٢٣.
٣٤  القفطي، ص٧٤. ومختصر الدول، ص١٩٤.
٣٥  مختصر الدول، ص١٩٢.
٣٦  القلقشندي، ج٣، ص٢٧٣-٢٧٤.
٣٧  البيان والتبيين، ج٣، ص٦٠.
٣٨  المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها.
٣٩  المصدر السابق نفسه، ج٣، ص٥٤.
٤٠  العقد الفريد، ج٣، ص١٧٧.
٤١  الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، ج٢، ص٢٠٦.
٤٢  المصدر نفسه، ج٢، ص٤٦.
٤٣  سيرة عمر بن عبد العزيز، ص١٤٦.
٤٤  سيرة عمر بن عبد العزيز، ص١٤٨.
٤٥  المصدر نفسه، ص١٥٠.
٤٦  المصدر نفسه، ص٩٩.
٤٧  العقد الفريد، ج١، ص٩٠–٩٣.
٤٨  المصدر نفسه، ج١، ص٩٤.
٤٩  البيان والتبيين، ج٣، ص٧-٨.
٥٠  العقد الفريد، ج١، ص٨٤.
٥١  جَرْمَزَ الرجل: انْقَبَضَ واجتمع بعضه إلى بعض.
٥٢  البيان والتبيين، ج٣، ص١٠.
٥٣  سيرة عمر بن عبد العزيز، ص٥٦.
٥٤  المحاسن والأضداد، ص١٦٠.
٥٥  المصدر نفسه، ص١٤٨.
٥٦  البيان والتبيين، ج١، ص٢١٥.
٥٧  البيان والتبيين، ج٢، ص١٨٢. وراجِعْ ص٢٦٤ فما بعدها من سيرة عمر بن عبد العزيز.
٥٨  الأغاني، ج٨، ص٤١.
٥٩  البيان والتبيين، ج٣، ص٥٨.
٦٠  المقدسي، ج٣، ص١٨٣.
٦١  المصدر نفسه، ص١٨٢-١٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤