مقدمة

هذه فصول متفرقة لا يكاد يجمع بينها إلا أنها كُتبت من بعيد. كُتبت من بعيد في المكان، وكُتبت من بعيد في الزمان أيضًا. فأكثرها كُتِبَ من باريس، وبعضها كتب من ڤينا، وقليلٌ جدًّا منها كتب في القاهرة.

وأقدم هذه الفصول عهدًا كُتب سنة ١٩٢٣، وأحدثها عهدًا كتب سنة ١٩٣٠؛ فهي كما ترى جاءت من بعيد في المكان والزمان جميعًا.

وقد يظهر للنظرة الأولى أن بُعد المكان لا يؤثر في كتابة الكاتب، ولكنك إذا قرأت هذه الفصول وما يشبهها فستتبيَّن في غير شك أن النأي عن الدار والتنقُّل في أقطار الغربة يثيران في نفس الكاتب من العواطف والخواطر ما لا تثيره الإقامة والاستقرار، ومما يهيئان الكاتب تهيئة خاصة للشعور والحس، وللتفكير والتعبير، لا تستقيم له حين يكون مقيمًا مستقرًّا في داره بين أهله ومواطنيه، يرى في كل يوم مثل ما كان يراه من قبل، لا تكاد تختلف الظروف التي تحيط به إلا اختلافًا يسيرًا بطيئًا، لا يكاد يُحس.

فليس من شكٍ إذن في أن لبعد المكان أثرًا في إعداد الكاتب للكتابة، أثرًا فنيًّا خاصًّا، غير هذا الأثر الظاهر الذي يراه الناس حين يقرءون ما يكتبه المسافر عما يرى ويشهد من الأقطار.

ومن أجل هذا جمعت هذه الفصول التي كُتبت من بعيد في سِفر واحد، وقد يظهر للنظرة الأولى أيضًا أن بُعد الزمان بفصل من الفصول، أو كتاب من الكتب، لا أثر له في ذلك الفصل أو هذا الكتاب، ولكن قليلًا من التفكير أيضًا يدل على أن من الخير أن نعود بين حين وحين، إلى ما كنا نكتبه في الأعوام التي مضت، وبَعُد بها العهد؛ لنرى كيف كنا نكتب، وكيف كنا نحس ونشعر ونفكر، وكيف أصبحنا نحس ونشعر ونفكر، وكيف أصبحنا نرى الناس والأشياء؛ لنتبين في جملة موجزة مقدار ما أدركنا من تطور الحس والشعور والتفكير والتعبير أيضًا. ولست أخفي عليك أني قد قرأت هذه الفصول التي كتبتُ كلها أثناء ثمانية أعوام، ومضى بيني وبين آخرها أكثر من خمسة أعوام في شيءٍ من الحنان إلى تلك العهود التي كنا نشكو فيها المشقة والجهد، ونضيق فيها بالحياة والأحياء، ثم أصبحنا الآن نود لو تعود إلينا أو لو نعود إليها لا ليعود إلينا معها الشباب؛ بل لتعود إلينا معها حياة هي من غير شك خير من الحياة التي نحياها الآن.

كنا في تلك العهود أحرارًا نفكر ونقول، كما نريد أن نفكر ونقول، كنا نلقى ألوانًا من المقاومة فلا تزيدنا إلا طموحًا إلى الحرية وإمعانًا فيها، وكنا ننظر إلى الجهاد في سبيل الرأي وحرية الرأي على أنه حاجة من حاجات الحياة، وضرورة من ضرورات الوجود الحر، فأين نحن من هذا الآن؟

كنا نشكو أحيانًا ظلم الحكومات وجنوحها إلى الاستبداد ونصرها للجمود، ولكنَّا كنا نجد الشعب دائمًا مواتيًا لنا، يمنحنا نصره، ووده، وعطفه، وتأييده. أما الآن فقد اشتد عنف السلطان، وأسرف في الشدة حتى اضطر الكتَّاب والخطباء إلى أن يفكروا ويقدروا، ويطيلوا التفكير والتقدير قبل أن يكتبوا أو يقولوا، وقد وجد الاستبداد الرسمي المتصل لنفسه أنصارًا وأعوانًا من طبقات الشعب لم يكن ليظفر بهم من قبل. فوُجدت أحزابٌ مهما تكن ضئيلة قليلة الخطر؛ فهي أحزاب منظمة تناصر الجور والاستبداد، وتدعو إلى التأخر والرجوع إلى وراء، وليس في هذا شيء من الغرابة؛ فقد كثُر الاضطراب في نظمنا السياسية، وطال عهد البلاد بحكومات لم تكن تقدِّر الحق ولا العدل ولا القانون، ولم تكن تقصِّر في التماس الأعوان ولا الأنصار، بألوان الترغيب والترهيب. فليس الغريب أن توجد الأحزاب التي تكره النظر إلى أمام وتحب النظر إلى وراء، وإنما الغريب ألا توجد، والغريب أيضًا أن تكون من الضعف والضآلة وقلة الخطر بحيث هي الآن.

وكثير من الذين سيقع في أيديهم هذا السِّفر قد قرءوه حين نُشر فصولًا مفرقة، ولكن كثيرًا جدًّا من الذين سيقع في أيديهم هذا السِّفر لم يقرءوه، ولم يعرفوا من فصوله شيئًا؛ لأنهم كانوا أطفالًا يدرجون، وصبية يختلفون إلى المدارس الابتدائية حين نشرت كثرة هذه الفصول، ثم هم الآن شباب يُتمون درسهم الثانوي، أو يأخذون في درسهم الجامعي، فمن حقهم أن يروا كيف كنا نجاهد الحياة حين كانوا هم يستقبلون الحياة باسمين. فإلى هؤلاء القراء الناشئين أهدي هذه الفصول سعيدًا راضيًا؛ لأنهم سيرون حين يقرءونها أني كنت أتحدث إلى الذين سبقوهم بنفس الآراء التي أتحدث بها إليهم الآن، وأني كنت أدعو الذين سبقوهم إلى نفس المُثُل العليا التي أدعوهم إليها الآن، ولست أدري إلى أي حد أتيح لي التوفيق مع الذين سبقوهم، ولكن أرجو أن يكون توفيقي معهم أعظم وأقوى وأبقى أثرًا.

يونيو سنة ١٩٣٥
طه حسين

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤