آراء بعض العلماء في «حواء الجديدة»

لما فرغت من طبع هذه الرواية خطر لي قبل نشرها أن أستوضح آراء بعض علمائنا الأفاضل فيها، لا سيما في الفكرة التي دارت وقائع الرواية على محورها، والنهج الذي انتهجته لها؛ لأن كل امرئ يرى عمله حسنًا مهما كان، فإذا لم يعرضه على نظر الغير لم ينتبه إلى ما فيه من الأخطاء؛ ولذلك بعثت ببضع نسخ من الرواية إلى بعض من عرفوا بالأريحية والفضل في عالم العلم والأدب، ورجوت منهم أن يطالعوها، ويتفضلوا عليَّ بأفكارهم فيها، فأتتني منهم رسائل لم تخل من الاستحسان والتشجيع مع ما فيها من الانتقاد والاقتراح المبنيين على حرية الضمير وسلامة النية وحسن الظن، فأشكر لهم استحسانهم شكرًا عظيمًا، وانتقادهم شكرًا أعظم، ولا أراني ذا حق بمناقشتهم هنا فيما خالفوني فيه من الرأي، وإن كان لي نظر آخر في شرح ما كتبت.

وها أنا أنشر تلك الرسائل الغراء في ختام هذه الرواية حلية لها، وإثباتًا لامتناني لأولئك العلماء الأفاضل.

(١) رسالة حضرة العالم المفضال والكاتب البليغ السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء

مصر في ٨ جمادى الثانية سنة ١٤٢٤

عزيزي الفاضل

رغبتَ إليَّ أن أقرأ قصتك الجديدة «حواء الجديدة»، وأكتب إليك برأيي فيها وأثرها فيَّ بعد القراءة.

أراك أحسنت في التصوير والتخييل، واعتصمت بحبوة النزاهة والأدب في التعبير، وأراني استعبرت لغير ما عبارة في القصة، أما الموضوع الاجتماعي الذي نفخت فيها من روحه فليس طريفًا عندي، قرأت وسمعت فيه شيئًا عن الإفرنج وفكرت فيه كثيرًا، ولعل ما قرأته لك فيه خير من قليل ما علمته عنهم، وأبشرك بمستقبل حسن في خدمة أدب النفس والاجتماع، بما توجهت إليه من وضع أمثال لهذه القصة في غايتها دون خصوص موضوعها.

كل بغي شقية في هذه الحياة قبل الحياة الآخرة، ولكن يعزُّ أن يوجد في بلادنا بغي لها من مكارم الأخلاق وشرف النفس وجودة الذهن بعض ما رويت عن «إيفون مونار»، ويوشك أن يوجد لها ند في بلاد الإفرنج لمكان التربية الدينية والأدبية عندهم، كما وصفت من تربيتها، فأكثرهنَّ — إن لم نقل كلهن — قوارير أقذار وقرارات وقاحة، وصغار لا فائدة من تصغير جرائرهن وعطف القلوب عليهن إلا جذب من بقي عندنا سليم الفطرة إليهن، أقول هذا وأنا على تعجبي من فساد فطرة من يستطيع الدنو منهن ممن يحزن لشقائهن، ويصدق أن أكثرهن مكرهات على الفجور كارهات للبغاء، لو وجدن مخرجًا منه لهرعن إليه، حتى إنه سبق لي بحث مع بعض أهل الفضل في وجوب السعي لإنشاء ملجأ يؤوي من يريد التوبة منهن، ويغنيهن عن طلب الرزق بأعراضهن، ولو وجد من يسعى الآن في مثل هذا لكاد يكون للاعتذار عنهن، والاستعطاف عليهم فائدة.

لك أن تصف من شقائهن بما شئت من إسهاب لتنذر الممرضات لمثل فعلهن أن يتدهورن في مثل هاويتهن، ولك أن تصف من فساد الفاسقين وإفسادهم، وتشوه من سيرتهم بما استطعت من إطناب لتنفر عن مثل عملهم، وتحذر الفتاة الغر من تغريرهم، فتكون على بصيرة من عاقبة فجورهم، وما يتوسلون به من بهتانهم وزورهم، وليس لك في رأيي أن تجعل ما تكتب منظارًا يكبر مخازي الفساق من جهة؛ ليصغر فضائح الفواسق من الجهة الأخرى.

إذا انتقدت عليك تصغير فاحشة المسافحات في مقابلة تكبير فاحشة المسافحين مرة، فإنني أنتقد الاحتجاج على تصغيرها بشيوع الفاحشة في ربات البيوت ذوات البعول سبعين مرة؛ لا لأن ذنب المسافحات أشد ضررًا من ذنب ذوات الأخدار؛ بل لأن إظهار ذلك وبيان أن الناس يتسامحون مع ذوات الأخدار، وهم يعلمون بخيانتهن لأزواجهن مما يضر نشره في قصص يقرؤها النساء من العذارى والأيامى، إذ لا تتصور التي تلين للفاسق أن بذل عرضها يفضي إلى أن تكون بغيًّا مسافحة، وإنما يغلب على ظنها أنها تصادف زوجًا يستر فضيحتها بغفلته أو قلة غيرته.

قرأتُ ما كتبتْ إيفون عن خداع ذلك الشرير لها، وعن اجتهادها في استرداد شرفها بالسيرة الحسنة عسى أن تصادف زوجًا مهذبًا تعيش معه عيشة راضية شريفة، وعن عجزها وإعواز ما رامت، وانتقادها إطلاق الوالدين العنان للبنات وسماحهم لهنَّ بمعاشرة الشبان، فتمنيتُ لو يقرأ ذلك العذارى اللواتي أصبحن عرضة لمثل ذلك البذل لأعراضهن بإطلاق أهليهن العنان لهنَّ مع كثرة ما يحاول الفساق من مخادعتهن، وقرأت ما كتبت عن شيوع الفاحشة في ربات البيوت وإغضاء الناس عنهن، فتمنيت لو لم تطلع عليه قارئة لا سيما إذا كانت عذراء.

هذا ما كان من أثر القصة في نفسي، استحسان لما عدا الأمرين المنتقدين من ناحية ما ينتظر من تأثيرهما في القارئات، وأرجو أن تتوخى فيما ستكتسب الغاية والفائدة أكثر مما تتوخى من حسن الوضع ولطف التعبير، وقوة التأثير، وأجدر بمن يعرض عمله لنقد الرجال أن يبلغ فيه غاية الكمال.

المخلص
محمد رشيد رضا

(٢) رسالة حضرة العالم النحرير الحميد الأثر الدكتور شبلي شميل

حضرة الكاتب الفاضل نقولا أفندي الحداد المحترم

تلوتُ رسالتك مسرورًا، وتناولت هديتك شاكرًا وقرأت كتابك معجبًا بأسلوبه وموضوعه، أما الأول والثاني فهزة طرب من حكة جرب، وقلَّ من يسلم منها من الناس ولو حاول سترها وأراد التنصل منها، الناس يخدعون الهيئة الاجتماعية بما يحملونها به على أن تسمهم بسمة الاتضاع، ملتمسين هكذا لطربهم بدل الهزة هزتين، ولجربهم بدل الحكة حكتين، وهو لعمري الكبر المركب ولكن مع الرياء، ونفاق في التعبير عن الشعور ولكن مع الدهاء، وربما عدوه من الذكاء، وهو بالحقيقة لهذه الهيئة من بعض المفاسد التي يعدونها محامد.

لم تقع «حواؤك الجديدة» تحت نظري حتى استغوتني كما استغوت حواء آدم من قبل، فقمتُ أطالعها ولا ألوي على شيء حتى استنفدت في قراءتها بعض ليلة ويوم، وقد أعجبني جدًّا منهاجكم فيها إذ جعلتموها في أسلوب رواية اجتماعية حسنة السبك مؤثرة منبهة تشوق القارئ مطالعتُها، وتؤثر في عواطفه وقائعُها وتستفز حميته مظالمُها، حتى إذا انتقل من ذلك إلى إعمال الفكرة في نظام الاجتماع لم يقف عند هذا الحد من الحيف، بل بدت له معائبه الكثيرة في شرائعه وعاداته وأحكامه، والتي لم ينظر فيها إلا إلى تأييد جانب القوة وهضم حقوق الضعيف في كل أموره، حتى جاء نظامه المصطنع مخالفًا لمبدأ نظامه الطبيعي، ففسدت التربية العائلية والاجتماعية والمدرسية، وكانت سببًا لمتاعب الإنسان ولكل الشرور التي شكا الاجتماع منها في الماضي، ولا يزال يشكو منها في الحال، والإفاضة في ذلك من المباحث الاجتماعية الكثيرة التشعب، التي لا يسمح المقام في هذه العجالة إلا بالإلماع إليها على وجه إجمالي، والتي يعبر عنها بأفصح بيان هذا الاضطراب الذي نشاهده كل يوم في أحوال العمران لرده إلى مجراه الطبيعي؛ لأن النواميس الطبيعية كالأجسام المرنة إذا فسرتها، فهي تحاول دائمًا أن تعود إلى حالتها الأصلية، وكلما كان الضغط عليها شديدًا كان رد الفعل فيها شديدًا كذلك.

خذ مثلًا بسيطًا لفساد التربية التي أشرت إليها الانتحار الكثير الشيوع في الطبقة المهذبة حسب مبادئ هذه التربية، أليس سببه تربية الناشئة على مبادئ خيالية وهمية مخالفة لنواميس الطبيعة، كما بسطت ذلك في مقالة سميتها الانتحار نشرت في جريدة البصير من عهد غير قريب؟ وخذ لذلك مثلًا آخر الكذب أليس سببه الأول معاقبتنا الإنسان على الصدق، ومحاولتنا تفريق مصالحه في الاجتماع؟ أو ليست السرقة مسببة عن منعنا الإنسان عما يحتاج إليه؟ أو ليس الرياء والاحتيال سلاح الضعيف لصد القوي عن التعدي عليه إذا بدت له فرصة ضده كان انتقامه منه شديدًا؟ وإلى ذلك أشار الشاعر العربي بقوله:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم

فحواؤك الجديدة من الروايات الحسنة جدًّا في موضوعها؛ لأنها بتوجيهها الفكر إلى عيب واحد من عيوب هذا الاجتماع تنبهه إلى النظر في سائر أحواله، وتكشف له عيوبًا أخرى كبيرة وتفسح له المجال للتفكير بها. وإذا لم يكن في ذلك — كما قال الإمام الغزالي — إلا ما يشككك في اعتقادك الموروث لكفى به نفعًا، فإن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة.

فالمرأة بالطبع لمَّا كانت أضعف من الرجل في تكوينها الطبيعي — وهذا الضعف ربما لم يكن أصليًّا فيها، بل من نوع التربية والعمل — كانت شرائعه كلها حيفًا عليها، ولكن لا تظن أن رد فعل ذلك على الرجل لا يكون شديدًا، فإذا كان سلاحه ضدها القوة فهي تقاومه بسلاح ضرره عليه أشد، وهو الرياء والاحتيال، ولقد أجاد من قال فيها مشيرًا إلى حال الرجل معها:

فهي شيطان إذا أفسدتها
وإذا أصلحتها فهي ملك

ولا يخفى أن الروايات الشائعة بين الناس بعد القصص الخرافية ثلاث تمثل الأدوار التي مرَّ عليها الإنسان في ارتقائه: روايات خيالية تصور لك الإنسان كما تريد لا كما هو، وروايات طبيعية تصفه كما هو حقيقة، وروايات اجتماعية يقصد منها كشف معائب العمران لإصلاح حال الإنسان فيه. وقد توسمت من مطالعة حوائك الجديدة ميلًا بك لمثل هذه المباحث الاجتماعية، فإذا جاز لي أن أعطيك رأيًا فأرى أن تسير في رواياتك على هذا النمط، فالمواضيع الاجتماعية كثيرة، وكلما خطوت خطوة بدت لك فيها عيوب كثيرة، ولا ريب عندي أنك بسلوكك هذا المسلك تستفيد وتفيد.

شبلي شميل
رمل الإسكندرية ٣٠ يوليو سنة ١٩٠٦

(٣) رسالة العالم الفاضل والمؤرخ المدقق المرحوم جورجي بك زيدان مؤسس مجلة الهلال الغراء

رأس البر في ٤ أغسطس سنة ١٩٠٦

حضرة الصديق الفاضل

أدركتني روايتك «حواء الجديدة» في رأس البر، وقد جئته للاشتغال بالبطالة والدأب على الفراغ التماسًا للراحة من عناء القلم، فهجرت الكتب والورق وعفت الأصول والمسودات والبروفات، وعاهدت نفسي أن لا أطالع كتابًا مهما يكن موضوعه على حين أن المطالعة تسلية رجال العمل في ساعات الفراغ، أما جماعة الكتَّاب فإنها تذكرهم بأوقات المشقة، فراحتهم بالبعد عنها، فلما جاءتني روايتك لم أر بدًّا من قراءتها قيامًا بالواجب، فبدأت بتصفحها وأنا أصبر نفسي على ذلك؛ لأني أكثر رغبة في مطالعة كتب التاريخ والعلم مني في مطالعة كتب الفكاهة، لكنني ما كدت أتصفح بعضها حتى خيل لي أني أطالع كتابًا فلسفيًّا علميًّا أخلاقيًّا، فبعد أن كنت أصبر نفسي على المطالعة أصبحت لا أصبر عنها، واستغرقت في الموضوع ولذَّ لي إعمال الفكرة فيه، فأعجبني ما تضمنه الكتاب من الأدلة على فساد الرجل، وإلحاقه عار فساده بالمرأة، فهو يأكل الحصرم وهي تضرس، فتمثلت لي فظاعة ذلك الأمر تمثيلًا واضحًا، ولم أعجب من إجادتك في وصف العواطف وتشريح الأخلاق، فقد عهدتك من نوابغ هذا العصر في هذا الشأن ومؤلفاتك شاهدة على ذلك، وإنما أعجبت ببراعتك في أسلوب تعبيرك عن حال إيفون وغيرهما، وانتقادك العادات الشائعة في الزواج، وتربية البنات بين أظهرنا وتبيانك ما يقع على المرأة من الظلم في أحكام الناس، وما تقاسيه في سبيل المحافظة على شرفها، وأنها تشترك في الذنب مع الرجل، وتتحمل العقاب وحدها.

سبكت ذلك في سياق رواية غرامية ضمنتها من القواعد الاجتماعية والمبادئ الأدبية الإحساسية ما يجدر أن يكون مثالًا ينسج على منواله، لا سيما في حالتنا الحاضرة وهيئتنا الاجتماعية في أوائل انتقالها إلى نظام التمدن الحديث، ولا يزال معظمها فوضى.

فأهنئك بذلك وأرجو أن يكون كتابك بدء نهضة جديدة في تأليف الروايات الأخلاقية، ولي ملاحظات تتعلق بما وصفت به إيفون عروس روايتك من الطهارة، وسمو الآداب مع ما سوغته لنفسها من مساكنة رجل بلا زواج، وقلت: إنها فعلت ذلك اضطرارًا وما رأيناها يئست من العيش الحلال، فلم تقص شعرها ولا اقتلعت أضراسها كما فعلت عروس «البؤساء»، وإذا قيل: إنها فعلت ذلك رغبة في الرجل، فقد نزلت عن المكان الذي وضعتها فيه، ولا عبرة بما ذكرته من الفصل بين ذاتها الجسدية وذاتها الروحية، فإن ذلك يخالف المألوف والمعقول فكيف يكون جسد الإنسان دنسًا وروحه طاهرة، والكلام في ذلك يطول ولا محل له هنا.

على أني أغتنم هذه الفرصة لإبداء ملاحظة تتمة لما تركته حواء الجديدة من الأثر في ذهني، ذلك أن الرواية فلسفية أخلاقية حسنة التناسق، شريفة المغزى تنصر المرأة على الرجل في أمور يشعر بها القارئ، وتشترك عواطفه مع المرأة؛ لأنها مظلومة وينقم على الرجل؛ لأنه ظالم، ولكن هذه العلة عامة في العالم المتمدن وغيره، وقد كانت شأن البشرية من أقدم أزمنة التاريخ ولن تزال إلى ما شاء الله، وإذا كان إصلاحها ممكنًا فأساتذتنا في العلم والفلسفة أولى منَّا به، فإذا كان مرادك مجرد تصوير هذا الظلم فقد أحسنت وأجدت، وأما إذا كان المراد إصلاحه فقد أضعت الكلام عبثًا.

ولا يخفى عليك أننا في حاجة إلى إصلاح داخلي حقيقي في آدابنا الاجتماعية على نحو ما جاء عرضًا في أثناء كتابك، ولكنه قليل لا يشفي غليلًا. إن في آداب اللغة فراغًا كبيرًا لكثير من ضروب التأليف، ولا سيما الروايات وخصوصًا التهذيبية الأخلاقية، وقد ثبت مما قرأناه لك حتى الآن أنك كاتب أخلاقي، فاصرف جهدك إلى سد هذا الفراغ، اكتب الروايات في انتقاد العادات والأخلاق المضرة في هيئتنا الاجتماعية التي يرجى إصلاحها.

اجعل أبحاثك نقد حالتنا الاجتماعية، وما يعتورها من النقص أو الفساد، ومثل أضراره تمثيلًا واضحًا، واستعن بالخيال للتنميق والترغيب وبين ظهرانينا عشرات من العادات الأصيلة والدخيلة تفتقر إلى إصلاح، وإصلاحها ميسور وقريب، وإنما نحتاج إلى من ينبه إليها تنبيهًا مؤثرًا، وليس أفضل من الروايات للوصول إلى هذه الغاية، إما على المراسح أو في الكتب لعكوف الناس على مطالعة الروايات كبارًا وصغارًا، فأقترح عليك باسم آداب هذه اللغة أن تؤلف الروايات في تقبيح الرذائل الشائعة، كالكذب مثلًا ولا سيما المستتر منه وراء المجاملة مع الحث على اتباع الصدق ونحوه من الفضائل، ألف في بيان فظائع المقامرة والمسكر والبورصة وغيرها من الرذائل والمنكرات، التي نئن تحت أعبائها. على أن الروايات الفلسفية على نحو ما بسطته لي «حواء الجديدة» كبيرة الأهمية، وتفتقر إلى قريحة وقادة وعلم واسع، ولكنها من الكماليات بالنظر إلى حالنا، وأنت تعلم أننا في عصر الحقائق، وقد سبقتنا الأمم المتمدنة مسافات بعيدة بتعويلهم على الأبحاث الإصلاحية من العملية الوجهة Pratique، وقد آن لنا أن نفعل مثل فعلهم، هذا ما أتقدم به إليك راجيًا الإغضاء عن جسارتي، فإني إنما أردت الخدمة العامة التي نحن شريكان فيها، ولكل امرء رأي، والسلام.
جورجي زيدان

(٤)

عزيزي نقولا

طالعت حواء الجديدة لا كرواية للتفكهة، بل كبحث في موضوع اجتماعي خطير يلذ لي الوقوف على رأي الكاتب فيه، فرأيتك قد أحسنت الوصف بل أجدت التمثيل، فأهنئك وأكتب إليك ببعض ما كان لكتابك هذا من التأثير في نفسي.

لا أرى دفاع إيفون البليغ عن نفسها في شرح سبب سقوطها مبرِّئًا لها من وصمة الزلل التي وصمت بها جبينها بأثر لا يقبل الزوال، ولا ما كفرت به عن أخطائها من السلوك الجميل المشكور معيدًا لها تلك الكرامة الضائعة، فلقد أخطأت خطأ وجب أن تحتمل عاقبته إلى الممات، كما كانت حياتها في الرواية، وعبثًا تتظلم من حكم الهيئة الاجتماعية عليها؛ لأنه حكم عادل، والمصلحة العمومية تقضي بأن يكون ذنبها هذا المضيع للكرامة من الذنوب التي لا تقبل العذر، بل يجب أن تكون الفتاة الساقطة هذا السقوط مثل الزجاجة كسرها لا يجبر، اللهم إلَّا إذا شاء أن يرحمها كريم من الناس، فيرد لها بعض كرامتها بزواجه منها.

على أن إيفون ذات حق في احتجاجها المصيب على الهيئة الاجتماعية، التي لا تراعي الإنصاف في قضية كهذه فيها اثنان متشاركان في الجرم، فإنها تصب كل عقوبتها على الشريك الضعيف، وتترك القوي مع أن ذلك الضعيف شطره في الجريمة أخف؛ ولهذا كان لإيفون ساغٍ لأن تطلب من الهيئة الاجتماعية أحد أمرين: إما أن تسامحها كما سامحت الرجل الذي أسقطها بلؤمه وخداعه، وإما أن تقضي عليه بما قضت به عليها من العار والشنار بل بأشد؛ لأنه هو المغري.

وإذا لم يكن في حواء الجديدة غير هذه المسألة موضوعًا للتفكر والتبصر فكفى بها، والإنسانية تطلب من الهيئة الاجتماعية أن تعدِّل قانونها فيما يختص بالحكم على فعل مثل ذلك الرجل الخئون، فإذا فعلت قلت هذه الجرائم التي تزداد شكوى الإنسانية منها كل يوم.

ولقد أجادت إيفون أيضًا في لوم أهلها على إهمالهم لها في ساعة الخطر، فإن تصرفهم هذا عظة بالغة للآباء والأمهات الذين يتركون، بل يدفعون بناتهم للسير في السبيل الصعب الحرج كأنه سهل أمين، ويلومونهن إذا عثرن، وكان الأولى أن يأخذوا بأيديهن فيه للتوقي من عقباته.

هذا ما عنَّ لي قوله الآن في هذا الموضوع الجليل، وأؤمل أن تتحف القراء بروايات أخرى عن الأزواج تكون نتيجتها أن يعرف كل من الزوجين مركزه الحقيقي في الهيئة الاجتماعية، ومكانته قِبَل الزوج الآخر، والسلام.

إبراهيم الجمال
مصر في ١٢ أغسطس سنة ١٩٠٦

(٥) حواء الجديدة١

في البدء حواء أغوت قلب آدمها
فلقبوها بأم الغين والياء
واليوم قل لي أتدري يابن آدم كم
من ابن آدم يغوي بنت حواء

أهدى إليَّ صديقي الكاتب الاجتماعي المدقق نقولا الحداد نسخة من الطبعة الثانية من قصته البديعة «حواء الجديدة»، فراقني جمال موضوعها، وشاقني حسن أسلوبها وتملكت قلبي براعة المؤلف في تنسيق حوادثها وترتيب وقائعها، وبعدما انتهيت من مطالعتها تدبرت المرامي السامية التي توخاها المؤلف في وضعها، والمغازي الشريفة التي بنى حوادث القصة عليها وأدراها حولها، ثم قرأت الفصلين الملحقين بها أحدهما «آراء بعض العلماء فيها»، والآخر «تذييل» دافع فيه المؤلف عن «إيفون مونار» بطلة هذه القصة، وبحث في محاباة الشريعتين المدنية والأدبية للرجل المشارك للمرأة في الإثم، ولخَّص المغازي التي اشتملت قصته عليها، وهي ستة كل منها خطير ذو شأن ولست في مقالتي هذه متحريًا تقريظ «حواء الجديدة»، والثناء على مؤلفها البارع وحض القراء كافة على اقتنائها، ومطالعتها للانتفاع بفوائدها الأدبية الاجتماعية فوق التفكه، والاستمتاع بحوادثها الغرامية؛ لأنه تقدمني إلى الكلام على هذه الأمور الثلاثة كثيرون من الكتاب، فلم يغادروا فيه من متردم، وكان الفضل لمن تقدم؛ ولأن في سعة انتشار هذه القصة وشهرة مؤلفها في عالم العلم والأدب، وكثرة إقبال القراء عليها غناء تامًّا عن تقريظي وإطرائي وحضي وإغرائي.

بقي لي غرض واحد وهو البحث في الفصل الأول، الملحق بالقصة وهو «آراء بعض العلماء فيها»، فإن المؤلف بنى حكايته على ملك كريم أغواها شيطان رجيم، وبعد ما دنس عفافها وطهارتها وسلبها شرفها وكرامتها نبذها نبذ النواة، ومالأه على الإعراض عنها والنفور منها كل من عرفها، أو سمع بها حتى أهلها وذوو قرباها، جميع هؤلاء أثموها واستذنبوها ثم خذلوها، وخيبوها وتنقصوها وتجنبوها.

فهوت إلى حضيض الذل والخزي والعار، وهامت على وجهها في قفار الضلال توغل في الزيغ، وتتمادى في العثار وتتجرع غصص البؤس والشقاء، وتعاني من شدة التعيير والتحقير جهد البلاء، أما ذلك الفتى الذي أغواها فظل آمنًا في سربه، ناعمًا بين أهله وصحبه، مرفوع المقام محفوفًا بما شاء من صنوف التجلة والاحترام، لا يسمع من لسان ناطق زجرًا ولا يلحظ من مقلة رامق شررًا؛ لأن محكمة الهيئة الاجتماعية أصدرت حكمها في هذه القضية بأن إيفون مونار تستوجب ما أصابها؛ لأنها سعت إلى حتفها بظلفها، وأن من أغواها بريء كل البراءة، فلا إثم عليه ولا حرج.

هذه أخصر خلاصة للقصة، أما المغزى الأولي الذي عني المؤلف باستخراجه منها، ووجه إليه التفات قرائها على الخصوص فهو ملخص على ظهر غلافها في فقرتين إحداهما:

دنس يطلب عفيفة طاهرة ويلتمس ملاكًا كريمًا، وعذراء وديعة لا تجد إلا خاطبًا أنفق شبابه في الفساد.

صديقة إيفون
والأخرى:

ينسب الناس شقاء الجنس البشري إلى حواء القديمة؛ لأنها أغوت آدم القديم مرة، فلماذا لا ينسبون الآن هذا الشقاء إلى آدم الجديد، وهو يغوي حواء الجديدة كل يوم ألف مرة.

إيفون

ومع شدة حرصه على تمكين هذا المغزى من نفوس القراء، وترسيخه في أذهانهم لم يغفل في أثناء سرده للوقائع عن تنبيههم، واستمالة أفكارهم إلى بقية الشئون الهامة الخطيرة في المغازي الخمسة الباقية، التي سبقت الإشارة إليها.

ولما عرضها على فريق من جهابذة النقد بعثوا إليه بآرائهم فيها، فأثبتها في الملحق الأول وعقب عليها في الملحق الثاني.

وقد أنعمت النظر في آرائهم، فوجدتهم مجمعين على امتداح المؤلف واستحسان بحثه في هذا الموضوع الفلسفي الاجتماعي، وإفراغه في قالب فكاهي روائي بأسلوب جميل فصيح يقرب مسائل هذه القضية الهامة من أفهام العامة، ويسهل عليهم تناولها واستيعابها.

ولكنهم اختلفوا في الحكم على المغزى الأول الذي أثبته المؤلف.

وهو: «أن المرأة والرجل يشتركان في الإثم، والرجل غالبًا هو الذي يغوي المرأة ويجرها إلى الإثم، ولكن الهيئة الاجتماعية تعاقب المرأة وحدها عقابًا أبديًّا قاسيًا، وتسامح الرجل تمام المسامحة، فلماذا يسامح؟»

فبعضهم وافق المؤلف عليه وأيده فيه، وصوب تخطئته لأحكام الهيئة الاجتماعية في هذه المسألة وغيرها من المسائل الأدبية، وبعضهم خالفه كل المخالفة في هذا المغزى وصوب حكم الهيئة الاجتماعية القاسي على كل فتاة ساقطة، وصرح: «أكثرهنَّ — إن لم نقل: كلهن — قوارير أقذار وقرارات وقاحة وصغار، لا فائدة من تصغير جرائرهن وعطف القلوب عليهن إلا جذب من بقي عندنا سليم الفطرة إليهن.» «لقد أخطأت (أي: إيفون) خطأ وجب أن تحتمل عاقبته إلى الممات، وعبثًا تتظلم من حكم الهيئة الاجتماعية عليها؛ لأنه حكم عادل، يجب أن تكون الفتاة الساقطة هذا السقوط مثل الزجاجة كسرها لا يجبر.»

ولما كنت من أكبر الناقمين على الرأي العام والهيئة الاجتماعية — سمها ما شئت — أحكامها في المسائل الأدبية عمومًا، وفي هذه المسألة خصوصًا؛ لأنها تبنيها إما على ظواهر لا يصح الاعتماد عليها، وتسندها إلى قواعد لا يجوز الأخذ بها والاستناد إليها، فتصدرها عاطلة من حلية النزاهة والعدل والإنصاف، حافلة ببرقشة المحاباة والجور والاعتساف عمدت إلى البحث، ولو بالاختصار فيما قاله مخالفو المؤلف في الملحق الأول، وإن يكن هو قد سبقني إلى الرد عليهم في الملحق الثاني (التذييل)؛ لأن الموضوع أوسع وأهم من أن يستوفي الكلام عليه كاتب أو كاتبان.

للمعارضين في الدفاع عن الفتاة أو المرأة الساقطة، ومحاولة إصلاحها الرفق بها، والصفح عنها، حجج كثيرة تنحصر غالبًا في ثلاث:

  • الأولى: أنها بنت حواء أغوت آدم كما جاء في سفر التكوين من كتاب التوراة، فالإغواء من طبعها وهو جار في نفسها مجرى الدم في عروقها.
  • والثانية: أن الفساد تملك قلبها، واستأثر بكل جوارحها وعواطفها «فلا يصلح العطار ما أفسد الدهر»، والطبع أغلب والزجاج المكسور لا يشعب، ومحاولة إصلاحها مجازفة قلما يسلم منها المخاطر؛ لأنه يتعرض فيها لخطر إفسادها له؛ لأنها كمشرف على الغرق يأخذ بعنق من يحاول إنقاذه ويغرقه معه.
  • والثالثة: لأنها فرطت في الاحتفاظ بطهرها وعفافها، وأفرطت في مطاوعة هواها فلتلق جزاء ما قدمته يداها «وعلى نفسها جنت براقش»، وكفى بالتشديد في عقابها نفعًا أنه يكون عبرة وذكرى لغيرها من بنات حواء؛ فيصن أنفسهن عن الابتذال، وينكبن عن الزيغ في متايه الغي والضلال.

ولننظر الآن في كل من هذه الحجج على حدة:

فالأولى — وهي شديدة الشيوع بين معظم أبناء آدم، وكثيرة الدوران في ألسنتهم — نراها لأول وهلة واضحة البطلان واهية البنيان، وأحر برواية الكتاب المقدس عن سقوط الإنسان الأول أن تكون حجة للمرأة لا عليها؛ لأننا من مطالعتها نرى جليًّا أن حواء أغويت قبل أن تغوي، والمغوي الأول إنما هو الحية أو إبليس، إذن تلقيبها بأم الإغواء افتئات وافتراء، والحق كل الحق أن تلقب بأم المغويات؛ «لأنها أغويت أولًا» كما قال بولس الرسول، ومن ذلك الحين إلى الأبد نرى بناتها المنكودات الحظ يغوين كما أغويت أمهن، حواء أغواها شيطان رجيم بصورة حية، وبناتها يغويهن كل يوم شياطين إثم وفساد، وغدر وخيانة ونذالة، بصور ملائكة طهر وصلاح، وأمانة ووفاء وعزة نفس وإباء؟

ولماذا أغواها الشيطان أولًا ولم يغو آدم قبلها؟ لأنه وجدها أضعف من رجلها جانبًا، فكان مثله مثل القائد المحنك الذي يتخير من حصون عدوه ما كان أقل مناعة، فوجه هجومه إليه طمعًا في سهولة الاستيلاء عليه.

ومما يستوقف النظر في هذه الحادثة أنه — سبحانه وتعالى — وهو أعدل الحاكمين عد ضعف حواء من أكبر الأسباب المصغرة لجرمها، والمخففة لعقابها فاقتصر فيه على تكثير أتعاب حبلها وآلام ولادتها، ولكنه عاقب الحية بأن تلعن من جميع البهائم والوحوش وآدم بأن تلعن الأرض، ويأكل منها بالتعب كل أيام حياته.

فضعف المرأة الذي عده الله في حكمه العادل مصغرًا لجرمها، ومخففًا لعقابها تتخذه الهيئة الاجتماعية سببًا للقضاء بأقسى حكم عليها، وتوجيه أحد المطاعن إليها.

أما الثانية وهي عدم فائدة السعي في إصلاحها، وخطر التعرض له، فليست بأقل بطلانًا من الأولى، ويكفي لدحضها أن الأطباء كافة يتحتم عليهم أن يواصلوا معالجة المرضى المصابين بأدواء عضالة لا شفاء لها إلى آخر رمق من حياتهم، فيعانون في هذا ما لا يوصف من المشاق ويتعرضون لخطر العدوى بأخبث الأمراض الوبيلة القتالة أملًا بإمكان تخليص حياة الجسد، وهي ليست شيئًا مذكورًا في جنب حياة النفس التي يليق بنا — بل يجب علينا — أن نمد يد المساعدة إلى كل مغواة لإقالة عثرتها وإنهاضها من كبوتها.

وإذا سألني سائل: «أولا يدلنا الاستقراء على أن عدد اللواتي نجح فيهن هذا الدواء قليل؟» أجبت على الفور: «بلى؛ وذلك لأن عدد الذين حاولوا معالجتهن به أقل!»

وهنا مجال واسع لندب الشجاعة الأدبية ورثاء النخوة والمروءة والإنسانية، والترحم على الأمانة والصدق والوفاء وغيرها من الفضائل التي يدعيها كثيرون من شبان هذا العصر، وما أبعدهم عن صحة هذا الادعاء.

بقيت الحجة الثالثة وهي ساقطة من نفسها لسقوط الحجتين السابقتين، وإني لأعجب لأصحابها كيف يتعدون على عدل الله في حجتهم الأولى فينقضونه، ويغيرون هنا على رحمته تعالى فيرومون حصرها وهي ملء الأرض والسماء، ويبتغون أن يُخصوا هم بها دون بنات حواء، كأني به — عزَّ وجلَّ — لهم وحدهم غفور رحيم تواب، ولأولئك التاعسات البائسات جبار منتقم شديد العقاب، وفي هذا كفاية لذوي الألباب.

وبعد هذا كله أرى أن هذه المسألة قد انحصر تناولها إلى الآن في أقلام الرجال، وقلما تناولها قلم إحدى النساء، مع أنها إن لم تكن لهن أهم منها، فهي على الأقل تهم الجنسين على السواء، فحتامَ تبقى الكاتبات سواكت جوامد وقضيتهن هذه توشك أن تنطق الصخور الجلامد؟

القاهرة
أسعد خليل داغر

إلى منجد المرأة الساقطة

إن كانت قيثارة هيلاس الذهبية قد أوحت إلى ملتون أن يندب بخت حواء الأولى، فقد أوحت إليك «إيفون مونار» أن تندب بخت حواء الثانية، ولكن الأولى أعيد لها فردوسها المفقود، وأما الثانية فالهيئة الاجتماعية تنكره عليها؛ ذلك لأن هذه الهيئة فاسدة ونظامها مختل، فهي بمعاقبتها الزانية تشجع الرجل على الزنا كأنها تقول له: كُلْ الحصرم فغيرك يضرس.

صديقك
سليم عبد الأحد
١  أتحفنا صديقنا الألمعي نقولا أفندي حداد بنسخة من الطبعة الثانية من «حواء الجديدة»، فاكتفينا من تقريظها بهذا النقد الجميل الذي بعث به إلينا صديقنا الفاضل صاحب التوقيع. المرآة المصورة عدد ٣ أول أوغسطس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤