تذييل

دفاع عن إيفون مونار وحواء الجديدة

تبسط في محاباة الشريعتين المدنية والأدبية مع الرجل في الإثم الذي يشترك فيه مع المرأة.

صدى حواء الجديدة

كان لهذه الرواية حظ في عالم الأدب العربي جعلها موضوعًا للنقد والتقريظ، وأنزلها منزلة المطبوعات التي يلتفت إليها وتمحص مباحثها، ولعل ما أكسبها هذا الشأن مساس موضوعها بأمر حيوي من أمور حياتنا الاجتماعية.

فما انتشرت الطبعة الأولى حتى تناولتها أقلام الأدباء من مقرظة ومنتقدة، وكان حسبي أن يعدوا على سيئاتها لا حسناتها كأنهم يبتغون الكمال فيها.

وكان للصحافة عمومًا فضل كبير في إفراغ فسحات أوسع من المعتاد في الصحف والمجلات لنقدها وتقريظها، وقد بلغ من عناية بعض الصحف بشأنها أن إحداهنَّ (وهي «الجوائب المصرية» التي كان ينشئها لذلك العهد الشاعر الكبير خليل بك مطران، ويحرر فيها أيضًا الشيخ يوسف الخازن) لخصت مغازي الرواية في بضع قضايا، وعرضتها لبحث الكتاب وأهل النظر، وعدت سائر الرصيفات مقصرات في إيفاء الرواية حقها من النقد، وعاتبتهن في ذلك التقصير.

وجرايد سوريا همت أن تتوسع في نقد «حواء الجديدة» وتقريظها، ولكن «المكتوبجي» أي: رقيب الصحافة هناك غل أقلامها عن الإفاضة بالموضوع؛ لأن حواء في نظره «عليها السلام» لا يجوز أن تكون موضوع حديث الأقلام، والشيء بالشيء يذكر؛ لأجل «خاطر حواء» حذف ذلك المكتوبجي بيتًا من قصيدة لي عن شرب الخمرة نشرتها «النشرة الأسبوعية» وهو:

لقد كنت حواء وقد كنت آدمًا
لدن كان إبليس الغرام يجرب

على أن ما كتبه الأدباء عن «حواء الجديدة»، ونشرته الصحف والمجلات كثيرًا أو قليلًا لهو أكثر مما تستحق، وأجدر بكل ثناء مني وشكر، وأخص منها جريدة «الإكسبريس» الغراء، فقد أسبغت عليها من جودة قلم صاحبها الأديب اللوذعي محمود أفندي إبراهيم ما لا يوازنه أعظم ثناء.

وحاصل القول: إنه ارتدَّ إليَّ من صدى حواء الجديدة ما دلني على إقبال القراء عليها، واهتمام الأدباء بنقدها، ولما كانت قضية إيفون مونار مسألة فيها نظر، وموضوع مناقشة رأيت أن أستأذن الناقدين في الدفاع عن إيفون لعل لها عذرًا وهم يلومون.

وقبل الاسترسال في هذا الدفاع أود أن أدفع تهمة الاقتباس عن «حواء الجديدة».

أشباه حواء الجديدة

مما انتقده أو لاحظه بعضهم أن حكاية حواء الجديدة مقتبسة من رواية أجنبية، فبعضهم قال: إنها مأخوذة من «البؤساء» Les miserables لهوغو؛ لأن إيفون مونار تشبه فانتين «البؤساء» في كونها اغتصبت وسقطت، وآخر قال: إنها منتحلة من رواية «بولس وفرجيني»؛ لأن الحديث في هذه منقول عن شيخ جالس يقص تاريخهما وفي تلك منقول عن طبيب، وقال آخرون: إن موضوعها مأخوذ من رواية «ذات الورود» La damme au eamihas؛ لأن إيفون تشبه مرغريت جوتيه في كونها ساقطة، وقد ظن بعضهم أنها معربة عن رواية في الإفرنسية تدعى بذلك الاسم، وراهن أحد أصحابي على ذلك وأرسل رسالة في طلب الرواية، ولم أدر بعد ذلك إن كان قد دفع الرهن لصاحبي أو أنكره عليه،١وأغرب من كل ذلك أن الذي زعم أنها مقتبسة من «البؤساء» جعل يؤيد قوله بما بين اثنتين من جمل «البؤساء» ترجمة الشاعر الكبير حافظ بك إبراهيم، واثنتين من جمل «حواء الجديدة» من التوارد المعنوي، كأن الذي يؤلف حواء الجديدة مع ما فيها من وحدة الموضوع، وانتساقه جمع جملها من مؤلفات القوم.

أما ما بين حوادث حواء الجديدة، وبعض الروايات من التوارد فليس بالأمر الغريب البتة، وإذا كان توارد الخواطر جائز في الشعر، فأحر به أن يجوز في الروايات التي تبنى على الحوادث والمشاهدات اليومية التي تقع تحت حسِّنا، وتنقش في حافظتنا وكثير منها متشابهة، وبين فكتور هوغو وديماس وايجان سو ولتن وسكوت وشكسبير، وغيرهم من الروائيين ألوف من أمثلة التوارد، وإذا قرأت رواية «المساء والصباح» للورد لتن و«البؤساء» لفكتور هوغو بدر إلى ظنك أن لتن قرأ «البؤساء» مرارًا، قبل أن كتب «المساء والصباح»، ولكن ما دام غرض هذه غير غرض تلك والحكايتان مختلفتين، فلم يعبأ الناقدون بما بينهما من التشابه في بعض الأحوال.

وإذا كان هوغو مثلًا يفخر «بالبؤساء» أو ديماس الصغير «بذات الورود»، فما فخر الواحد منهما بالقصة التي استنبطها لروايته، وإنما فخره بما كسا تلك القصة من المغازي الأدبية والمباحث الفلسفية، ولولا ما في «ذات الورود» من تلك العواصف والفلسفة لما كانت موضوعًا للإعجاب، بل لما أظهرها ديماس الصغير إلى عالم الروايات؛ لأنه ليس فيها شيء من الإعجاز القصصي كما في سائر قصصه وقصص أبيه، ولكن مزيتها على سائر رواياته أنها تجلو موضوعًا أدبيًّا وتمثل عواطف سامية، وبهذه المزية العظيمة عدَّت تحفةً، وبسببها رقي ديماس الصغير إلى المجمع العلمي الفرنساوي، وبهذه المزية وحدها تحيا هذه الرواية بين المؤلفات النفيسة إلى الأبد، وكذلك بمزية أخرى أو بمزايا أدبية وفلسفة شعرية تحيا رواية «البؤساء»، ورواية «بولس وفرجيني» وغيرهما من الروايات النفيسة لا بقصصها المستنبطة؛ لأن قصصها ليست معجزات في عالم الروايات، وأين قصة «ذات الورود» من قصة «الحراس الثلاثة» مثلًا من حيث الحوادث، ولكن أين مغازي هذه ولعبها بالعواطف من مغازي تلك وتأثيرها.

وعلى ذلك سواء كانت «حواء الجديدة» مشابهة لتلك الروايات (التي قيل: إن حكايتها مستمدة منها) قليلًا أو كثيرًا، أو غير مشابهة لها فلا أحسب قيمتها في حكايتها؛ لأنها بسيطة ولي غيرها من الروايات أفضل منها من حيث توقيع القصة، واستنباط الحوادث وترابطها.

ولكني أحسب قيمة «حواء الجديدة» فيما تضمنته من المغازي الأدبية والاجتماعية، حتى إن القراء أنفسهم الذين استحسنوها لم يكن إعجابهم بغرابة قصتها، بل بما كسيته من هذه المغازي الأدبية الدائرة حول مركز واحد، وبهذا الاعتبار تختلف شديد الاختلاف عن سائر الروايات التي ظن الناقدون أنها مصادر لها، أو أنها هي مقلدة لها.

مضاهات «حواء الجديدة» بذات الورود من حيث القصة

ومع كل ذلك أرى أن حكاية حواء الجديدة (بقطع النظر عن مغازيها) قصصية أكثر من «ذات الورود»، ولا أرى قصة أبسط من قصة «ذات الورود»، فإنها تقال بكلمات قليلة، وهي أن أرمان أحب مارغريت غوتيه وهي من بنات الهوى حبًّا صادقًا حتى استمالها، وأحبته مثل ذلك الحب وتركت كل شيء لأجله، ولما جاءها أبوه بغير علمه هو وترجاها أن تترك ابنه حرصًا على مقامه، وسمعة بيته أذعنت وتركت أرمان بالرغم من حبها له من غير أن تخبره السبب حتى ينقم عليها ويتركها، وبقيت كاتمة الأمر حتى ماتت، فعرف ذلك أرمان من مدونات يوميتها.

هذا فحوى حكاية ذات الورود، وأظن أن الذي يقرأ «حواء الجديدة» يجد فيها حوادث وقصصًا أوسع من تلك، ولعل بين هذه وتلك تشابهًا في بعض النقط، فلا أرى أن هذا التشابه هو الذي جعل لحواء الجديدة قيمتها إن كانت قد صادفت قيمة في أعين بعض الأدباء الكرام، بل أحسب أن قيمتها في مغازيها كما تقدم القول.

مغازي حواء الجديدة

وما أبعد الفرق بين «حواء الجديدة» و«ذات الورود» من حيث المغزى، فإن ديماس الصغير دار في روايته التي هي تحفة للآداب الفرنساوية حول محور واحد، وهو أنه حاول أن يثبت للقارئ أن مرغريت غوتيه الساقطة كانت ذات نبل وشرف نفس، وغرضه من هذا أن يرفع شأن المرأة الساقطة في عيون الناس؛ لكي يكفوا عن احتقارها؛ لأن بين هؤلاء النسوة المخزيات كثيرات أشرف نفسًا، وأشد إخلاصًا من كثير من أولئك الناس الذين يلعنونهم، وقيل: إنه رمى إلى هذا الغرض؛ لأنه هو ابن غير شرعي لديماس الكبير، ومع ذلك لم يقدر أن يصل إلى ذلك القصد تمامًا، أي: إثبات إخلاص مرغريت جوتيه بدليل أنها لما جافت أرمان جوفال حبيبها إكرامًا لخاطر أبيه لم تصن نفسها عن سواه، بل بذلت نفسها لأصدقائها السابقين في حين أنها كانت تدعي أنها لم تزل تحب أرمان، فأي شيء كرسته أو ضحت به لأجل حبه؟ هذا ما ينتقد على مغزى «ذات الورود»، ولكن «ذات الورود» تمثل حقيقة بل هي حقيقة جرت؛ لأنه يقال: إن أرمان لم يكن إلا ديماس نفسه ومرغريت ليست إلا الفونسين أو بليسي عشيقته.

نعم إن «حواء الجديدة» تشتمل على هذا المغزى الذي اشتملت عليه «ذات الورود»، ولكن هذا المغزى واحد من عدة مغازٍ انتظمت في سلك رواية «حواء الجديدة»، وهاك أهم تلك المغازي:

  • أولًا: وهو أهم ما رمت إليه الرواية أن المرأة والرجل يشتركان في الإثم، والرجل غالبًا هو الذي يغوي المرأة، ويجرها إلى الإثم، ولكن الهيئة الاجتماعية تعاقب المرأة وحدها عقابًا أبديًّا قاسيًا، وتسامح الرجل تمام المسامحة فلماذا يسامح؟

    ليس الغرض من حواء الجديدة أن تسامح الفتاة، كما يسامح الشاب بل أن يعاقب هو كما تعاقب هي، وهو واضح في الرواية جيدًا.

  • ثانيًا: أن الرجل وهو فاسد يطلب أن تكون المرأة عفيفة، والفتى وهو يسعى وراء الفساد، ويغوي الفتيات يبتغي عروسًا لم تمسها يد بشر، فإذا كان الرجال يريدون أن تكون النساء عفيفات، فلماذا يطاردون عفافهن، وإذا لم يرجعوا هم أنفسهم عن الفساد، فكيف تبقى النساء عفيفات، أليس بين ما يبتغونه ويفعلونه تناقض هو الاستبداد الذي يستبده القوي بالضعيف، وما أجمل القول هنا: «عفُّوا تعف نساؤكم».
  • ثالثًا: إن التربية القويمة الدقيقة غير كافية لصيانة عفاف الفتاة، ولا سيما إذا كانت في أوائل شبيبتها ضعيفة الإرادة رخصة الفؤاد تميل مع نسمة الهوى كيفما هبت؛ ذلك لأن الطبيعة البشرية أقوى من الشريعة الأدبية، فلا يؤمن سقوط الفتاة إذا لم تقرن تربيتها الصالحة بالمراقبة الفعلية عليها؛ ولهذا يخطئ الوالدون كل الخطأ في أن يدعوا سبيلًا لخلوة الفتيات مع الفتيان.
  • رابعًا: إن عقاب الفتاة الساقطة فوق المحتمل والعالم لا يعذرها، ولا يرحمها ولا يسامحها مهما بالغت في التوبة، فعلى الفتاة أن تصون نفسها وتحرص على عفافها حرصها على حياتها.
  • خامسًا: إن الزلة الأولى لا تسقط المرأة إلى الأبد، فليس من المستحيل أن تتوب الساقطة توبة حقيقية، وترجع إلى مقامها الأول إذا شاء الناس أن يسامحوها.
  • سادسًا: الساقطة قد لا تخلو من بعض الأخلاق الحسنة، كالصدق والإخلاص والأمانة والإحساس الشريف، وإن كانت هذه الفضائل لا تستر فاحشتها الفظيعة وحياتها الدنسة.

ورواية «ذات الورود» لديماس الصغير لم تدر إلا على هذا المبدأ الأخير، وأما «حواء الجديدة» فاستقلت بتلك المبادئ الخمسة السابقة، وبذلك تختلف كل الاختلاف عن سائر الروايات التي اتهمت بأنها مستمدة منها، فإذا كانت حواء الجديدة تعبأ بنقد وتحسب حسابًا لمنتقد، ففي هذه المبادئ التي تبثها لا بأسلوب حكايتها.

محاباة الشريعة

الاعتراض على المغزى الأول:

  • (١)

    لم يستنكر بعض الناقدين محاباة الشريعتين المدنية والأدبية (وهذه بالتخصيص) في الحكم القاسي على الزانية، ولا سيما الآنسة كإيفون والتسامح مع الزاني كالذي خان إيفون والعفو عنه، فبعضهم عدَّ هذه المحاباة إنصافًا وعلله قائلًا: ما دامت المرأة ولا سيما الآنسة تعلم أنها هي الخاسرة، أو هي التي تعطب، وأن إثمها يظهر عليها وقد يتعذر عليها كتمانه، فهي وحدها مسئولة عن ذنبها، وعليها أن تحافظ على عفافها، وما دام الرجل يعلم أنه لا يعطب وأنه يمكنه أن يتخلص من معرة هذا الإثم، فهو غير مسئول ولا عقاب أدبي له؟

    وقد مثل أحد الظرفاء ممن باحثوني بهذا الموضوع ذلك التمايز بين الرجل والمرأة بقوله: إنه لشيء طبيعي أن ينكسر الزجاج، ويسلم إناء المعدن إذا التطم أحدهما بالآخر.

    أجل، هذا هو قضاء الطبيعة: الطبيعة تسوِّغ لك أن تفعل كل ما فيه مصلحة، أو لذة لك من غير التفات إلى ما يؤول إليه فعلك من الأذى لسواك؟

    ولكن الشريعة مدنية أو أدبية جُعلت لمقاومة الطبيعة، ولوضع حد لحرية الإنسان، بحيث لا يجوز لك أن تفعل إلا الفعل الذي لا أذى فيه لغيرك حتى ولو رضي ذلك الغير بفعلك؛ لأن رضاه في هذه الحال لا يكون إلَّا عن اضطرار، فقد يرضى المستدين بدفع فائظ المال مضاعف الفائظ القانوني، ولكن الشريعة تعاقب الدائن؛ لأنه اغتنم فرصة اضطرار المستدين لكي يسلبه، ومن هذا القبيل تعاقب الشريعة البائع بأكثر من التسعيرة، وإن تم البيع برضا الشاري، وفي الشرائع المدنية في هذه البلاد وغيرها كثير من أمثلة ذلك، وتراضي الفريقين المؤذي والمؤذى لا يكفي لتبرير الأذى، والأذى الذي أصاب إيفون لعمر الحق أعظم جدًّا من الأذى الذي يصيب المستدين بمضاعف الفائظ والشاري بأغلى من التسعيرة، وإذا كان الناس يمقتون المرابي، والتاجر الجشع، فأحر بهم أن يمقتوا الزاني.

    وإذا كان الغرض من الشريعة حماية الضعيف من جور القوي وغبنه، وجب أن يعاقب الزاني كالزانية بنفس العقوبة، أو بالأحرى يجب أن يعاقب بأشد، وإلا فإذا كان يعلم أن الهيئة الاجتماعية تغضي عنه، وتسامحه يبقى مستقويًا على المرأة الضعيفة، ولا يرتدع عن إغوائها حتى يسقطها.

    أجل إن الشريعة المدنية تقضي بالتعويض للفتاة إذا أغواها الفتى متذرعًا لغوايتها بالوعد بالزواج ولم يف بالوعد، ولكن التعويض ليس عقابًا، ولا يردع المغوي عن الإغواء ولا يرده عن انتهاك الأعراض، ومهما كان التعويض عظيمًا، فلا يساوي سقطة الفتاة وضياع منزلتها في الهيئة الاجتماعية، وإنما إذا كان ينتبذ من الهيئة الاجتماعية كما تنبذ شريكته في الإثم استوى العدل، ورجح ارتداع الآثم.

  • (٢)

    ظن بعضهم أني أبتغي تبرئة الفتاة الزانية، وهو ظن خاطئ فما هو مستدل من فحوى الرواية، وفي مقدمتها نص صريح على أنها غير بريئة، وعلى أن شريكها في الإثم مذنب مثلها يجب أن يعاقب عقابها.

    نعم إن لسان حال إيفون يفيد أحيانًا أنها تعد عقابها ظلمًا، فلا يستهجن القارئ ذلك منها؛ لأن التسامح مع شريكها يحرجها إلى التظلم، وعادة المتهم أن يتبرأ من جرمه، فالقاتل وهو يصعد إلى المشنقة يقول: أنا مظلوم، ونحن في رواية إيفون التي نروي فيها الواقع كما هو ونروي الكلام على علاته، نعبر عن إحساسها الحقيقي وعن أفكارها، فلا يصح أن نقتصر على قول كلام القضاء عليها، ولا نعزو لها كلام الدفاع عن نفسها والتظلم من محاباة الهيئة الاجتماعية مع مَن خانها، على أنها كانت في بعض أحاديثها تعترف باستحقاقها ذلك العقاب، بيد أنها حسبت أن مقاساتها كافية لتطهيرها من إثمها؟

  • (٣)

    وقد سلم بعض الناقدين بأن الهيئة الاجتماعية محابية بهذا الشأن مع الرجل دون المرأة، ولكنه يرى أن هذا الخلل الاجتماعي كان شأن البشرية من أقدم الأزمنة، ولن تزال كذلك إلى ما شاء الله، فمن العبث الحث على مقاومة هذه المحاباة.

    ربما كانت هذه المحاباة قديمة، ولكن الارتقاء الاجتماعي الأدبي يقضي بإصلاح كل خلل قديم.

    والحقيقة أن هذا الخلل الاجتماعي غير عام، فهو قليل أو كثير في بعض الأزمنة وعند بعض الأمم، ومن شواهد ذلك أن العرب، وكثيرًا من القبائل غير المتمدنة تنتقم من كل من يسطو على عرض.

    وبعض الأمم التي تتسامح مع الرجل تتسامح مع المرأة أيضًا كما ترى في بعض أمم أوروبا وأميركا الآن، وقد لا يختص الرجل بالتسامح دون المرأة، إلا في الأمم التي ابتدأت في التمدن ولا تزال تستهين بالمرأة وتستضعفها، والتي يغلب فيها أن تكون قيمة الرجل في ماله ونفوذه لا في سمو آدابه، وعندي أن أصح دليل على رقي الأمة الأدبي هو محاسبة الرجل على آدابه كمحاسبة المرأة، وتجافي الجماعة له عند إتيانه أي موبقة، وإلَّا فلا بدع أن يجرأ الرجل على إغواء المرأة، وهو آمن عواقب الحساب.

  • (٤)

    حسب أحد الناقدين المتحذلقين أن الرجل الذي خان إيفون قد عوقب على خيانته لها بخيانة زوجته له بعدئذٍ، وعد هذا العقاب إنصافًا لإيفون، وكأن الذي يحسب هذا الحساب يسوِّغ لزوجة الخائن أن تخون زوجها، ولا يخفى ما في هذا التسويغ من الخطل والخطر، ناهيك عما فيه من التناقض؛ لأنه وهو يذنب امرأة بذنب يبرر نفس الذنب لأخرى.

    والصواب أن خيانة زوجة ذلك الخائن إثم تستنكره الهيئة الاجتماعية استنكارها لإثم إيفون، ولا يعد قط عقابًا لذلك الرجل الذي أثم مع إيفون وخانها، وإنما العقاب الحقيقي هو أن تنبذ الهيئة الاجتماعية ذلك الرجل، كما نبذت إيفون لا أن تسامحه، وتأذن له أن ينال فتاة أخرى صالحة وهو أثيم، هذا ما تطالب به إيفون الهيئة الاجتماعية.

توبة ولا مغفرة

  • (١)

    أكثر الناقدين لوَّموا إيفون على جنوحها إلى البطالة والفساد، بعد تمسكها بالعفاف والطهارة برهة طويلة في مقرها الأول، واحتمالها مشقات العمل لعهد تنكرها آملة أن يتناسى الناس زلتها، ويغتفروها لها وتسترد منزلتها المعتبرة في الهيئة الاجتماعية، لوَّموها على ذلك؛ لأنهم يريدون منها أن تبقى تائبة متعففة حتى الممات، وإن كان الناس لا يقبلون توبتها، ولا يغتفرون لها إثمها بل يستمرون على مجافاتها، واحتقارها في حين اغتفارهم نفس الإثم لمن خان عهده لها وأغواها، فكأنهم يريدون منها أن تكون يسوع المسيح، ويريدون مع ذلك أن يصلبوها.

    ولا أفهم لماذا يجب على إيفون أن تفعل ذلك؛ ألكي يسامحها الناس؟ لقد فعلت ذلك برهة فما سامحوها. ألكي يغفر لها الله؟ فما شأنهم؟ ولماذا يدينونها هم؟ أتفعل كذلك تحاميًا للمزيد من رذل الناس لها؟ لم يبق عندهم من مزيد، فماذا تخاف بعد؟

    إن إيفون لم تستسلم إلى شهواتها عن فاقة وحاجة إلى سد الرمق وإنما استسلمت؛ لأنها لم تجد لعفافها قيمة، فقالت: «أنا الغريقة فما خوفي من البلل»؛ بل فعلت لأنهم لم يساووها بمن أغواها، إذن الناس دفعوها إلى حمأة الفساد بإصرارهم على رذلها، وتسامحهم مع من أغواها.

    والظاهر أن هؤلاء الناقدين يبتغون أن يكون المراد من رواية «حواء الجديدة» تصور الكمال في المرأة، وهو غير المقصود الذي ألمعت إليه في المقدمة، وهو تصوير ما هو واقع لا ما يجب أن يكون، إن مثيلات إيفون اللواتي دفعهنَّ إلى مهاوي الفساد إصرار الناس على خزيهنَّ كثيرات، ويستحيل على إيفون ومثيلاتها أن يثبتن على توبتهن إذا ثبت الناس على رذلهن.

    وفانتين «البؤساء» التي باعت شعرها وأضراسها؛ لكي تعول ابنتها ليس لها، ولا لأمثالها وجود إلا في مخيلة هوغو، وجميع أشخاص البؤساء من هذا القبيل، والغرض من البؤساء تصوير الكمال غير الموجود لا الخلل الحادث الذي هو المقصود من حواء.

  • (٢)

    زعم بعضهم أن التسامح مع الفتاة في الزلة الأولى يسهل السبيل للزلة الثانية، ويجرئ أترابها على ارتكاب إثمها، زعم وجيه، ولكن لماذا نجعل الفتاة الزالَّة وحدها عبرة لأترابها، ولا نجعل الذي أزلها وأفسدها عبرة لأقرانه أيضًا حتى يكف الرجال عن إغواء النساء.

وأظن أن الناس إذا سامحوا التائبة توبة صادقة أنقذوها من التمادي في الفساد، من غير أن تفقد العبرة المبتغاة من رذلها؛ لأن ما تقاسيه من الرذل والهوان في عهد توبتها يكفي لردعها عن الزلة الثانية.

مقام الزالَّة

  • (١)

    أنكر بعض الناقدين التفصيل بين ذات إيفون الجسدية، وذاتها الروحية فيما ورد من تقسيم النساء إلى أربعة أصناف تختلف اختلاف الظواهر والبواطن (الفصل العاشر)، والقصد من ذلك التفصيل بيان أن إيفون (ومثيلاتها) لا تفقد بزلتها جميع فضائلها وسجاياها الحميدة، وآدابها الراقية إن كانت في الأصل على شيء من ذلك، فلا بدع أن تكون فتاة سقطت، أو مومس مبتذلة، عزيزة النفس كريمة الخلق صادقة العهد إلى غير ذلك من الشمائل، فليس من العدل أن تُنكر عليها فضائلها هذه، وإذا كانت هذه الزلة تضيع كل الفضائل، فلماذا لا تضيعها أيضًا أية رذيلة أخرى كالسكر والقمار.

  • (٢)

    استهجن بعض الناقدين الإشفاق على الساقطات، وذهب إلى إيجاب خزيهنَّ والمبالغة في رذلهن، والذي أراه أن هؤلاء الساقطات المسكينات أحق من غيرهن بثورة السخط على الهيئة الاجتماعية، التي قضت برذلهن دون رذل شركائهن في الفحشاء، وأولى بأن يستنزلن غضب السماء على البشر؛ لأن الأنام الذين ركلوهنَّ ودهوروهنَّ إلى أسفل مهاوي الشقاء والفساد هم الذين أفسدوهن وأغووهن، فإذا لم يأتِ إليهن الرجال ويقرعوا أبوابهن، ويساوموهن على أعراضهن، فلا يجدن من يفحشن معه وبالتالي لا يكنَّ فاحشات، وإذا لم ترذل ذا الفاحشة فلا يرتدع عنها.

وبعد هذا البيان الوافي أجرأ أن أقول: إن لإيفون (ومثيلاتها) العذر وكل العذر في أسلوب حياتها من أوله إلى آخره، ولا تستحق شيئًا من نقمة الهيئة الاجتماعية، ورذلها فما هي التي أذنبت بل هم المذنبون:
  • أولًا: أهلها الذين لم يصونوها في عهد ضعف إرادتها، وشبوب الطبيعة والحيوانية فيها.
  • وثانيًا: الشاب الذي أغواها.
  • وثالثًا: الجماعة التي غضت النظر عن جريمة ذلك الشاب، وسددت سهام النقمة إليها وحدها.
  • ورابعًا: ذلك الذي خطبها ولما علم تاريخ حياتها رفضها.

بل هي تستحق العطف؛ لأنها وحدها قاست بلايا الرذل، بل يحق لها أن تشكو وتتذمر وتلعن الهيئة الاجتماعية التي لم تؤذن لها بالعيش الطيب، ولا تسمح لها أن تمتع نفسها بلذات الحياة كسائر الناس إلا ببذل أعز ما عندها.

•••

واستنكر البعض أن يشتمَّ من الرواية كل ما فيه إعذار لإيفون؛ لئلا تصغر الجريمة في أعين القارئات، وهو استنكار لأمر غير واقع؛ لأن قارئ حواء الجديدة شعر بفظاعة الإثم وبمرارة نفس الآثمة.

وما رأيت أحدًا من القراء استنكر أن تقع حواء الجديدة في أيدي السيدات، أو أيدي الأوانس وهنَّ يقرأن ويرين في دور الصور المتحركة ما هو أنفى للحشمة ألف مرة من «حواء الجديدة»، وإذا كان بعضهم يبالغ في الاحتشام حتى يحظر على السيدات قراءة «حواء الجديدة»، فليس كل ما يؤبى على فئة من ذوات الخمار محرمًا على الجمهور.

١  ربما ورد هذا الاسم لرواية أوروبية وأنا لم أدر به، فإن وجدت رواية بهذا الاسم فمما لا ريب فيه أنها ليست هذه، بل تختلف عنها حكاية وموضوعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤