أسلوب طه حسين

لم ينفرد الأستاذ طه حسين بانتحال الجديد والتجديد، ولا هو أول من زعم ذلك أو حامى عنه أو كابر عليه؛ فقد سبقه آخرون لكنه أول من اجترأ على الأدب العربي بالمسخ والتكلف، وقال فيه بالرأي الأحمق وأداره على الوهم البعيد، وتناوله من حيث يأخذه علمًا؛ ليتركه جهلًا وهو يحسب أنه آخذه جهلًا وتاركه علمًا، ثم كان أول من استعمل الركاكة في أسلوب التكرار كأنه يمضغ الكلام مضغًا، فنزل به إلى أحط منازله، وابتلى العربية منه بالمكروه الذي لا صبر فيه، والمرض الذي لا علاج منه، وصار ذلك طبعًا بالإدمان عليه، فلا يأتي بالجملة الواحدة إلا انتزع منها الانتزاعات المختلفة، ودار بها أو دارت به تعسفًا وضعفًا وإخلالًا بشروط الفصاحة وقوانين العربية، والآفة الكبرى أنه كان يحتسب ذلك إبداعًا منه في الأسلوب وإحكامًا في السبك وطريقة بين المنطق والبلاغة!

وإن مَن عجزَ أن يعلوَ لا يَعجز أن يَسْفُل، بَيْدَ أنَّا لم نجد ولم نعرف غير هذا الأستاذ أحدًا يرضى لنفسه أن يتمدح بالعيب، ويتحسن بالقبح، ويرفع المنازعة مما لا نزاع فيه، فكان يزعم أنه لا ينساغ لأديب أن يرد عليه هذه الطريقة، وأنه هو لا يحصي من قلدوه فيها، حتى رميناه في جريدة السياسة بهذه الكلمة التي تراها فجعل من بعدها يتحفظ على نفسه ويتوقى التكرار بجهده، وقد أثبتنا الكلمة؛ لأنها ستأتي الإشارة إليها، ثم لأنها مما يحسن أن يحفظ للتاريخ ليَعرِف مَن بعدنا كيف كان «جديد» من قَبلهم، وترى الكلمة على طريقة السؤال والمداراة في وجه غير النقد أو التصريح؛ لأن الأستاذ كان يتولى «صحيفة الأدب» في جريدة السياسة الغراء ويقوم على كل ما ينشر فيها، فكان لا يجيز إلا ما أراد نشره أو وقع من نفسه موقعًا، وليس مع رأيه في ذلك رأي ألبتة، فاحتلنا عليه بتوجيه الخطاب وجهة لا ينفر منها إن لم يأنس إليها، ولا ينكر إن لم يقرها، وجازت عليه الحيلة فوقع فيها ثم فطن لها من بعد، نبهه صديق كنا حكيناها له فأسرَّها في نفسه:

إلى الأستاذ الفاضل الدكتور طه حسين

عرفنا أنك تدعو إلى نمط جديد في الكتابة تنتقل به أساليب الإنشاء أو تتغير به رسوم هذه الأساليب أو تعفو طرائق هذه الرسوم، وإن هذا مما تبعث عليه سنة التطور؛ لأنه فصل ما بين القديم والحديث، ثم هو هو الذوق الأدبي الجديد الذي تزعمه والذي يختلج إليه الطبع في هذا الزمن وتقتضيه ضرورة العلم والاتساع فيه، والأدب والتحقق به، واللغة والرغبة في إحيائها.

وقد كشف لنا الأستاذ الفاضل ومن يجاهدون في سبيله ويكتبون على طريقته أو يحتذونها عن حقيقة ذلك النمط وعرضوا أمثلة، وحققوا معنى مصاحبة الطبع ومفارقة التكلف في هذه اللغة الفصحى التي لا يولد أحد فيها ولا ينشأ أحد عليها، وبينوا كيف يكون الكاتب حضريًّا في رأيهم وكيف يتسمح لهذا الذوق ويترفق فيه، ويتطرف به، وكل ذلك بما كتبوا ويكتبون من هذه المقالات السائغة اللينة الحلوة، التي تسرع في تلاوتها إلى الطبع بأشد مما تسرع كتابتها إلى المطبعة، غير أني — حفظك الله — رجل قد جعل الله فيما جعل من محنتي وبلائي أني دائب على الاستقراء لهذه اللغة والتتبع لأساليب الكلام فيها، مما يسمح أو يلتوي، ومما يأبى أو ينقاد، ومما يتسهل أو يتوعر، ومما يؤمن به عصر ويكفر به عصر آخر؛ لأن فلسفة ذلك باب من أبواب كتاب أضعه، ولكني في كل ما قرأت من بدء اتصال الرواية بالعرب إلى اليوم لم أصب مثل هذا الأسلوب الذي تكتب به، كقولك في صدر قصة المعلمين التي نشرتها السياسة اليوم «نعم قصة المعلمين، فللمعلمين قصة وللمعلمين قضية، وكنا نحب ألا تكون للمعلمين قصة وألا تكون للمعلمين قضية؛ لأننا نربأ بمقام المعلمين عن أن تكون لهم قصة أو قضية، ولكن أراد الله ولا مرد لما أراد الله أن يتورط المعلمون في قصة، وأن يتورط المعلمون في قضية، ليست قضيتهم أمام المحاكم، وإن كانت أوشكت في يوم من الأيام أن تصل إلى المحاكم، وليست قصتهم مفزعة مهلعة «كذا كذا» وإن كانت أوشكت في يوم من الأيام أن تكون مفزعة مهلعة.»

فهذه عشرة أسطر صغيرة١ دار «المعلمون» فيها عدد أيام الحسوم، وحكيت «القصة» ست مرات، وكان «للقضية» ست جلسات، غير ما هناك من مفزعة ومهلعة قد أفزعت وأهلعت مرتين وغير ما بقي مما هو ظاهر بنفسه، ولا ريب أن الأستاذ إما أن يكون قد نحا بهذا نحوًا لا نعرفه وقصد إلى وجه لم نتبينه، فهو يدلنا عليه لنجريه فيما أجرينا من أساليب البلاغة ونؤرخ له في الذوق الجديد، وإما أن يكون عند ظننا به في اعتبار هذه الكلمات رقى وطلاسم للتسخير بقوتها وروحانيتها، فإذا قرأ المعلمون هذه المقالة عشر مرات انحلت المشكلة وجاءهم الرزق وهم نائمون، ولكن يبقى يا سيدي أن تختم الكلام بعد هذه الهمهمة والغمغمة بقولك: الوحَى الوحَى، العَجَلَ العجل، الساعةَ الساعة. والسلام.
١  بأسطر الجريدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤