رسائل الأحزان

في فلسفة الجمال والحب

إلى الأستاذ الفهامة الدكتور طه حسين

يسلم عليك المتبني ويقول لك:

وكم من عائب قولًا صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم!

ولقد رووا أن كيسان مستملي أبي عبيدة كان يكتب غير ما يسمع، ويقرأ غير ما يكتب ويفهم غير ما يقرأ؛ وكنت أحسب الخبر موضوعًا يتملح به للظرف والنكتة؛ أو معدولًا به عن وجهه إلى ناحية المبالغة، ولكني رأيت فيك دليلًا على أنه إن لم يكن صحيحًا فليس بعيدًا، وإن لم يكن واقعًا فليس يمتنع، أكتب إليك فتفهم غير ما تقرأ، وأحدثك فتحسب غير ما تسمع، وأراك إذا انتقدت كلامي دارت بك الأرض حول نفسك فأخذتك الغشية ولم يبقَ في الألفاظ ولا في المعاني ولا في الأساليب ولا في الشعر ولا في النثر إلا صورة تمر بسرعة دوران الأرض فلا تتبين منها شيئًا ولا تفهم منها شيئًا!

هن ثلاثة أيها الفاضل: فإما طبيعة في النفس مبنية على المكابرة والمراء، لا تبالي معها أن تحذف العقل وتسقط الخلق وتمتهن الكرامة وتقول: هذا الذهب حجر وهذا الحجر ذهب، وتمضي في تعليل ذلك وإقامة الدليل عليه والدفع عنه، ثم اللجاج والسفسطة وإثبات المنفي ونفي الثابت كما يفعل كل أهل الجدل في غير طائل ولا منفعة إلا غلبة ثرثرة على ثرثرة، وإما طبع في الكتابة مستوخم بارد تجذب إليه أصول ضعيفة في الخيال والفكر فلا يرتفع ارتفاعًا ساميًا وإنما يسف ويخبط، وإما عقل لا كالعقول ونسأل الله السلامة، فما من واحدة من هذه لك بد!

قرأتُ يا سيدي ما كتبتَه عن «رسائل الأحزان» مما أتسمَّح في تسميته نقدًا، وألممتُ بالغاية التي أجريتَ إليها كلامك، وما كان يخفى عليَّ أن في الحق ما يسمى تعسفًا، وفي النقد ما يدعى تهجمًا، وفي المنطق ما يعرف بالمغالطة، وفي كل صناعة ما هو انتحال ودعوى وتلفيق؛ وإلا ففيم يخالف بعض الناس على بعضهم، وكيف ترى الرجل الذي لا بأس بعقله يكون عليه الدين مؤكدًا بالأيمان والوثائق حتى لا سبيل إلى إنكاره ثم ينكره ويحلف على ذلك ويكابر فيه كأن الذي حلف به عندما أخذ منك غير الذي يحلف به عندما أنكر عليك، ثم يدبرك معه على كل أساليب الباطل ويمر بك في كل قضايا المغالطة وإن في دمه ولحمه لو شق عنه لأنطقه الله بأنه كاذب! ولعمري لقد كنت تكتب غير ما كتبت لولا أنك سمعت مني ما سمعته في تخطئتك والرد عليك حين قام الجدال بينك وبين الأستاذ هيكل؛ ورأيتك وقتئذ تكاد تبتلعك ثيابك، وكان كلامي منك كالماء يسقي شجرة الحنظل المر فما يزيد إلا مرارة، ولو عقلت أيها الشيخ لعرفت أني أغضبتك عامدًا متعمدًا، وأفرطت عليك حتى اقتلعت نفسك من المجلس اقتلاعًا، وما أردت بذلك إلا أن أعرف مبلغ إنصافك، وأمتحن هذه الحرية التي تدعيها في كل ما تكتب، فإنه ليس ينفعني أن تثني علي، وليس يضرني أن تجهد في ذمي، ولا أنا أحفل بشيء من ذلك، وما أحسبك تظنني ألتوي في يدك أو ألين لغمزاتك؛ فقد بلغ من إنصافك حين تغضب أن تنفس عليَّ كلمة واحدة من اللغة فلا تذكرني بها، فقلت فيما علقت على كتاب الأستاذ هيكل: «أنكرتُ عليه استعمال كلمة مهوب بالواو لا بالياء ونبهني «بعض الأدباء» إلى أن هذا الاستعمال صحيح، فرجعت إلى المعاجم.» فمن الذي نبهك وردَّك إلى المعاجم؛ ولماذا لم تذكر اسمه وحقدت عليه حتى في الصواب الذي تعترف به، وأنت قد اندرأت عليه طعنًا في ثلاثة أنهر من الصحيفة التي تقول فيها هذا القول؛ أفيشق عليك أن تذكر لي حسنة واحدة في كلمة كنت لا تعرفها، ثم تسمِّي نفسك بعدُ ناقدًا حرًّا منصفًا وتريد أن يقبل الناس منك ويستمعوا لك ولا يعرفوا الذهب ذهبًا صحيحًا حتى ينظروا «دمغتك» عليه، ولا الجوهر جوهرًا كريمًا حتى يسمعوا شهادتك فيه؟

ثم أنزلتَ نفسك منزلة دون هذه، وكنتُ والله أرفعك عنها، فقلت: «كنت أصف العقاد في فصل مضى بشدة الغموض أحيانًا، وقد رضي الأستاذ الرافعي عن هذا الفصل، وأنبأني أنه لم يرضَ عن شيء مما كتبت كما رضي عن هذا الفصل» ولكن كيف أنبأتك هذا النبأ؟! بل متى تفهم دقائق الكلام وأغراضه وتكون حكيمًا في سياسة المعاني وأساليب الفكر؟ لقد كتبت إليك: «إنه لم يعجبني شيء مما قرأتُ لك ما أعجبني ما كتبتَه في هذا الأسبوع والذي قبله.» أي انتقادك من انتقدت: فلانًا وفلانًا وفلانًا والعقاد جميعًا لا العقاد وحده كما تزعم، وهذا هو ظاهر اللفظ، ولكن ما باطنه أيها الفهامة، فإنه يقال: إن للكلام ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا، لو كنت تعرف هذا أو تفهمه أفلا تسأل نفسك لِمَ لم تعجبني كل الفصول التي كتبتها في الأدب وتاريخه وأنت تتخبط منذ سنتين وتكتب كل أسبوع مرة؟ فإن سألتها فهل تستخرج من ذلك إلا في هذه الفصول هي في رأيي خلط مخلوط تركب فيها الشطط، ثم تعتسف الطريق، ثم تضع التاريخ كما تخلقه أنت لا كما خلقه الله، وتصول على الأموات الذين لا يملكون دفعًا ولا ردًّا ولا حوارًا ولا جوابًا، فإذا استخرجت هذا فهل ينتج لك إلا أن إعجابي بهذين الفصلين خاصة إنما كان لأنك تصادم الأحياء الذين يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم وأن يردوك إلى الطريقة المسلوكة والنهج القاصد إن كانوا على شيء مما يسمى به الكاتب كاتبًا والأديب أديبًا، ولم يكونوا بهذا الجبن الهالع المخزي الذي ميز أبا حَيَّة بسيفه الخشبي، وجعله بطل المعركة، وأنت تعرف القصة بعد.١
ثم رأيتك تنحط في منزلة دون المنزلتين مما يدل على بعدك من الإنصاف وذهابك عن حقيقة النقد، فتزعم أن «كل جملة من جمل الكتاب تبعث في نفسك شعورًا قويًّا أن الكاتب يلدها ولادة، وهو يقاسي في هذه الولادة ما تقاسيه الأم من الآم الوضع» (كذا كذا)، لقد نبغتَ في الخيال بعد أن قرأتَ «رسائل الأحزان» وستنبغ أكثر من هذا بعد أن تقرأ «السحاب الأحمر»٢ الذي أهديتك إياه، على أني لو أردت أن آخذ معك في كتابتي هذا المأخذ لجعلتك تتلوى من الكلام المؤلم على مثل أسنان الإبر، ولاستقبلتك بما لا تدري معه أين تذهب ولا كيف تتوارى، كالإعصار الذي يأخذ عليك الجهات الأربع من آفاقها، أفأنت تقوم لي في باب الاستعارة والمجاز والتشبيه؟ ولكني أدع هذا الآن، فحدثني من أين علمت أني أكتب على هذه الهيئة؟ لعلك أخذت هذا المعنى البذيء من قولي لك: «أتظن أني أكتب هذه الكتابة وأنا نائم؟! ألا إني أتعب نفسي لتجديد الآثار الفنية في البيان العربي» هذه هي كلماتي بالحرف الواحد، فأنا لا أكاد أنسى ما أقول وما يقال لي.

ولقد كتبت رسائل الأحزان في ستة وعشرين يومًا، فاكتب أنت مثلها في ستة وعشرين شهرًا، وأنت فارغ لهذا العمل وأنا مشغول بأعمال كثيرة لا تدعُ لي من النشاط ولا في الوقت إلا قليلًا، وها أنا أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها، وإن لم يكن الأمر عندك في هذا الأسلوب الشاق عليك إلا ولادة وآلامًا من آلام الوضع كما تقول، فعليَّ نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله، وإني لأتحداك وأنا أَخْبَر الناس بما تطيق وما لا تطيق، وسبحان من خلق النسر خلقة والديك الرومي خلقة أخرى.

ومنزلة رابعة هي أحط وأدنى من كل هذه الثلاث، فقلت: «أنا أعلم أن الأستاذ الرافعي قد تكلف مشقة لا تكاد تعدلها مشقة في وضع هذا الكتاب، وهو تكلف العناء في طبعه ونشره، وأنفق مالًا في هذا الطبع والنشر؛ فقد يكون من الإسراف في القسوة أن نعرض لعمل كهذا فيه مشقة وعناء ومال فنعلن أنه غير جيد … إلخ إلخ.»

فما أنت والمال والطبع والنشر، ولكن اعلم أن هذا الكتاب لم يمضِ على صدوره أربعون يومًا معدودة حتى ردَّ كل ما أنفق عليه غرشًا غرشًا، وسل كل طابعي الكتب العربية وكل المؤلفين هل اتفق لهم حادث واحد مثل هذا؟ أَلَا عُدْ عن هذا الأسلوب، أسلوب شفقة الضرة على الضرة، وأبقِ مثل هذا الكلام لكتبك وأمثال كتبك.

•••

إني والله — على إعجاب كان بك — أصبحت مستيقنًا أن الله تعالى لم يهبك إلى اليوم قلم الكاتب، ولا أودعك دهاء السياسي، ولا خصك بفهم الحكيم، وكيف يكون لك من ذلك وأنت تصف رئيس تحرير السياسة٣ في ظرف ولطف، بأن يزدري القراء ويزدري الناس ويتخذ هذا قولًا ومذهبًا وفلسفة، ففي أي شيء يكون عمل الرجل في الجريدة الكبرى في أمة هي أشد الأمم حاجة إلى من يتألفها ويتولى إرشادها وهدايتها بأخلاق كأخلاق الأنبياء، تتسع كلما ضاقت الصدور، وتنعطف كلما نفرت القلوب ولا ترى في الناس طبيعة تُزدرى ولكن خطأ يُستصلح؟

عساك تحسب هذا مني دهانًا ومصانعة لرئيس التحرير، فسل أديب هذا العصر الأمير شكيب أرسلان ماذا كتبت له منذ سنة خلت في ردي على بعض كتبه، وهل أثنيت له على غير الدكتور هيكل، وهل وصفت غيره بالذكاء وعمق الفكر وحسن الوصف وبلاغة التعبير، على حين لم تكن بيني وبينه شابكة ولم يكن رآني ولا رأيته إلا مرة واحدة جاء فيها إلى طنطا مع الأستاذ الجليل لطفي السيد؛ ولكن الإنصاف يا سيدي إن لم يكن فوقه إلا الحق؛ فذلك لأنه هو أساس الحق، ولقد أخبرتك أن هذه الحرية التي تزعمونها في الكتابة والنقد إن لم تكن مقيدة بالإنصاف وقواعده فهي سخافة ودعوى، وطلبتَ مني هذه القواعد ولعلي أكتبها لك يومًا إن شاء الله.

•••

ولننظر الآن في نقدك «رسائل الأحزان» والعلة في أنك لا تفهمها؛ فأما النقد فليس هناك إلا أنك لا تفهم كما تدعي على نفسك، وماذا علي من ذلك ولقد قلت لك: إن الذي لا تفهمه أنت يفهمه سواك، وإن الله خلق رءوسًا غير رأسك وعقولًا غير عقلك، وإنه ليس من أحد يعترف أنك مقياس العقل الإنساني في الأرض؛ فمسختَ هذا كله وزعمت أني قلت لك: «لِمَ تتخذ نفسك مقياسًا للناس» ثم رددتَ على هذه الكلمة بقولك: «إني أتخذ نفسي مقياسًا لنفسي» ففسر لي أصلحك الله كيف تكون نفسك مقياسًا لنفسها؟ أليس المقياس آلة لقياس غيره، فكيف يتأتى لك أن تكون نفسك التي تقيسها غير نفسك التي تقيس عليها؟! أم أنت ستلجأ إلى أصول البلاغة وتجعل العبارة على التجريد؛ فلم لا نفهم الكلام البليغ على هذه الأصول بعينها، وما هذا التحذلق وما هذا التداهي؟ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.

وأما أنك لم تفهم فلست أرد عليك بفلان وفلان ممن فهموا الكتاب وأعجبوا به وأثنوا عليه، وأنت تعرفهم وتذعن لهم وتبالغ في تقديمهم: ولا أرد عليك بأن الطلبة فهموه، ولا بأن النساء فهمته؛ وانظر ماذا كتبت مجلة السيدات في مصر، وماذا كتبت مجلة منيرفا في سورية، فإنك لا تطمع في سطر واحد من مثل هذه الكتابة، لا أرد عليك بهذا ولا بنحوه؛ ولكني أقول لك: إن العسكري روى عن الأنصاري قال: قلت لبعض الكتَّاب — كتَّاب الخراج وأشباههم من رجال الديوان: ما فعل أبوك بحمارِه؟ قال: باعهِ! قلت: فلمَ تقول باعهِ؟! قال: وأنت فلم تقول بحمارِه؟ فقلت: أنا جررته بالباء. قال: فمن الذي جعل باءك تجر وبائي أنا لا تجر! (يعني الباء التي في فعل باع.)

أليس هذا فهمًا يا دكتور، وقد اجتهد الرجل في القياس وانتهى إلى هذه النتيجة؛ فما عسى أن تقول، ومن نشكو مثل هذا الفهامة؟ إلى السلطان؟ إلى أهل اللغة؟ إلى الأطباء؟ ولكن هل كان فهمه أن الباء في «باعه» حرف جر مما يفسد مقاييس النحو ويكره اللغة على أن تتسع لحكمه وتطرد على قياس فهمه؟ وأنت أفلا ترى معي ومع الناس أن سوء الفهم وخطأ الفهم وعدم الفهم، كل ذلك في مَرَدِّهِ إلى معنى واحد هو سقم الفهم؟

إنك لتجمع الكتب وتحفظ التاريخ وتدرس الأدب، فهل نفعك ذلك في قول الشعر حتى ذهب ديوان طه حسين بديوان المتنبي؟ وأنت تدرس البلاغة وتعرف قواعدها وأمثلتها، فهل أعانك ذلك في قطعة بليغة يعرفها لك الناس ويتناقلونها ويرونها من البيان في موقع ومن الجمال في منزلة؟ وهل جئت قط في كتابك بشيء من الوصف، أو قضى لك الناس بخيال ابتدعته أو مجاز اخترعته؟ وهل كتبت شيئًا في الحب والجمال وفلسفتهما وأوصافهما؟ فهذا كله من بعض العلة في أنك لا تفهم «رسائل الأحزان» إن صح قولك أنك لا تفهم!

وعلة أخرى: لِمَ تكرر الكلام دائمًا في غير حاجة إلى التكرار مع أن أصحابك يرون هذا من أقبح العيوب ويقولون: إن المذهب الجديد، قائم على الأسلوب التلغرافي، فإذا كتبت فقدِّر أنك سترسل المقالة بالتلغراف وتدفع أجرة إرسالها؛ لقد كنتَ أفْلست من زمن بعيد يا دكتور لو حققوا معك هذه القاعدة وأرسلوا مقالاتك بالتلغراف، ولكن لِمَ تلتزم هذه الطريقة حتى أصبح كالشعوذة المطبعية أن تكتب ستة أنهر وهي ثلاثة بعد حذف المكرر والحشو؟

كنت أقرأ مقالة افتتاحية في السياسة ومعي أديب، فدفعتها إليه وقلت: لمن ترى هذه المقالة؟ فنظر فلم يجد عليها توقيعًا، فقلت له: لا يجب أن يكون التوقيع في ذيل المقالة بل قد يكون في أثنائها! قال: فأين هو؟ قلت: اسمع؛ هذا هو التوقيع: «فعلوا هذا، نعم فعلوه، فعلوه؛ أقسم لقد فعلوه، فعلوه …»

أفمن يكتب هذا الهراء ونحوه يرتقي به الفهم إلى دقائق المجازات والاستعارات والكناية والإشارة ونحوها مما قامت عليه هذه اللغة في بيانها وبديعها، وما لو حذف منها لتعطلت من كل محاسنها ولما صح أن يكون فيها كلام معجز ولا مقبول ألبتة؟

وما العلة في هذا وما السبب في أنه لا يتفق لك أبدًا خيال رائع، ولا تبدع شيئًا مما يبدعه الكتاب في كل الأمم، إلا مرة واحدة أردت أن تصف المرأة الجميلة في رواية «الإغواء» منذ أسابيع فقلت: «صورتها، حركاتها، ألفاظها، زيها، مذهبها في الحوار والكلام: هي فتنة تتحرك.»

فتنة تتحرك! لا أعرف لك في كل كلامك أحسن ولا أبدع من هذه الكلمة، وأنت تعرف من أين أخذتها وإن كنت لم تحسن السرقة، وإلا فما قولك حين تكون هذه «الفتنة» نائمة؟ أفتريد أن أدل قراءك في أي رسالة «من رسائل الأحزان» وصف الألفاظ والحركات والزي والمذهب في الجدال والشكل والدل وأنها فتنة خلقت امرأة؟٤

تقول في نقدك: «يجب أن أكون منصفًا (كذا وكذا) فأنت تستطيع أن تقطع كتاب الرافعي جملًا جملًا، وأن تجد من هذه الجمل طائفة غير قليلة (اسمعوا، اسمعوا) فيها شيء من جمال اللفظ يخلبك ويستهويك (تنويم مغناطيسي بالبلاغة) وفيها معان قيمة لا تخلو من نفع، ولكن كل المشقة في أن تصل هذه الجمل بعضها ببعض وتستخرج منها شيئًا.»

إذن فالمشقة عليك ليست في الفهم ولكن في صلة الجمل بعضها ببعض، وأظن هذه المشقة بعينها هي التي تجعل من طبعك تكرار الكلام دائمًا في غير طائل ولا منفعة، وإذن فمن سبيلك أن تحسن فهم كتب التاريخ والحوادث وحدها دون سواها مما لا يقع في الذهن متصلًا بعضه ببعض، وإذن فلك مذهب لا ينبغي أن نعرض له كما لا ينبغي لك أن تجعله قياسًا تقيس عليه!

ثم كيف يكون في الكتاب «معان قيمة» وجمل تستهوي وتخلب وهي مع ذلك طائفة غير قليلة، مع أنك تصرح قبل هذا الكلام بنصف سطر أبيض (يعني مباشرة بالكلام الذي تفهمه) فتقول أتممت الكتاب ولم تفهم منه شيئًا؟ لا بد لك أن منطقًا خاصًّا بك إذا كانت المقدمة فيه أنك أتممت كتابًا برأسه لا تفهم منه شيئًا فالنتيجة من هذه المقدمة أن في الكتاب طائفة غير قليلة تستهوي وتخلب وفيه معان قيمة أيضًا!»

وهل هذا أقبح في التناقض أم قولك: «ورأيي في الكتاب أني لا أفهمه، فلا «أستطيع» أن أقول: إنه جيد أو رديء، بل «أستطيع» أن أقول: إني لم أفهمه، وإذن «فلا يمكن أن يكون جيدًا.»

فأية الاستطاعتين هي الكاذبة المردودة؟ وإذا كنت لا تفهمه وكان من أجل ذلك (من أجل ذلك وحده) لا يمكن (يعني يستحيل) أن يكون جيدًا، أفلا يعد هذا اعترافًا منك بما أنكرته من أنك تعتبر نفسك مقياسًا للعقل الإنساني في الأرض المؤمنة بالله وكتابه وسنة نبيه؟

ألا يرى القراء كيف يتهافت الشيخ كأن في جوفه شيئًا يغلي على شيء يتضرم؟! وكيف تقول: «لا يمكن» إلا إذا كنت أنت من الممكن كله يا مولانا؟

•••

ألا ليت شعري كيف يجمع الكلام العالي بعضه إلى بعض ويستخرج منه شيئًا وهو يراه ملء كتاب، إذا كان لا يستطيع جمع كلامه هو في مقال صغير حتى ينفي عنه مثل هذا التناقض العجيب الذي يأتيك بسطر مؤمن يلعنه سطر كافر؟

أنا لا أقول: إن الأستاذ طه ليس شيئًا في فضله وأدبه وعلمه، بل هو عندي أشياء كثيرة، بل هو مكتبة تنطق كتبها، ولكنه لم يلابس صناعة الشعر ولا أساليب الخيال، ولا أخذ نفسه في ذلك بمزاولة ولا عمل، فليس له أن ينقد هذه الصناعة، ولا أن يقول في هذه الأساليب إلا بعد أن يجيء بمثل ما يكتب أهلها، فإن لم يكن ذلك في طبعه ولا في قوته ولم يستوِ له شيء منه فلا يغرنه أن يكون مؤرخًا، ولا يخدعنه أن يكون منطقيًّا، ولا يحسبن فهم شيء هو فهم كل شيء، ولو كان الأمر موضوعًا في الأدب على الاتساع في الكلام والقدرة على القول الكثير صوابًا وخطأ، لما كان أكبر أديب هو أكبر الأدباء، ولكن أكبر الثرثارين.

ويقول الأستاذ: إنه يفهم القرآن وكذا وكذا ولا يفهم كتابي، وأنا لا أصدق من هذا شيئًا، وأين حقائق البلاغة المعجزة في القرآن ممن إذا انتقدت بيت شوقي:

يا لطفُ أنت هو الصدى
من ذلك الصوت الرخيم٥

فهم أن الشاعر يقول: إن أرسطو كان ذا صوت رخيم، وأورد على ذلك أنه لا هو ولا شوقي سمع هذا الصوت، علم الله لو تقدم صاحب هذا القول إلى الامتحان في الأزهر وفسر لهم في البلاغة هذا التفسير لأعطوه «المكعب» كما يقول الأزهريون، والمكعب عندهم هو الصفر في درجات الامتحان!

أيفهم هذا حقائق البلاغة في القرآن ودقائق الإشارات التي فيه، وقد قال صاحب المثل السائر وهو من كبار المجتهدين في علوم البلاغة ومن أبلغ كتاب الدهر: «كنت أقرأ في اليوم ختمة، ثم في الشهر، ثم في السنة، ثم ها أنا أقرأ في ختمة واحدة منذ كذا وكذا سنة ولم أفرغ منها، وكلما أعدت النظر ظهر لي ما لم يكن ظهر من قبل.»

هذه هي أصول البيان العربي المعجزة، وهذه هي طريقة فهمه، فخذ أو فدعْ!

•••

إن المجاز وهو أساس البيان يمنعك أن تفهم إلا بالقرينة والعلاقة، فلا يطلق لك الفهم يل يقيده بهما، ولا يترك لك أن تقول أفهم ولا أفهم، بل إحدى اثنتين: إما أن تقرَّ للكلام وإما أن تقرَّ على نفسك.

وقد كان العرب أصحاب أذهان حديدة، وكانوا لا يكتبون، فاضطرهم ذلك إلى الإبداع في ألفاظهم وطي المعاني الكثيرة في الكلمات القليلة والاكتفاء باللمحة الدالة والإشارة الموجزة والكناية الرائعة والتفنن في أساليب القول على وجوه شتى ومذاهب كثيرة؛ فليس يتولى هذا البيان العربي إلا الذهن الدقيق والفطنة الحادة والبصيرة النقادة، وإلا من جرى مجرى العرب أنفسهم، ينزعه طبع أو يجذبه أصل؛ فإن لم يكن هناك فأبعده الله، والسلام!

١  كان أبو حية هذا رجلًا أعرابيًّا به لوثة، وكان له سيف من الخشب يسميه «لعاب المنية»، والدكتور طه حسين كان يعتقد أن قلمه المنية.
٢  هو الكتاب الذي وضعناه تكملة لرسائل الأحزان، فكلاهما في فلسفة الجمال والحب.
٣  كان طه انتقد في السياسة رئيس تحرير السياسة، فكتب فصلًا هو آية من الآيات في الحمق.
٤  تجد ذلك في الرسالة الرابعة من رسائل الأحزان.
٥  هذا البيت من قصيدة قالها شوقي في تقريظ كتاب أرسطو الذي ترجمه الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة اليوم «قلت: يعنى سنة ١٩٢٦.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤