واضرب لهم مثلًا

رجعتُ إلى النسخة العتيقة التي عندي من كتاب «كليلة ودمنة» وقد قلت: إنه ليس مثلها عند أحد غيري، وإنه لا تأبى عليها حكمة ولا تهولها حادثة ولا يتعاظمها مثل، وقد تصفحتها لعلَّني أصيب فيها مثلًا للجامعة وشيخها صاحبِ المعجزات والخوارق، فإذا كليلة يقول في بعض قوله:

فاضرب لي مثلًا في الرجل تعجبه نفسه فتغره فتقحمه في الجهلة المنكرة يراها وحده علمًا ولا يعرفها الناس أجمعون إلا حمقًا وجهلًا، فإنك أمسكت عن الحديث آنفًا عند مَثَل المدرسة التي زعموا أن اسمها الجامعة في إيمانها بشيخها وتربصها أن تقع منه المعجزة، وقلتَ: إنه كان رجلًا مفتونًا فجمعت عليه بين الغرور فيه والغفلة منها، وزادت في حمقه بضعف تمييزها فانقلب لا يمسكه عقل ولا دين، وإنه كان يتقي بعض السوء على نفسه، وكان يعتبر على علمه بعض الاعتبار، فلما رأى الجامعة مهملة مخلاة ورأى أنه وحده فوق المئذنة وأن المصلين وإمامهم على الأرض، أذن في المسلمين بلغة الروم، وقال: إذا كان المصلون غربانًا فالمؤذن ولا عجب من البوم، وزعمت يا دمنة أنها كانت مدرسة كمدرسة الحمار، فما مثل مدرسة الحمار؟

قال دمنة: زعموا أنه كان بأرض كذا حمارٌ خُيِّل إليه أنه عظيم الهامة حتى لا يَكْبُره الثور إلا بقرنيه، وغمَّه زيادة القرنين في الثور، فلما فكر وقايس واعتبر صح عنده أن أذنًا من أذنيه الطويلتين ترجح بالقرنين جميعًا، وكان حمارًا ذا قياس ومنطق عجيب، فزعم لنفسه أن رأسًا في قدر رأسه لا بد أن ينشئ عقلًا، وأن عقلًا كهذا العقل يبدع إنسانًا، وأن إنسانًا لا يكون حمارًا، فاهتدى من ذلك إلى أنه خلقٌ غير الحمير وقال: فما يمنعني أن آتي عملًا لا يتعلق فيه أحد بذيلي، ثم يكون دليلًا في الحمير على أني فوق الناس، فإنه يشبه أن أكون لهذا خلقت، وما ينفعني أن أكون فخم النهيق، إن لم يكن معي من القدرة والتمكين ما تحصل به الفضيلة على من لا ينهق؟

قال دمنة: وكان له صديق من الكلاب يأنس به جماعة من صبيان القرية فيمسحونه ويُطعمونه ويعبثون به، فأسرَّ إليه الحمار يومًا أنه ليس حمارًا. قال: وما عساك تكون؟! وما هذا الجلد؟! وما هذا الحافر؟! ثم اقتصه القصة فزعم له الحمار أن هذا الجلد الذي هو فيه إنما أشبه به الحمير؛ ليكون إرهاصًا للمعجزة التي بُعث بها! قال الكلب: وإنك لصاحب معجزة؟! قال: نعم؛ فإياك أن يعتريك شك أو تكذيب، وإنما بعثت حمارًا؛ لأن جنس الإنسان قد فطر على ضرائب من اللؤم والخسة والدناءة فليس أقرب إليه من الشك والحسد والجحود، وما تغني فيه الآيات والنذر، ولا يجيئه من نبي ولا رسول بمعجزة إلا حسده فردها عليه بالحسد فكفر بردها عليه، وكان في الأنبياء من فلق البحر ومن أحيا الموتى ومن شق القمر نصفين، ثم لا يزال الكفر مع ذلك باقيًا على الأرض، فلم يَغُرْ كما يغور الماء، ولم يمت كما يموت الحي، ولم يَبْلَ كما يبلى الميت، فلعمري ما بقي في حكم العقل ولا في حيلة الظن لإيمان هذا الجنس الممقوت إلا أن تجيئه المعجزة في جلد حمار! قال الكلب: لعمري وعَمْرُ أبي إن هذا لهو الرأي، وإن أمرك لأمر له ما بعده، وأنا حواريُّك في هذه الرسالة، أخبرني ما أنت صانع فلعلِّي أن أقوم فيه مقامًا، فإنك لتعلم ما عندي من الوفاء والأمانة، وأنت حقيق أن يستكفيني بعض أمرك؛ فقد عُرفنا معشر الكلاب بهذه الخلال الفاضلة، حتى إن الناس لا يجدون لهم أمثالًا يضربونها إلا منا كلما ذكروا الوفاء أو تمثلوا فيه. قال الحمار: أخزى الله هؤلاء الناس؛ يضربون بكم المثل في الأمانة والوفاء ثم لا يسب بعضهم بعضًا إلا قالوا: يا كلب، ويا ابن الكلب!

قال دمنة: ثم إنه قال للكلب: ادْنُ مني حتى أعهد إليك، وإياك أن يعتريك داء الكلاب في الصياح لكل نبأة فتفشى ما ائتمنتك عليه؛ فقد قالت العلماء: إن أشقى الخلق من شقى بصاحب معجزة! قال الكلب: وإن كان حمارًا؟ قال: اعزُب عني فعل الله بك وفعل، ما أنت بصاحبها وإن الكلاب لكثيرة بعدُ؛ وتالله إن رأيت كلب سوء كاليوم؟ فانكسر الكلب وخشي أن يصيبه ما قالت العلماء، وبصبص بذنبه قليلًا ثم إنه دنا من الحمار وقال: ما أخطأ الناس في تنابزهم بالكلاب، فقد عرفتُ معرَّة جنسي، وأنا تائب إليك مما فرط مني، فاعهد إليَّ بعهدك وخذني بما أحببت فلن تجدني إلا حيث يسرك أن تجدني، قال الحمار: بارك الله عليك «وأعظم» لك، فقد ترى هؤلاء الصبيان يألفونك ويلقون إليك بكسر الخبز، فانظر فيما تحتال به حتى تأتيني بهم فإن أول بدأتي في المعجزة أن أكون معلم صبيان، فذهب الكلب فربض على مَزْجَر قريب منهم وهم يتعابثون ويلعبون، ثم قام فانسلَّ أصغرهم فتمسح به، ثم التقم خبزته فوثب بعيدًا، ثم جعل يستطرد لهم ويعدو عدْوًا رفيقًا وهم يتبعونه يريدون أخذه وإمساكه، حتى إذا جاء موضع الحمار دفع بين رجليه، ورفع الحمار راية ذيله فأصبح الكلب في حمايتها، وكان هذا الحمار قد رأى في بعض أسفاره قرَّادًا يرقص قردًا وقد اجتمع له الصبيان، وعاين ما استخرجته حركات القرد من عجبهم ولهوهم، فلما اجتمع أولئك الصبيان يريدون أخذ الكلب طفق يصنع لهم كما رأى القرد يصنع، بذل في ذلك غاية جهده وبلغ فيه منتهى حماريته، فبُهت الكلب وجعل ينظر كالمتعجب ويقول في نفسه: أقرد هذا أم حمار؟ وأين ويحه المعجزة التي زعم، فإنما هذا رقص كالرقص، وإذا كان الرقص أكبر أمره فما في أمْرُه كبير عندنا؛ فإن أهون الكلاب لأقوى عليه من أعظم الحمير.

قال دمنة: وكان في النظارة خبيث نقَّاد، فقال: ما لهذا الحمار وخفة القرود ونزقها وما تصنع من الطيش؟ إن هذه الشياطين إنما تُتَّخَذُ لمحض اللهو والعبث، وهذا الغبي لا يُرتبط إلا للحمل والمنفعة، فإذا هو ركبَتْه هذه الطبيعةُ وتُرك لها حتى تأخذ مأخذها فيه فوالله إنْ بقي أحد يأمنه على أولاده، ويوشك أن يَقْمِصَ بأحدهم هذا القُمَاص فيرمي فيه فيدق عنقه أو يهشم عظمًا من عظامه، ثم إنه راغ إلى داره فجاء بهراوة غليظة والحمار في عمًى مما يصنع، وقد قام في نفسه أنه موحى إليه، وأنه أكبر معلم للعلم في أكبر مدرسة في الدنيا، فما راعَهُ إلا الخبيث قائمًا يدق ظهره بالهراوة، وأسرع الصبيان فتناولوا ما أصابته أيديهم من عود وخشبة وجلدة وما خَفَّ وثَقُلَ وداروا بالأستاذ الحمار فاعتوروه، وخرج الكلب يشتدُّ عَدْوًا، حتى إذا نجا بعيدًا أنحى على نفسه وقال: ويحكِ يا نفس! ما كان أجهلَك! لقد كِدْتِ والله تهلكينني، أفيمكن في عقل العاقل أن تكون معجزة حمار إلا شيئًا كتقليد القرد؟!

•••

وما دمنا في التقليد وانتظار المعجزة من وراء العجزة فإنا نقول: إن فلاسفتنا المضحكين من أمثال طه حسين يُخرجون عجزهم مَخرج الحيلة، فيُحكمون له التدبير ويأتون به في مثل أسلوب السحر والتلبيس والشعوذة، فإذا امتهدوا له من صناعتهم وبذلوا فيه العفو والجهد ثم جاءونا به، نظرنا وحققنا فلم نَرَ شيئًا، فقلنا: ما أهون وما أضعف وما أسخف، ثم قلنا لهم: إنكم مقلدون مفضوحون؛ وإن أحدكم لهزيل ولا يرى إلا حلة البادن الغليظ، وقصير ثم لا يلبس إلا ثياب المارد الطويل، ومفلس ثم لا ينفق على أعين الناس إلا ذهبًا أصفر فهو ماذا؟ ثم قلنا لهم: إنكم علماء بالعلم الذي تسرقونه ولكنكم جهلاء لما تتعاطون من السرقة، وإنكم فلاسفة بالآراء التي تنتحلونها، ولكنكم أغبياء لما تصنعون من سوء الانتحال، ومصلحون بالأقوال التي تزخرفونها ولكنكم مفسدون لجهلكم عواقب هذا التمويه.

ثم قلنا: إننا لا نُنخدع ولا نغترُّ ولا نتعبَّد للأسماء، ولتأتِ الأسماء من حيث هي آتية في المغرب والمشرق، فهاتوا حققوا فلسنا في سرعة التقبُّل منكم مثلكم في سرعة الأخذ من الأوربيين، ولا نحن في الشراء من دين الغرب مثلكم فيما بعتم من دين الشرق، وفصل ما بيننا وبينكم أن في أيدينا أصل الفضيلة، فهو قياس لرذائلكم عندنا كما هو قياس لفضائلنا عند أنفسنا؛ وفي أيديكم أصل الهوى فهو قياس لكل شيء عندكم إلا ديننا وفضائلنا، ثم قلنا لهم: من علامة الضعف في عقولكم الجبارة، والاستخذاء في نفوسكم الراقية، أنكم تقدسون فلانًا وفلانًا من فلاسفة الأوربيين حتى فيما يؤخذ عن سواهم، وتحقرون فلانًا وفلانًا من فلاسفة الشرقيين حتى فيما لا يؤخذ إلا عنهم؛ فهل هذه — ويلكم — إلا سمة المستعبدين والعجزة والمتواكلين: تجعلون الأسماء الأوربية كأنها أسماء الدول العظمى والأسماء الشرقية كأنها أسماء المستعمرات، ولا تعلمون أيها الفلاسفة المغرورون أن هذا من شر ما تستعبد به الأمم الضعيفة؛ لأن قديمنا الذي تزرون عليه يذهب في جديدهم الذي تدعون إليه، ثم لا يكون جديدهم من بعد إلا مزجًا بيننا وبينهم، ثم لا يكون هذا المزج إلا لعاب السياسة في أشداق الاستعمار لإساغة اللقمة أولًا وحدرها ثانيًا وهضمها بعد ذلك.

فإذا قلنا لهم هذا ونحوه قالوا: متحرون، وقدماء، وأنصار القديم، فنعم نعم؛ غير أننا مع ذلك نلين لما لا يكسرنا، ونتجدد بما لا يفنينا، ونريد أن تبقى الأمة ولو هلك ألف من أمثال طه حسين، لا أن يبقى هؤلاء وتهلك الأمة، وما هلاك الأمم بالانقراض ولا بالأوبئة ولا بما يجتاحها من اصطدام النواميس، فإن مع كل شيء من هذه ونحوها عذره القائم وضرورته الملجئة، ولكن الهلاك الذي لا هلاك غيره أن تضعف الضمائر المؤمنة وأجسامها ضارية، وتمحق الفضائل والشهوات عنيفة، وتموت العقائد والحياة قتال ونزاع؛ فإن كان الشك والزيغ ومذهب فلان وطريقة فلان ورواية فلان والجامعة المصرية وطه حسين والبلاء الأسود، إن كان هذا مما يؤدي إلى ذلك أو بعض ذلك، النجاةَ أيتها الأمة والسلامةَ السلامةَ، فإن هذه الجامعة المشئومة لا تصنع لك دينًا بدينك، ولا تؤلف لك فضيلة من فضائلك، ولا ترد عليك ما تسلبك من ذات نفسك، وما حجتها إلا حجة الزنادقة في كل عصر، وما حجة الزنادقة إلا حرية الفكر والبحث! ولو لم يكن في الإنسان إلا الفكر وحده لقلنا: عسى … ولكن هناك النية القائمة على الخُلُق، والخُلُق القائم على الطبع، والطبع الذي منه خبيث لا يَطِيب وطيب قد يَخْبُث!

النجاةَ النجاةَ أيتها الأمة، فلو استطاعت الجامعة المصرية أن تجعل هذا المغرور طه حسين يرد على الميت عمره وينقله من قبره ويجعله تلميذًا في الجامعة يكفر بإبراهيم وإسماعيل ومحمد — صلوات الله عليهم — لما أمكنها أن ترد على ملحد إيمانه الضائع، وعلى شاكٍّ يقينه الذاهب، وهذا لو أنها تُكَفِّر أبناء المسلمين بالعلم وللعلم، فكيف والأمر كله جهل في أستاذها وسقوط في نفسه وضعف في عقله وسوء تقليد منه أو تقليد سوء؟ وهو رجل لا يعرف علته الفلسفية ولا يدرك أنه منهزم أمام الحس، فهو يهدم ويخرب بقانون طبيعي فيه؛ لأنه أشعل من داخله لينفجر من داخله١ ولما منعته الحياة أن يعبث بحواسه ذهب عبثه إلى فكره وتسلط على لسانه، فهو رجل قانونه الطبيعي أنه مهما يأخذ يُفْسِدْ ومهما يدع يصلح.
ولقد أفسد مذهب ديكارت٢ وعدا عليه؛ فإن هذا الفيلسوف لا يأخذ بمذهبه إلا من يحسن التفكير ويقوى على أن ينتج فيه إنتاجًا صحيحًا ويستجمع لذلك مادته الطبيعية من الذكاء والعلم والرأي.

وإلا فديكارت إذن أحمق، بل يكون أجهل الخلق؛ إذ لو أطلق لكل إنسان أن يشك ويذهب بفكره ما يذهب على قدر ما يتهيأ له من الوسائل لانقلبت الأرض مارستانًا للمجانين، ولخرجت كل حرية عن وضعها في الطبيعة وفي الاجتماع وزاغت عن طريقها في نظام الدنيا القائم على اختلاف أنواع الحرية لا لتتنافر بل لتلتقي في الغاية، وعلى اصطدامها لا لتتناقض بل لتنتظم في ترتيب بعينه، ومن أجل ذلك يرجع ديكارت فلسفته إلى الشخصية، وليس بهين أن يقال في هذه الشخصية: إنها حيث يطمع كل طامع، وإن ديكارت مع ذلك ليخشى على التكوين الاجتماعي من الشك؛ لأن الشك لا حد له؛ إذ هو المجهول كله، فهو من أجل هذا يشترط أن لا تُمس أصول الدين ولا يُجترأ على ما أنزله الناس في منزلتها من أصول العادات؛ وكل ذلك على ما فيه من القيود لا يتفق على أحسنه إلا لمن كان عقله من الذكاء والنفاذ كأنه قيد للمعاني والخواطر، فهو إطلاق لا يراد منه الإطلاق الأحمق كما ظهر في كتاب أستاذ الجامعة، بل تقيد الحقيقة التي لا سبيل إليها إلا من البصيرة، وما البصيرة أن تعمى عن الحق بشيء من العاطفة أو العصبية، ولا بشيء من الجهل أو ضعف الذهن، فإن هذين كهذين، ومذهب ديكارت كله تجده على أسماه وأبعده من الاعتراض وما يدخله من الشبهة في قوله تعالى: هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ وأنت فلا يذهبن عنك معنى «البصيرة» وأنها أذكى الذكاء وأسمى العقل وأقوى الخلق وأصح الطباع، وكل ما نفذ بك إلى الحقيقة المستكنة في حجبها وجنبك عمى النفس بدرجاته المختلفة، وهذه البصيرة كلمة واحدة ولكن كل وسائل الحقيقة واليقين منطوية فيها فهي من الكلام الجامع المعجز، ثم إنها قيد ينفي عن هذا المذهب من لم يكن قد جعلته الطبيعة من أهله أو لم تكن الطبيعة هيأته بالأسباب التي بها يطيقه وبها يحسن القيام عليه.

وأغرب ما في هذا القيد أنه يقيد السبيل أو المذهب بالدعوة إلى الحق خاصة ولا يطلقه في كل دعوة؛ إذ كانت النفس الإنسانية لا تتعاطى هذا الشأو البعيد إلا إذا قويت بالحق قوة بالغة وكانت من أسمى النفوس وأعظمها وأقربها إلى الانسلاخ من جلدتها الأرضية، وفيما عدا ذلك فهذا المذهب الفلسفي وهم وخيال وتجاوز لمقادير الحقائق في طلب هذه الحقائق، وأنت خبير أن الصدق إذا نقصت منه كلمة فغيرت من حقيقته استحال كذبًا، وإذا زيدت فيه كلمة فغيرت من حقيقته رجع كأنه نقص ولم يزد، وما الزيادة والنقص إلا من هوى أو جهل، والهوى بعض أثر النفس، ولن تجد التهمة على الحقائق إلا حيث تجد هذا الأثر.

وانظر ماذا يقول أناتول فرانس في مثل ما يزعم طه حسين أن ينتحله من مذاهب النقد المجرد، فهو يقول: «إن النقد لا قيمة له إلا قيمة الناقد، وهو كالنوع من أنواع القصص، وما مرجع القصة على الحقيقة إلا سيرة من يقصها، فبنفسه يكتب عن نفسه، وهؤلاء الذين يباهون بأنهم يضعون في فنهم شيئًا غير أنفسهم لا تعدهم إلا في المغرورين، ولا يكبرن منهم أحد في وهمك، فإن الإنسان لن يخرج من ذاته.»

ويقول الفيلسوف الإنجليزي جون تيودور مرتز: «إن هذه الطريقة التي يعكف عليها من يزعمون التجرد للحقيقة تنتهي إلى أن ينظر إليها الناظر فيراها طريقة لم يبتغِ أهلها أن ينطلقوا من قيود التقليد، بل هم خدعوا أنفسهم أو خدعتهم فظنوا أنهم أحرار فيما صنعوا وما كانوا قط إلا مقيدين بخيالهم مستسلمين لوهمهم الذي يتحكم فيهم التحكم كله.»

ونحن لم نقل في طه حسين إلا هذا، فهو يتوهم على التاريخ وعلى الحقائق، ثم يتسبب بالوهم إلى الحكم؛ وهو يطلق لنفسه كل قول عرض له ثم يجعل ذلك من العلم ويُكْرِه العلم على قبوله، وقد يكون جاهلًا بالخير وأصله، ومع ذلك يقول: صدِّقوني وكذِّبوا الناس، وتراه سقيم الفهم ضعيف التخريج ثم يأبى إلا أن تكون الأذهان كلها على أساس من فهمه، وهو بعدُ خبيث ملحد مستهزئ يقلد أناتول فرانس في السخرية والمعري في الإلحاد، على بعد ما بينه وبينهما، ثم لا يريد إلا أن تكون نفسه هذه روح التاريخ الإسلامي فإن امتنع أن يكون التاريخ قد جاء منه؛ إذ كان قد سبقه في الوجود لم يمتنع أن يُخرج هو حقائقه وفلسفته مطبوعة بطباعه زائغة بزيغه، فلا يأتينا إلا بما هو من جنسه، ولا يُخرج لنا غير المضحكات التي لا تليق إلا بأمة من أمثاله، ولقد والله هان تاريخ لا يصحح ولا يحقق إلا بمثل طه حسين، ولقد والله ذلت أمة لا يكون القول في تاريخها إلا لمثل «عارورة الجامعة»٣ كما سماه الأستاذ وحيد بك.٤

وسنأتيك الآن بمضحكة عجيبة من مضحكات دروس الجامعة المصرية؛ فقد تكلم أستاذها عن القصص عند المسلمين؛ ليثبت أنه من أسباب الوضع في الشعر، فزعم في صفحة ٩٢: «أن الأدب لم يُدْرَسْ في العصور الإسلامية الأولى لنفسه، وإنما دُرس من حيث هو وسيلة إلى تفسير القرآن وتأويله واستنباط الأحكام منه ومن الحديث، وكان هذا كله أدنى إلى الجد وألصق به من هذا القصص الذي كان يمضي مع الخيال حيث أراد ويتقرب من نفس الشعب ويمثل له أهواءه وشهواته ومُثُله العليا، فليس غريبًا أن ينصرف عن القصص أصحاب الجد من المسلمين.» انتهى.

قلنا: وهذا عجيب جدًّا من أستاذ الجامعة، فإن معناه أنه لم يشتغل بالقصص إلا أصحاب الهزل والرقاعة، ونحن نقرر أنه لم يكن يقص في أولية هذا الفن الإسلامي إلا أصحاب الجد من المسلمين وبه عُرفوا وبهم نشأ وبفصاحتهم نبغ، وهذا الحسن البصري كان أشهر قاص في زمنه، وهو من سادات التابعين وكانت أمه مولاة لأم سلمة زوج النبي وكانت أم سلمة ترضعه أحيانًا؛ وقد قالوا: إنه جمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة. وقال أبو عمرو بن العلاء: إنه ما رأى في عصره أفصح منه. ولكن أستاذ الجامعة يخلط في معنى القصص والقاص؛ لأنه يريد بعد هذه العبارة التي كتبها أن يأخذ إسكندر دوماس صاحب القصص الفرنسية المعروفة — وهو من أكبر المزورين والمدعين والمنتحلين — فيقحمه في التاريخ الإسلامي ويشبه به علماءنا كما سيأتي بعد، فيجعل القصص بذلك روايات وخيالات، أو كما يقول: «أهواء الشعب وشهواته.»

ثم إننا نقرر له أن القاص لا يسمى قاصًّا عند المسلمين إلا إذا كان يقص للتعليم والوعظ وللتذكير بالآخرة والتزهيد في الدنيا وحفظ الروح والخلق ونحوهما، وأن أساس هذا الفن كان تحريض المؤمنين على الجهاد والترغيب فيما عند الله وإيثاره على الحياة فكان مرجع القاص في قصصه إلى التفسير والحديث والحكمة وما تناوله من أخبار الماضين وما لا حرج عليه في وضعه مما يراد به غرض من تلك الأغراض، وقد قرروا أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، فكذلك القصة الموضوعة يؤخذ بها في الوعظ دون التاريخ؛ لأنها إنما وضعت لذلك دون هذا؛ وما نشأت أهواء الشعب في القصص إلا بعد أن تعاطاه الجهال المقتحمون عليه من غير أهله وجعلوه من عملهم للحياة والعيش، ومع هذا فأمثال هؤلاء يعرفهم العلماء من أول التاريخ ويعدُّون قصصهم بدعة ويحذرون منهم كما يحذر أهل كل علم من الواغلين عليه.

وبعد أن ذكر الأستاذ مصادر القصص على زعمه قال: «إن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يَزِنْه الشعر من حين إلى حين» — كذا، وإنما الحين الزمن — وضرب مثلًا بألف ليلة وليلة وقصة عنترة، ثم قال: «وإذن فقد كان القصص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حد لها من الشعر يزينون بها قصصهم ويدعمون بها مواقفهم المختلفة.»

فتأمل بالله كيف يقاس أول الزمن أيام بني أمية على آخر الزمن أيام قصة عنترة؟ ونحن نقرر للشيخ أن القصص أبعد أنواع الكلام عن اجتلاب الشعر وعن الحاجة إليه ولا يدخله منه إلا مقادير قليلة حيث يراد الشاهد والدليل، فسبيل الشعر في هذا سبيله في غيره من فنون الأدب جميعًا، وإذا وضع القاص شعرًا أو وُضع له شعر فإنما يكون قليلًا على جهة التظرف وليستروح إليه من الجد ويعلل به من يقص لهم استجماعًا للنشاط فهذه واحدة، والثانية أن يقصد إلى الإغراب في الخبر الذي يقصه ليقال: إنه واسع الحفظ. وهذه كانت سبيل الرواة أيضًا فيما وضعوه من الشعر، والثالثة أن يكون القاص قد وعظ ويريد المبالغة في التأثير فيُجري في كلامه قليلًا من العشر كما تتغرغر الأعين ببعض الدمع؛ وليس غير هذه، ففي أيها تجد المقادير التي لا حد لها؟

ثم يقول الشيخ طه: «وأكاد لا أشك في أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يستقلون (يريد يقومون) بقصصهم ولا بما يحتاجون إليه من الشعر، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم من الأحاديث والأخبار ويلفقونها، وآخرين ينظمون لهم القصائد (صارت قصائدَ لا أبياتًا ومقاطيعَ) قال: ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض؛ فقد يحدثنا (كذا) ابن سلام أن ابن إسحاق كان يعتذر عما (كذا) كان يروي من غثاء الشعر فيقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتَى به فأحمله، فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله فمن هؤلاء القوم؟» انتهى خلط الرجل.

وهذه عجيبة من عجائب الفهم، فإذا قال ابن إسحاق: إنما أوتى بالشعر فأحمله. وكان ابن إسحاق من المعروفين بالكذب، لم يكن كلامه عند طه إلا صدقًا، ثم لم يكن معنى كلامه إلا أن قومًا يدقون عليه بابه ويهزءون به ويقولون: يا ابن إسحاق خذ هذا الشعر واروه، ومن ترى يكون هؤلاء المجانين الذين يُعْنِتُون أنفسهم ويكدون الذهن ويتبعون الخاطر في عمل الشعر ليسمعوه بعد ذلك مرويًّا لعاد وثمود وفلان وفلان ممن هلكوا وبادوا؟ إذا كان ابن إسحاق بهذه الغفلة وجب أن لا يصدق ولا يؤخذ كلامه مأخذ النص ألبتة.

على أن عبارة ابن سلام هكذا: «وممن هجَّن الشعر وأفسده وحمل (يعني روى) منه كل غثاء: محمد بن إسحاق، وكان من علماء الناس بالسِّيَر، فقبل الناس منه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر إنما أوتى به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرًا، فكتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط … إلخ.»

فأنت ترى أن الكلام يدور على تهجين الشعر وإفساده، ومثل هذا لا يستقيم في العقل أن يعتذر منه ابن إسحاق بقوله: لا علم لي بالشعر، إلا إذا كان رديئًا فاسدًا وكان من ساقط الكلام وما لا يجوز على أهل البصر بالشعر، فإذا كان على هذه الصفة فلم لا يكون من عمل ابن إسحاق الذي لا علم له بالشعر ويكون العذر تلفيقًا من كذبه؟ وهب أن هناك قومًا يصنعون له الشعر ويأتونه به، فيبقى أن ابن إسحاق ليس أعجميًّا؛ بل عربيًّا بليغًا؛ وكلامه في السيرة من الطبقة الأولى؛ فمن كان بهذه المنزلة وكان في حاجة إلى الشعر وجب عليه أن يستجيد له، فلم يهمل أن يختار لعمل الشعر شعراء وهم كثيرون فيأتونه بالجيد لا السفساف، وإذن فلا يكون ما يحمله غثًّا ضعيفًا؛ وإذن فلا وجه لأن يعتذر منه بقوله: لا علم لي بالشعر. فإن قلت: إنه كان بليغًا يميز جيد الكلام من رديئه، وكان هو الذي يصنع الشعر الهجين الفاسد وجب أن لا يرضاه لمكانه من الضعف. قلنا: هذه شيمة العلماء، حتى إنهم جعلوا شعر العلماء طبقة على حدة، وهم يتسمحون في الرديء من شعرهم؛ لأنهم لا ينافسون به أحدًا ولأنهم غير معدودين في الشعراء.

وطه حسين نفسه يقع في مثل هذا، فهو يميز الشعر؛ وإن له لشعرًا في منتهى الركاكة سنطرف القراء بشيء منه في بعض ما يأتي.

فهما اثنتان في تأويل خبر ابن إسحاق لا ثالثة لهما، وكلتاهما نقض للأخرى، وكلتاهما هدم على أستاذ الجامعة ودليل على سوء فهمه.

وهنا نمسك القلم خمس دقائق لنضحك من الجامعة كما نضحك من شارلي شابلن، الممثل الهزلي المشهور؛ فقد كشفت الجامعة المصرية عن آثار مصنع إسلامي عظيم للتلفيق والكذب رؤساؤه العمال من القصاص والعمال فيه طائفتان عظيمتان إحداهما لتلفيق الأخبار والأخرى لوضع الشعر، وكلما اجتمع مقدار من إنتاج المصنع أرسل إلى الأسواق، وذلك حيث يقول طه في صفحة ٩٦: «أليس من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب، إنما كان كل واحد منهم (تأمل) يشرف على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النظام والمنسقين، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم، وأذاعوه بين الناس، ومثلهم لي هذا مثل القاص الفرنسي المعروف «إسكندر دوماس الكبير.» ا.ﻫ.

ولكن يا سيدنا ومولانا، أنت تعلم أنه كان من الرواة والعلماء والمتكلمين قوم متعصبون على العرب قد نحتوا أَثْلَتَهُمْ نحتًا، كأبي عبيدة صاحب كتاب المثالب الذي هتك فيه العرب وتناول أصحاب رسول الله ثم علماء الشعوبية؛ ثم متكلمي الزنادقة وأدبائهم، وكانوا كلهم معاصرين للقصاص الذين تتكلم أنت فيهم؛ فكيف سكتوا ولم يفضحوا العرب وتاريخهم وأدبهم بهذا المصنع العجيب، وكيف غفلوا كلهم عنه وتركوه لك لتكشفه بعد ألف ومائتي سنة؟! أيكون سكوتهم عن ذكر ذلك إلا دليلًا قاطعًا على كذبك أنت فيه؟

النصَّ النصَّ إن كان عندك رسم المصنع وحجته الشرعية، وإلا فاستُرْ على نفسك يرحمك الله!

١  لعل المعري أراد فلسفة هذا المعنى حين قال عن نفسه:
عمى العين يتلوه عمى الدين والهدى
فليلتي القصوى ثلاث ليال
٢  للكاتب الفرنسي شارل شومان مقال أثبت فيه أن ديكارت أخذ المبادئ التي بنى عليها مذهبه من الإمام الغزالي، وقابل الكاتب بين ما في كتاب «المنقذ من الضلال» للغزالي وما في «رسالة الأسلوب والتأملات» لديكارت، وتكاد العبارات تكون واحدة، والغزالي قبل ديكارت بخمسة قرون ونيف.
٣  نال الأستاذ طه حسين ألقابًا كثيرة من الأمة؛ منها: إبليس الجامعة، وبومة الجامعة، وفيضة الجامعة، وعارورة الجامعة، وأبو جهل الجامعة، وغيرها: أما هذه الجامعة فظهر أنها أبعد في الموت من أن يصل إليها صوت من أهل الدنيا.
٤  قلتُ: يعني السيد وحيد الأيوبي عافاه الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤