ذو الأقفال

نحن نعرف أن الأستاذ الفاضل مدير الجامعة رجل صلب مستغلق كالأبواب الحصينة بعضها من وراء بعض، إن أنت عالجت بابًا منها فانفتح لك بعد الكدِّ والعناء وطول المزاولة قام من دونه باب آخر فاضطرك إلى مثل ما كنت فيه واستأنفتَ ما فرغت منه، فما تظفر من الرجل بطائل؛ لأنه فيلسوف منطيق أريب مطلع يرجع من طبعه الذكي إلى مثل كتب الفلاسفة، ومن كتب الفلاسفة إلى مثل طبعه الذكي، فهو أبدًا متحذر مستعد، ولا تبرح أقفاله الفلسفية على مدِّ يده، فإذا هو وضع الباب من أبوب الكلام بينك وبينه تناول القفل والقفلين والثلاثة واستغلق وتعسَّر، فهو في الرجال كالشاذ في القاعدة؛ أما القاعدة فتستفيض في كثير، وأما الشاذ فهو قاعدة نفسه.

ولنا بالأستاذ صحبة قديمة، فما نعرف إلا أنه رجل منصف، ولا نظن فيه إلا خيرًا، ولما أصدرنا الجزء الأول من «تاريخ آداب العرب» كتب عنه افتتاحية «الجريدة» وقال لنا بلسانه: إنه قضى أسبوعًا يخطب مجالس العاصمة في هذا الكتاب؛ وكان عمله وقوله «وسبب آخر» مما أغار تلميذه الفاضل الدكتور هيكل فاستقبلنا يومئذ بمحبرته ونضح الكتاب بمقالتين من العطر الأسود، لم نردَّ عليهما إلى اليوم، وهما في كتابه الأخير الذي سماه «أوقات الفراغ» فيحسن بالقراء أن ينظروا فيهما؛ لأنا نعجب من الأذكياء بذكائهم ولا نبالي ما يصيبنا منهم؛ فإن الصدور تجيش والطباع تغلبنا وفي الناس ما فيهم، ونحن إذا أمِنَّا الخطأ من نفسنا لم يضرَّنا أن يخطئ الناس فينا؛ ولقد كلمَنا صديقُنا الأستاذ حفني بك ناصف في الرد على هاتين المقالتين، فقلنا له: متى تم بناء — الهيكل — ظهر الحائط المنحرف! وكان الهيكل لا يزال يبنى!

نكتب هذا لأن أستاذًا كبيرًا من مدرسي الأدب العربي زعم لنا أن فكرة طه حسين التي يعمل لها في الجامعة هي فكرة الأستاذ مدير الجامعة، وأن طه ليس في كبير ولا صغير، وإنما هو كالبوق ينسب إليه الصوتُ، والصوتُ من غيره، قال: وإن طه يدل بمنزلته من الأستاذ فهو تلميذه وصاحب رأيه وحامل فكرته، وإن الأستاذ لذلك أخذ طه في الجامعة وردَّ سواه، ولبعض ذلك يدفع عنه كما يدافع ذو العقيدة عما اعتقد؛ فالأمر بين الأمة والجامعة في هذا الخلاف الذي شجر بينهما أشبه بالمصادمة بين دينين لا بد من غلبة أحدهما، ثم إذا غلب عم؛ فالأمة على مرحلة إلى جاهلية أو إسلام؛ وما ثم شيء اسمه حرية التفكير أو استقلال الجامعة، إنما هذه ألفاظ سياسية جدلية توضع على مقادير ظاهرة وعلى مقادير أخرى باطنة؛ ليكون الظاهر مما يلي القول والباطن مما يلي العمل، ولولا أن ذلك كذلك لكان في بعض غلطات طه حسين ما يقذف به من فوق الحائط عجلة منهم في إخراجه والتبرؤ منه؛ إذ ينقطع صبرهم قبل أن يفتح له الباب؛ ولكن أنى لهم وطه في ذلك فكرة لا رجل، وقد عرف من قبلُ سرَّاء هذه العاقبة وضرَّاءها، وما ألقيت القنبلة من هذا المدفع وهي محشوة كفرًا إلا لتهدم الإيمان القائم، ومثل طه حسين ليس من مدافع العيد، بل هو مدفع ميدان، قال: وعندنا قوانين كثيرة، ولكن قانون الجامعة المصرية المعروض على البرلمان وُضع لكسر القوانين والتفلُّت منها!

عندنا قانون يسمونه قانون «المحلات المقلقة للراحة» ونحن الآن في حاجة إلى قانون يسمونه قانون «المحال المقلقة للضمير». انتهى كلام الأستاذ، وأنا لا أعتقد هذا ولا أقول به، وإن كنت ألمح فيه لمحات، ولكن ترى ما سر هذا الصمت العجيب في مدير الجامعة فلا يجيب الأمة ولا يعتذر إليها ولا يعبأ بها ولا يعرف لها حقًّا، وبينا هي تتلظى عليه وعلى جامعته وعلى أستاذ جامعته نرى في يده مروحة وفي يدي طه مروحتين.

والعجب من هذا الأستاذ الفاضل كيف أصبحت الحوادث تنقله من منزلة إلى منزلة وهو يخف في يدها ولا يثقل به رأي ولا يرجح له عقل، وما يزال يتنقل في هذه الحادثة من سيئ إلى أسوأ، وما زال يضيق على نفسه ولا يفسح له ذكاؤه، فكان في غلطة صوابها قريب والعذر منها سهل والقول فيها يسير، ولكنه أصر عليها؛ ومن نكد الدنيا أن الغلطات كالذباب: تكون الواحدة منها فإذا هي بعد قليل صارت ألفًا فما كان من إصرار مدير الجامعة إلا أن جعل للتهمة جذورًا وفروعًا وكانت نبتة لا تتماسك، وأنا لا يبلغ من ذكائي أن أنفذ إلى ذلك السر أو أكْتَنِهَ حقيقته، فإني رجل بليد إذا تطرَّق بي الفكر إلى صلابة كصلابة الأستاذ لطفي السيد من أجل حُمق كحمق طه حسين.

غير أن نسختي «من كليلة ودمنة» ليست بليدة؛ فقد رجعت إليها الساعة فإذا الماكر دمنة يقول: ولا يغرنك أنك على ثقة من غفلة مَن حولك، فإنك إن لم تكن على مسافة بعيدة من عاقبة غفلتهم فأنت على مسافة دانية من عاقبة مكرك، وإن القدر إن خلاك فلا يفلتك من يمينه إلا ليأخذك بيساره، فلا تَسْتَنِمْ إلى مسافة ما بين القبضتين إذا كان ما من الوقوع في إحداهما بُدُّ.

وقد كان يقال: إنه لا أحمق من الغفلة في اثنين: الضارب في الصحراء تلفحه شمسها ويتنفس النار من هجيرها، فيغتسل بما يحمل من الماء فيتبرد ويستروح ويدفع عنه القيظ، وقد أنسته اللذة العاجلة ما أمامه وعمي عن الصحراء ومعاطشها وظن أن قد غلبها في راحة نفسه والترفيه من أمره، فلن يكون منها بعد أن شربت ماءه في موضع إلا أن تشرب روحه في موضع آخر، وغفلة الماكر الغاشِّ يطمئن إلى دَحْسِه وغشه وهو يعامل فيهما أمة كاملة، فيوشك أن يلقى ما لقي الرجل ذو الأقفال حين زم بأقفاله على فضيحتين فكانت أقفاله الفضيحة الثالثة.

قال كليلة: وكيف كان ذلك؟

قال دمنة: زعموا أن رجلًا حازمًا فيلسوفًا كان في بلد كذا، وكان مخلصًا للناس ما يبرح لهم حق يقضيه، فكتب وألَّف زمنًا، ثم خطب وتكلم حينًا، ثم حل وعقد في حبال السياسة، ثم إنهم أنشئوا مدرسة لهذه الأمة فلم يجدوا غيره يتولاها؛ «إذ كانت الآمال فيها على قدر الثقة به، وأنه كان رجلًا سليم دواعي الصدر طيب النفس حسن الظن بمن يستخلصه، وكان من جماعته ومريديه رجل مغرور ينتسب في آرائه وعلمه إلى هذا الأستاذ الجليل، كما تكون النواة في الثمرة الناضجة، فهي مرارة تحت حلاوة، وهي من أثر طين الأرض في أثر ماء الجنة، وهي شيء لولا موضعه من الثمرة لم يكن له موضع إلا بحيث يُنبذ ويهمل، ولكن الأقدار، هي وضعته لذلك المكان فكأنه غلطة يغطيها الصواب.

ثم إن هذا المغرور سعى سعيه وتحمل على الرجل الطيب بشفاعة غفلته الفلسفية، فإنه يقال: إن لكل فيلسوف خصالًا يفوق بها الناس، ولكنها لن تجتمع له إلا أحدثت فيه خصلة يفوقه الناس بها، ما من ذلك بدٌّ؛ لأن المعنى الإنساني المحض لم يخلص في أحد غير الأنبياء، فالإنسانية فيهم مصفاة وفيمن عداهم كالماء: تُصفيه وتتركه في سقائه؛ فإن لم ينشئ التَّرك فيه كدرًا أنشأ فيه معاني الكدر، فأنت واجد بعدُ في قراراته من الهوامِّ والجراثيمِ، وهي معاني ما يحمله الماء العكر من الأخلاط والغبار والطين أو هي شر منها، ولولا حكمة الله هذه وأنه لا بد لكل فيلسوف من الغفلة والسقطة، وأن العلم لا يدفع من ذلك نوعًا إلا ليجلب نوعًا آخر، لما رأيت عالمًا أسقط نفسًا من جاهل، ولا فيلسوفًا يلعب به العامة في بعض أمور دنياه مما يتعامل عليه الناس كالبيع والشراء وتعاطي أسباب العيش.

قال دمنة: ثم فاز المغرور وسهل له الفيلسوف تسهيلًا عجيبًا، فإذا هو أستاذ في تلك المدرسة، فلما استوى له المنصب قال: ما أحرى الناس جميعًا أن يكونوا مغفلين إذا كان الفيلسوف صاحبي كما أرى، فلأصنع له من العلم على نحو ما أدخلتُ عليه من الغش، فإنه لا يُحسن مما أقول شيئًا، وهو رقيق الدين كما هو رقيق النفس، وما أراني معلنًا عن نفسي بشيء كما يُعلن عني الكفر، فيقتحمني الدين وتردُّ عني الفلسفة، فأجمع خلالًا ما اجتمعن لأحد قبلي، وأكون كالراية يسقط الناس من حولها وهي قائمة.

ثم إنه انحط العلم والأدب وسفَّه كلَّ من لا يجهل جهله ولا ينعب نعيبه، وكان كالغراب الذي زعم أنه شاعر كاتب فيلسوف، فلما سألوه في الشعر قال: «غاق» فسألوه في الكتابة قال: «غيق» فسألوه في الفلسفة قال: «غوق»! فقيل له: فلسنا معك إلا في غاق وغيق وغوق! فأين الشعر والكتابة والفلسفة؟! قال: قطع الله ألسنتكم أيها الناس، فلو أن الله بدلكم بها لسان غراب فصيح مثلي لوعيتم ما أقول، ولكنكم قوم تجهلون!

قال دمنة: فلما غوَّق أستاذ المدرسة ذلك التغويق المنكر وأضحك الناس منه ومن مدرسته وعلوم مدرسته، وطارت السخرية ووقعت، ثم طارت ووقعت، قال ذلك الفيلسوف: لقد احتجت الآن إلى عقلي وذكائي؛ فإن هذا الأحمق أنا انخدعت به ثم خدعت به الناس، فأنا من فضيحته الواحدة بين فضيحتين، وهو مني بمنزلة الذيل من الجواد، إن سبقتُ سبق وما جرى ولا تعب ولم يعانِ شيئًا مما أعانيه وليس إلا أنه لصيق بي! ولقد أوقعني حمقه في هذه المزلة، فلن تحملني قدماي إلا إذا جعلت ساقيهما عمودين من حجر واستمسكت في الأرض بجذور تجعل أصابع قدمي عشر شجرات.

ثم أقوم بعد ذلك قومه جبل راسخ لا قعدة له إلا بشق الأرض من تحته وأنا بعدُ ذو الأقفال، ما من كلمة تُفتح علي إلا ولها عندي قفل، فجهل هذا الأحمق قُفْلُهُ «حرية التفكير»؛ إن فتحوا بذاك أقفلنا بهذا، وكُفْره نقفل عليه «بحرية البحث» وغروره الشنيع ما له قفل ولكن لعل قولنا: إنهم يحسدونه يصلح قفلًا، وسقوط المدرسة تجعل له قفلًا من «سنة تجربة» وسوء النتيجة لا يغلقه عنه إلا قفل «التخبط في البداية» وتدخل الحكومة لتلاقي الأمر قفله «التفكير تحت وصاية الغير» قال: وجعل ذو الأقفال يضع لكل مُخزية قفلًا، فضج الناس وفزعوا، وكان لهم دارُ ندوة، وكان فيها زعيم يغمُرُ الناسَ جميعًا بذكائه، وكأنما أنشأ فيه القدر من أسباب القوة على قدر حاجة الأمة كلها، فما تراه في لسانه وبيانه وذكائه وقلبه وهمته وعمله إلا قلتَ من ههنا ينبعث التيار الإنساني ليعبَّ به البحر كله في هذه الأمة!

قال: وجمع الفيلسوف أقفاله ووضع عليها كلها قفلًا من معدن لا تذيبه النار، اسمه «استقلال المدرسة» وبعث بها إلى دار الندوة ليُقفل بها على أفواه الناس وعقولهم، فما هو إلا أن رماها ذلك الزعيم بنظراته وأدارها في يده حتى جعلت تتهاوى وتتفلق، وإذا هي تنماث كما ينماث الملح ألقي في الماء، وكان كل قفل لا يسقط إلا فتح عن سوأة أو غلطة أو مخزية من المخزيات، فقال الفيلسوف: إنَّا لله! ما يصنع العناد إلا صنعة واحدة أولها الحيلة وآخرها الخيبة، ولقد كنت عن هذا في غنى لولا أن هيجني ذلك الأحمق وغلبني على الرأي بمثل ما يغلب به الطفلُ أباه المخدوع؛ فقد والله فضحني بنفسه، ثم عاد ففضحني بنفسي، وأسقطني بجهله مرة وبعلمي مرة! ولقد سخرتْ مني الحوادث فهيأت لي أن أكون ذا الأقفال، حتى إذا صرت ذا الأقفال رمتني بذي المفاتيح!

•••

لا جَرَم أن الأستاذ الجليل لطفي السيد قد تحول كل منطقه خيالًا كالذي يظن أن أصابع قدميه عشر شجرات، فلسنا نعرف له في حادثة الجامعة رأيًا صحيحًا ولا حجة قوية، وقد أصبح إذا تكلم أخطأ منطقه، وإذا سكت أخطأ سكوته، وما ذلك من ضعف لسان ولا فَيَالَة رأي ولا تهافت منطق، ولكنه يدافع ما لا يُدفع، ويتولى رجلًا وقدت عليه الجحيم ولعنه الله والملائكة والناس؛ وماذا يُثلج لوح الثلج إذا لم يقع إلا بين ألواح الفحم المضطرمة؟

كان للأستاذ لطفي السيد من علمه ورأيه وبعد نظره ما يعصمه أن ينزل نفسه هذه المنزلة، وما هو بشاعر ولا أديب ولا صاحب لغة ولا مؤرخ أدب فيعيبه أن يكون قد انخدع في طه حسين ويزري به سقوط هذا الشيخ أو الخواجة ويلزمه من كل غلطة يقع فيها غلطتان إحداهما من أنه أديب، والثانية من أنه مدير للجامعة.

إن الأستاذ رجل قانوني وكاتب فاضل ومصلح اجتماعي، فما له ولطه وعلم طه؟ لكنه أبى أن يكون مديرًا للجامعة في عمل ليس له فيه إلا أن يكون مديرًا؛ ومن هنا رأينا العالم الكبير يحتج بأوهى الحجج، ويتوكأ على كلمات من القش، كحرية التفكير، والتفكير تحت الوصاية، وهدم الجامعة … إلخ إلخ، ويقول هذا وهو يعلم أن أحدًا لا ينازعه في هذه المعاني، وإنما النزاع في جهل الجامعة وسقوط الجامعة وكفر الجامعة وفوضى الجامعة، فيدع ما نحن فيه ليجرنا إلى ما لسنا فيه، كأنه لا يعلم أن مثل هذا يعد في أساليب الكلام من شر ما يقع فيه مَن توجَّهتْ عليه الحجة ولزمه الدليل، فيظن أنه يتخلص به وهو لا يزيده إلا تورطًا ولا يزيد الناس فيه إلا بيانًا.

أنا أخطأت في رأي من العلم فتنكر أنت عليَّ وتردني، فتأخذني الحمية، وأُكبر ذلك منك ويشق على نفسي أنا أيها الأديب الكبير أن يقال عني: أخطأ وجَهِل، وأن يشيع ذلك في الناس فيكون سبة الأدبي غميزة فيَّ؛ فأدع رأيي ورأيك وصوابك وخطئي وأقول: إنما أنت حسود، وإنما تتحامل علي، وإنما هذا من لؤمك وضغنك، وأذهب أتكلم في الحسد وما يتصل به، وأتناول المعاني من أصولها البعيدة، ولا أزال أبتعد عما كنا فيه فما أصنع شيئًا إلا أن أضيف إلى عجزي عن الحجة عيب المكابرة فيها؛ وإلى جهلي بالرأي جهلًا آخر بأساليب البرهان، وأمد في النزاع مدًّا كلما طال بيني وبينك أَخرَج من سخرية الناس بي ما كنتُ منه في أسبغ ستر وأوسع عافية، ولا أزال ألجُّ وأتهافت، ولا يزال الناس يضحكون ويسخرون، فإذا أنا من الغلطة الواحدة فيما لا أحصي، وإذا هي ألوان كثيرة بعد أن كانت ولا لون لها، وأتكلم ألف كلمة فلا أجيء إلا بألف خطأ، وتتكلم أنت واحدة فتجيء بألف صواب؛ لأن كل غلطة في حمقي وعنادي وجهلي تنحاز إليك فتعدُّ في صوابك، وإذا الناس بيننا على الأصل الذي كنا فيه من الرأي العلمي لا على الأصل الذي نزعتُ أنا إليه من الكلام في الحسد والضغن وما يخرج منهما.

نقول للجامعة: الأدبَ والدينَ والتاريخَ، وهي تعرف أننا من ذلك في موطن محاماة، وأنه لا منفعة لنا ولا غاية إلا الإصلاح، وأن الأمة بيننا وبينها، وأن هذه الأمة معنا وعليها، فتلوذ الجامعة بالصمت عن كل هذا ولا تتكلم إلا في حرية التفكير وتوقي الهدم وكذا وكذا، ولو علمتْ لعلمت أنها ما تهدم نفسها إلا بمثل هذا، الجامعة ليست مديرها ولا أستاذها وما إن لها في مصلحة الصحة شهادة ميلاد وشهادة وفاة، وهي باقية وهما زائلان، ما لم يوفق إليه مدير الجامعة اليوم فعسى أن يوفق إليه مدير آخر والأمور بحوادثها مرهونة والأشياء بأوقاتها، والطبيعة بعدُ على مساقها الذي تندفع فيه، فإن أكرهناها على غيره لم نفسدْها وأفسدنا أعمالنا وأخطأتنا الفائدة منها.

وكل هذا يعرفه الأستاذ مدير الجامعة، بَيْدَ أنَّ عمله يُشعر بأنه يعتقد أن الجامعة هي هو، وأنه إن فاتها صنيعه لم ينفعها صنيع أحد من بعده، فكأنها فكرة بعينها ليس لها غيره وغير طه، فإذا لم يكونا لم تكن؛ لأن غيرهما لا يعمل فيها ثم، كأن الفكرة مع ذلك لا تُؤمَن عليها الأمة ولا الحكومة، ولا تستقيم مع إشرافهما؛ إذ يرى الأستاذ المدير أن تدخل الحكومة هَدْمٌ هدم هدم، ولن يكون هذا الرأي صحيحًا، بل لا مخرج له في التأويل إلا إذا كان تدخل الحكومة هدمًا للفكرة الشخصية، وإلا فجامعة مَن هي؟ وكيف تنشئها الحكومة لتهدمها؟ وماذا كانت قيمتها قبل أن تستلحقها وزارة المعارف؟

إن الذي يعلن أن تدخل الحكومة «هدم» لأمره لن يمكنه إدانة الحكومة بأفصح ولا أبلغ من هذا الكلام إلا إذا كانت هذه الحكومة قائمة في رأيه على عداوة الأمة والكيد لها وإفساد أعمالها النافعة، وما هكذا يَحْسُن أن يعلنَ مدير الجامعة المصرية عن الحكومة المصرية، ولكن العجيب أن الأمة هي التي تطلب تدخل الحكومة، ومدير الجامعة وحده هو الذي يأبى ذلك وينتحل فيه المعاذير الواهية ويضع له الأقفال الفلسفية.

فلقد صارت الأمة والحكومة جميعًا عدوتين للجامعة في رأيه، وهذا على أن الجامعة ليست له ولا هو خالد فيها، فلم يبقَ إذن إلا شيء واحد من شيئين: إما أن الأستاذ المدير هو وحده المخلص، وهو وحده ذو الرأي الصحيح، وهو وحده رجل الأمة كلها، وإما أن له وحده فكرة لا تقوم إلا به وحده ويريد تسخير الجامعة لها! أروني كيف يكون المنطق الذي يُخرج من هذين الرأيين رأيًا ثالثًا وأنا ألقي هذا القلم تحت «وابور الزلط» ولا أعود أكتب حرفًا عن الجامعة!

إن النواميس لا تعرف استثناءً ولا تخضع له، وإنما يتغير وصف الشيء فيتغير قانونه؛ هذا عاقل يُتَّهَمُ بعظيمة ويجنيها فيعاقب، وهذا معتوه يقترف إثمًا فيُترك، ولكل منهما حالة، ولكل حالة قانونها، ففي أي شيء يريد الأستاذ مدير الجامعة أن لا يكون للحكومة إشراف عليها وتدخُّل فيها؟ أهو أنشأها وهو يملكها وهو يرعاها؟ أم حين لا يكون هو في الأمة لا تكون للأمة جامعة؟! ألا يجوز في «التجربة» إلا وجه واحد من الجهل والفوضى والكفر، فإن قيل: جربوا الإيمان والتدقيق والنظام لم يكن ذلك شيئًا إلا عبثًا من العبث! ما هو وجه الاستثناء بعد الفضيحة والخزي وتبيُّن المكتوم، وبعد سنة كاملة في «التخبط» ولا بد من وجه للاستثناء إذا كان لا بد من قانون غير قانون الحالة التي أنت فيها، وإلا كان هذا فسادًا في أصل النظام وعكسًا للنواميس، وكنا فيه كالذي ينقض من ركن في بيته ليرمَّ صدعًا في ركن آخر منه، كأن كل ركن مستقل بنفسه مع أنها أربعة في خراب أحدها خراب جميعها؛ لأنها لا تراد لنفسها بل لما يُحمل عليها؛ ومرض الخراب لا يُعدي بيتًا من بيت ولكنه يعدي ركنًا من ركن.

ومتى اختلفت الجامعة المصرية والأمة المصرية واستحرَّ النزاع بينهما فما بقي في حكم العقل أنها جامعة كالجامعات، بل هي وحدة قانونية، كالأقلية في الأكثرية، فإن لم تكن فوحدة سياسية في الأمة كالجيش المحتل، فإن لم تكن فوحدة علمية كالطبيب في المرضى، فإن لم تكن فوحدة عقلية كالعاقل في المجانين؛ وكل هذا سبٌّ للأمة في ظاهره، وهو في الحقيقة سب للجامعة ومهانة.

ولكن الأمة بخير، وفيها أهل الحزم وأهل الرأي وأهل العقل؛ فما قيمة رجل أو رجلين أو بضعة رجال توظفهم الحكومة في الجامعة حتى يستبدوا بالأمة هذا الاستبداد ويتخذوا الجامعة مرتعًا، ويبلغ من غرورهم أن يسْخروا من ألف عالم من علماء الدين ويزدروا كل أدباء البلاد ويصرُّوا على ما فعلوا ويستكبروا استكبار إبليس ويهزءوا بالأمة ويلبِّسوا عليها ويزعموا لها المزاعم العريضة كذبًا وزورًا!

لقد نشرت جريدة السياسة أن هذه الجامعة التقية الصالحة اشترت كتاب طه حسين وانتزعته من السوق فلا يباع ولا يقرأ، وبهذا أسقطته إسقاطًا ذهبيًّا.

قالت السياسة: وقد رضي صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر بهذا الحل وسكت، فلم يبقَ من معنى لشكوى العلماء وذهابهم هنا وهنا.١ والسياسة ترمي شيخ الأزهر بالضعف في رأيه وعلمه؛ لأن ذلك إن صح فالشيخ يعلم أن طه لم يُسْتَتَبْ ويُجدد إسلامه، وأن كتاب إيمانه، الذي نشرته الجامعة إنما كان هزؤًا بالأزهر ومن فيه، ورميًا لأهل هذا المعهد الجليل بأنهم مستعبدون للحروف والكلمات لا ينفذون إلى أغراضها ودواعيها؛ وقد كتب في ذلك علامة الأزهر الشيخ يوسف الدجوي وسمَّى كتاب طه حيلة بلهاء لا تجوز إلا على أبْله!

وهل يجوز في رأي شيخ الأزهر أن تنفق الجامعة على تعليم الكفر من أوقاف المسلمين، ثم تعود فتنفق من هذه الأموال على شراء الكفر من صاحبه، وما هذا الشراء وما جدواه؟ ألم تعلم الأمة كلها بما في الكتاب بعد أن نشرناه ونشره العلماء أنفسهم في قرارهم الذي حكموا فيه؟ إنما خسرت الأمة مرتين ليربح طه مرتين، وأُخذ الكتاب من السوق وبقي المؤلف في الجامعة، وما أهون السرقة مرتين على من يسرق مرة ما دام لصًّا بطباعه وأخلاقه!

ولكن أليس في شراء الجامعة الكتابَ ودفع ثمنه ما يومئ إلى اتجاه الإبرة المغناطيسية في هذه الجامعة، وأنها إلى الجهة الشخصية المحضة، ألا فنبئوني ما فائدة العدل فيما يسمى القانون إذا نحن لم نأمن الميل الشخصي فيمن يسمَّى القاضي؟

وإذا جعلنا شراء الكتاب قياسًا فقل لي أنت: إن الدجاجة قد باضت ورقة بنك، أقلْ لك أنا: لا ريب أن في جوفها مطبعة، قل لي: استقلال الجامعة، أقل لك: إنه حماية بعض الأساتذة فيها، قل لي: حرية التفكير، أقل لك: إنها حماية فكرة أثيمة، وهي كما ترى أرجوحة منطقية لها صندوقان، فلن تقول: إن أحدهما قد علا إلا لقنتني الجواب بأن الآخر قد سفل.

لسنا من أمر هذه الجامعة في صندوقين، ولا شخصين، إنما نحن في عمل له ما بعده؛ وقد قلنا للجامعة غير مرة: إن علم الأدب الذي تخرجه سيكون علم الأدب في الشرق العربي كله؛ فلم تفهم، فلما أفسدته أفسدناه عليها، ولو لم نفعل لكنا مجرمين آثمين؛ وتالله لهدم الجامعة أخفُّ ضررًا من هدم التاريخ؛ لأنها إن تُغلق اليوم تُفتح غدًا؟ ولكن التاريخ لو هدم فمن الذي يبني «هرم كيوبس» غير كيوبس؟

١  كذَّبها العلماء في ذلك وأعلنوا أن شيخ الأزهر لم يرضَ ولم يسكت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤