الثقافة العربية وما يُسمَّى ثقافة البحر الأبيض المتوسط١

١

سيداتي وسادتي

كلكم تعلمون بأن بعض الكُتَّاب والمفكرين في هذه المدينة — منذ مدة — يُكثرون من ذِكر اسم البحر الأبيض المتوسط، وينسبون إليه ثقافةً خاصةً وحضارةً خاصة، وصاروا يبنون على ذلك «نظريةً ثقافيةً» جديدة، ترمي إلى غاية سياسية صريحة.

ما هي قيمة هذه النظرية من الوِجهة العلمية؟ هل يوجد حقيقةً شيء يستحق التسمية باسم «ثقافة البحر الأبيض المتوسط» أو «حضارة البحر الأبيض المتوسط»؟ وإذا كان ذلك موجودًا حقيقة، هل يستحق العناية والاهتمام؟ وهل يترتب على أبناء هذا الجيل أن يلتفتوا إلى تلك الثقافة أو الحضارة، وأن يتمسكوا بها ويعملوا لأجلها؟

هذه هي المسائل التي وددت أن أتحدَّث إليكم عنها هذه الليلة.

إنني سأدرس هذه المسائل بنظرة علمية بحتة، بقطع النظر عما يترتب عليها من نتائج سياسية، وخطط عملية.

ولما كان البحث العلمي في أي موضوع كان، يتطلب قبل كل شيء تحديد الموضوع تحديدًا تامًّا لا يترك مجالًا للالتباس والإبهام، أرى لزامًا عليَّ أن أتساءل أولًا؛ ماذا يُقصد من تعبيرَيْ ثقافة البحر الأبيض المتوسط، وحضارة البحر الأبيض المتوسط؟

إن الشطر الثاني من هذين التعبيرين (البحر الأبيض المتوسط) من أسماء الأعلام التي تدل على شيء معيَّن ومشخَّص، وهو هذا البحر المعلوم الذي يتوسط العالم القديم، ويقع بين قارات أوروبا وأفريقيا وآسيا. هذا البحر الذي يمتد من هذا الساحل حتى جبل طارق من جهة، وحتى الدردنيل والسويس من جهة أخرى، وهو محدود بحدود طبيعية من جميع الجهات؛ فالمعنى المقصود منه لا يحتاج إلى التعريف والتوضيح.

غير أن الشطرين الأولين من هذين التعبيرين (أعني كلمتَي «الثقافة» و«الحضارة»)، هما من أسماء المعاني التي تدل على «مفهومات» ذهنية مجرَّدة، فلا تتحد بحدود مادية ثابتة، فتكون مطاطةً بطبيعتها. ومن المعلوم أن أمثال هذه الكلمات قد تُولِّد في أذهان المتكلمين والسامعين المختلفين معاني متباينة؛ ولهذا السبب إنها تحتاج إلى تعريفات واضحة، تُبعد عن الأذهان جميع احتمالات الالتباس والإبهام.

فلْتحدد إذن المعاني المقصودة من الكلمتين المذكورتين:

إن كلمة الثقافة تُستعمل الآن مقابلًا لكلمة اﻟ culture باللغة الفرنسية، وأما كلمة الحضارة، فهي تُستعمل عادةً مقابل كلمة اﻟ civilisation في اللغة المذكورة.

فيجدُر بنا — والحالة هذه — أن نرجع إلى ما يقال في تحديد هاتين الكلمتين؛ لتثبيت المعاني المقصودة من كلمتَي الثقافة والحضارة.

في الواقع إن كلمتَي اﻟ culture واﻟ civilisation ليستا من خصائص اللغة الفرنسية وحدها، بل إنهما مستعملتان في اللغتين الإنجليزية والألمانية أيضًا، مع شيء من الفرق والاختلاف في اللفظ والمعنى، غير أني أُرجِّح أن أحصر بحثي في استعمال الفرنسيين وحدهم، وأن أقبل التعريفات التي اتفق عليها هؤلاء، بقطع النظر عن المعاني التي يقصدها منها غيرهم؛ لأن فرنسا من دول البحر الأبيض المتوسط، وهي المقصودة الأصلية من نظرية «ثقافة البحر الأبيض المتوسط» في حقيقة الحال. فأعتقد أنني عندما أستند في هذا الشأن إلى آراء العلماء الفرنسيين أنفسهم، أكون قد اخترت أقصر السبل لإنهاء البحث والنقاش بصورة مثمرة، كما أنني أكون قد سلكت أدناها إلى ضمان الحياد الفكري خلال هذا البحث والنقاش.

فلنبحث إذن؛ ما هو المعنى المقصود من الثقافة والحضارة على رأي المفكرين الفرنسيين؟

كان «مركز الأبحاث التركيبية» — المؤسس في باريس تحت إدارة المؤرخ المفكر المشهور «هانري بر» H. Berr — قد خصَّص خلال سنة ١٩٣٠م أسبوعًا لدرس موضوع «الحضارة والثقافة»، وقد عرض خلال هذا الأسبوع خمسة من كبار الأساتذة آراءهم وأبحاثهم بتفصيلات وافية، وبعد ذلك ناقش العلماء الحاضرون هذه المعروضات مناقشةً شاملة.

إنني سأستند على نتائج هذه الأبحاث والمناقشات لتحديد مفهومَي الحضارة والثقافة:

إن كلمة civilisation الفرنسية استُحدثت خلال النصف الأخير من القرن الثامن عشر؛ أول كتاب استعملها كان قد طُبِعَ سنة ١٧٦٦م، وأول قاموس احتواها كان قد نُشِرَ سنة ١٧٩٨م. يظهر من ذلك أن عمر هذه الكلمة لم يبلغ القرنين بعد.

إنها اشتُقَّت من كلمة تعني «المدينة»، واستُعملت في بادئ الأمر للدلالة على عكس «البربرية والهمجية»، وكان يُفهم منها في الدرجة الأولى «الخصال المتولدة عن المعيشة في المدينة»، وكان يُظن أن هذه الخصال هي من حيث الأساس؛ «الرقة واللطف في المعاملة والمعاشرة».

غير أن المعنى المفهوم من هذه الكلمة أخذ بعد ذلك يتوسع ويتطور شيئًا فشيئًا، كلما توسعت وتطورت الأبحاث والمعلومات المتعلقة بحياة الأقوام، وصار يُفهم منها «تقدُّم البشر من الوجوه الخُلقية والفكرية والاجتماعية بوجه عام». ثم رأى المفكرون من الضروري تجريد المعنى من فكرة «التقدم» النسبية، عملًا بمقتضيات النزعة العلمية، وصاروا يستعملون الكلمة المذكورة للدلالة على الحالة الاجتماعية بأوسع معانيها، وأصبحوا الآن يقصدون منها؛ «مجموع الخصائص التي تنجم عن الحياة الاجتماعية». فيشمل مفهوم «الحضارة» بهذا الاعتبار جميع مآثر الحياة المادية والفكرية والخُلقية عند الأقوام، من علوم وصناعات وعادات وتشكيلات.

وأما كلمة اﻟ culture فهي أقدم استعمالًا، وأطول حياةً من الكلمة الآنفة الذكر؛ إنها تدل في حد ذاتها على زراعة النباتات كما تعلمون، ولكنها صارت تُستعمل مجازًا للدلالة على ما يجري لتنمية الأفكار وترقية الآداب أيضًا. غير أن هذا المعنى المجازي ما كان يُفهم إلا بوجود إضافة صريحة عندما يقال مثلًا culture de l’esprit أو culture des arts. وأما استعمال الكلمة بهذا المعنى بدون إضافة وتصريح، فهو من الأمور التي شاعت في القرن الأخير فقط؛ فهذه الكلمة تدل الآن على «أساليب التفكير والتحسس والعمل» من جهة، وعلى الأعمال التي تضمن إصلاح وترقية هذه الأساليب من جهة أخرى.

تلاحظون من هذه التفاصيل أن مفهوم الحضارة يتصل بمفهوم الثقافة اتصالًا وثيقًا، غير أنه يكون بطبيعته أوسع نطاقًا منه وأكثر شمولًا؛ لأن الثقافة تنحصر بالأمور الذهنية والمعنوية وحدها، في حين أن الحضارة تشمل الأمور المادية والوسائل المادية أيضًا.

هذا والحضارة تتمثل بأحسن الصور وأجلاها في العلوم والصنائع بوجه عام، وأما الثقافة فتظهر بأجلى مظاهرها في اللغات والآداب بوجه خاص.

ولهذا السبب نجد أن الحضارة تكون بطبيعتها قابلةً للانتقال من أُمَّة إلى أخرى بسهولة، وقابلةً للانتشار بين الأمم بسرعة. وأما الثقافة فتبقى خاصةً بكل أُمَّة على حدة، وإن أثَّرت ثقافات الأمم المختلفة بعضها في بعض قليلًا وكثيرًا.

إن هذه الخصائص تظهر لنا بوضوح أكبر عندما نقارن العلوم بالآداب؛ فإن العلوم لا تنتسب إلى أُمَّة من الأمم، لا يوجد علم خاص بالإنجليز وآخر خاص بالألمان، لا توجد هندسة روسية أو فرنسية، ولا فسلفة يابانية أو أمريكية، والمكتسبات والمكتشفات العلمية تنتقل من بلد إلى بلد، دون أن تحتاج إلى أي تحوير أو تكييف، فهي بهذا الاعتبار بمثابة ثروة بشرية عامة، معروضة على استفادة كل من يشاء.

والصناعات والمخترعات أيضًا لا تختلف عن ذلك كثيرًا في هذا المضمار، فإنها أيضًا قابلة للانتقال والانتشار بطبيعة الحال.

ولهذا السبب كثيرًا ما نشاهد أن علماء الأمم المختلفة يتشاركون ويتعاونون في الاكتشافات والاختراعات، تشاركًا مباشرًا أو غير مباشر، تعاونًا مقصودًا أو غير مقصود. إنهم كثيرًا ما يتممون أبحاث بعضهم البعض، ويستفيدون من اكتشافات بعضهم البعض، وتقدُّم العلوم والصناعات إنما يتم بفضل تلاحق الجهود التي يبذلها العلماء والباحثون من مختلِف الأمم في مختلف البلاد.

واسمحوا لي أن أذكر لكم مثالًا واحدًا لإظهار هذا التلاحق إلى العيان:

كلكم تعلمون أن اختراع التلغراف اللاسلكي قد تم على يد رجل إيطالي اسمه «ماركوني»، غير أن هذا الاختراع لم يتيسر في حقيقة الحال إلا بفضل سلسلة اكتشافات واختراعات سابقة، كان قد ساهم فيها علماء عديدون، منتسبون إلى أمم مختلفة.

يستند التلغراف اللاسلكي إلى الموجات الكهربائية التي تنتشر بدون أسلاك، وأما واضع «نظرية التموجات الكهربائية» فكان عالِمًا إنجليزيًّا اسمه «كلارك ماكسويل»، غير أن إحداث وإظهار هذه الموجات الكهربائية بصورة فعلية قد تم على يد عالِم ألماني هو «هرتز».

إن الآلات والوسائط التي اخترعها واستعملها هرتز، ما كانت تساعد على إظهار الموجات الكهربائية إلا من مسافات قريبة جدًّا، ولكن اخترع بعد ذلك عالِم فرنسي اسمه «برانلي» آلةً لاقطةً تساعد على إظهار الموجات الهرتزية، من بُعد عشرات الأمتار.

وفي الوقت نفسه أقدم عالِم روسي اسمه «بوبوف» على إجراء تجارب علمية لدرس الكهربائية الجوية، وربْط الأجهزة التي استعملها لهذا الغرض بعامود مرتفع من السلك المعدِني، يساعد على جمع والتقاط الموجات الكهربائية المنتشرة في الجو بصورة طبيعية.

وأما ماركوني فقد قام بتركيب وتنظيم هذه المخترعات المختلفة؛ إنه جمع آلة الإرسال التي كان اخترعها هرتز الألماني، مع آلة الالتقاط التي ابتكرها برانلي الفرنسي، مع العامود الهوائي الذي استعمله بوبوف الروسي؛ وأوجد بذلك «التلغراف اللاسلكي». مع العلم بأن البذرة الأصلية التي كانت أثارت هذه التجارب والأبحاث كانت من بنات تفكير ماكسويل الإنجليزي.

ولا تظنوا أيها السيدات والسادة أن هذه حالة شاذة، بل إنها حالة عامة، نستطيع أن نذكر لها كثيرًا من الأمثال.

ولهذا السبب قلنا إنَّ الحضارة لا تختص بأُمة من الأمم، بل تشمل عادةً عددًا كبيرًا من الأمم.

ويقول الأستاذ «مارسيل موس» (وهو من أعاظم علماء الاجتماع الذين لا يزالون على قيد الحياة من مدرسة «دوركهايم» الشهيرة في فرنسا): «إن الصفة الأصلية التي تميِّز الحضارة، هي قابليتها للانتقال والانتشار بين الأمم.»

وأما الثقافة فبعكس ذلك، تختص بكل أمة على حدة، وترتبط قبل كل شيء وأكثر من كل شيء بلغة الأمة وأدبها؛ لأن اللغة واسطة التفكير، فضلًا عن كونها واسطةً لنقل الآراء والأفكار، ولتبليغ الأحاسيس والانفعالات. وقد عبَّر العلماء عن عمل اللغة في تفكير الإنسان بقولهم: «التفكير بمثابة التكلم سرًّا، والتكلم بمثابة التفكير جهرًا.»

ومن الطبيعي والحالة هذه أن تختلف ثقافات الأمم باختلاف لغاتها وآدابها في الدرجة الأولى.

في الواقع إن الثقافة في أُمَّة من الأُمم لا تبقى منعزلةً عن غيرها انعزالًا تامًّا، كما أنَّها لا تستقل عن تأثير الحضارة استقلالًا مطلقًا، بل إنها تتأثر من الثقافات الأخرى كما تتأثر من تطورات الحضارة، غير أن ذلك لا يكون عن طريق الانتقال المباشر، بل يكون طريق التأثير في النفوس تأثيرًا باطنيًّا يُؤدِّي إلى شيء من التغيُّر في أساليب التفكير والتحسس.

فالأمم تتميز بعضها عن بعض بثقافات خاصة، وتشترك بعضها مع بعض بحضارات عامة.

فالثقافة تكون في حد ذاتها قومية، والحضارة تكون بطبيعتها أممية.

فالثقافات تكون خاصةً بكل أمة على حدة، وأما الحضارات فتكون شاملةً لمجموعة من الأمم، ومجموعات الأمم التي تشترك في حضارة من الحضارات قد تكون كبيرةً وقد تكون صغيرة.

بعد أن وصلنا إلى هذه النتائج من أبحاثنا، نستطيع أن نرجع إلى المسألة الأصلية، فنسأل أولًا؛ هل توجد ثقافة يجوز تسميتها باسم «ثقافة البحر الأبيض المتوسط»؟

والجواب على هذا السؤال يكون بكل تأكيد؛ لا! لأن الثقافة كما ظهر من الأبحاث التي سردتها آنفًا، من الأمور المعنوية؛ فلا تتبع الروابط الجغرافية ولا تتقيد بقيود المسافات.

لنقارن بين مدينتَيْ مارسيليا وبرشلونة مثلًا؛ إن هاتين المدينتين تقعان على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وفي جهة واحدة من البحر المذكور، ولكنهما يختلف بعضها عن بعض من حيث الثقافة اختلافًا بيِّنًا؛ لأن مارسيليا من مدن الثقافة الفرنسية، في حين أن برشلونة من مدن الثقافة الإسبانية. ولهذا السبب فإن مدينة مارسيليا أكثر شبهًا من هذه الوِجهة بمدينة برست الواقعة على ساحل الأطلنطي، من مدينة برشلونة الكائنة على ساحل الأبيض المتوسط. زد على ذلك، فإن مارسيليا تُعتبر من حيث الثقافة أكثر قُربًا إلى بعض المدن الكندية الكائنة وراء المحيط الأطلنطي، من جميع المدن الإسبانية القائمة على ساحل البحر المتوسط. ومدينة برشلونة الإسبانية نفسها تُعتبر من حيث الثقافة أقرب إلى مكسيكو الكائنة في القارة الأمريكية، من مدينة مارسيليا الكائنة على ساحل البحر المذكور.

إن هذه الحقيقة تظهر لنا بوضوح أكبر إذا قارنَّا الجزر اليونانية بسواحل الأناضول؛ من المعلوم أن البعض من الجزر اليونانية قريبة جدًّا من السواحل المذكورة، ولا تنفصل عنها إلا بمضايق صغيرة ينزل عرضها في بعض المحلات إلى بضع كيلومترات. وأما الفرق الثقافي الذي يميِّز سُكنة هذه الجزر من سُكنة تلك السواحل فهو كبير جدًّا كما هو معلوم لدى الجميع.

فالقول بوجود ثقافة تستحق التسمية باسم ثقافة البحر الأبيض المتوسط، أو بإمكان وجود مثل تلك الثقافة، مما لا يتفق مع الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه.

وأما إذا نقلنا البحث إلى الحضارة، فتساءلنا: «هل توجد حضارة تستحق التسمية باسم حضارة البحر المتوسط؟» فالجواب على ذلك يكون: نعم. قد وُجِدت حضارة تستحق التسمية بهذا الاسم، ولكن ذلك كان في الماضي. إن تلك الحضارة كانت مرحلةً من المراحل التي اجتازتها الحضارة العصرية التي تغمر العالم الآن، إنها غابت في أغوار الماضي، وتباعدت منَّا معنًى ومادة، فالالتفات إليها والعمل لها يكون بمثابة «الرجوع إلى الوراء» رجوعًا لا يجوز أن يرضى به أبناء هذا الجيل.

٢

اسمحوا لي الآن أن أستعرض أهم المراحل التي اجتازتها الحضارة البشرية لكي أُظهر منزلة «حضارة البحر المتوسط» بين المراحل المذكورة:

لقد بدأت الحضارات التاريخية على ضفاف الأنهر الكبيرة ودلتاياتها؛ فحضارات وادي الرافدين ووادي النيل التي تؤلِّف أقدم منابع الحضارة كانت من جملة هذه الحضارات النهرية.

ثم أخذت تتكون بعض الحضارات على سواحل بعض البحار، وكانت سواحل البحر المتوسط من أخصب وأوفق البيئات لازدهار أمثال هذه الحضارات، والحضارات الفينيقية والإيجية كانت من أقدم وأرقى هذه الحضارات البحرية.

وبعد ذلك نشأت وازدهرت الحضارة اليونانية مستفيدةً من نتائج جميع هذه الحضارات القديمة، وانتشرت على مختلِف الجهات من سواحل البحر المتوسط، كما أنها امتدت نحو الشرق إلى أن اتصلت بحضارة الهند.

وأعقبتها الحضارة الرومانية وبسطت نفوذها وسيطرتها على سواحل البحر المذكور، فأصبحت بذلك حقيقة بالتسمية باسم «حضارة البحر الأبيض المتوسط».

ثم قامت بعد ذلك الحضارة العربية الأخيرة، وازدهرت فوق ديار الحضارة الرومانية السالفة الذكر، إنها امتدت امتدادًا كبيرًا نحو بعض البلاد الآسيوية، ومع هذا لم تخرج من حيث مراكزها الأساسية عن نطاق حضارة البحر الأبيض المتوسط.

غير أن الأحوال تطورت تطورًا كبيرًا وسريعًا منذ بزوغ عهد الانبعاث؛ فقد أخذت مراكز الحضارة الأساسية تتباعد شيئًا فشيئًا عن سواحل البحر المذكور، إلى أن استقرت تدريجيًّا في مختلِف الأقسام الغربية من القارة الأوروبية منذ بداية القرون الأخيرة، فلم يَعُدْ من المعقول بعد هذا التطور الأساسي الاستمرار على نسبة الحضارة إلى البحر المتوسط، فصارت تُسمَّى هذه الحضارة الجديدة باسم «الحضارة الغربية» أو «الحضارة الأوروبية».

ولكن تطورات الأحوال لم تقف عند هذا الحد أيضًا؛ فإن هذه الحضارة الأوروبية أخذت تشع على القارة الأمريكية، وتُكوِّن فيها مراكز حضاريةً جديدة. إن حضارة هذه القارة الجديدة ظلت مدةً من الزمن تابعةً إلى الحضارة الأوروبية، غير أنها أخذت بعد ذلك تلعب دورًا هامًّا في ترقية هذه الحضارة، إلى أن دخلت في عداد عواملها الأساسية، فأصبح عندئذٍ اسم «الحضارة الأوروبية» أو «الحضارة الغربية» أيضًا غير ملائم للتعبير عن الحضارة الجديدة تعبيرًا صحيحًا، فقد رأى بعض المفكرين تسمية الحضارة بعد وصولها إلى هذه المرحلة باسم «الحضارة الأوقيانوسية».

غير أن تطورات الأحوال استمرت بعد ذلك أيضًا بسرعة خارقة، فانتشرت هذه الحضارة إلى سائر أقطار العالم، فلم يبقَ أي مبرر كان لنسبة الحضارة إلى قارة من القارات أو بحر من البحار، فأصبح من الأوفق تسميتها باسم مجرَّد عن الدلالة المكانية؛ فوصلت الحضارة الآن إلى مرحلة صار معها من الضروري تسميتها باسم «الحضارة العصرية»، أو «حضارة القرن العشرين».

ويظهر من هذه النظرة السريعة أن حضارة البحر المتوسط هي مرحلة الحضارة التي كانت وصلت إليها البشرية قبل القرون الأخيرة، وقبل الانقلابات العظيمة التي حدثت خلال هذه القرون؛ إنها بقيت وراءنا، وأصبحت بعيدة عنا.

ويجب ألا يغرب عن بالنا أن هذا البُعْد لا يمكن أن يقاس بعدد القرون التي مرت على المرحلة المذكورة؛ لأن هذه القرون — على قلة عددها — كانت مليئةً بالتطورات السريعة والانقلابات الأساسية، التي زادت الهوة بيننا وبينها زيادةً هائلة.

ونحن نعيش الآن في عهد خارق السرعة، أصبح الإنسان يشهد خلال حياته القصيرة من التطورات والانقلابات ما لم تره البشرية في سالف العصور، خلال سلسلة طويلة من الأجيال.

ويجب علينا ألا ننسى أن حضارة البحر المتوسط التي ذكرناها آنفًا ما كانت تعرف شيئًا عن الميكروسكوب والتلسكوب والتلغراف والتلفون، ولا عن الفوسفور والبنزين والألومنيوم والراديوم والنايلون، إنها لم تتمتع بخدمات البواخر والقطارات والسيارات والطيارات، كما أنها لم تشهد شيئًا عن الحركات العلمية والفكرية التي أنتجت هذه الاختراعات، ولا التي نتجت منها، ولم تدرك شيئًا عن الانقلابات الاجتماعية التي رافقت هذه الحركات أو أعقبتها.

ولهذه الأسباب كلها نستطيع أن نؤكد أن حضارة البحر الأبيض المتوسط كانت قاصرةً وهزيلةً جدًّا بالنسبة إلى الحضارة التي نعاصرها الآن، ونستطيع أن نقول لذلك بدون تردُّد أن توجيه الأنظار إلى تلك الحضارة يكون بمثابة الدعوة إلى حركة ارتجاعية صريحة.

لا ريب في أنها كانت راقيةً جدًّا بالنسبة إلى زمانها، وكانت تحتوي على عناصر ثمينة جدًّا بالنسبة إلى سابقاتها، غير أنه مما لا ريب فيه أيضًا أن كل ما كان فيها من قوة الإنتاج والإثمار قد اندمج في الحضارة الغربية، وأصبح من أجزائها الأصلية؛ فلم يبقَ ثمة حاجة للرجوع إليها ومحاولة الاستفادة منها.

إننا نعيش في القرن العشرين، فيجب علينا أن نبذل كل ما في استطاعتنا لاقتباس حضارة هذا القرن بأرقى أشكالها، ومن أقوى مراكزها، ومن أحسن مصادرها، دون أن نقصر أنظارنا على آفاق البحر الأبيض المتوسط.

ويجب علينا ألا ننسى أن هذا البحر لم يَعُد «الوحيد» ولا «المركز الرئيسي» للحضارة الراقية كما كان في سالف الأزمان.

كما يجب علينا أن نلاحظ أن وسائل المواصلة بين مختلِف البلدان تطورت منذ قرن تطورًا هائلًا، ولم يبقَ معه خطورة كبيرة للاعتبارات الجغرافية التي كانت تحدد آفاق نظر أسلافنا. والموانئ الجوية التي أُنشئت في مختلِف أنحاء العالم، والتي لا تزال تتوسع وتزداد سنةً فسنة، بل يومًا فيومًا؛ صارت تُنافِس الموانئ البحرية في كثير من الأمور، فصار الجو يلعب في حياة الأقوام وعلاقاتها دورًا فعَّالًا أهم بكثير من الدور الذي كانت تلعبه البحار في الأزمنة الماضية.

لا ننسى أننا الآن نستطع أن نذهب إلى القاهرة في مدة أقصر من المدة التي كان يقضيها أسلافنا للوصول إلى «عاليه»، ونستطيع أن ننتقل إلى بغداد في مدة أقل من التي كانت ضروريةً للوصول إلى صوفر، حتى إننا نستطيع أن نذهب إلى أمريكا في مدة لا تزيد على المدة التي كانوا يقضونها للسفر إلى دمشق الشام. والمدة التي كان يقضيها أسلافنا لقطع البحر المتوسط طولًا تكفي الآن للطواف حول الكرة الأرضية مرات عديدة، وزد على ذلك كله أننا أصبحنا الآن نستطيع أن نسمع الأصوات التي تصدر من جميع أنحاء العالم؛ من نيويورك، ولندن، وبرازافيل، وموسكو، ودلهي وطوكيو. في وقت واحد وفي لحظة واحدة.

فمن يسعى ويدعو في هذه الأيام إلى توقيف أنظار أبناء هذه البلاد على شواطئ البحر المتوسط، بالرغم من هذه التطورات الأساسية التي شرحتها، يكون قد بقي بعيدًا جدًّا عن تفهُّم روح العصر وعن تقدير ماهية الحضارة.

٣

وهنا أرى من المفيد أن أنتقل قليلًا من أبحاث الحضارة إلى ميادين التجارة؛ لألفت الأنظار إلى الخطط التي يتبعها التجار في هذا المضمار.

كلكم تعلمون أن التجار عندما يفكرون في استيراد البضائع لا يوجهون أنظارهم إلى قُطْر واحد على وجه الانحصار، بل إنهم يبحثون عن البضائع التي يحتاجون إليها في جميع أسواق العالم بدون استثناء، إنهم لا يقصرون معاملاتهم ببلاد البحر المتوسط مثلًا، بل يوسِّعونها حتى أقصى الشرق من جهة، وأقصى الغرب من جهة أخرى. وإذا ما حدث في بعض الأحيان ما يُضطر البلاد إلى تحديد نطاق هذه المعاملات لبعض الأسباب والظروف الطارئة، يعتبرون ذلك من الكوارث الاقتصادية والتجارية، ويتمنَّون بكل قُوَاهم زوال تلك الظروف الطارئة لتحرير التجارة من ربقة الانحصار.

أفلا يَجدُر برجال الفكر في هذه البلاد أن يقتدوا بهؤلاء التجار في هذا المضمار؟

وما دمتُ قد تطرَّقت إلى التجارة وضربت لكم مثلًا بها، اسمحوا لي أن أخطوَ في هذا الطريق بضع خطوات أخرى:

كلكم تعلمون أن البضائع التي يستوردها التجار من خارج البلاد كثيرة ومتنوعة جدًّا، والبعض منها مما يُستعمل مباشرة، دون تعديل أو تكييف، مثل الجوارب والفانيلات.

ولكن البعض الآخر مما لا يُستعمل إلا بعد أعمال إضافية خاصة، يقوم بها أهل البلاد؛ مثل الأقمشة التي يُفصِّلها ويخيطها الخياطون في الأسواق، وربات المنازل في الدور لصُنْع الملابس المختلفة حسب حاجات الناس ورغباتهم، مع مراعاة عاداتهم وأذواقهم.

وهناك صنف آخر مما لا يُستعمل إلا كآلة وواسطة للأعمال المختلفة؛ مثل المطرقة والمنشار والكماشة، التي يستعين بها النجارون لصُنْع الأشياء والمنجورات المتنوعة. ومثل المكائن الزراعية التي يستخدمها الفلاحون لحرث الأراضي وحصاد المزروعات.

ولا أراني في حاجة إلى القول إن التقدم الاقتصادي يتطلَّب الإقلال من استيراد النوع الأول من البضائع، والإكثار من النوع الأخير منها.

إني أرى أن الاقتباس في ميادين الحضارة، لا يخلو من الشبه بالاستيراد في عالم التجارة.

إني لا أجهل بأن هناك فرْقًا جوهريًّا بين استيراد البضائع واقتباس العلوم؛ لأن الاستيراد لا يتم إلا مقابل تصدير نقود أو بضائع أخرى، في حين أن الاقتباس لا يحتاج إلى عوض، ولا يتعرض إلى ما يُسمَّى باسم الاستهلاك. كما أن عالِم العلم والحضارة لا يعرف شيئًا يشبه «الميزان التجاري» الذي يشغل بال رجال الاقتصاد ويسترعي اهتمامهم على الدوام.

ومع كل هذا أرى أني لا أكون من المخطئين إذا قلت إن الاقتباس مثل الاستيراد، يجب أن يقتصر على «المنتوجات» وحدها، بل يجب أن يشمل بوجه خاص «طرائق الإنتاج» أيضًا. فلا يجوز لنا أن نكتفيَ باقتباس العلوم والصنائع نفسها، بل يجب علينا أن نسعى إلى استمثال «طرائق البحث والعمل» التي تضمن «الإنتاج والابتكار» فيها أيضًا.

إننا بهذه الصورة — وبهذه الصورة وحدها — نكون قد تمثَّلنا الحضارة العصرية تمثُّلًا حقيقيًّا، وبهذه الصورة — وبهذه الصورة وحدها — نكون قد دخلنا في عداد «الأعضاء العاملين في حضارة القرن العشرين».

تلاحظون أيها السيدات والسادة، بأنني أدعو إلى الاقتباس، وأقول بضرورة الاقتباس، وأعتقد بأن «الاقتباس» بأوسع وأتم معانيه هو السبيل الوحيد للَّحاق بقافلة الحضارة التي سبقتنا وتباعدت عنا كثيرًا.

غير أني أرجو أن تُلاحظوا في الوقت نفسه بأنني حصرت هذا الاقتباس بالحضارة وحدها، ولم أجعله شاملًا للثقافة أيضًا.

لأن الثقافة كما قلت قبلًا لم تكن من الأمور التي يمكن اقتباسها ونقلها من الخارج نقلًا، بل هي من الأمور التي لا بد من تكوينها في النفوس تكوينًا.

ولا أود أن أقول بذلك إننا لا نستطيع أن نستفيد من ثقافات الأمم الأخرى بوجه من الوجوه، إنما أقول إن كل ما نعمله في هذا السبيل يجب ألا يخرج عن نطاق الأعمال التي يقوم بها الزارعون لتنمية النباتات وتكثيرها؛ إذ من المعلوم أن النباتات تعيش وتنمو وتتكاثر بفضل «أفاعيل داخلية» خاصة بها، وأما النور والمطر والسماد، وجميع أنواع الأعمال الزراعية، إنما هي بمثابة وسائط وعوامل خارجية، تساعد على إثارة هذه الأفاعيل الداخلية وتوجيهها وتقويتها.

واسمحوا لي أن أعود هنا أيضًا إلى قضايا الاستيراد التي تكلمت عنها قبلًا؛ تعلمون بأننا نستورد أحيانًا في جملة ما نستورده من البلاد الأخرى بعض البذور والفسائل والأغراس، إننا نزرعها في حقولنا، ونغرسها في حدائقنا، ونُطعم بها أشجارنا وأزهارنا، ثم نأخذ من هذه المزروعات والمغروسات بذورًا وفسائل جديدة، نستعملها لتكثير أنواعها دون أن نحتاج إلى استيراد بذور وأغراس من نوعها مرةً أخرى.

وكلكم تعلمون أن بين الأزهار والأشجار المنتشرة في حدائق هذه البلاد عدد غير قليل من التي كانت أتت من الخارج فيما مضى في حالة بذور وأغراس، إنها تكاثرت وتأقلمت في هذه البلاد، وغدت من نباتاتها، وأصبح شأنها شأن سائر النباتات الأصلية التي لا نعرف شيئًا كثيرًا عن منشئها.

إنها تُعتبر الآن من نباتات هذه البلاد، وإن كانت متحدرةً من بذور وأصول أتت من الخارج في سالف الأزمان.

إن قصة هذه الأزهار والأشجار تُمثِّل في نظري قصة الثقافة وثمار الثقافة أحسن تمثيل.

إنني شبَّهت الثقافة من هذه الوجوه بالأزهار والأشجار التي تنمو في البلاد، وإذا أردت الاسترسال في سُبل التشبيه والتمثيل وجب عليَّ أن أقول: إن اللغة بمثابة التراب الذي يحتضن البذور والجذور ويغذي الأزهار والأشجار.

ولما كانت لغة هذه البلاد عربية، فإن ثقافتها أيضًا ستكون عربية، وستشترك هذه البلاد في أمور الثقافة مع سائر البلاد العربية، لا مع أقطار البحر المتوسط.

وسيساهم أبناء هذه السواحل وهذه الجبال مع أبناء سائر الأقطار العربية في تكوين ثقافة عربية راقية، تنمو وتزدهر سنةً عن سنة، مغمورةً بأنوار العلوم العصرية وفيوض الحضارة العالمية.

إنني أعتقد أن ذلك سيتم حتمًا على الرغم من جميع الجهود التي قد يبذلها البعض في سبيل توقيف هذا التيار العام ومعاكسة هذا التطور الطبيعي.

إنني أجزم بذلك كما أجزم أن الشمس ستشرق غدًا صباحًا على هذه المدينة، وأن الطقس سيزداد حرارةً في الشهور القادمة، وأن الأشجار التي نراها في الحدائق ستُورِق وتُثمر، وفق طبائعها المعلومة.

١  محاضرة أُلقيت في النادي الثقافي ببيروت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤