المعاهدات الثقافية والاتفاقيات الفكرية

١

إن المعاهدات والاتفاقات التي تُعقد بين الدول كانت تستهدف عادةً تنظيم العلائق السياسية والعسكرية والاقتصادية والتجارية القائمة بينها، وقلَّما كانت تتعدى ذلك إلى العلائق الفكرية والثقافية والأمور التعليمية والجامعية.

ولكن بعد الحرب العالمية الأولى حدث تبدُّل هام في العلائق الدولية من هذه الوِجهة؛ أخذت الأمور الفكرية والثقافية تحتل مكانًا هامًّا في هذه العلائق، وصارت الدول تسعى إلى عقْد شتى الاتفاقيات الثقافية والتعليمية، بجانب الاتفاقيات التجارية والعسكرية والسياسية المعتادة منذ القِدَم.

في الواقع إن الأمور العلمية والتعليمية لم تبقَ خارجةً عن نطاق المعاهدات والاتفاقات الدولية تمامًا قبل الحرب المذكورة أيضًا.

فإن التاريخ يذكر لنا عددًا غير قليل من المعاهدات التي لا يخلو بعض أحكامها من الصلة الصريحة بالأمور العلمية والتعليمية، حتى إن تاريخ الأُمَّة العربية نفسه يُزوِّدنا بمثال بليغ على ذلك، وربما كان هذا المثال هو أقدم الأمثلة التي يمكن أن تُذكَر في هذا المضمار:

يقول ابن النديم في الفهرست؛ إن الخليفة العباسي الشهير المأمون حينما عقد معاهدة سِلْم مع عاهل القسطنطينية بعد انتصاره على الجيوش البيزنطية، اشترط عليه في المعاهدة المذكورة أن يرسل له مجموعةً من الكتب العلمية والفلسفية اليونانية.

وإذا تركنا هذا المثال القديم البعيد جانبًا، وانتقلنا إلى تاريخ أوروبا الحديث، وبحثنا في صحائف القرن الماضي، ولا سيما إذا استعرضنا وقائع النصف الأخير منه، وجدنا أمثلةً كثيرةً على دخول الأمور الثقافية في المعاهدات الدولية:
  • (أ)

    حينما شعرت الدول بحاجة إلى عقْد معاهدات خاصة بُغْية تنظيم وتقرير شروط إقامة رعاياها في أراضي غيرها، على أساس المعاملة المتقابلة، اضطُرت إلى التفاوض في شروط ممارسة المهن الحرة. وذلك أدى بطبيعة الحال إلى البحث في قيم الشهادات التي يحملها أصحاب تلك المهن، ولكن الغرض الأصلي من ذلك لم يكن تنظيم العلائق الثقافية، بل كان تنظيم الصلات الاقتصادية. ولهذا السبب لم تتخذ هذه الأحكام موضوعًا لمعاهدات خاصة، بل أُدمجت على الأغلب في اتفاقيات الإقامة، وفي المعاهدات التجارية والقنصلية.

  • (ب)

    حينما توسعت حركات الترجمة والتأليف في مختلِف الأقطار الأوروبية والأمريكية، لاحظ رجال الحقوق أن القوانين التي تضعها كل دولة على حدة لا تكفي لصيانة حقوق الفنانين والمؤلفين والمخترعين، فرءَوا لزومًا إلى عقْد معاهدات دولية لحماية المِلكية الأدبية والفنية من جهة، والملكية الصناعية من جهة أخرى.

    إن أُولى الاتفاقيات التي ترمي إلى تحقيق هذا الغرض وُضِعت في مدينة برن في ٩ أيلول ١٨٨٦م، واشترك فيها معظم الدول الأوروبية والأمريكية. ثم أُلحق بهذه الاتفاقية عدة بيانات تفسيرية وبروتوكولات إضافية ونصوص جديدة في ١٨٩٦م، و١٩٠٤م، و١٩٠٨م، و١٩١٨م.

    غير أنه يجب أن يُلاحَظ أن الغرض الأصلي من هذه الاتفاقيات أيضًا لم يكن تنظيم العلائق الثقافية بين الدول المختلفة، بل كان صيانة حقوق المؤلفين والفنانين والمخترعين المادية خارج بلادهم الأصلية.

    لهذا نستطيع أن نقول إن هذه الاتفاقيات أيضًا لا تدخل في نطاق الاتفاقيات الثقافية الصِّرْفة، وإن كانت ذات صلة وثيقة بالأمور الثقافية.

  • (جـ)

    حينما اشتدت الحركات الفكرية في جميع البلاد الراقية، وتوثقت العلائق العلمية بين الباحثين الذين ينتسبون إلى الدول المختلفة، صار الجميع يشعرون بحاجة شديدة إلى تكوين «هيئات أممية» تُسهِّل تبادل الآراء، وتضمن توحيد المساعي في بعض القضايا العلمية والفكرية بين علماء البلاد المختلفة. إن هذا الشعور حمل رجال العلم والفكر على عقْد مؤتمرات دولية، وقد اقترح العلماء الذين اجتمعوا في بعض من هذه المؤتمرات إنشاء وتأسيس «مكاتب ومعاهد أممية دائمية»؛ لتحقيق بعض الأغراض العلمية؛ مثل توحيد الأوزان والمقاييس، وتبادل المعلومات الإحصائية والأرصاد الجوية، وتوحيد المساعي لرسم خريطة عالمية وخريطة سماوية. إن هذه المكاتب والمعاهد الأممية تأسست عملًا بأحكام «اتفاقيات دولية»، اشترك فيها عدد كبير من الدول بصورة رسمية.

    إن أقدم هذه الاتفاقيات هي «اتفاقية المتر» التي عُقِدت في باريس في ٢٠ أيار سنة ١٨٧٥م؛ بُغْية «توحيد المقاييس المترية وترقيتها»، والتي أوجدت «المكتب الأممي للأوزان والمقاييس».

  • (د)

    وكان من الطبيعي أن يعقب جميع هذه الأنواع من المعاهدات والاتفاقات نوع جديد يستهدف تنظيم العلائق الثقافية مباشرة. إن أمثلة ذلك تعددت بوجه خاص في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر؛ فقد عقدت فرنسا مع سويسرا سنة ١٨٨٧م معاهدةً لتطبيق إلزامية التعليم على رعايا الطرفين، وعقدت بريطانيا مع بروسيا سنة ١٩٠٤م معاهدةً لتبادل الأساتذة بين المملكتين، وعقدت حكومتا الشيلي والأرجنتين في السنة نفسها معاهدةً تُقرر كيفية قَبول الآثار الفنية في معارض البلدين، كما عُقدت سنة ١٩٠٥م بين فرنسا وبريطانيا، وسنة ١٩١٢م بين فرنسا وإيطاليا، وسنة ١٩١٤م بين فرنسا وإسبانيا معاهدات خاصة بتبادل الأساتذة.

    غير أن هذه الاتفاقيات كانت محدودةً ومتفرقة، فضلًا عن كونها قليلة الشمول ضيِّقة النطاق، فإنها لم تصل إلى درجة تتم عن نزعة سياسية قوية، وتدل على اتجاه فكري مستقر، حتى ثوران عاصفة الحرب العالمية الأولى.

بعد الحرب العالمية الأولى بزغ فجر عهد جديد في العلائق الثقافية بين الدول الأوروبية، فأخذت المعاهدات الثقافية تزداد عددًا وتتوسع نطاقًا، إلى أن صارت تتناول أحيانًا جميع مظاهر الحياة الفكرية تقريبًا.

والسبب في ذلك هو أن أهوال الحرب العالمية أوجدت نزعةً قويةً في النفوس لتنظيم السلْم وضمان التعاون والتساند بين الأمم في جميع نواحي الحياة. إن هذه النزعة لم تثمر الثمرات المرجوة منها في ساحة السياسة؛ بسبب استمرار أطماع الدول، ولكنها أثمرت ثمرات يانعةً جدًّا في ساحة الفكر والثقافة، بسبب استعداد الجميع للتعاون في هذه الميادين.

إن أهم المؤسسات الدولية التي تأسست بعد الحرب المذكورة هي بلا شك «المعهد الأممي للتعاون الفكري» institut international de cooperation intelectuelle.

إن المعهد الأممي المذكور قام بأعمال تعاونية هامة، نجح فيها نجاحًا لا بأس به، بالرغم من ارتباطه بعصبة الأمم.

من المعلوم أن عصبة الأمم لم تشمل جميع الأمم في يوم من الأيام؛ ولذلك ظل معهد التعاون الفكري محرومًا من مؤازرة مفكري الأمريكان والروس والألمان، تبعًا لكيفية تكوين العصبة المذكورة. إن خروج اليابان والطليان من العصبة مؤخرًا زاد في مشاكل المعهد المذكور ونواقصه زيادةً كبيرة.

ومع كل ذلك فإننا نستطيع أن نقول؛ إن الخدمات التي قام بها معهد التعاون الفكري في فترة ما بين الحربين العالميتين، كانت من أفيد الأعمال التي استطاعت أن تنجزها المعاهد الأممية في الفترة المذكورة.

ولعل أهم خدمات المعهد المذكور كان اهتمامه بالمعاهدات الثقافية بوجه عام.

لقد أصدر «المعهد الأممي للتعاون الفكري» سنة ١٩٣٧م كتابًا يحتوي على «مجموعة الاتفاقيات الفكرية» المعقودة بين الدول المختلفة من سنة ١٩١٩م حتى سنة ١٩٣٧م، تتألف هذه المجموعة من ٣٦ معاهدةً ثنائيةً «معقودة بين دولتين»، و٦ معاهدات كثاريةً «معقودة بين عدة دول».

لقد عقدت بعض الدول بعد ذلك التاريخ حتى نشوب الحرب العالمية الثانية نحو عشر اتفاقيات أخرى، نشرها «معهد التعاون الفكري» في مجلته الخاصة.١

إن عدد الاتفاقيات الثنائية المعقودة بين الدول في فترة ما بين الحربين العالميتين قد بلغ بذلك ٤٦ اتفاقية.

إن هذا العدد لدليل بليغ على شدة اهتمام الدول بأمر تنظيم «العلائق الثقافية» باتفاقيات خاصة أو عامة، ولا نغالي إذا قلنا إن هذا الاهتمام أصبح من «النزعات السياسية» العامة في الفترة التي مضت بين الحربين العالميتين.

إن الدولة التي أظهرت أعظم الاهتمام بعقد أمثال هذه الاتفاقيات الثقافية كانت فرنسا؛ لأنها عقدت خلال هذه المدة ١٣ اتفاقيةً ثقافيةً وجامعية، تليها بولونيا التي عقدت ١٠ اتفاقيات، ثم تشيكوسلوفاكيا التي عقدت ٩ اتفاقيات، وبلجيكا التي عقدت ٨ اتفاقيات.٢

إن الاتفاقيات الفكرية التي تُعقد بين الدول تُعرَف أحيانًا باسم «الاتفاقيات الثقافية»، وطورًا باسم «الاتفاقيات الجامعية» أو «الاتفاقيات المدرسية».

غير أن المعهد الأممي الآنف الذكر رأى أن يُخصِّص كل واحد من هذه الأسماء بنوع خاص من هذه الاتفاقيات والمعاهدات.

إن «الاتفاقية الفكرية Accord Intellectuel» هي العقد الذي يتم بين دولتين أو أكثر، بُغْية توثيق وتنظيم العلائق الفكرية، من علمية وأدبية وفنية وتعليمية وتربوية. إن هذا العقد يتناول أحيانًا ساحةً واحدةً من سُوح الحياة الفكرية، ويشمل أحيانًا ساحات عديدةً منها.
إن تعبير «الاتفاقية الثقافية Convention Culturelle» يجب ألا يُستعمل إلا للدلالة على الاتفاقيات التي تشمل «العلائق الفكرية» في معظم «مظاهر الثقافة»، إن لم نَقُل في جميع ميادينها.
وأما تعبير «الاتفاقية الجامعية Universitaire» أو «الاتفاقية المدرسية Scolaire» فيجب أن يختص بالاتفاقيات التي تتناول قضايا المدارس والجامعات وحدها.
ويظهر من التفاصيل الآنفة الذكر أن الاتفاقيات الفكرية تنقسم إلى أنواع عديدة حسب نطاق شمولها:
  • النوع الأول من الاتفاقيات الفكرية: هو الذي يشمل جُلَّ العلائق الفكرية، إن لم نَقُل كلها، وهذه وحدها تستحق اسم «الاتفاقية الثقافية».
  • والنوع الثاني من الاتفاقيات الفكرية: هو الذي يختص بالأمور التعليمية والشئون الجامعية وحدها، وهذه هي التي تستحق اسم «الاتفاقيات الجامعية».
  • وأما النوع الثالث من الاتفاقيات الفكرية: فهو الذي يتناول ناحيةً محدودةً من نواحي الحياة الفكرية — غير القضايا التعليمية والجامعية — مثل تأسيس معاهد للأبحاث العلمية، أو تنظيم معارض للآثار الفنية.

إن الاتفاقيات التي عُقدت بين الدول حتى سنة ١٩٣٥م كانت كلها من النوعين الثاني والثالث، وأما النوع الأول من الاتفاقيات فلم يظهر إلى عالم الوجود إلا بالاتفاقية التي عُقدت بين إيطاليا وهنغاريا في ١٦ شباط ١٩٣٥م. كانت هذه الاتفاقية الأولى من نوعها، وقد تناولت علائق البلدين من جميع وجوه الحياة الفكرية؛ من أمور الجامعات والأساتذة والطلاب والشهادات، إلى شئون الكتب والمجلات والأفلام والمعارض والإذاعات.

وأما أقدم الاتفاقيات الفكرية التي هي من النوع الثاني، فكانت الاتفاقية التي عُقدت بين إيطاليا وفرنسا سنة ١٩١٩م، فقد تناولت الاتفاقية المذكورة أمور الجامعات، وقررت أحكامًا كثيرةً حول تبادل الأساتذة والطلاب وتعادل الشهادات.

وأما الاتفاقيات التي هي من النوع الثالث، فقد بقيت محدودةً جدًّا، ولعل أقدمها كانت الاتفاقية المعقودة بين الريخ الألماني، وبين المملكة الإيطالية في ٢٥ شباط سنة ١٩٣٠م؛ بُغْية تأسيس «المعهد الإيطالي الجرماني للأبحاث البيولوجية البحرية». وقد عيَّنت الاتفاقية المذكورة كيفية إنشاء المعهد وإدارته، وقررت كيفية تأمين نفقاته وتنظيم حساباته. وكان من جملة ما قررته؛ أن النفقات التأسيسية والنفقات الإدارية تُقتسم بين الدولتين مناصفة، أما مرتبات العلماء والباحثين فتُدفع من قِبَل الدولة التي ينتسبون إليها.

ومن أبرز نماذج هذا النوع من الاتفاقيات؛ الاتفاقية المعقودة بين «جمهورية الولايات المتحدة البرازيلية»، وبين «الجمهورية الأرجنتينية» في ١٠ تشرين الأول سنة ١٩٣٣م؛ بُغْية تنظيم المعارض الفنية. فقد تعهَّد بموجب هذه الاتفاقية كل واحد من الطرفين المتعاقدين أن يفتح كل سنة معرضًا فنيًّا في عاصمة الطرف الثاني، يعرض فيه أهم ما ينتجه فنانوه في ساحة الفنون الجميلة والفنون التطبيقية. فتفتح — عملًا بهذه الاتفاقية — الجمهورية البرازيلية في «بيونس آيرس»، والجمهورية الفضية في «ريو دي جانيرو» معرضًا فنيًّا، يضم فروع النحت والتصوير والطباعة والعمارة والفرش والتزيين. ويقام خلال افتتاح المعرض حفلات موسيقية، وتُلقى محاضرات أدبية وفنية، وتُعرض أحسن النماذج من الآثار التمثيلية والرقصات القومية، كل ذلك بُغْية ضمان التعارف والتآلف بين فناني البلدين، وزيادة التفاهم والتقارب بين أبناء الأُمتين.

إننا لا نرى لزومًا للخوض في تفاصيل هذه الاتفاقيات المختلفة والمتنوعة، بل نُرجِّح الاكتفاء بإلقاء نظرة عامة على أهم القضايا الأساسية التي تُعالجها في أكثر الأحيان.

٢

إن أهم الأمور التي تعالجها الاتفاقيات الجامعية والمعاهدات الثقافية هي؛ تبادل الأساتذة والطلاب، تعادل الشهادات، إحداث الكراسي وتأسيس المعاهد، تبادل الكتب والنشرات، تشجيع السياحات، تنظيم المعارض، تدريس اللغة، تدريس التاريخ والجغرافيا.

فيجدُر بنا أن نستعرض هذه الأمور استعراضًا سريعًا لإظهار الخطوط الأساسية من الأحكام التي تَرِد عنها في معظم تلك الاتفاقيات والمعاهدات:

تبادل الأساتذة

إن معظم الاتفاقيات يتضمن أحكامًا كثيرةً متعلقةً بتبادل الأساتذة، وهذه الأحكام تعالج القضية من وجوه عديدة:

يتعهد — على الأكثر — كل واحد من الطرفين المتعاقدين إيفاد بعض الأساتذة لتولي التدريس في جامعات الطرف الثاني، ويُكلَّف هؤلاء الأساتذة أحيانًا بزيارة الجامعات لمدة قصيرة؛ بُغْية إلقاء بعض المحاضرات، ويُكلَّفون تارةً البقاء فيها مدة فصل دراسي كامل لإلقاء سلسلة تامة من الدروس، كما يُكلَّفون طورًا العمل لمدة سنة دراسية كاملة، وبعضًا بالعمل عدة سنوات. وتنص الاتفاقيات عادةً على كيفية انتخاب هؤلاء الأساتذة وشروط استخدامهم، كما أنها تُعيِّن الأُسس التي يُستند عليها في تقرير رواتبهم وتعويضاتهم.

ويحتفظ — بوجه عام — كل واحد من الطرفين المتعاقدين لجميع الأساتذة الذين تُعار خدماتهم إلى الطرف الثاني بحقوقهم في القِدَم والترفيع، ويبقيهم مرتبطين بملاكاتهم الأصلية، كما لو كانوا قائمين بالخدمة في بلادهم.

ويجري التبادل — على الأكثر — بين أساتذة الأدب والتاريخ؛ لأن الغرض الأصلي من هذا التبادل يكون — قبل كل شيء — ضمان إطلاع الشبان المنورين في جامعات كل واحد من الطرفين المتعاقدين على ثقافة الطرف الآخر وتاريخه القومي.

ومع هذا كثيرًا ما يُنتخب أساتذة التبادل من بين رجال الاختصاص المشتهرين بأبحاث وطرائق معيَّنة، ويذهبون إلى جامعات الطرف الثاني بُغْية إطلاع طلابها وعلمائها على نتائج أبحاثهم الخاصة، وعلى ماهية خططهم ومناهجهم المبتكرة.

إن إيفاد الأساتذة إلى الخدمة في البلاد الأجنبية يكون على الأكثر على أساس المعاملة المتقابلة، غير أنه قد يكون في بعض الأحوال على أساس الإعارة من أحد الطرفين، دون استعارة مُتقابلة، وهذا يحدث عادةً في المعاهدات الجامعية التي تُعقد بين البلاد الكبيرة وبين البلاد الصغيرة. إن الاتفاقية المعقودة بين فرنسا ورومانيا من جهة، وبين فرنسا وبلغاريا من الجهة الأخرى، مبنية على هذا الأساس.

هذا ومما يجدُر بالذكر أن تبادل الرجال بين الدول لا ينحصر بالأساتذة وحدهم، بل قد يتعدى ذلك في بعض الاتفاقيات إلى رجال الإدارة والاختصاص؛ مثل أُمَناء الكتب، ومحافظي المتاحف، والقُوَّام على خزائن الوثائق والأوراق.

تبادل الطلاب

إن تبادل الطلاب بين البلاد المختلفة مما يمكن أن يتم بسهولة أعظم وبكلفة أقل من تبادل الأساتذة بطبيعة الحال، ولذلك يشغل هذا التبادل حيِّزًا كبيرًا في المعاهدات الثقافية بوجه عام، وفي المعاهدات الجامعية بوجه خاص.

وتتضمن معظم هذه المعاهدات أحكامًا عديدةً لتسهيل انتقال الطلاب من بلادهم إلى بلاد الطرف الآخر؛ (أ) لمواصلة الدراسة في معاهدها التعليمية بصورة طبيعية، أو (ب) للسياحة والدرس خلال العُطَل الصيفية، أو (ﺟ) لزيارة المؤسسات العلمية والتعليمية خلال السنة الدراسية.

إن أهم هذه التسهيلات يحوم حول تبادل الشهادات؛ لأن انتقال الطلاب من بلد إلى آخر لمواصلة الدراسة في معاهده التعليمية، لا يمكن أن يتم بسهولة إلا إذا اعترف كل واحد من الطرفين المتعاقدين بالشهادات المدرسية التي يعطيها الطرف الثاني، اعترافًا يضمن قَبول الطلاب في المعاهد التعليمية استنادًا إلى الشهادات الرسمية التي يحملونها من بلادهم، دون أن يُضطروا إلى أداء امتحان جديد. ولهذا السبب نجد في المعاهدات الثقافية كثيرًا من التفاصيل المتعلقة بالشهادات الدراسية، وكثيرًا ما تُصرِّح المعاهدات المذكورة بأن الدراسة التي تتم في المعاهد التعليمية العائدة إلى أحد الطرفين، تُعتبر كأنها تمَّت في المعاهد المماثلة لها في بلاد الطرف الثاني.

ومع هذا تُصرِّح معظم الاتفاقيات في الوقت نفسه أن القرارات المتعلقة بتعادل الشهادات، لا تمس بوجه من الوجوه الأحكام الخاصة الموضوعة في كل واحد من البلدين عن شروط ممارسة المهن الحرة، وقيود الانتساب إلى الوظائف الحكومية.

وكثيرًا ما تتضمن الاتفاقيات أحكامًا تقضي بإجراء بعض التسهيلات في رسوم التسجيل والدراسة، كما أنها تنص على ترتيبات خاصة لتسهيل معيشة الطلاب، وضمان رعايتهم من جميع الوجوه المادية والمعنوية.

ولكن بعض الاتفاقيات والمعاهدات لا تكتفي بأمثال هذه التسهيلات والتنظيمات، بل تنص على إيفاد عدد معيَّن من الطلاب للدرس في معاهد الطرف الآخر، وتُعيِّن كيفية انتخاب هؤلاء الطلاب.

وتنص بعض الاتفاقيات والمعاهدات على تسهيل زيارات جماعات من الطلاب للمعاهد العلمية والتعليمية، وكثيرًا ما تتناول هذه التسهيلات الإعفاء من رسوم جوازات السفر، وتخفيض أجور الانتقال.

وتنص بعض الاتفاقيات على تنظيم دروس صيفية تُلقى خلال العُطَل المدرسية؛ لضمان استفادة الطلاب الذين يأتون من بلاد الطرفين المتعاقدين.

كما أن بعض الاتفاقيات تتضمن أحكامًا تتعلق ﺑ «ملاجئ الشبان» Auberges de la Jeunesse وﺑ «مخيمات العُطَل» Colonies des Vacances التي تفيد طلاب الطرفين.

تبادل الكتب والمجلات

تتضمن معظم المعاهدات الثقافية أحكامًا عديدةً عن تبادل الكتب والنشرات بين الطرفين المتعاقدين، وعن تسهيل انتشار المطبوعات في البلدين.

إن هذه الأحكام كثيرة ومتنوعة جدًّا في مختلف المعاهدات:
  • (أ)

    يتعهد الطرفان المتعاقدان أن يتبادلا جميع النشرات الرسمية.

  • (ب)

    يتعهد كل واحد من الطرفين المتعاقدين أن يُزوِّد الطرف الآخر بالمعلومات اللازمة، والخلاصات الوافية عن أهم الكتب والمجلات العلمية والأدبية التي تُنشر في بلاده.

  • (جـ)

    يتبادل الطرفان الرأي والمشورة لتقرير قوائم الكتب التي يُستحسن ترجمتها من لغة أحدهما إلى لغة الآخر، وتعيين أسماء المترجمين الذين يمكن الاعتماد عليهم للقيام بهذه المهمة في كل واحد من البلدين.

  • (د)

    يتعهد كل فريق من الطرفين المتعاقدين بتزويد بعض المكتبات القائمة في بلاد الطرف الآخر بنُسَخ من أهم الكتب التي تُنشر في بلاده.

  • (هـ)

    يتفق الطرفان على إنشاء مكتبات خاصة في بلديهما لتسهيل إطلاع الباحثين في كل بلد على ما تنشر في بلاد الطرف الثاني.

  • (و)

    يتفق الطرفان على إقامة معارض دورية لتعريف بعضهما البعض بالكتب والمجلات التي تُنشر في بلادَيهما.

  • (ز)

    يتعهد كل واحد من الطرفين المتعاقدين بتخفيف الضرائب الجمركية، وتخفيض الرسوم البريدية، وتنزيل أجور سائر الوسائط النقلية، عن مطبوعات الطرف الثاني؛ لتسهيل انتشارها بين المطالعين والباحثين.

  • (ﺣ)

    يتفق الطرفان على التدابير اللازمة لتسهيل درْس الوثائق العلمية والتاريخية المحفوظة لديهما، وفي بعض الأحوال لإعادة تلك الوثائق إلى رجال الدرس أو معاهد البحث أيضًا.

إنشاء المدارس والمعاهد

تنص بعض الاتفاقيات والمعاهدات على إحداث كراسي تدريس خاصة في جامعات الطرفين؛ بُغْية إعطاء فكرة صحيحة عن تطور الحياة الفكرية والفنية والأدبية والاجتماعية في بلاد كل من الطرفين المتعاقدين إلى شبيبة الطرف الآخر.

كما أنها تنص أحيانًا على إنشاء «معاهد ثقافية» لتحقيق هذه الأغراض.

مثلًا، لقد نصَّت المعاهدة المعقودة بين ألمانيا وبين هنغاريا سنة ١٩١٦م على إحداث كراسي للأدب الألماني في الجامعات الهنغارية، كما أن المعاهدة المعقودة بين إيطاليا وبين النمسا سنة ١٩٣٥م نصَّت على تأسيس «معهد إيطالي» في فيينا، و«معهد نمسوي» في روما.

تدريس اللغة والتاريخ والجغرافيا

كثيرًا ما تتضمن المعاهدات الثقافية أحكامًا عديدةً عن تعليم لغة كل من الطرفين المتعاقدين في مدارس الطرف الآخر، وهي تُعيِّن أنواع المعاهد والمدارس التي يتم فيها هذا التعليم، كما أنها كثيرًا ما تنص على تبادل أساتذة اللغات لإتمام تعليمها على أحسن الصور وأكملها، وتنص أحيانًا على تبادل بعض الطلاب أيضًا؛ لضمان تعليمهم اللغة في بيئتها الأصلية عن طريق المخالطة والمِران المباشر.

وكثيرًا ما تتضمن المعاهدات الثقافية أحكامًا تحوم حول تدريس جغرافيا بلاد الطرفين وتاريخها.

ويمكننا أن نُقسِّم الأحكام المتعلقة بتدريس هاتين المادتين إلى قسمين أساسيين؛ الأحكام السلبية والأحكام الإيجابية.

وتنص الأحكام السلبية على أن كل واحد من الطرفين المتعاقدين يتعهد بتنقية الكتب التي تُدرَّس في مدارسه عن الأبحاث والعبارات التي قد تسيء إلى سمعة الطرف الآخر، أو تحط من كرامته، أو تُوجِد في نفوس الناشئة شيئًا من الكراهية أو البغض نحوه.

وتنص الأحكام الإيجابية على أن كل واحد من الطرفين المتعاقدين يتعهد بتزويد ناشئته بمعلومات كافية وصحيحة عن تاريخ الطرف الآخر وجغرافيته.

إن الأحكام المُتعلقة بتدريس التاريخ والجغرافيا في المعاهدات الثقافية صارت موضوعًا لمفاوضات ومناقشات كثيرة، ودخلت في بعض الاتفاقيات والمعاهدات العامة التي اشترك فيها، ووقَّع عليها عدد غير قليل من الدول.

وذلك للاعتقاد السائد بأن المعلومات التاريخية تؤثر تأثيرًا شديدًا في تغذية روح البُغض، أو روح الود بين الأمم.

٣

إن كل ما ذكرناه آنفًا كان قد تم قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، وأما خلال الحرب المذكورة، فقد رأت الدول المتحالفة أن تستعد للمستقبل، وأن تُعِد مشروعًا نموذجيًّا للمعاهدات الثقافية؛ لتنسج الدول على منواله في المعاهدات التي ستعقدها فيما بينها بعد انتهاء الحرب واستقرار السلم.

فقد عقد وزراء معارف الدول المتحالفة مؤتمرًا لهذا الغرض في أوائل سنة ١٩٤٣م في عاصمة بريطانية العظمى، والمؤتمر المذكور ألَّف لجنةً من الاختصاصيين لدرس القضية درسًا وافيًا، ووضع الصيغة الملائمة للمشروع المبحوث عنه.

وكان بين أعضاء اللجنة جماعة من ممثلي بريطانيا وفرنسا، وبلجيكا وهولندا، ويوغوسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا، وبولونيا.

غير أن اللجنة المذكورة عندما درست الأحوال الراهنة واستعرضت المعاهدات الثقافية القائمة، رأت أن تعدل عن فكرة «المشروع النموذجي»، ورجَّحت عليها خطةً أخرى أكثر مرونةً منها؛ تتلخص هذه الخطة بتقرير المبادئ التي يجب أن تُراعى في أمثال هذه المعاهدات الثقافية، وتقديمها إلى الدول كتوصيات عامة، على أن يُترك للدول ذات الشأن مهمة صياغة المعاهدات الثقافية، وتنظيمها حسب ما تقتضيه أحوالها الخاصة، وعلاقاتها المتقابلة.

وأما أهم المبادئ التي أقرَّتها وأوصت بها اللجنة المذكورة، فكانت تتلخص بما يلي؛ يجب أن تقوم المعاهدات الثقافية على أساس «المعاملة المتقابلة»، كما أنها يجب أن تتجرَّد من جميع الأغراض السياسية.

ولهذا السبب انتقدت اللجنة بعض المعاهدات الثقافية التي كانت عُقِدت بين دول المحور وبين بعض الدول المجاورة لها انتقادًا مُرًّا، وقالت إن تلك المعاهدات كانت ترمي في حقيقة الأمر إلى غايات سياسية استيلائية، وكانت تمس سيادة الأمم الصغيرة وتهدِّد استقلالها؛ ولذلك لم تتردد اللجنة من شجب المعاهدات المذكورة بأقسى العبارات، وانتهت إلى تحذير الدول من اللجوء إلى أمثال هذه الأساليب الاعتدائية في المعاهدات الثقافية التي ستُعقد في المستقبل.

وأما بعد انتهاء الحرب العالمية الأخيرة، فقد اتجهت الآراء نحو عقْد معاهدة ثقافية عامة تشترك فيها جميع الدول الداخلة في هيئة الأمم المتحدة. إن المنظمة الدولية التي عُرِفت باسم «اليونسكو» إنما أُنشئت بناءً على ذلك، وتنفيذًا لقرارات هيئة الأمم المتحدة.

وأما فيما يخص البلاد العربية من شئون المعاهدات الثقافية، فيجدُر بنا أن نشير إلى ثلاث وقائع أساسية؛ (أ) عقدت دول الجامعة العربية فيما بينها معاهدةً ثقافيةً تتألف من ١٩ مادة. (ب) انضمت دول الجامعة العربية إلى الاتفاقية الثقافية التي أوجدت منظمة اليونسكو. (ﺟ) اجتازت الحكومة السورية أزمةً خطيرةً جدًّا من جرَّاء المعاهدة الثقافية التي أرادت فرنسا أن تفرضها عليها فرضًا قبل أن تُسلِّمها زمام الحكم تمامًا، وقبل أن تسحب جيوشها من أراضيها فعلًا.

قدَّمت فرنسا إلى سورية سنة ١٩٤٤م مشروع معاهدة ثقافية مفصَّلة، وطلبت إليها ألا تُقدِم على تغيير شيء من نُظم المعارف وأوضاعها قبل إبرام المعاهدة المذكورة.

غير أن المشروع المذكور كان في حقيقة الحال مشروع «حماية ثقافية» يضمن للغة الفرنسية والثقافة الفرنسية موقعًا ممتازًا في البلاد، وفضلًا عن ذلك يُشرك المؤسسات الفرنسية القائمة في سوريا ولبنان في «السيادة على الثقافة العامة»، وفي «توجيه هذه الثقافة».

وكان يحتم مشروع المعاهدة على الحكومة السورية مثلًا أن تسمح للطلاب الذين يتقدمون للامتحانات العامة لنوال شهادة الدراسة المتوسطة والإعدادية، أن يجيبوا عن أسئلة العلوم الرياضية والطبيعية باللغة الفرنسية.

وأن تدعو إلى مجالس المعارف ولجان التربية — التي يُطلب إليها إبداء الآراء في مختلِف مسائل التربية والتعليم — جماعة من رؤساء البعثات الفرنسية والأساتذة الفرنسيين، بنسبة «تتفق مع الإنصاف».

وأن تدخل في جميع لجان الامتحانات العامة جماعة من موظفي المعاهد الفرنسية بالنسبة «المقررة في العُرْف الجاري» (وذلك يعني بالنسبة التي كان قررها رجال الانتداب).

وأن تعتبر جميع الشهادات التي تعطيها «مديرية المؤسسات الفرنسية» في سوريا ولبنان معادِلةً للشهادات السورية الرسمية معادَلةً تامة، دون قيد أو شرط، حتى من وِجهة حق ممارسة المهن الحرة وحق التوظف في الدوائر الحكومية.

كان مشروع المعاهدة مليئًا بأمثال هذه الأحكام التي لا تتفق مع روح الاستقلال، ومع حق الأُمَّة في السيادة على شئونها الثقافية.

ولذلك رفضت سوريا المشروع المذكور وأصدرت «قانون المعارف العام» الذي غيَّر الأوضاع القائمة تغييرًا أساسيًّا.

تقدمت فرنسا عندئذٍ بمشروع ثان. ويختلف المشروع المذكور عن المشروع الأول بعض الاختلاف في بعض النصوص والعبارات، ولكنه كان يشبهه تمام الشبه من حيث الأساس؛ ولذلك لم يكن جديرًا بالقَبول بوجه من الوجوه.

ومع هذا رأت الحكومة السورية أن تدخل مع الحكومة الفرنسية في مفاوضات رسمية لعقد معاهدة ثقافية؛ لكيلا تظهر بمظهر المتعنت، وبدأ ممثلو الطرفين يتباحثون ويتناقشون على الأحكام الواردة في «مشروع المعاهدة الثقافية».

وقد لفت مندوبو الحكومة السورية خلال هذه المفاوضات أنظار ممثلي الحكومة الفرنسية، إلى أن هذه الأحكام تُنافي «حق السيادة» منافاةً تامة، كما أنها تُخالف قرارات وتوصيات «مؤتمر وزراء معارف الدول المتحالفة» مخالفةً صريحة. وبرهنوا عن طريق المقارنة التفصيلية على أن الأحكام الواردة في المشروع الفرنسي، كانت أشد تجاوزًا للاستقلال من معاهدات بعض الدول المحورية التي كان انتقدها المؤتمر المذكور بشدة متناهية، وذكَّروا الممثلين المشار إليهم بأن وزير معارف فرنسا الحرة (رينيه كاسان) كان من أعضاء اللجنة التي ألَّفها المؤتمر المذكور، وأنه كان قد اشترك في نقد تلك المعاهدات الثقافية بأقسى النعوت والعبارات.

ولهذه الأسباب لم يستطع المفاوضون أن يتفقوا على شيء في هذا المضمار.

ونستطيع أن نقول؛ إن قصة المعاهدة الثقافية التي ذكرناها آنفًا كانت من أهم العوامل التي أضرمت نيران «الخلاف الدموي» بين سوريا وفرنسا سنة ١٩٤٦م. ومن المعلوم أن ذلك الخلاف الدموي انتهى بتخليص سوريا من نير الاحتلال، كما أن قصة «المعاهدة الثقافية» أيضًا انتهت بانتهاء الاحتلال.

١  الأعداد: ٨٧-٨٨، ٩١-٩٢، ٩٥-٩٦، و٩٩-١٠٠ من المجلة.
٢  إن هذه الأرقام تعود إلى الاتفاقيات المعقودة بين الدول وحدها، وأما الاتفاقيات التي عُقدت بين الجامعات التي تنتسب إلى أمم مختلفة، أو بين مراكز الإذاعات التي تنتسب إلى دول مختلفة، أو بين اتحادات الطلبة الذين ينتسبون إلى بلاد مختلفة؛ فلم تدخل في هذه الأعداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤