عودة الزغاريد

وكانت فايزة تحس بنظراته سواء كانت تراهما أو كانت مولية له ظهرها، كانت تحسُّ النظرات ولا تراها.

كانت الحاجة زكية لا تترك فرصة دون أن تطالب زوجها الحاج عبد الرحيم العجل بأن يزوج ابنهما مدبولي الذي تجاوز مطالع الشباب والذي ترى أمه أن زواجه قد تأخَّر.

ولم يكن الشيخ عبد الرحيم يؤجِّل طلب زوجته عن فقر؛ فهو بحمد الله غني يملك عشرة أفدنة تنتظر الزيادة. وما كان يماطلها عن بخل؛ فهو يحب ابنه أشد الحب ولا يرجو من حياته شيئًا إلا أن يسعد ابنه الوحيد هذا، بل إن السبب الحقيقي الذي من أجله لا يريد الشيخ إتمام الزواج هو هذا الحب الذي يكنُّه لابنه، وقد كانت مطالبة زوجته تزيده إصرارًا على التأجيل الذي قد يصل إلى الإحجام، وكيف يقبل على تزويج ولده وهو ينظر إلى أمه هذه العجفاء التي لا يكاد جلدها أن يخفي عظامها. كومة من العظام حاول على السنين الطويلة، الطويلة جدًّا، أن يكسوها لحمًا فلم تفلح محاولاته جميعًا.

لا يزال الشيخ عبد الرحيم يذكر ذلك اليوم الأغبر الذي أخبره فيه أبوه أنه كبر وأصبح لا بدَّ له من الزواج عملًا بالحديث الشريف: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج.» ولم يصبر أبوه حتى يختار هو العروس بل اختيرت له وتم الاتفاق على زواجهما دون أن يراها، ودخل بها، وكانت ليلة أسود من الحبر، كانت عظامًا ولم تكن زوجة، وقد كانت أحلامه، كل أحلامه أن يتزوج من امرأة، امرأة ثقيلة الأرداف حتى لا تستطيع حملها، إذا أمسك بذراعها غاصت أصابعه في تجاويف وكهوف من البشرية الحية الطازجة، فإذا زوجته هذه العجفاء الهزيلة، وصبَّر نفسه وقال قد أستطيع على الأيام أن أسمنها؛ فأنا في تسمين العجول بارع مشهود لي في القرية جميعًا. ولكن براعته في تسمين العجول لم تُجدِ شيئًا في تسمين الزوجة.

وعاش معها عشرين عامًا تزيدها الأعوام هزالًا وتزيده هو يأسًا وضيقًا بالزواج. وقد جعله ينصِّب نفسه مبشِّرًا ضد الزواج؛ فلا حديث له إلا أن ينفِّر الشباب من الإقدام على نصف دينهم، وهو لا ينتهي عن ذكر الأيام الحالكة الظلمة التي قضاها في ظل زواج جاف من امرأة ليس فيها من صفات المرأة إلا أن اسمها في دفتر المواليد أنثى.

لم يحقق الزواج إذن من أحلام الشيخ عبد الرحيم شيئًا، وإنه يريد ابنه أن يستمتع بحياته ويخشى عليه أن يلقى في الزواج ما لاقاه أبوه من أهوال تطالعه بها الحاجة عزيزة التي ازدادت على الأيام عظامًا وازداد وجهها غضونًا، وازداد زوجها منها نفورًا ولها كرهًا.

ولم يكن الشيخ يجد شيئًا يُفرج كربه منذ أيام زواجه الأولى إلا أن يظل ليله يستمع إلى فتيان القرية الذين أصبحوا على الأيام شيوخًا مثله وهم يروون مغامراتهم مع نساء، نساء مكتملات لا كومات من العظام كتلك التي يتركها في البيت.

وحديث الرجال في القرية لا ينتهي حول النساء؛ فالأفواه لا تملُّ من ترديده والآذان لا تملُّ من سماعه. فكيف إذن بالشيخ عبد الرحيم وهو الرجل الذي يعتبر نفسه غير متزوج.

أما مدبولي ابن الشيخ عبد الرحيم فله في الزواج مذهب آخر؛ فهو يفلح الأرض منذ استطاع أن يمسك الفأس. وقد كان يشاهد فايزة وهي تقدُم بالطعام لأبيها صالح أبو عرابي الذي يعمل في حقل الشيخ عبد الرحيم. وكان يُعجب بقوامها الفارع وبابتسامتها التي تومض ومضًا إذا سمحت للخمار الذي تضعه على نصف وجهها أن يسقط، وكان يتدلَّه بهاتين العينَين يشعُّ منهما بريق من الحياة ونشوة من الشباب. وكان يظل رانيًا إليها وهي مقبلة ثم يظل رانيًا إليها وقد حملت الأواني فارغة وعادت بها فلا يملُّ النظر، وكانت فايزة تحس بنظراته سواء كانت تراها أو كانت مولية لها ظهرها، كانت تحس النظرات ولا تراها. وكانت تحس معها نشوة تدغدغ فؤادها الغرير، ثم تحس لذعة من الفقر؛ فإن الزواج غير متوقع بينها وبين ابن الشيخ عبد الرحيم الثري القانط من الحياة والكاره للزواج كرهًا أصبح في مثل شهرة الشيخ نفسه.

وكان مدبولي يعلم أن أباه لن يقبل هذا الزواج؛ فهو يعلم أن أباه لا يحب من النساء إلا المليئات وفايزة في مقاييس أبيه عجفاء لا تصلح للزواج، كما أنه يعرف أن أباه يحب أن يزيد أفدنته العشرة ببضعة أفدنة أخرى تجلبها له زوج ابنه ولن تجلب ابنة صالح أبو عرابي شيئًا يزيد هذه الأفدنة، بل هي ولا شك ستكلفه مهرًا وليلة زفاف وفمًا يبتلع قد يصبح مع الأيام عدة أفواه من الأطفال. وهكذا كان مدبولي يدرك أن أباه لن يرحِّب بهذا الزواج بحال من الأحوال، فلم يجد مناصًا من أن يكتم هواه ويتظاهر أمام أبيه أنه يوافقه على رأيه.

وكان من بين أصدقاء الشيخ عبد الرحيم، أحمد أفندي متولي، رجل عاش عمره نصف فلاح ونصف حضري؛ فهو يذهب إلى المدينة كل يوم وللبيت في القرية كل ليلة. وقد تزوج من المدينة وجلب زوجته معه إلى القرية وامتدت صداقات الزوجة بزوجات أصدقاء زوجها، وكانت زكية من بين أولئك الصديقات. وقد استطاع الشيخ عبد الرحيم أن يرى زوجة أحمد أفندي من بعيد، وقد كانت هذه الرؤية البعيدة تكفيه أن يحكم على جمالها فما كان يعنيه من جمالها إلا أنها ذات قوام مليء بل هي تزيد عن القوام المليء؛ فكان يُكِن لها إعجابًا ويُكن لزوجها حسدًا، وتزداد حسرته بامرأته العجفاء.

وفي يوم قالت زكية لزوجها: يا شيخ عبد الرحيم.

وأجابها في نفوره الذي لا يتغير: ما لك؟

– والدة الست هانم تعيش أنت.

– حماة أحمد أفندي؟

– نعم، والمأتم اليوم في البندر، ألا أذهب للعزاء؟

– طبعًا، أطلب لك عربة ونذهب معًا.

وذهبا، وبينما هما عائدان رأى الشيخ عبد الرحيم في عيني زوجته كلامًا يثور بها أن تتحدث فلم يحاول أن يسألها، حتى إذا بلغا المنزل واستقر بهما المقام أو كاد قالت زكية: أما يا شيخ عبد الرحيم ربنا رضي علينا.

– خير.

– الست هانم لها ابنة أخت لو أصبحت من نصيب مدبولي، وقاطعها الشيخ عبد الرحيم: يا امرأة حطِّي في عينك حبة ملح، أتذهبين للعزاء فتخطبين لابنك؟

– يا أخي الحي أبقى من الميت، بنت، أما بنت، مال وجمال.

– يا امرأة اعقلي.

– والله لو رأيتها لعرفت أنني أنا العاقلة، وأمها تتمنى النسب.

– ماذا؟

– أمها تتمنى.

– هل سألتها؟

– النسوان يفهمن لغة بعضهن بعضًا، أخذت منها في الحديث وأعطيت فوجدتها راغبة فينا أشد الرغبة.

– في مأتم أمها!

– وما له، أمها مريضة من عشرين سنة، أتنتظر أن تظل البنت عانسًا لأن ستها ماتت عن مائة سنة؟! يا أخي أرجو أن نعيش مثل عمرها، أو حتى أقل بثلاثين سنة. المهم أن أم البنت …

ويقاطعها الشيخ عبد الرحيم: خطبت البنت من أمها في مأتم أم أمها.

وقالت زكية في حزم: نعم، وقبلت، لو رأيتها تعذرني، عود يا شيخ عبد الرحيم.

وقال الشيخ عبد الرحيم في سرعة: هيه، رفيعة.

– العفو عود، عود مليء ووجه كالقمر، وأبوها غني.

– عرفتِ الأخبار كلها.

– بعد الأربعين نتوكل على الله.

ولم يجب الشيخ عبد الرحيم، ومرت الأيام الأربعون، مرت على الناس جميعًا سريعة لا سمة لها ولكنها مرت في بيت الشيخ عبد الرحيم وهو لا يسمع شيئًا إلا عن جمال البنت.

علية وحلاوة علية وعود علية وغنى أبي علية وطيبة أم علية، حتى أصبحت علية داء مستعصيًا في لسان زكية وفي أذن الشيخ عبد الرحيم وفي حياته. إنها المرأة حين تريد، وقد أرادت زكية فهيهات أن يعصي الشيخ عبد الرحيم؛ كان بين اثنتين: أن يطيع زوجه أو يذهب واحد منهما إلى مستشفى المجاذيب، ولما كان الرجل لا يريد لنفسه ولا لزوجته هذه النهاية فقد أسلم أمره لله وأطاع زوجته. وكلم أحمد أفندي أن يحدد لهم موعدًا عند عديلة، وتحدد الموعد وخرج موكب الشيخ عبد الرحيم ليخطب لابن الشيخ عبد الرحيم.

ولو كنت في القرية يومذاك لرأيت الشيخ عبد الرحيم في عمامته الجديدة وجبته المصنوعة من الجوخ الأخضر وتحتها القفطان الحريري ذو الخطوط الحمراء، ولرأيت الشيخ وقد أفلت ذقنه من الحلاق بعد أن سلخها فهي كالجزرة لولا بعض البودرة التي يعدو عليها العرق فتتناقص.

ولرأيت الست زكية في فستانها الكريب دشين وقد غطَّته بالمعطف الأسود الحريري واتخذت على رأسها خمارًا يدور حول أسفل ذقنها شأن سيدات المدن.

ولرأيت خادمة المنزل في فستان جديد وقد صحبتها الست زكية لتكون مظهر غنًى ودلالة سيادة أمام الأصهار، وقد امتنع مدبولي عن الذهاب أول الأمر ولكن أباه تحت وطأة إلحاح أمه أمره فأدخل نفسه في الجلباب الحريري الجديد والمعطف الصوفي الذي وضعه على نفسه على رغم الحر الشديد، وأدخل رأسه في طربوش أحضره له أبوه، وخرج الموكب.

ولم تستطع زكية حين رأت نفسها وزوجها وابنها، والخادمة في العربة ذات الجياد المطهمة لم تستطع أن تملك نفسها فأطلقت زغرودة عريضة تردد صداها في القرية جميعًا، ولكنها لم تكتفِ بها بل ظلت طوال مرور العربة في القرية تطلق الزغاريد، وتفسِّر لزوجها السبب في كل زغرودة تطلقها، فهذه للحاجة فهيمة حبيبة العمر ولا بد أن تشاركها الفرحة، وهذه لفاطمة العدو اللدود التي كرهتها منذ دخلت القرية، وهذه للحاجة منيرة الحاضنة لتستدعي زغرودتها المشهورة، وهكذا حتى خرجت العربة من القرية.

ولو أنك انتظرت في القرية بضع ساعات لوجدت هذا الركب عائدًا كما هو لم يتغير منه شيء أبدًا إلا الزغرودة وزكية، كان الركب عائدًا بالعربة نفسها وزكية واقفة في العربة وقد رفعت الخمار الذي كان يغطي رأسها وصفحتي وجهها وأمسكت به بيديها كلتيهما وراحت تحركه ذهابًا وجيئة خلف رأسها. ثم راحت في الوقت نفسه ترسل الأصوات النائحة الصارخة والكلمات الفاجعة، يا مصيبتي، يا قلة بختي، يا خيبتي عملتها بيدي، وتقلِّب عينك في الركب فتجد الجميع لم يغب منهم أحد ولم يمت أحد، بل إنك تجد أيضًا السعادة في وجوه الجميع.

لقد ذهب الشيخ عبد الرحيم وخطب علية فعلًا، الفرق الوحيد أنه لم يخطبها لابنه مدبولي وإنما خطبها لنفسه، ولعل هذا يفسر لك كل شيء من حزن زكية ونواحها إلى سعادة الآخرين وفرحهم.

فالشيخ عبد الرحيم فرح لأنه حقق أمله آخر الأمر. ومدبولي فرح لأن أباه قبل أن يزوجه فايزة مقابل أن يتزوج هو علية، والخادمة فرحة لأن فرحين سيقامان في المنزل بدلًا من فرح واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤