ربيع

واليوم عاد الربيع، هكذا يقول الوقت ولكن أين الربيع مع الخوف، أين الربيع؟

أهلًا ربيع، جئت في موعدك، لم تستطع قوة أن تدفعك عن أن تعود في موعدك، جئت لم تتأخر وما كان لك أن تتقدم، جئت وقال الناس جاء الربيع، لفظة تحركت بها ألسنتهم ثم استكانت الألسنة وانطبقت الشفاه على الشفاه وهوَّم حول الناس صمت، وانقطع حديث وتطلَّعت العيون إلى فراغ حولها يملؤه، وما حاولت أذن أن تمتد؛ فالناس، كل الناس وأنا منهم، يعلمون أن ليس في الأجواء موسيقاك، ولا نظر الناس يبحثون عن آثارك، فليست هناك الأزاهير والورود، لا ولا هناك المدى الأخضر المنبسط مثل كف طيِّبة حنون، وليس في الماء صفاؤك ولا في الجو أنسامك، بل إن العبق الذي كان ينتشر مع مجيئك تخلَّف اليوم عنك، فما في الجو من عبق شذاك شذًى.

أين أنت إذن أيها الربيع؟ أين أنت؟ ألم تعد إلا موعدًا يحلُّ وموعدًا ينقضي؟ فهل أنت إذن الربيع؟ أين الجمال في موكبك، أين البهجة التي كانت تسير في ركابك؟ أين البدع الذي كان صديقًا لمقدمك؟

أين أنت في نفوسنا؟ أين هذا السرور الذي نحس به قبل أن نحس به يدبُّ في خوافي خلجاتنا دبيبًا واني الخطو واضح الأثر، يتمشَّى في هدوء ولكن في نشوة، أيها الربيع هل جئت حقًّا؟ نعم لقد جئت؛ فهذا موعدك، وما أحسب إلا أنني أقسو عليك قسوة منتظر لموعد أخلفه صاحبه، أو قسوة من ينتظر الخير فلا يجده، وإنني لأعلم أنك براء من كل تهمة ألصقها بك، فما ذنبك أيها المسكين في موسيقى تخلَّفت عن مواكبك وجمال انحسر عن رفقتك وعبق صدف عن مسيرك، لا، لا ذنب لك في هذا ولا جريرة، إنما نحن البشر، لكم أسخر من نفسي حين أضم نفسي في البشرية إلى هؤلاء الذين وقفوا دون رفقتك فصدوهم عن المجيء، وما أنا؟ شخص يعيش على هامش الدنيا لا تحس به الدنيا وتجتمع في نفسي كل أحزان الدنيا وآلام البشر. ولكن ما ذنبي؟ يلهو كنيدي هناك في الضفة الأخرى من العالم، أو يعبث خروشوف هناك في عالم آخر لا أدري من أمره شيئًا، فإذا لهو كنيدي وعبث خروشوف ينصبَّان عليَّ أنا، أنا هنا في مصر فالرعب يملأ قلبي ونفسي ومشاعري فلا أرى من الربيع إلا تاريخه معلقًا على صفحة ملصوقة بجدار.

لعلك أيها الربيع قد جئت ومعك هذه الرفقة التي تعوَّدنا أن ترافقك كلما جئت ولكن أنا، أنا لا أحس شيئًا منك، وما لي أنا إذا كانت موسيقاك معك ما دمت لا أسمعها، أو كان جمالك في ركابك ما دمت لا أراه، أو كان العبق منك ينتشر شذاه ما دمت لا أشمه، وكيف لي أن أحس بشيء من هذا وأنا خائف؟ إن خلا قلبي من الخوف فليتح للغضب الثائر تصبه عليَّ زوجتي، زوجتي المقيمة ببيت يضل عنه الهواء، وتتعثر دونه الشمس في زقاق متفرع عن حارة صادرة عن شارع نابت عن طريق عام بحي اسمه باب الشعرية.

زوجتي هذه آفتها قراءة الجرائد، وقد انصبَّت هذه الآفة على حياتي أنا تنغصها، فأنا من حياتي هذه في إظلامٍ الظلام أعظم منه إشراقًا. زوجتي خدوجة بنت الشيخ عبد الصمد تعلمت القراءة على يد أبيها في الكُتاب، وشقيت أنا بما تعلمت وبما تقرأ. زوجتي خدوجة بنت الشيخ عبد الصمد تتابع كنيدي واجتماعاته وخروشوف وأحاديثه، فإن اختلفا — وهما لا يتفقان — فنهاري أسود من الحبر، والحرب تقوم في بيتي متوقعة الحرب في العالم، وويل لي من خدوجة، وويل لي من كنيدي، وويل لي من خروشوف، يا لسخرية الحديث! جاء الزمن وأصبحت خدوجة توضع مع ساسة العالم، العالم جميعه، البشرية برمتها، خدوجة، خدوجة عبد الصمد توضع معهم جملة واحدة وسبحان الذي يغير ولا يتغير. تُرى هل أحس كنيدي إذا ما دعا لحديث صحفي أو أحس خروشوف في تفكيره السياسي، هل أحس واحد واحد منهما أن هنا، هنا في مصر، وفي زقاق من حارة من شارع من طريق واحدة اسمها خدوجة عبد الصمد تسوِّد عيشة زوجها، بل وعيشة أولادها أيضًا تبعًا لركاب كل واحد منهما؟

ما هذا العالم العجيب؟! كيف يتاح لفردَين مثلي لا يزيد واحد منهما عني شيئًا؛ فكل منهما يأكل ويشرب ويمرض ويقطع طريقه إلى الموت، ويقع في الخطأ أكثر مما يصادف من الصواب، كيف يُتاح لهذين، وحدهما أن يؤثِّرا في حياتنا كل هذا التأثير؟! كيف استطاعا أن يدخلا إلى بيتي، بيتي المنزوي عن البشرية، المستخفي وراء الأزقَّة والحواري والبيوت وبقايا البيوت بل والخرابات كيف استطاعا أن يدخلا إليه، ويسيطرا عليه ويتحكما في مصائر من به؟! بل كيف استطاعا أن يجعلا موسيقى الربيع قصفًا من القنابل وزهر الربيع دماء من الجراح، وجمال الربيع رعبًا من الغد وهلعًا من المستقبل؟! من أعطاهما هذا الحق؟ من خوَّله لهما؟! أنا لم أنتخب كنيدي ولم أشارك في اختيار خروشوف، فلماذا يمنعان عني الربيع؟! ولماذا يثيران بيتي عليَّ فهو جحيم لا أطيقه ولا أجد لي ملجأ غيره؟!

ها أنا ذا في الطريق العام، لا أستطيع أن أعود إلى البيت والبركة في كنيدي وخروشوف وأزمة ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، أيصدق هذا أحد يا عالم؟! أهذا معقول؟! ما لي أنا ولألمانيا ولكنيدي ولخروشوف؟! هل قلت لهما اختلفا؟! زوجتي بثاقب نظرها تريدنا أن نهاجر إلى بيت أبيها في الريف، تريد ابني الأكبر أن يترك الكلية الحربية، وابني الأصغر أن يترك كلية الطب، وهذه الرغبات جميعها عليَّ أنا وحدي أن أنفِّذها مضافًا إليها مطلب آخر بسيط، أن أترك وظيفتي في القاهرة، نعم تلك حالها منذ الحرب العالمية الثانية.

فقد فقدنا في إحدى الغارات طفلنا الأول وكنت موظفًا آنذاك في الإسكندرية، ويعلم الله وأعتقد أن الجميع يعلمون أنني لم أكلم هتلر بشأن الحرب ولا فاتحت تشرشل في أمرها، وإنما قامت الحرب بينهما وانضم إلى كل منهما من انضم دون أن أتدخَّل أنا في هذا الموضوع على الإطلاق، ولم تكن لي صلة بالحرب، ولدي الذي فقدته وزوجتي التي فقدت عقلها أو تكاد منذ ذلك اليوم. أصبحت كلما ثارت بوادر خلاف عالمي تثور ثورتها، وتروح تُهيِّئ المنافذ من الخطر المحدق بها وبنا، وأخرج من البيت وأظل هائمًا على وجهي لا أمل لي إلا أن تنام فأعدو في خلسة من نومها، وأنام لأعد نفسي لغد لا يختلف كثيرًا عن اليوم، وأظل عمري طريد الأفكار والأخبار ورعب زوجتي، ولا أجد ما يخفف عليَّ بُعدي عن البيت إلا الجلوس إلى المقهى، ولكن الأصدقاء هناك أيضًا لا يَسلمون من الخوف، هم يتحدثون عن الغد في رعب، يخافون أن يلاقوا الحياة وليس في يدهم من مالٍ ما يستطيعون به أن يواجهوا الحياة، ويخافون أن تقوم الحرب فتتخطف أرواحهم أو أرواح أحبائهم، ويخافون ألا تقوم الحرب فيظل الكساد ناشرًا عليهم بلواه، ويخافون من رؤسائهم، ويخافون من مرءوسيهم، خوف، خوف في نفوسهم.

أحاول أن ألعب أي شيء مما يلعبون ولكن أين لي بأرواحهم تصفو للعب وأين لي بروحي أنا تصفو للعب؟ فأطوي اللعب ونعود إلى الحديث أو نعود إلى الخوف، هلع يحيط بي، هلع يحيط بي في البيت وفي المقهى، ولا أحب الوحدة، وأخشى نفسي إذا انفردت بي فقد تعودت أن تخلق من الحديث ما يملؤني رعبًا أو ما يملؤني ضيقًا.

واليوم عاد الربيع، هكذا يقول الوقت ولكن أين الربيع مع الخوف؟! أين الربيع؟! ويل لهؤلاء الزعماء. كيف استطاعوا أن يحطموا الربيع، الربيع؟! يحطمون الربيع. وبيتي؟! أيحطمون بيتي؟!

كم أحب الجلوس إلى ولديَّ، كلاهما شاب في بواكير الشباب الأولى، أريد أن أتمتَّع بهما، بنظرتهما إلى المستقبل، وبحديثهما عما ينتظران من الحياة، ولكن ما لهما صامتَين يرنوان إلى الحياة بعين ذاهلة، جاهلة، نعم، أعلم، لقد تدخل كنيدي وخروشوف في حياتهما هما أيضًا، ماذا ينتظران من غدهما، ألهما غد؟ ويلي أين أذهب، ما لي ولهذا جميعه؟ أريد أن أترك هذا جميعًا وأريد أن أرى الربيع، أليس في مصر، مصر جنة الله في الأرض، ربيع، أين أجد الربيع؟ في النيل أبي الدنيا وأعظم ما جرى فيها من أنهار، أصل الحضارات وأولها وقبرها، النيل الضخم العريض الطويل، أما أجد حوله ربيعًا، ظلًّا من الربيع، إن لم يكن إلى ربيع سبيل، ويل للنيل، ما له يجري هكذا صامتًا، أين الضحك في موجاته، أين الربيع في رقراق مائه، أين النيل؟!

أترى أجد الربيع في الحديقة؟ أية حديقة، حديقة من حدائق القاهرة الكثيرة البهيجة المترامية الأطراف، لا ربيع هناك!

ويلي لم أكن فيما مضى من سنوات أبحث عن الربيع بل كان هو من يبحث عني، وكان دائمًا يجدني، لا، لا ربيع، ومع ذلك فهناك في بيتي ورقة معلَّقة على الحائط تقول حل الربيع، فأين الربيع؟

ترى ماذا تفعلين الآن يا خدوجة؟ ماذا تراك تفعلين؟ أنت بجوار الراديو كشأنك دائمًا تتصيدين الأنباء لتذكي بها الرعب في نفسك، وكأن ما بنفسك من رعب لا يكفيك. ألا يكفيك ما فعلت من تشريد زوجك لا يعود إلى البيت أو تنامي، وتشتيت ولديك يجاهد كل منهما أن يترك البيت ما أمكنته الفرصة؟ وأنتِ أنتِ تتابعين خروشوف وكنيدي وتتكهنين وترين المستقبل وليس فيه إلا الحرب، رحماك يا رب.

أين أذهب الآن؟ ضاقت بي الطرق، تمنيت أن أجد الربيع في الطريق العام فلم أجد الربيع وفقدت نفسي ولم أجد إلا خوفي، خوفي الذي لا يتركني وكرهي أن أعود إلى البيت، وما لي من سبيل غير العودة إلى البيت.

أتراني أجد أحدًا من ولديَّ قد عاد؟ أتراني أستطيع أن أجلس إلى واحد منهما بعض الوقت، أريد أن أجلس إلى واحد من ولديَّ، ها هو ذا النور ينبعث من منزلي، إنه نور خافت لا إشراق فيه، نور المصباح الذي تضعه زوجتي على الراديو، إذن فهي وحدها، حسبي الله ونعم الوكيل، لا بدَّ أن أدخل، لقد تعبت قدماي، نعم أعرف أول سؤال ستقوله، أعرفه، أعرفه هل أحضرت جريدة بعد الظهر؟! لا يمكن إلا أن تسأل هذا السؤال، هيه، بسم الله الرحمن الرحيم، ها هي ذي قد سألت سؤالها، هل أحضرت جريدة بعد الظهر؟ يارب، يارب، أنت وحدك من تستطيع إنقاذي من كنيدي وخروشوف، وخدوجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤