مغامرة العصابة الرقطاء

حين ألقيتُ نظرةً خاطفةً على القضايا السبعين الغريبة التي درستُ من خلالها، على مدار السنوات الثماني الماضية، أساليب صديقي شيرلوك هولمز، وجدتُ أن كثيرًا منها مأساوي، وبعضها كوميدي، وعددًا كبيرًا منها غريبٌ فحسب، لكن لم يكن أيٌّ منها عاديًّا؛ لأنه نظرًا لاضطلاعه بهذا العمل حُبًّا في فنه أكثر من تحصيل الثروة، كان يرفض الانضمام إلى أيِّ تحقيق لا يتسم بطابع الغرابة، بل والعجب. ومع ذلك، من بين كل هذه القضايا المتنوعة، لا يمكنني تذكُّر أيِّ قضية بها من السِّمات الفريدة أكثر من قضية عائلة رويلوت الشهيرة من ستوك موران في مقاطعة سَري. وقعت أحداث هذه القضية في بداية معرفتي بهولمز، حين كنا نعيش كعازبَين في شقة مشتركة في شارع بيكر. كان بإمكاني تدوينها في سجلاتي قبل هذا، ولكني أقسمتُ على السِّرية في حينها، ولم أتحرر من هذا القَسم إلا الشهر الماضي مع الوفاة المفاجئة للسيدة التي تعهدتُ لها به. ولعل من الأفضل أيضًا خروج هذه الحقائق للنور؛ إذ تبادر إلى علمي انتشار شائعات بشأن وفاة الدكتور جريمسبي ويلوت، وهي تجعل المسألة تبدو أسوأ من حقيقتها.

كنا في بداية شهر أبريل من عام ١٨٨٣، واستيقظتُ من نومي لأجد شيرلوك هولمز واقفًا بجوار سريري مرتديًا ملابسه بالكامل. كان من عادته الاستيقاظ متأخرًا، إذ كان هذا إحدى قواعده، وظهر لي من الساعة الموجودة على رفِّ الموقد أنها لم تتعدَّ السابعة والربع، فنظرتُ إلى الأعلى إليه ورمشتُ له بعينيَّ في نوع من الدهشة، وربما قليل من الاستياء؛ لأني كنتُ منتظمًا في عاداتي أيضًا.

قال لي: «آسف للغاية لأني أيقظتُك يا واطسون، لكنه قدرُنا المشترك هذا الصباح. فقد استيقظت السيدة هادسون وهرعت إليَّ، وهرعتُ أنا إليك.»

«ماذا حدث إذن، حريق؟»

«لا، عميل. فيبدو أن سيدة شابة وصلت في حالة من الإثارة البالغة، وتُصر على مقابلتي، وهي تنتظر الآن في غرفة الجلوس. وعندما تتجول سيدات شابات في العاصمة في هذه الساعة من الصباح، ويوقظن أشخاصًا نائمين من نومهم، أفترض أن ثمة أمرًا مُلحًّا للغاية عليهن الإبلاغ عنه. وإن اتضح أنها قضية مثيرة للاهتمام، فأنا متأكد من أنك سترغب في متابعتِها من البداية. ظننت أن عليَّ إيقاظك، على أيِّ حال، وإعطاءك هذه الفرصة.»

«يا صديقي العزيز، ما كنتُ لأُفوِّت هذه الفرصة بأيِّ ثمن.»

كنتُ أجد أقصى سعادتي في اتباع هولمز في تحقيقاته المهنية، والإعجاب باستنتاجاته السريعة، التي تتبادر إليه في سرعة الأفكار البديهية، لكنها دومًا ما كانت ترتكز على أساس منطقي يستخدمه في حلِّ المشكلات التي تُوكَل إليه. ارتديتُ ملابسي سريعًا وأصبحتُ جاهزًا في غضون دقائق قليلة لمرافقة صديقي إلى غرفة الجلوس في الأسفل. وعند دخولنا الغرفة، قامت سيدة مُتَّشحة بالسواد، وتُغطي وجهها بالكامل، من مجلسها بجوار النافذة.

قال هولمز بمرح: «صباح الخير يا سيدتي. أنا اسمي شيرلوك هولمز، وهذا صديقي العزيز وزميلي الدكتور واطسون، ويمكنكِ الحديث أمامه بحُرية تمامًا مثلما تتحدثين إليَّ. هاه! يُسعدني أن أرى أن السيدة هادسون قد تصرفت بحكمة وأشعلت النار. أرجوكِ، عليكِ الاقتراب منها، وأنا سأطلب لكِ كوبًا من القهوة الساخنة، إذ أرى أنكِ ترتجفين.»

قالت المرأة بصوتٍ منخفض، وهي تغير مقعدها كما طلب منها هولمز: «ليس البرد هو ما أرتجف منه.»

«مِمَّ إذن؟»

«من الخوف يا سيد هولمز، من الرعب.» هنا رفعت الخِمار عن وجهها وهي تتحدث، فاستطعنا رؤية أنها بالفعل في حالة يُرثى لها من الانفعال؛ فكان وجهها شاحب اللون وبدا عليه الإعياء، وترى في عينيها جزعًا وخوفًا، كالذي تراه في عينَي حيوان مُطارَد. كانت ملامحها وهيئتها تنُمَّان عن سيدة في الثلاثينيات من عمرها، لكن غزا شعرَها لونٌ رمادي سابق لأوانه، ودلت تعبيرات وجهها على التعب والإرهاق. تفحَّصَها شيرلوك هولمز بإحدى نظراته السريعة والشاملة.

قال مهدئًا لها، وهو ينحني إلى الأمام ويُربِّت على ساعدها: «لا تخافي، فأنا متأكد أننا سنُعيد الأمور إلى نِصابها في أسرع وقت. أرى أنكِ حضرتِ بالقطار إلى هنا.»

«أنتَ تعرفني إذن؟»

«لا، ولكني لاحظتُ النصف الثاني من تذكرة العودة في راحة قفازك الأيسر. لا بدَّ أنكِ بدأتِ رحلتك مبكرًا، ومع ذلك قطعتِ مسافة طويلة في عربة تجُرها الكلاب، في طرق وعرة، قبل الوصول إلى محطة القطار.»

انتفضت السيدة بقوة وحدَّقت في صديقي في ذهول.

قال صديقي مبتسمًا: «هذا واضح تمامًا، يا سيدتي العزيزة؛ فقد تناثر الطمي على الذراع اليُسرى لسُترتِك في سبعة مواضع على الأقل. وهذه الآثار ما زالت حديثة تمامًا. ولا توجد مركبة تبعثر الطمي على هذا النحو إلا العربة التي تجرها الكلاب، وهذا لا يحدث إلَّا إن جلس المرء على يسار السائق.»

قالت السيدة: «أيًّا كانت حُجَجك فأنت محقٌّ تمامًا؛ فقد بدأتُ رحلتي من المنزل قبل السادسة، ووصلتُ إلى ليذرهيد في السادسة والثُّلث، ووصلتُ إلى هنا بأول قطار مُتَّجه إلى ووترلو. سيدي، أنا لم أَعُد أُطيق الاحتمال أكثر من هذا؛ فسأجنُّ إن استمر هذا الوضع. ولا أحد ألجأ إليه، لا أحد، فيما عدا شخصًا واحدًا يهتم لأمري، وليس في وسع هذا المسكين مساعدتي بشيء. وسمعتُ عنك يا سيد هولمز، سمعتُ عنك من السيدة فارينتوش التي ساعدتها عندما كانت في أمسِّ حاجة للمساعدة. فحصلتُ منها على عنوانك. آه يا سيدي، أترى أن بإمكانك مساعدتي أنا أيضًا، وعلى الأقل أن تشع بعض الضوء في الظلام الحالك الذي يحيط بي؟ ليس باستطاعتي في الوقت الحالي مكافأتك نظير خدماتك، لكنني في غضون شهر أو ستة أسابيع سأتزوج، وسأكون مُتحكِّمة في دخلي الخاص، وعلى الأقل عندها لن تجدني ناكرة لمعروفك.»

استدار هولمز واتجه نحو مكتبه، وفتحه وأخرج منه دفترًا صغيرًا للقضايا، وبحث فيه.

قال: «فارينتوش، آه نعم، أذكر هذه القضية، كانت تتعلق بتاج من العقيق. أعتقد أنها كانت قبل معرفتي بك يا واطسون. لا يسعني إلا أن أقول لكِ يا سيدتي إنني سأعطي لقضيتكِ الاهتمام نفسه الذي أعطيته لقضية صديقتكِ. وأما عن المكافأة، فمهنتي هي مكافأتي الحقيقية، لكن لكِ الحرية في تعويضي عما أُضطر إلى دفعه من نفقات في الوقت الملائم لكِ. والآن رجاءً أخبرينا بكلِّ شيءٍ من شأنه أن يساعدنا في تكوين رأيٍ عن القضية.»

ردت زائرتنا قائلة: «وا أسفاه! إن المُفزع في وضعي هو حقيقة أن مخاوفي مبهمةٌ للغاية، وتعتمد شكوكي بالكامل على أشياء صغيرة للغاية، ربما تبدو تافهة لأيِّ شخص آخر، حتى إن الشخص الوحيد الذي لديَّ الحق في اللجوء إليه، بحثًا عن العون والنصيحة، اعتبر كل ما أُخبره به أوهام امرأة متوترة. وبينما لم يخبرني بهذا صراحةً، فإني استطعتُ استنباطه من إجاباته المهدئة وعينيه اللتين أشاح بهما عني. لكني سمعتُ يا سيد هولمز أنك تستطيع سبر غور الشر المُتشعب في النفس البشرية. فربما يمكنك نصحي وإرشادي لطريقة أستطيع بها السير وسط الأخطار المحيطة بي.»

«كلي آذان صاغية يا سيدتي.»

«اسمي هيلين ستونر، وأنا أعيش مع زوج والدتي، وهو آخر المنتمين لواحدة من أقدم الأُسر السكسونية في إنجلترا، وهي أسرة رويلوت من ستوك موران، التي تقع على الحدود الغربية لمقاطعة سَري.»

أومأ هولمز برأسه، وقال: «هذا الاسم مألوف لي.»

واصلتْ حديثها قائلة: «كانت هذه الأسرة من أغنى الأُسر في وقتٍ من الأوقات في إنجلترا، وامتدت ضيعاتُها عبر الحدود وصولًا إلى باركشير في الشمال، وهامبشير في الغرب. إلا أنه عبر القرن الماضي، تعاقب في الأسرة أربعة ورثة لديهم نزعة ماجنة ومُبذرة، واكتمل دمارُ الأسرة في النهاية على يد مُقامر في عصر الوصاية على العرش. لم يبقَ شيءٌ إلا بضعة أفدنة من الأراضي، ومنزل عمره مائتا عام مرهون بمبلغ كبير. قضى آخر سكواير حياته في هذا المنزل، حيث عاش حياة الأرستقراطي الفقير المريرة، لكن ولده الوحيد — زوج والدتي — من منطلق إدراكه لضرورة التكيف مع الظروف الجديدة، حصل على قرض من أحد أقاربه، مكَّنه من الحصول على درجة جامعية في الطب والذهاب إلى كلكتا، حيث استطاع بمهارته العملية وقوة شخصيته إنشاء عيادة كبيرة. إلا أنه في نوبة من الغضب نتجت عن بعض السرقات التي حدثت في المنزل، ضَرَب كبير الخدم الهندي حتى الموت، وأفلت بأعجوبة من عقوبة الإعدام. والواقع أنه عانى من السجن لفترة طويلة وبعدها عاد إلى إنجلترا وهو إنسانٌ مكتئبٌ ومحبط.

حين كان الدكتور رويلوت في الهند تزوَّج من والدتي، السيدة ستونر، الأرملة الشابة للواء ستونر في سلاح المدفعية البنغالي. أنا وأختي جوليا توءمان وكنا في الثانية من عمرنا عندما تزوجت والدتنا لمرة أخرى. كانت أمنا تمتلك مبلغًا كبيرًا من المال — لم يكن دَخْلُها يقل عن ألف جنيه إسترليني في السنة — ووضعتْه بالكامل تحت تصرف الدكتور رويلوت حين أقمنا معه، شريطة حصول كلِّ واحدة منا على مبلغٍ سنويٍّ محدَّد في حال زواجنا. ولم يمضِ وقتٌ طويل على عودتنا إلى إنجلترا حتى تُوفِّيت والدتي؛ إذ قُتلت منذ ثمانية أعوام في حادث قطار بالقرب من مدينة كرو. عندئذٍ تخلَّى الدكتور رويلوت عن محاولاته لإثبات نفسه في مزاولة الطب في لندن وأخذَنا لنعيش معه في منزل أجداده القديم في ستوك موران. كان المال الذي تركتْه والدتنا كافيًا لتلبية كافة احتياجاتنا، ولم يبدُ أن ثمة عائقًا أمام سعادتنا.

إلا أن تغيرًا رهيبًا اعترى زوج والدتنا في هذه الفترة؛ فبدلًا من إقامة صداقات مع جيراننا وتبادل الزيارات معهم، وهم الذين سعدوا للغاية في البداية بعودة أحد أفراد عائلة رويلوت إلى منزل العائلة القديم في ستوك موران، انغلق على نفسه في منزله ولم يكن يخرج إلا نادرًا لينخرط في مشاجراتٍ عنيفةٍ مع أيِّ شخصٍ يعترض طريقه. إن الطبع العنيف الذي يقترب من حدِّ الجنون وراثيٌّ في رجال عائلته، وأعتقد أنه في حالة زوج والدتي زاد بفعل إقامته لفترة طويلة في المناطق الاستوائية. حدثت سلسلة من المشاجرات المخزية، انتهت اثنتان منها أمام الشرطة، حتى أصبح في النهاية مصدرًا للرعب في القرية، ويهرب الناس عند رؤيته، فهو رجل ذو قوة هائلة، وغضب لا يُسيطر عليه على الإطلاق.

في الأسبوع الماضي دفع حَدَّاد القرية من فوق حاجز الجسر فسقط في المجرى المائي، ولم أستطع تجنُّب فضيحة علنية أخرى إلا بدفعي له كل ما تمكنتُ من جمعه من مال. لم يكن لديه أصدقاء على الإطلاق فيما عدا مجموعة من الغجر الرَّحَّالة، وقد سمح لهؤلاء المتشردين بالتخييم في الأفدنة القليلة المغطاة بالعُليق التي تُمثل ضيعة الأسرة، ونظير هذا كانوا يستضيفونه في خيامهم، وكان يتجوَّل بعيدًا معهم أحيانًا لأسابيع متتالية. كما أن لديه شغفًا بالحيوانات الهندية، التي يرسلها إليه شخص يراسله، ويملك في الوقت الحالي فهدًا وقرد بابون، يتجوَّلان بحُرية في الأرض ويخاف منهما أهالي القرية تمامًا كخوفهم من مالكِهما.

يمكنك أن تتخيل مما قلته أنني وأختي جوليا المسكينة لم يكن لدينا أيُّ متعة كبرى في حياتنا؛ فلم يكن أي خادم يبقى عندنا، ولوقت طويل ظللنا نقوم بكافة أعمال المنزل بأنفسنا. ولم تكن أختي قد جاوزت الثلاثين من عمرها عند وفاتها، ومع ذلك فكان شعرها قد بدأ بالفعل يتحوَّل إلى اللون الأبيض، تمامًا كحال شعري.»

«إذن فقد تُوفِّيت أختك؟»

«تُوفِّيت منذ عامين فقط، وأريد الحديث عن واقعة وفاتها. يمكنك أن تتفهم أن في نمط الحياة التي شرحتها لتوِّي كان من غير المرجح بشدة أن نتعرف على أيِّ شخصٍ في نفس عمرنا ومكانتنا. ومع ذلك فقد كان لدينا خالة، وهي أخت غير متزوجة لوالدتنا، تُدعَى الآنسة أونوريا ويستفيل، تعيش بالقرب من مدينة هارو، وكان مسموحًا لنا بزيارتها بين الحين والآخر زيارات قصيرة في منزلها. ذهبت جوليا إلى هناك في الكريسماس منذ عامين، والتقت برائد في البحرية يتقاضى نصف أجر، وخُطبت له. عَلِم زوج والدتي بالخطبة عند عودة أختي ولم يُعارض الزيجة بأيِّ شكل، لكن قبل أسبوعين من اليوم المحدد للزفاف، وقع الحادث المريع الذي حرمني من رفيقتي الوحيدة في الحياة.»

كان شيرلوك هولمز مستلقيًا إلى الخلف في مقعده وعيناه مغلقتان ورأسه يغوص في الوسادة، لكنه فتح فمه نصف فتحة وأمعن النظر في زائرته.

قال لها: «أرجو إخبارنا بالتفاصيل بدقة.»

فردَّت قائلة: «من السهل عليَّ فعل هذا، فكل حدثٍ من أحداث هذا الوقت العصيب محفور في ذاكرتي. إن بيت المزرعة، كما أخبرتكما، قديم للغاية، ولم يَعُد إلا جناح واحد منه صالحًا للسكن الآن. تقع غرف النوم في هذا الجناح في الطابق الأرضي، بينما تقع غرف الجلوس في وسط المبنى. وغرف النوم هي كالآتي: أولًا غرفة الدكتور رويلوت، ثم غرفة أختي، والغرفة الثالثة هي غرفتي. لا وجود لاتصال بينها لكنها كلها تفتح على الممر نفسه، هل كلامي واضح؟»

رد عليها: «تمامًا.»

«تطل نوافذ الغرف الثلاث على الحديقة. وفي هذه الليلة المشئومة ذهب الدكتور إلى غرفته مبكرًا، مع أننا عرفنا أنه لم يذهب إليها للنوم؛ إذ كانت أختي منزعجة من الرائحة القوية لسيجاره الهندي الذي اعتاد تدخينه؛ ولذلك تَركَت غرفتها وجاءت إلى غرفتي حيث جلست لبعض الوقت تتحدث معي حول زفافها الذي اقترب موعده. وفي تمام الحادية عشرة نهضت لتغادر، لكنها وقفت عند الباب ونظرت إلى الخلف وقالت:

«أخبريني يا هيلين، ألم تسمعي قطُّ أحدًا يُصفِّر عند منتصف الليل؟»

فرددت عليها: «مطلقًا.»

فقالت: «أعتقد أنكِ لا تستطيعين التصفير في أثناء نومك.»

«بالطبع نعم، لكن لماذا؟»

«لأنني كنت أسمع دومًا في الليالي القليلة الماضية، عند الثالثة صباحًا تقريبًا، صوتَ صفيرٍ واضح. وأنا نومي خفيف، فكان هذا الصوت يوقظني. لا يمكنني تحديد من أين يأتي بالضبط، ربما من الغرفة المجاورة، وربما من الحديقة. ففكرتُ أن أسألكِ إن كنتِ قد سمعتِه.»

«لا، لم أسمعه، لا بد أنه صادر من هؤلاء الغجر البائسين في الحقول.»

«احتمال كبير، لكن إن كان قادمًا من الحديقة، فلماذا لم تسمعيه أنتِ أيضًا؟»

«آه، لكني لا أستيقظ بسهولة مثلك.»

«حسنًا، على أيِّ حال ليس للأمر عواقب وخيمة.» وابتسمت لي وأغلقت الباب، وبعدها ببضع دقائق سمعتها تغلق الباب بالمفتاح.»

قال هولمز: «صحيح، هل كان من عادتكما إغلاق الباب بالمفتاح على أنفسكما في الليل؟»

«دومًا.»

«لماذا؟»

«أعتقد أني ذكرت لكما أن الدكتور يحتفظ بفهدٍ وقرد بابون في المنزل، ولم نكن نشعر بالأمان إلا إذا أغلقنا الأبواب على أنفسنا بالمفتاح.»

«الأمر كذلك إذن، أرجوكِ أكملي حديثك.»

«لم أستطع النوم في تلك الليلة، وانتابني شعور غامض باقتراب وقوع حدث مشئوم. كما تذكر فأنا وأختي توءمان، وكما تعلم ثمة روابط خفية بين رُوحَين تجمعهما مثل هذه الرابطة الوثيقة. كانت هذه الليلة موحشة؛ فكانت الريح تعصف بالخارج، والأمطار تتساقط وتضرب بقوة على النوافذ. وفجأة، وسط كلِّ صخب الرياح العاتية، انطلقت صرخة مروعة لامرأة مذعورة، وعلِمتُ أنه صوتُ أختي. انتفضتُ من سريري، وتلفحتُ بشال، وهرعتُ إلى الممر. وعندما فتحتُ باب غرفتي سمعتُ صوتَ صفيرٍ منخفض، مثل ذلك الذي وصفتْه لي أختي، وأعقبه بعد بضع لحظات صوتُ جَلْجَلة، كما لو أن كتلة من المعدن سقطت. وحينما ركضت إلى آخر الممر، وجدتُ باب غرفة أختي مفتوحًا، ويتأرجح ببطء حول مفصلاته. نظرتُ إليه والخوف يعتريني؛ إذ لم أكن أدري ما الذي على وشك الخروج منه. وفي ضوء مصباح الممر رأيتُ أختي وهي تخرج من فتحة الباب، ووجهها شاحب من الهلع، ويداها تتحسَّسان الأشياء بحثًا عن مساعدة، وجسمها كله يترنَّح إلى الأمام والخلف مثل السِّكِّير. هرعتُ إليها وأحطتها بذراعيَّ، لكن في هذه اللحظة يبدو أنَّ ركبتَيها لم تستطيعا احتمال الأمر أكثر من هذا فسقطتْ على الأرض. صارت تتلوَّى كالذي يُعاني مِن ألمٍ بالغ، وتشنَّجت أطرافها تشنجًا مُروعًا. في البداية اعتقدتُ أنها لم تتعرف عليَّ، لكن عندما انحنيت فوقها صرخت فجأة بصوت لا يمكنني نسيانه أبدًا وقالت: «يا إلهي! هيلين! إنها العصابة! العصابة الرقطاء!» ثمة شيءٌ آخر أرادت قوله، ومدت إصبعها في الهواء مشيرةً باتجاه غرفة الدكتور، لكنها أُصيبت بتشنج آخر خنق الكلمات في فمها. انطلقتُ أنادي بصوت مرتفع على زوج والدتنا، وقابلته وهو يخرج مسرعًا من غرفته في رداء النوم. حين وصل إلى أختي كانت قد غابت عن الوعي، وعلى الرغم من أنه سكب الخمر في حلقِها وأرسل طلبًا للمساعدة الطبية من القرية، ذهبت كل الجهود سُدًى؛ إذ تدهورت حالها ببطءٍ وتُوفِّيت دون أن تستعيد وعيها. وهكذا كانت النهاية المُروعة لأختي الحبيبة.»

قال هولمز: «لحظة واحدة، هل أنتِ متأكدة من صوت الصفير والجلجلة هذا؟ أيمكنك القَسَم على ذلك؟»

«هذا ما سألني عنه محقق الوفيات في المقاطعة عند التحقيق في القضية، وأنا لديَّ شعورٌ قويٌّ بأني سمعته بالفعل، ومع ذلك ربما تعرضتُ وسط صوت هبوب الرياح وصرير المنزل القديم للخداع.»

«هل كانت أختك ترتدي ملابس الخروج؟»

«لا، كانت ترتدي ملابس النوم، وعُثر في يدها اليمنى على عقب ثقاب محروق، وفي يدها اليسرى على عُلبة ثقاب.»

«يُشير هذا إلى إشعالها للضوء ونظرها حولها عندما حدث ما أفزعها. هذا أمر مهم، وماذا كانت استنتاجات المحقق في القضية؟»

«لقد حقَّق في القضية بعناية بالغة؛ نظرًا لذيوع سوء سلوك الدكتور رويلوت منذ وقتٍ طويلٍ في المقاطعة، لكنه لم يتمكن من العثور على أيِّ سببٍ مقنع للوفاة. وأظهرت إفادتي أن الباب كان موصدًا من الداخل، وأن النوافذ مُزوَّدة بمصاريع قديمة الطراز وقضبان حديدية عريضة وتُغلَق كل ليلة. خضعت الجدران للفحص الدقيق، واتضح أنها سليمة تمامًا في كل أجزائها، وتعرضت الأرضيات أيضًا للفحص، ونتج عن الفحص النتيجة نفسها؛ ومِن ثَمَّ تأكد أن أختي كانت بمفردها تمامًا عندما لقيتْ حتفها. وبالإضافة إلى هذا، لم تظهر أيُّ آثار للعنف على جسدها.»

«وماذا عن السُّم؟»

«فحصها الأطباء بحثًا عنه، لكن دون جدوى.»

«ماذا في اعتقادك إذن أدَّى إلى وفاة هذه المرأة البائسة؟»

«أعتقد أنها ماتت من الخوف المحض والصدمة العصبية، على الرغم من عدم قدرتي على تخيل الشيء الذي أخافها إلى هذا الحد.»

«وهل كان الغجر في المَزارع في هذا الوقت؟»

«أجل، فيوجد بعضٌ منهم هناك طوال الوقت تقريبًا.»

«حسنًا، وماذا فهمتِ من هذه الإشارة إلى العصابة، العصابة الرقطاء؟»

«أحيانًا أفكر في الأمر أنه حديث غريب لشخص يهذي، وأحيانًا أفكر في أنها تُشير إلى عصابة من الناس، وربما إلى هؤلاء الغجر الموجودين في الحقول. فأنا لا أعلم ما إذا كانت المحارم المرقطة التي يرتديها كثير منهم على رءوسهم هي السبب في هذه الصفة الغريبة التي استخدمتها.»

هزَّ هولمز رأسه كشخصٍ لم يقنعه هذا التفسير.

ثم قال: «هذا أمر شائك، أرجوكِ أكملي حديثك.»

«مرَّ عامان على هذه الحادثة، وعشتُ في وحدة لا نظير لها حتى وقت قريب. لكن منذ شهر مضى شَرَّفني صديقٌ عزيزٌ عليَّ، امتدت معرفتي به لسنوات طويلة، بتقدمه لطلب يدي. اسمه أرميتاج — بيرسي أرميتاج — الابن الثاني للسيد أرميتاج من منطقة كرين ووتر بالقرب من ريدينج. لم يعارض زوج والدتي الزواج على الإطلاق، ومن المقرر عقد الزواج في الربيع. منذ يومين بدأت أعمال ترميم في الجناح الغربي للمبنى، وحدث ثقب في جدار غرفتي؛ لذا اضطُررتُ إلى الانتقال إلى الغرفة التي تُوفيت فيها أختي، والنوم في السرير نفسه الذي كانت تنام فيه. ولك أن تتخيل إذن مدى الرعب الذي شعرت به في الليلة الماضية حينما سمعتُ فجأة، وأنا مستلقية مستيقظة أفكر في المصير الرهيب الذي لحق بها، في صمت الليل صوتَ الصفير المنخفض الذي كان نذير وفاتها. انتفضتُ من السرير وأشعلت المصباح، لكني لم أرَ شيئًا في الغرفة. ومع ذلك، كنتُ أشعر برعب بالغ منعني من الخلود إلى النوم مرةً أخرى؛ لذا ارتديتُ ملابسي وبمجرد بزوغ ضوء الصباح تسللتُ إلى خارج المنزل، وركبتُ عربة تجرها الكلاب من نُزل كراون، المقابل لمنزلنا، وذهبتُ إلى ليذرهيد، ومن هناك جئتُ إليك في هذا الصباح وهدفي الوحيد أن أقابلك وأطلب النصيحة منك.»

قال صديقي: «خيرًا فعلتِ. لكن هل أخبرتِني هكذا بكلِّ شيء؟»

«نعم، كل شيء.»

«لا يا آنسة رويلوت، ليس كل شيء. فأنتِ تتسترين على زوج والدتك.»

«ماذا؟ ما الذي تعنيه؟»

كي يجيب هولمز عليها أزاح الحافة المزخرفة من الدانتيل الأسود الذي يحيط بيد زائرتنا التي تضعها على ركبتها. فظهرت خمسة آثار صغيرة زرقاء اللون، علامات لأربع أصابع وإبهام، مطبوعة على رسغ السيدة الأبيض.

وقال هولمز: «لقد تعرضتِ لعنفٍ بالغ.»

احمرَّ وجه السيدة خجلًا وغطت مكان الإصابة في رسغِها، وقالت: «إنه رجل قاسٍ، لا يكاد يدرك مدى قوته.»

سادت فترة طويلة من الصمت، أسند فيها هولمز ذقنه على يديه، وحدق في النار المشتعلة. وأخيرًا قال: «هذا أمر في غاية الخطورة. وثمة آلاف التفاصيل الأخرى التي أرغب في معرفتها قبل تحديد التصرف المناسب. لكن لا وقت لدينا لنُضيعه. إذا تمكنا من الوصول إلى ستوك موران اليوم، فهل يمكننا تفقُّد هذه الغرف دون معرفة زوج والدتك؟»

«تصادف أنه تحدث عن مجيئه إلى المدينة اليوم من أجل بعض الأعمال البالغة الأهمية، ومن المحتمل أن يظل غائبًا عن المنزل طوال اليوم، ولن يزعجكما أحد. توجد لدينا حاليًّا مُدبِّرة منزل، لكنها كبيرة السن وحمقاء، ويمكنني بسهولة إبعادها عن طريقكما.»

«ممتاز، أتمانع الذهاب في هذه الرحلة يا واطسون؟»

«على الإطلاق.»

«إذن سنأتي نحن الاثنان، وماذا ستفعلين أنتِ؟»

«ثمة أمر أو أمران أريد فعلهما بما أني جئتُ الآن إلى المدينة، لكني سأعود في قطار الثانية عشرة، حتى أكون هناك في وقت حضوركما.»

«إذن عليكِ ترقُّب حضورنا في وقت مبكر من بعد الظهيرة، فلديَّ أنا أيضًا بعض الأمور الصغيرة التي يجب القيام بها، هل ستمكثين لتناول الإفطار؟»

«لا، عليَّ الذهاب، فقد زال الهم من قلبي بالفعل بعدما أسررتُ إليكَ بمشكلتي. أتطلع للقائكما مرةً أخرى بعد الظهيرة.» أعادت تغطية وجهها بخمارها الأسود السميك وخرجت بهدوء من الغرفة.

سألني شيرلوك هولمز وهو متكئٌ إلى الخلف في كرسيه: «ماذا تستنتج من هذا كله يا واطسون؟»

«تبدو لي قضية غامضة ومشئومة لأقصى حد.»

«غامضة ومشئومة للغاية بالفعل.»

«ومع ذلك، إن كانت السيدة محقة فيما تقوله بشأن سلامة الأرضيات والجدران، وأن الباب والنافذة والمدفأة لا يمكن اختراقها، فلا شكَّ أن أختها كانت بالتأكيد وحدها حين لقيت نهايتها الغامضة.»

«ماذا إذن عن الصافرات الليلية، وعن الكلمات الفريدة للغاية للمرأة المحتضَرة؟»

«لا فكرة لديَّ.»

«عندما تربط بين أفكار الصفير في الليل، ووجود عصابة من الغجر على علاقة طيبة بالدكتور السابق، وحقيقة أن لدينا سببًا وجيهًا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الطبيب من مصلحته منع زواج ابنة زوجته، والإشارة عند الوفاة لعصابة، وأخيرًا حقيقة أن الآنسة هيلين ستونر سمعتْ صوت جلجلة معادن، وهي التي من الممكن أن تكون صوت إعادة وضع أحد القضبان الحديدية التي تغلق المصاريع في مكانه، أعتقد أنه ثمَّة ما يقودنا بشدة إلى التفكير في أن حلَّ هذه القضية يأتي من هذا الاتجاه.»

«لكن ما الذي فعله الغجر إذن؟»

«لا يمكنني التصور.»

«لديَّ كثير من الاعتراضات على مثل هذه النظرية.»

«وأنا أيضًا، ولهذا السبب تحديدًا نحن ذاهبان إلى ستوك موران اليوم. فأريد أنْ أرى ما إن كان لهذه الاعتراضات أساسٌ من الصحة أم يمكن استبعادها، لكن ما هذا بحق الشيطان!»

صدر هذا التعبير عن صديقي لأن باب غرفتنا انفتح فجأةً بعنفٍ وظهر أمامنا رجل ضخم الهيئة. كانت ملابسه مزيجًا فريدًا بين زي المهنيين والمُزارعين، فكان يرتدي قبعةً عاليةً سوداء، ومعطفًا طويلًا مشقوق الذيل، وجرموقين طويلين، ويتدلى من يده سوطُ صيد. كان طويلًا للغاية لدرجة أن قبعته ارتطمت بالفعل بعارضة مدخل الغرفة، وبدا كأنما عَرْض جسمه يملأ المدخل بالكامل. كما أن وجهه كان كبيرًا، يمتلئ بالتجاعيد، وكان يتنقل بيني وبين صديقي، بينما عيناه الغائرتان الغالب عليهما اللون الأصفر، وذقنه المرتفع وأنفه النحيل، جعلته جميعها يبدو إلى حدٍّ ما أشبه بطائرٍ جارحٍ عجوز.

سأل هذا الشبح: «أيكما هولمز؟»

ردَّ رفيقي بهدوء: «هذا اسمي يا سيدي، لكن هكذا أصبح لديك أفضلية عليَّ.»

«أنا الدكتور جريمسبي رويلوت من ستوك موران.»

قال هولمز بلطف: «حقًّا، دكتور، إذن تفضل بالجلوس.»

«لا لن أفعل، لقد كانت ابنة زوجتي هنا، لقد تعقبتها، ماذا كانت تقول لك؟»

قال هولمز: «إن الطقس بارد قليلًا عن المعتاد في هذا الوقت من السنة.»

صاح الرجلُ العجوزُ بانفعال: «ما الذي كانت تقوله لك؟»

واصل صديقي حديثه بهدوء أعصاب قائلًا: «لكني سمعتُ أن الزعفران مفيد.»

قال زائرنا الجديد، وهو يتقدَّم خطوةً للأمام ويهز السوط الذي يمسكه في يده: «حسنًا! أنت تراوغني، أليس كذلك؟ أنا أعرفك، فأنت وغد! لقد سمعتُ عنك من قبل. فأنت هولمز المتطفل.»

ابتسم صديقي، فاستمر قائلًا: «هولمز الفضولي!»

اتسعت ابتسامة صديقي أكثر، فقال: «هولمز، مخبر سكوتلاند يارد.»

انفجر هولمز في الضحك وقال له: «إن حديثك ممتع للغاية، رجاءً عندما تذهب أغلق الباب وراءك، فثمة تيار هواء قادم.»

«سأذهب عندما أقول ما عندي، إياك أن تجرؤ على التدخل في شئوني. أنا أعرف أن الآنسة ستونر كانت هنا، فقد تعقبتها! أنا رجل خطير للغاية عندما أغضب! انظر هنا.» ثم تقدم بسرعة إلى الأمام، وأمسك بقضيب إذكاء نار المدفأة المعدني وثناه بيديه البُنِّيتَين الكبيرتَين حتى أصبح مقوَّسًا.

تحدَّث بعنف وقال: «احرص على أن تبعد نفسك عن قبضتي.» ورمى القضيب المعدني في المدفأة ثم أسرع بالخروج من الغرفة.

قال هولمز وهو يضحك: «يبدو شخصًا لطيفًا للغاية. أنا لستُ في ضخامته، ولكنه إن بقي في الغرفة ربما كنتُ أريته أن قبضتي ليست أضعف كثيرًا من قبضته.» وفي أثناء حديثه هذا أمسك بالقضيب المعدني وبقوة فاجأتَني فرده مرةً أخرى.

«تخيل مدى وقاحته بأن يُشبِّهني بإدارة المباحث الرسمية! إلا أن هذه الواقعة تُضفي حماسًا على تحقيقنا، وآمل ألا تعاني صديقتنا الصغيرة بسبب رعونتها وسماحها لهذا الهمجي بتعقُّبها. والآن يا واطسون سنطلب الإفطار، ثم سَأذهب سيرًا إلى كلية الحقوق على أمل الحصول على بعض البيانات التي ربما تساعدنا في هذه القضية.»

كانت الساعة تقارب الحادية عشرة عندما عاد شيرلوك هولمز من جولتِه، وكان يُمْسك في يده ورقة زرقاء مليئة بالملحوظات والأرقام.

قال لي: «لقد اطلعتُ على وصية الزوجة المتوفاة، ومن أجل تحديد معنى محتواها بالضبط اضطُررتُ إلى حساب الأسعار الحالية للاستثمارات المرتبطة بها. إن إجمالي الدخل، الذي لم يكن يتعدَّى عند وفاة الزوجة ١١٠٠ جنيه إسترليني، أصبح الآن، نتيجة انخفاض أسعار المحاصيل الزراعية، لا يزيد عن ٧٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا. ويحق لكلِّ ابنة المطالبة بالحصول على ٢٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا في حال زواجها. ومِن ثَمَّ، من الواضح أنه إن تزوجت كلتا الابنتين، فإن هذا الوسيم لن يحصل إلا على مقدار ضئيل للغاية، في حين أن زواج حتى واحدة منهما سيسبب له خسارة فادحة. لم يذهب عملي الصباحي سُدًى؛ إذ اتضح أن هذا الرجل لديه أقوى الدوافع على الإطلاق لإعاقة أيِّ تصرف من هذا النوع. الآن يا واطسون، هذا أمر خطير للغاية ولا يصح التباطؤ فيه، خاصةً بعدما عَلِم هذا العجوز باهتمامنا بشئونه؛ لذا إن كنتَ مستعدًّا فعلينا أن نطلب سيارة أجرة ونذهب إلى ووترلو. وسأكون ممتنًّا لك للغاية إن وضعت مسدسك في جيبك. فمسدس أيلي رقم ٢ هو أفضل طريقة للتحدث مع رجل بإمكانه ثني قضيب المدفأة الصُّلب ويجعل منه عقدًا. أعتقد أننا لن نحتاج إلى أكثر من هذا المسدس وفرشاة أسنان.»

في ووترلو حالفَنا الحظ باللحاق بقطار متجه إلى ليذرهيد، حيث استأجرنا عربة صغيرة في نُزل المحطة وقطعنا بها نحو أربعة أو خمسة أميال عبر الممرات الضيقة لسَري الجميلة. كان يومًا رائعًا، إذ كانت الشمس مشرقة والسماء صافية إلا من بعض السُّحُب الهشة. كانت الأشجار وأسوجة الشجيرات على جانبي الطريق تطلق براعمها الخضراء الأولى، وكان الهواء يعبق بالرائحة العطرة للأرض الرطبة. وأحسستُ، أنا على الأقل، بتناقض غريب بين الأمل الجميل الذي يبثه جو الربيع وهذه القضية المشئومة التي نسعى إلى حلها. أما رفيقي فقد جلس في الجزء الأمامي من العربة وهو يعقد ذراعيه أمام صدره، وتَدَلَّت قبعته لتُغطِّي عينيه، وغاص ذقنه داخل صدره، واستغرق في تفكير عميق. إلا أنه تنبه فجأةً ونقر على كتفي وأشار إلى المروج.

قال لي: «انظر هناك!»

نظرتُ فرأيتُ حديقة من الأشجار تمتد على منحدرٍ خفيفٍ وتحتشد في شكل بستانٍ في أعلى نقطة من المنحدر. ومن بين أفرع الشجر برز سقفٌ محدَّبٌ رمادي لقصرٍ قديمٍ ودعامة سقفه.

قال هولمز: «أهذا ستوك موران؟»

رد السائق: «أجل يا سيدي، هذا هو منزل الدكتور جريمسبي رويلوت.»

قال هولمز: «ثمة أعمال بناء تجري فيه، هذا مقصدنا.»

قال السائق وهو يُشير إلى مجموعة من الأسقف على مسافة بعيدة جهة اليسار: «هذه هي القرية، لكن إن أردتما الذهاب إلى هذا المنزل، فأقصرُ طريقٍ للوصول إليه أن تصعدا هذا السُّلم لعبور الجدار، ثم تسيران في ممر المشاة عبر الحقول. هذا هو، حيث تسير السيدة.»

قال هولمز، وهو يحجب الشمس عن عينيه: «وهذه السيدة، على ما أعتقد، هي الآنسة ستونر. أجل، أعتقد أن من الأفضل أن ننفذ ما اقترحت.»

نزلنا من العربة ودفعنا الأجرة، وعادت العربة مُحدِثةً جلبة في الطريق المؤدي إلى ليذرهيد.

قال هولمز بينما نصعد السلم على الجدار: «لقد فكرتُ في الأمر مليًّا، إن هذا السائق على الأرجح اعتقد أننا جئنا هنا بصفتنا مهندسين، أو لتأدية عملٍ معين، وهذا من شأنه أن يمنعه من الثرثرة عنا. مساء الخير يا آنسة ستونر، لقد التزمنا كما ترين بكلمتنا.»

أسرعت عميلتنا التي التقيناها صباحًا إلى الأمام لتحيينا بوجه تملؤه السعادة. وقالت وهي تصافحنا بحرارة: «لقد انتظرتكما بفارغ الصبر. لقد سار كلُّ شيءٍ على نحو رائع؛ إذ ذهب الدكتور رويلوت إلى المدينة، وعلى الأرجح لن يعود قبل الليل.»

قال هولمز لها: «لقد حظينا بشرف التعرف إلى الدكتور.» وبكلماتٍ قليلةٍ شرح لها ما حدث. شحب وجه الآنسة ستونر، بل وشفتاها، وهي تستمع إلى حديث هولمز.

قالت: «يا إلهي! لقد تبعني إذن.»

«يبدو كذلك.»

«إنه ماكرٌ للغاية ولا أعرف متى سأكون في مأمنٍ منه. تُرى ماذا سيقول لي عند عودته؟»

«عليه أن يحترس لنفسه، فربما يجد من هو أمكر منه يتعقب تحركاته. عليكِ أن توصدي الباب على نفسك الليلة، وإن صدر منه تصرُّف عنيف فسنأخذك بعيدًا لتمكثي عند خالتك في هارو. والآن علينا تحقيق أقصى استفادة من وقتنا؛ لذا أرشدينا من فضلك إلى الغُرف التي سنفحصها.»

كان المبنى من الحجارة الرمادية التي تلطخها الأشنات الخضراء، وكان ينقسم إلى جزءٍ مركزيٍّ مرتفع وجناحَين مقوَّسَين، كمخلبَي سرطان بحر، على جانبَي المنزل. وفي أحد هذين الجناحين كانت النوافذ مكسورة ومغلقة بألواح خشبية، بينما انهار السقف جزئيًّا، فكانت الصورة كلها تنم عن الدمار. أما الجزء المركزي فكان في حالة أفضل، إلَّا أن الجزء الأيمن كان أحدث نسبيًّا، وأشارت مصاريع النوافذ، مع الدخان الأزرق المتصاعد من المداخن، إلى أن هذا هو المكان الذي تعيش فيه العائلة. شُيدت بعض السقالات عند نهاية الجدار، وأُحدث ثقب في الجدار الحجري، لكن لم يظهر أي عامل في أثناء زيارتنا. سار هولمز ببطء ذهابًا وإيابًا على طول المرج غير المشذب، وفحص باهتمام بالغ الجوانب الخارجية للنوافذ.

قال: «أعتقد أن هذه هي نافذة غرفتك التي كنتِ تنامين فيها، والتي في المنتصف هي لغرفة أختك، والتي تقع بجوار المبنى الرئيسي هي لغرفة الدكتور رويلوت؟»

«بالضبط، لكنني الآن أنام في الغرفة الوسطى.»

«في انتظار انتهاء التعديلات، كما فهمتُ. بالمناسبة، لا تبدو ثمة حاجة مُلِحَّة للإصلاحات في هذا الجدار الأخير.»

«لا، لا توجد حاجة إليها، أعتقد أنه كان مجرد عذر لنقلي من غرفتي.»

«آه! هذا مثير للاهتمام. والآن، على الجهة الأخرى من هذا الجناح الضيق يمتد الممر الذي تطل عليه هذه الغرف الثلاث، ثمة نوافذ فيه بالطبع، أليس كذلك؟»

«بلى، لكنها صغيرة للغاية، ضيقة بحيث لا تتسع لأنْ يمُرَّ عبرها أيُّ شخص.»

«وبما أنكما كنتما توصدان الأبواب في الليل، كان يستحيل الدخول إلى الغرف من هذه الجهة. والآن، أتسمحين بالدخول إلى غرفتك وإغلاق المصاريع بالقضيب الحديدي؟»

فعلت الآنسة ستونر كما طُلب منها، وحاول هولمز بكلِّ الطرق، بعد فحص النافذة المفتوحة بعناية، فتح المصاريع بالقوة، لكن دون جدوى. لم يكن ثمة أي شق يمكن وضع سكين فيه لتمريره ورفع القضيب الحديدي. بعد ذلك، فحص المفصلات بعدسته المكبرة، لكنها كانت مصنوعة من الحديد الصُّلب، ومثبتة بقوة في المبنى الضخم. قال وهو يحك ذقنه في حيرة: «حسنًا! تواجه نظريتي حتمًا بعض الصعوبات، فلا يمكن لأحد أنْ يمُرَّ عبر هذه المصاريع إذا أُوصدت. حسنًا، سنرى إن كانت الغُرف من الداخل يمكنها إلقاء الضوء أكثر على هذه القضية.»

قادنا باب جانبي صغير إلى الممر المطلي باللون الأبيض، والذي تطل عليه الغرف الثلاث. رفض هولمز فحص الغرفة الثالثة؛ ولذلك انتقلنا على الفور إلى الغرفة الثانية، التي تنام فيها الآنسة ستونر حاليًّا، والتي لقيت فيها أختها حتفها. كانت غرفة صغيرة وبسيطة، سقفها منخفض وبها مدفأة متسعة، على غرار طراز المنازل الريفية القديمة. كان بأحد أركان الغرفة صندوق بُنِّي به أدراج، وسرير ضيق بغطاء أبيض في الزاوية الأخرى، وطاولة زينة على يسار النافذة. كانت هذه القطع، بالإضافة إلى كرسيَّين من الخيزران، هي كل الأثاث الموجود في الغرفة، بالإضافة إلى سجادة ويلتون في المنتصف. كانت الألواح المحيطة بالجدران، وتلك التي تكسوها، مصنوعة من خشب البلوط البُنِّي الذي نخر فيه السوس، وكانت بالغة القِدَم وفقدت لونَها بحيث ربما ترجع إلى وقتِ بناء المنزل لأول مرة. سحب هولمز كرسيًّا إلى أحد الأركان وجلس عليه صامتًا، وقد أخذ يُقلِّب عينيه في جميع جوانب الغرفة وأعلاها وأسفلها، لاستيعاب كل تفاصيلها.

سأل أخيرًا وهو يُشير إلى حبل جرس سميك يتدلَّى بجوار السرير، بحيث تلامس شُرَّاباته الوسادة بالفعل: «أين يرن هذا الجرس؟»

ردت الآنسة ستونر: «إنه يصل إلى غرفة مُدبِّرة المنزل.»

«إنه يبدو أحدث من الأشياء الأخرى في الغرفة.»

«أجل، فلم يُوضع هنا إلا منذ عامين.»

«أعتقد أن أختك هي التي طلبت وضعه.»

«لا، أنا لم أسمعها تستخدمه قط، فقد اعتدنا على إحضار ما نريده بأنفسنا.»

«هكذا إذن، يبدو من غير الضروري وضع حبل جرس جميل الشكل مثل هذا هنا. أستأذنك لحظات؛ فأنا أريد فحص هذه الأرضية.» ثم انبطح على الأرض على وجهه وهو يمسك بالعدسة المكبرة في يده، وزحف بسرعة إلى الأمام والخلف، وفحص بدقةٍ الشقوق الموجودة بين ألواحها. بعد ذلك فعل الأمر نفسه مع الألواح الخشبية التي كانت جدران الغرفة كلها مكسوة بها. وفي النهاية ذهب إلى السرير وقضى بعض الوقت في التحديق فيه وفي فحص الجدار من أعلى إلى أسفل. وأخيرًا، أمسك بحبل الجرس وشده بحدة، وقال: «حسنًا، إنه مزيف.»

«أَلَا يرِن؟»

«نعم، إنه حتى ليس مربوطًا بسلك. إنه أمرٌ مثيرٌ للاهتمام للغاية، فيمكنك الآن رؤية أنه مربوط بخطاف فوق فتحة التهوية الصغيرة مباشرةً.»

«يا له من أمر سخيف! كيف لم ألاحظ هذا من قبلُ قط.»

قال هولمز وهو يشد الحبل: «أمر غريب للغاية! ثمة شيء أو اثنان غريبان في هذه الغرفة. على سبيل المثال، أي عامل بناء أحمق يفتح فتحة للتهوية على غرفة أخرى، بينما كان بإمكانه بذل الجهد نفسه لتوصيلها بالهواء الخارجي؟!»

قالت السيدة: «هذه الفتحة حديثة أيضًا إلى حدٍّ ما.»

قال هولمز: «أُدخلت في الوقت نفسه الذي وُضع فيه حبل الجرس، أليس كذلك؟»

«بلى، في هذا الوقت أُجرِي كثير من التعديلات الصغيرة.»

«تبدو ذات طابعٍ خاصٍّ للغاية؛ فلدينا حبلُ جرسٍ مزيف وفتحة تهوية لا تصلح للتهوية. بعد إذنك يا آنسة ستونر، سنواصل الآن بحثنا في الغرفة الداخلية.»

كانت غرفة الدكتور جريمسبي رويلوت أكبر من غرفة ابنة زوجته، لكن فرشها كان بسيطًا على النحو ذاته. كان بها سريرٌ يُطوَى، ورفٌّ خشبي صغير مليء بالكتب، أغلبها ذو طابعٍ تقني، وكرسي له ذراعان بجوار السرير، وكرسي خشبي عادي أمام الحائط، وطاولة مستديرة، والشيء الأساسي الذي لفت انتباهنا كان خزانة معدنية ضخمة. سار هولمز ببطءٍ في الغرفة وفحص كلَّ هذه الأشياء باهتمامٍ بالغ.

سأل وهو ينقر على الخزانة: «ماذا بالداخل؟»

«أوراق عمل زوج والدتي.»

«آه! إذن أنتِ رأيتِ محتوى الخزانة؟»

«مرة واحدة، منذ عدة سنوات. أذكر أنها كانت مليئة بالأوراق.»

«لا توجد بداخلها قطة مثلًا؟»

«لا، يا لها من فكرة غريبة!»

قال هولمز: «حسنًا، انظري لهذا!» وحمل في يده صحنًا صغيرًا به لبن كان يوجد فوقها.

«لا، نحن ليس لدينا قطة، بل لدينا الفهد والبابون فقط.»

«حسنًا، بالطبع! فالفهد هو في الواقع قطة كبيرة، ومع ذلك فإن صحنًا من اللبن لن يُلبِّي احتياجاته الغذائية، على ما أظن. ثمة شيءٌ واحدٌ أريد التأكد منه.» ونزل على ركبتيه أمام الكرسي الخشبي وفحص مقعده باهتمام بالغ.

بعد ذلك قال وهو يُعاود الوقوف ويضع عدسته في جيبه: «شكرًا جزيلًا، عرفتُ ما أردته. عجبًا! ثمة شيءٌ مثيرٌ للاهتمام.»

كان الشيءُ الذي لفت نظره سوطًا صغيرًا لتدريب الكلاب مُعلَّقًا على أحدِ جوانب السرير. إلَّا أن السوط كان ملفوفًا حول نفسِه ومربوطًا ليُشكِّل عقدة من الحبل المجدول.

«ماذا تستنتج من هذا يا واطسون؟»

«إنه سوط عادي، لكني لا أعلم لماذا رُبط.»

«هذا ليس عاديًّا، أليس كذلك؟ يا إلهي! إنه عالم خطير، وعندما يُحَوِّل رجلٌ ذكيٌّ تفكيره إلى ارتكاب الجرائم يصبح الأسوأ على الإطلاق. أعتقد أنني رأيتُ ما يكفي يا آنسة ستونر، وبعد إذنك سنخرج الآن إلى المرج مرةً أخرى.»

لم أرَ وجه صديقي قط متجهمًا على هذا النحو، أو جبهته مُكْفهرَّة كما رأيته عندما ابتعدنا عن موقعِ التحقيق. سرنا بضع مرات ذهابًا وإيابًا على المرج، ولم نَشَأْ أنا أو الآنسة ستونر قطع حبل أفكارِه حتى تَنَبَّه هو نفسه من استغراقه وقال:

«من الضروري يا آنسة ستونر أن تتبعي نصيحتي بالضبط في كلِّ ما أقوله لكِ.»

«بالطبع سأفعل.»

«المسألة في غاية الخطورة ولا تحتمل أي تردُّد؛ فقد تتوقف حياتك على مدى التزامك.»

«أؤكد لك أني منصاعة تمامًا لك.»

«أولًا، لا بدَّ أن أقضي أنا وصديقي هذه الليلة في غرفتك.»

نظرتُ أنا والآنسة ستونر له بذهول.

«أجل، لا بدَّ من هذا، دعوني أشرح لكما، أعتقد أن هذا هو نُزل القرية الموجود هنا، أليس كذلك؟»

«بلى، هذا نُزل كراون.»

«رائع، يمكن رؤية نوافذك من هناك، أليس كذلك؟»

«بالطبع.»

«عليكِ التزام غرفتك مدعيةً إصابتك بصداع، عند عودة زوج والدتك. ثم، عندما تسمعين دخول زوج والدتك إلى غرفتِهِ في الليل، يجب عليكِ فتح مصاريع نافذتك، وفتح مشبك النافذة، ثم تضعين مصباحك كإشارة لنا، ثم تذهبين بهدوءٍ مع كلِّ شيءٍ قد تحتاجين إليه إلى الغرفة التي كنتِ تنامين فيها. فأنا متأكد أنه على الرغم من الإصلاحات يمكنك النوم فيها لليلة واحدة.»

«آه، أجل، بالتأكيد.»

«أما الباقي فعليكِ تركه في أيدينا.»

«لكن ماذا ستفعلان؟»

«سنقضي الليلة في غرفتك، وسنحقق في سببِ الضوضاء التي تزعجك.»

قالت السيدة ستونر، وهي تضع يدها على كُمِّ صديقي: «أعتقد أنك يا سيد هولمز توصلت إلى نظرية بالفعل.»

«لعلِّي بالفعل.»

«إذن، أستحلفك أن تخبرني بسبب وفاة أختي.»

«أُفضل الحصول على أدلةٍ واضحةٍ قبل أن أتحدث.»

«على الأقل يمكنك أن تخبرني عما إذا كانت فكرتي صحيحة أم لا، وعما إذا كانت قد تُوفِّيت إثر نوع من الذعر المفاجئ.»

«لا، أنا لا أعتقد هذا. أعتقد أنه على الأرجح كان ثمة سببٌ آخر ملموس أكثر. والآن يا آنسة ستونر، عليكِ أن تتركينا نذهب لأنه إن عاد الدكتور رويلوت ورآنا فإن رحلتنا كلها ستصبح عديمة الجدوى. إلى اللقاء، كوني شجاعة؛ لأنكِ إن فعلتِ ما قلته لكِ، يمكنك الاطمئنان إلى أننا سنعمل سريعًا على التخلص من الأخطار التي تهددك.»

لم نجد أنا وشيرلوك هولمز صعوبة في العثور على غرفة نوم وغرفة جلوس في نُزل كراون. كانتا في الطابق العلوي، وكان باستطاعتنا أن نرى من نافذتنا البوابة المطلة على الطريق، والجناح المأهول في منزل عزبة ستوك موران. عند الغسق رأينا الدكتور جريمسبي رويلوت مارًّا بجوار النُّزل، وبرزت هيئته الضخمة بجوار الجسم الصغير للفتى الذي كان يقود السيارة. واجه الفتى قدرًا من الصعوبة في فتح البوابة الحديدية الضخمة، وسمعنا صوت الدكتور الصاخب الأجش، ورأينا كَمَّ الغضب الذي حرَّك به قبضته تجاه الفتى. استمرت المركبة في التحرك، وبعد بضع دقائق رأينا ضوءًا مفاجئًا ينبعث من بين الأشجار، مع إشعال المصباح في غرفة الجلوس.

قال هولمز ونحن جالسان معًا في الظلام الدامس: «أتدري يا واطسون، أنا فعلًا متردد بعض الشيء في أخذك معي الليلة، فثمة عنصر خطر كبير.»

«أيمكنني مساعدتك؟»

«إن وجودك معي لا يُقدَّر بثمن.»

«إذن لا بدَّ أن أذهب بالتأكيد.»

«إنه لطف كبير منك.»

«أنت تتحدَّث عن خطر، فمن الواضح أنك رأيت في هذه الغرف أكثر مما كان واضحًا لي.»

«لا، لكن ربما استنتجتُ أكثر بقليل. فأنا أتصور أنك رأيت كلَّ ما رأيته أنا.»

«أنا لم أرَ شيئًا مميزًا إلا حبل الجرس، ولا يمكنني أبدًا تخيل الهدف منه.»

«ورأيتَ فتحة التهوية أيضًا، أليس كذلك؟»

«بلى، لكني لا أعتقد أنه من الغريب وجود فتحة صغيرة بين غرفتين. إنها صغيرة للغاية بحيث يصعُب مرور فأر عبرها.»

«لقد علمتُ أننا سنجد فتحة تهوية قبل أن نصل حتى إلى ستوك موران.»

«أحقًّا يا عزيزي هولمز!»

«أجل، لقد علمتُ، فأنت تذكر أنها قالت في قصتها إن أختها كانت تستطيع شمَّ رائحة سيجار الدكتور رويلوت، وبالطبع أشار هذا على الفور إلى حتمية وجود نوع من الاتصال بين الغرفتين. ولا بد أن يكون هذا التواصل صغيرًا للغاية، وإلا لورد في تحقيقِ مسئول التحقيقات؛ ولذلك افترضتُ وجود فتحة تهوية.»

«لكن ما الضرر الذي قد تُحدثه هذه؟»

«حسنًا، على الأقل ثمة تزامن في التواريخ مثير للاهتمام؛ فتُصنَع فتحة تهوية، ويُعلَّق حبل، ثم تموت السيدة التي تنام في السرير. ألا تجد هذا مريبًا؟»

«لا يمكنني حتى الآن رؤية العلاقة.»

«ألم تلاحظ أيَّ شيءٍ غريبٍ في السرير؟»

«نعم.»

«لقد كان مُثبَّتًا في الأرض. هل رأيت من قَبلُ سريرًا مثل هذا؟»

«لا يمكنني قول ذلك.»

«لم يكن باستطاعة السيدة تحريك سريرها، فلا بد من وجوده في المكان ذاته بالنسبة لموقع فتحة التهوية والحبل، أو هكذا سنُطلق عليه إذ لم يكن يُقصد به أن يكون حبلًا للجرس قط.»

قلتُ عندها: «هولمز، يبدو أنني بدأت أرى بصعوبةٍ ما تُشير إليه، فلقد وصلنا في الوقت المناسب لنمنع وقوع جريمة ماكرة وبشعة.»

«نعم، ماكرة وبشعة للغاية. فحينما ينحرف طبيبٌ عن طريق الصواب يصبح أسوأ المجرمين؛ فهو يتمتع بالجرأة والمعرفة. لقد كان كلٌّ من بالمر وبيتشارد من أشهر الأطباء. أما هذا الرجل فهو أدهى، لكني أعتقد يا واطسون أنني سأكون أدهى منه. غير أننا سنواجه من الأهوال كمًّا هائلًا في هذه الليلة؛ لذا دعنا رجاءً نُدخِّن الغليون في هدوء ونُحوِّل أذهاننا لبضع ساعات إلى التفكير في أشياء أكثر مرحًا.»

عند التاسعة تقريبًا انطفأ الضوء القادم من بين الأشجار، وعمَّ الظلام من جهة منزل العزبة. بعدها مرت ساعتان ببطء شديد، ثم فجأة، عند دقات الحادية عشرة، ظهر ضوء ساطع واحد أمامنا مباشرةً.

قال هولمز وهو ينتفض واقفًا: «هذه إشارتنا، إن الضوء قادم من النافذة الوسطى.»

عند خروجنا أوضح لصاحب النُّزل في كلمات مقتضبة أننا ذاهبان في زيارة متأخرة إلى أحد معارفنا، وأننا ربما نقضي الليلة هناك. لم تمضِ لحظات حتى كنا في الطريق المعتم، وهبَّت رياح باردة على وجهَينا، وضوء أصفر وحيد يلمع أمامنا ليُرشدنا في الظلام الموحش إلى وجهتِنا في هذه المهمة القاتمة.

لم نواجه صعوبة كبيرة في الدخول إلى المكان؛ إذ مررنا عبر فتحات لم تُصلح في جدار الحديقة القديم. تحسَّسنا طريقنا عبر الأشجار، ووصلنا إلى المرج وعبرناه وكنا على وشك الدخول عبر النافذة عندما اندفع من بين مجموعة من شجيرات الغار ما بدا كأنه طفلٌ بشعٌ ومُشوَّه، وألقى بنفسه على العُشْب على أطراف ملتوية ثم ركض بسرعة عبر المرج إلى داخل الظلام.

همستُ قائلًا: «يا إلهي! هل رأيت هذا؟»

أصيب هولمز بالدهشة مثلي تمامًا لبرهة، وأطبق على معصمي بيده مثل الكلَّابات في انفعال. ثم انفجر في الضحك بصوتٍ منخفض وتحدَّث إليَّ في أذني، وهمس قائلًا:

«إنه منزل لطيف، هذا هو البابون.»

كنتُ قد نسيت الحيوانات الأليفة الغريبة التي يقتنيها الطبيب. كان ثمة فهد أيضًا، ربما نجده فوق أكتافنا في أيِّ لحظة. أعترف أنني ذهنيًّا شعرت براحة أكبر، بعدما حذوت حذو هولمز وخلعتُ حذائي، ثم وجدتُ نفسي داخل غرفة النوم. أغلق رفيقي المصاريع دون إحداث صوت، ووضع المصباح على الطاولة، ونظر في جميع أرجاء الغرفة. كان كلُّ شيءٍ كما رأيناه في ضوء النهار. اقترب مني ببطءٍ ثم لفَّ يده حول فمه وهمس في أذني مرةً أخرى بصوت خافت للغاية لدرجة أنه كان عليَّ الانتباه للغاية حتى أستطيعَ تمييز الكلمات:

«أقل صوت يصدر سيُدمر خطتنا.»

أومأت له برأسي لإظهار أني سمعتُ كلماته.

«علينا الجلوس دون إنارة الضوء، فيمكنه رؤية الضوء عبر فتحة التهوية.»

أومأتُ مرةً أخرى.

«إيَّاك أن تنام؛ فقد تتوقف حياتك على هذا. كذلك كن مستعدًّا بمسدسك في حال احتجنا إليه. أنا سأجلس على جانب السرير وأنت اجلس على الكرسي.»

أخرجتُ مسدسي ووضعته على جانب الطاولة.

أما هولمز فقد أخرج عصًا طويلةً ورفيعة، ووضعها على السرير بجواره، ووضع بجوارها علبة أعواد الثقاب وشمعة. بعدها أطفأ المصباح وجلسنا في الظلام.

كيف يمكنني نسيان هذه المراقبة المروِّعة؟ لم يكن بإمكاني سماع أي صوت، ولا حتى صوت التنفس، ومع ذلك كنت أعلم أن رفيقي يجلس مفتوح العينين، على بُعد بضع أقدام مني، في الحالة نفسها من التوتر العصبي التي كنتُ عليها. حجبت المصاريع الضوء الخافت القادم من الخارج، وجلسنا ننتظر في ظلام مطبق.

ومن الخارج كانت تأتي من حين لآخر صيحة أحد الطيور الليلية، وفي إحدى المرات صدر بجانب نافذة غرفتنا صوت أنين يُشبه أنين القطط، مما أوحى إلينا أن الفهد بالفعل طليق. ومن بعيدٍ كان بإمكاننا سماع الدقات العميقة لساعة الأبرشية، التي كانت تنطلق كل ربع ساعة. وكم بدت هذه الأرباع طويلة! دقت الثانية عشرة، ثم الواحدة ثم الثانية ثم الثالثة، وما زلنا جالسين وننتظر في صمت ما سيحدث أيًّا كان.

وفجأةً، ظهر ضوءٌ خافت خاطف من جهة فتحة التهوية، واختفى على الفور، لكن تبعته رائحةٌ قويةٌ لزيتٍ مشتعل ومعدنٍ ساخن؛ فقد أشعل أحدٌ مصباحًا في الغرفة المجاورة. سمعتُ صوتًا خفيفًا للحظة، ثم ساد الصمت مرةً أخرى، على الرغم من زيادة حدة الرائحة. جلستُ لنصف ساعة مصغيًا متوترًا، ثم فجأةً سمعنا صوتًا آخر؛ صوتًا خافتًا للغاية ومريحًا، مثل صوت البخار القليل الصادر باستمرار من الغلاية. وبمجرد سماعنا للصوت، قفز هولمز من على السرير، وأشعل عود ثقاب وأخذ يضرب بانفعال بعصاه حبل الجرس، وصاح:

«أنت تراها يا واطسون، أليس كذلك؟ ألا تراها؟»

لكني لم أرَ شيئًا. وعندما أشعل هولمز الضوء سمعتُ صوت صفير منخفض وواضح، لكن سرعان ما جعل الضوء المتوهج المفاجئ في عيني المتعبة من المستحيل تمييز ماهية هذا الشيء الذي كان صديقي يضربه بوحشية. إلا أنني استطعتُ رؤية أن وجهه كان شاحبًا للغاية ويعلوه الرعب والاشمئزاز. توقف عن الضرب وظل ينظر إلى الأعلى باتجاه فتحة التهوية، وحينها سمعنا فجأةً في صمت الليل أكثر صرخة مرعبة سمعتها في حياتي. زادت الصرخة علوًّا وعلوًّا، فكانت صرخة بصوتٍ أجش اجتمع فيها الألم والرعب والغضب في صيحة واحدة مروِّعة. يُقال إن هذه الصرخة أيقظت النائمين من أَسِرَّتِهم، في القرية وصولًا إلى بيت القس. لقد بثَّت الرعب في قلبَينا، ووقفتُ وأنا أنظر إلى هولمز وهو ينظر إليَّ، حتى تلاشت آخر أصدائها في الصمت نفسه الذي اندلعت منه.

سألتُ وأنا ألهث: «ما يمكن أن يعني هذا؟»

أجاب هولمز: «يعني أنَّ كلَّ شيءٍ انتهى. وربما، في النهاية، إلى الأفضل. خذ مسدسك، فسندخل إلى غرفة الدكتور رويلوت.»

أشعل المصباح بوجهٍ جادٍّ وسار أمامي في الممر. دقَّ مرتين على باب الغرفة دون أن تصدُر أيُّ إجابة من الداخل. ثم أدار مقبض الباب ودخل، وأنا في أعقابه، مُشهرًا مسدسي.

كان المشهد الذي رأيناه فريدًا من نوعه. كان على الطاولة مصباحٌ أُغلق بابه جزئيًّا، يشع ضوءًا ساطعًا على الخزانة المعدنية، التي كان بابها مفتوحًا جزئيًّا. وبجوار الطاولة جلس الدكتور جريمسبي رويلوت، على الكرسي الخشبي، مرتديًا رداءَ نومٍ طويلًا رمادي اللون، يظهر من أسفله كاحلاه العاريان، ويرتدي في قدمَيه خُفَّين تُركيَّين مسطحَين لونهما أحمر. وعلى ركبتَيه كان يوجد المقبض القصير المربوط فيه السوط الطويل الذي رأيناه في أثناء النهار. كان ذقنه مرتفعًا إلى أعلى وعيناه ثابتتين في نظرة مروعة وصارمة على زاوية السقف. ورأينا حول جبهته عصابة صفراء اللون غريبة الشكل مرقطة بنقاط بُنيَّة اللون، بدت ملفوفة بإحكامٍ حول رأسِه. ومع دخولنا لم يُصدِر أيَّ صوت أو حركة.

همس هولمز: «العصابة! العصابة الرقطاء!»

أخذت خطوة للأمام، وعلى الفور بدأ غطاء رأسه في التحرك، وخرج من بين شعر رأسه رأس صغير مُعيَّن الشكل وعنق منتفخ لحيَّة بغيضة.

صاح هولمز قائلًا: «إنها أفعى المستنقع! أشد الثعابين فتكًا في الهند. لقد مات في غضون ثوانٍ من عضِّها له. فالعنف، في الحقيقة، يرتد على صاحبه، ومَن حَفَر حفرةً لأخيه وقع فيها. دعنا نُعِدْ هذا المخلوق إلى وكره، وعندها يمكننا نقل الآنسة ستونر إلى مكانٍ آمن ونُخبر شرطة المقاطعة بما حدث للتوِّ.»

سحب في أثناء حديثه سوط الكلب بسرعة من على ركبتَي الرجل المُتوفى، ووضع العقدة حول رقبة هذا الحيوان الزاحف وسحبها من مَجثمها الشنيع وحملها على طولِ ذراعِه، وألقاها داخل الخزانة المعدنية، ثم أغلقها عليها.

تلك كانت الحقائق المتعلقة بوفاة الدكتور جريمسبي رويلوت من ستوك موران. وليس ضروريًّا أن أطيل قصة، طالت بالفعل، بذكر تفاصيل توصيل هذه الأخبار الحزينة إلى الشابة المذعورة، وكيف نقلناها في قطارِ الصباح إلى رعاية خالتِها الطيبة في هارو، وكيف توصَّل التحقيق الرسمي ببطءٍ شديدٍ لاستنتاج أن الطبيب لقي مصرعه بينما كان يلعب بحمقٍ بحيوان أليف خطير. أما التفاصيل الصغيرة التي لم أكن أعرفها عن القضية فقد أخبرني بها شيرلوك هولمز في أثناء رحلة عودتنا في اليوم التالي.

قال: «لقد توصلتُ يا عزيزي واطسون إلى استنتاجٍ خاطئ تمامًا؛ مما يظهر كم هو خطير دومًا الاستنباط من معلومات غير كافية. فكان وجود الغجر، واستخدام كلمة «عصابة»، التي استخدمتها الفتاة المسكينة، دون شكٍّ، لوصف الشكل الذي رأته رؤية خاطفة في عود الثقاب الذي أشعلته، كافيين لوضعي على طريقٍ خاطئٍ بالكامل. ومع ذلك، فإن دفاعي الوحيد أنني أعدت النظر في موقفي عندما أصبح واضحًا لي أنه أيًّا كان الخطر الذي هدد قاطنة هذه الغرفة، فلا يمكن أن يكون قد جاء عبر النافذة أو الباب. وتوجَّه اهتمامي على الفور، كما أشرتُ بالفعل إليك، إلى فتحة التهوية هذه، وحبل الجرس الذي يتدلَّى فوق السرير. وأدى اكتشافي أنه حبل زائف، وأن السرير مثبت في الأرض، إلى إثارة شكوكي بأن الحبل قد وُضِع في هذا المكان ليكونَ جسرًا لعبور شيءٍ عليه يأتي عبر الفتحة ويقصد السرير. فخطرت لي على الفور فكرة وجود ثعبان، وحينما قرنت هذا بمعرفتي بأن الدكتور جاء بعددٍ من الكائنات من الهند، شعرتُ بأنني على الأرجح أسير في الاتجاه الصحيح. كما أن فكرة استخدام سم لا يمكن اكتشافه بأيِّ اختبار كيميائي لا ترد إلَّا على ذهن رجلٍ ذكيٍّ وقاسي القلب حصل على تدريبٍ شرقي. كما أن السرعة التي يُحدث بها السم تأثيره كانت ميزة من وجهة نظره. فالأمر يحتاج في الواقع إلى مُحقق حاد البصر حتى يستطيع تمييز الثقبَين الداكنَين الصغيرَين اللذين يُمثلان مكان سريان السم عبر الأنياب السامة. بعد ذلك فكرتُ في الصافرة. فيجب عليه بالطبع استدعاء الثعبان قبلما ينكشف في ضوء النهار لضحيته؛ لذلك درَّب الثعبان، على الأرجح باستخدام الحليب الذي رأيناه، على العودة إليه وقتما يستدعيه. فكان يضعه في فتحة التهوية هذه في الساعة التي اعتقد أنها مناسبة، وهو على يقين بأنه سيزحف إلى الأسفل على الحبل ويصل إلى السرير. ربما يلدغ قاطنة الغرفة وربما لا، فيمكنها على الأرجح النجاة من لدغته كل ليلة لمدة أسبوع، لكنها آجلًا أو عاجلًا لا بد أن تسقط ضحية للدغتِه.

لقد توصلتُ إلى هذه الاستنتاجات قبل حتى أن أدخل إلى غرفته. كان فحص الكرسي قد أظهر لي أنه اعتاد الوقوف عليه، وهو الأمر الضروري بالطبع حتى يتمكن من الوصول إلى فتحة التهوية. وكانت رؤيتي للخزانة وصحن الحليب والسوط المعقود كافية لتزيل في النهاية أي شكوك لا تزال موجودة عندي. أما الرنين المعدني الذي سمعته الآنسة ستونر فمن الواضح أنه كان صوت إغلاق زوج والدتها باب الخزانة بسرعة على قاطنها المرعب. وبمجرد توصُّلي إلى هذه الحقائق، اتخذت الخطوات التي تعرفها من أجل إثبات الأمر. سمعتُ صوتَ حفيفِ هذا المخلوق، ولا أشك في أنك سمعته أيضًا، فأشعلتُ الضوء على الفور وهاجمته.»

«فدفعته نتيجةً لهذا إلى العودة مرةً أخرى عبر فتحة التهوية.»

«ودفعته أيضًا نتيجة لهذا إلى الانقلاب على سيده على الجهة الأخرى؛ فقد أصابته بعض الضربات من عصاي وحفَّزت فيه نزعة الثعابين، ومِن ثَمَّ انقضَّ على أولِ إنسان يراه. هكذا لا شكَّ في أنني مسئول مسئولية غير مباشرة عن وفاة الدكتور جريمسبي رويلوت، ولا يمكنني القول إن هذا سيُعذِّب ضميري كثيرًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤