ضوء على معنى الصراع الفكري

لا تكون الفكرة — كائنة ما كانت — إلا جوابًا عن سؤال، إذ إنها لا تكون فكرة — بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة — إلا إذا جاءت حلًّا مقترحًا لمشكلة قائمة، والمشكلة المعينة هي بمثابة سؤال مطروح ينتظر الجواب، سواء صيغ هذا السؤال صياغة معلنة صريحة، أم ظلَّ مضمرًا في ذهن صاحبه، فإذا قلت — مثلًا — إن الحرية حق فطري للإنسان، كان ذلك إجابة عن سؤال يسأل: ما هو مصدر الحرية التي يتمتع بها الإنسان؟ أو قلت: إن الشمس هي التي تعكس ضوءها على سطح القمر، كان ذلك إجابة عن سؤال يسأل: من أين يأتي الضوء إلى القمر مع أنه بطبيعته جسم معتم؟ وهكذا، وقديمًا بحث الفلاسفة في صنوف الأسئلة التي يمكن أن تسأل عن الشيء الواحد، وأطلقوا مصطلحًا خاصًّا هو كلمة «المقولات»، ويذكر أرسطو من هذه المقولات عشرًا، وهو بذلك يعني أنك تستطيع أن تسأل عن الشيء الواحد عشرة أنواع من الأسئلة، فقد تسأل عن جوهره بقولك: ما هذا؟ أو عن كميته بقولك: ما لونه وما طعمه؟ إلى آخر الأسئلة العشرة التي ذكرها أرسطو منذ قديم.

وواضح أن لكلِّ ضرب من ضروب السؤال لغة خاصة يجاب بها عنه، غير اللغة التي يجاب بها عن غيره من الأسئلة، فإذا سألتك عن طول الجدار، توقعت منك أن تستخدم لغة العدد لا لغة الألوان والطعوم، وإذا سألتك عن مكان شيء أو عن زمانه، كان لكل حالة لغتها الخاصة، هذا واضح، أما الذي يحتاج إلى توضيح فهو أن «الصراع الفكري» بين رجلين أو جيلين من الناس، لا يكون إلا إذا ألقى عن شيء معين سؤال معين، فأجاب كل من الرجلين إجابة غير التي أجاب بها الآخر، كأن تسأل: ما مصدر الحرية التي يتمتع بها الإنسان؟ فيجيب أحد الرجلين بأنها فطرية تولد مع الإنسان، ويجيب الآخر بأنها حق تمنحه له إحدى السلطات — في مثل هذه الحالة وحدها يكون الحكم بالصواب على إحدى الإجابتين، مؤديًا حتمًا إلى الحكم بالخطأ على الإجابة الأخرى.

لكن هذه الحالة هي واحدة من أربع حالات ممكنة الحدوث، ومن ثم يجيء الخلط ويقع الخطأ، فهنالك حالة يطرح فيها سؤال معين، فإذا برجلين يجيبان عنه إجابتين مختلفتين، كل منهما صادق إلى حد، باطل إلى حد، أي أن كلًّا منهما صواب بعض الصواب لا كله، وعندئذٍ يكون الجانب الذي أصاب فيه الأول ليس هو نفسه الجانب الذي أخطأ فيه الثاني، فها هنا لا يكون بين الفكرتين «صراع» لأننا قد نجمع الصوابين معًا، ونبعد الباطلين معًا، أي أن الإجابتين يمكن أن يتكاملا وأن يتعاونا على تكوين الإجابة الصحيحة، خذ لذلك مثلًا ما نشب — وما يزال ناشبًا — بيننا من خلاف في الرأي: هل نترجم العلوم — كالطب — إلى العربية أو لا نترجمها؟ قد يجاب عن هذا السؤال بإجابتين متطرفتين، إحداهما تطالب بالترجمة العربية ترجمة كاملة تشتمل على كل ما يرد في العلوم من عبارة ومن مصطلح، محتجة بأنه لا حياة للغة القومية إلا إذا حملت علوم عصرها … والأخرى تطالب بألا ترجمة في هذا المجال، وبوجوب أن تدرس العلوم في لغة أجنبية — كالإنجليزية مثلًا — هاتان إجابتان مختلفتان عن سؤال واحد، لكن الصواب في أي منهما قد لا يكون صوابًا كاملًا، والخطأ في الأخرى قد يكون خطأً كاملًا، بحيث يجوز أن يكون الموقف الأصح هو الجمع بين جانب من هنا وجانب من هناك، كأن نقول — مثلًا — إننا نترجم من المصطلح ما نجد له ترجمة عربية وافية، ثم نعرب ما يستعصي على الترجمة وما يحسن تركه على نطق قريب من نطقه الأصلي المشترك بين اللغات المختلفة (فالترجمة هي وضع لفظ عربي مرادف للفظ الأجنبي، والتعريب هو وضع الصوت الذي تنطق به اللفظة الأجنبية في أحرف عربية) إنني هنا لا أؤيد رأيًا ولا أعارض رأيًا، لكنني أعرض نوعًا من اختلاف الرأي في مشكلة مطروحة، تتعاون فيه الإجابتان المختلفتان، دون أن ينشأ بينهما ما يصح تسميته ﺑ «صراع».

وهنالك حالة ثالثة من حالات الخلاف الفكري يكون فيها السؤال المطروح سؤالًا واحدًا محددًا، فتجيء عنه إجابتان يظن أنهما مختلفتان على حين أنك لو حللتهما، وجدتهما مترادفتين متساويتين، وكل ما في الأمر بينهما هو أنهما وضعتا في عبارتين مختلفتين، ولا زلت أذكر سؤالًا ألقاه عليَّ أبي إذ كنت غلامًا، إذ سألني: أيهما تفضل؟ برتقالة مُقشَّرة أم برتقالة بغير قشر؟ فاندفعت مجيبًا: أفضل برتقالة بغير قشر، فقال مازحًا: ولماذا لا تأخذها مقشرة؟ فقلت: لكي أضمن نظافتها، وعندئذٍ لفت ذهني إلى أن البرتقالة بغير قشر هي نفسها البرتقالة المقشرة، والاختلاف هو في اللفظ لا في المعنى.

ومن أحدث الأمثلة في حياتنا الفكرية، على مثل هذه الحالة تلك المشكلة التي ما تفتأ تثار بين فريقين من الكُتَّاب، وهي: أنعد اشتراكيتنا اشتراكية عربية أم نعدها تطبيقًا عربيًّا للاشتراكية؟ فيُجيب فريق بالإجابة الأولى حرصًا على أن تكون اشتراكيتنا مطبوعة بطابعنا الخاص المتأثر بظروفنا الخاصة، ويجيب الفريق الآخر بالإجابة الثانية حرصًا على وحدانية المبدأ الاشتراكي وعدم تجزئته، على أن الفريقين معًا متفقان على أن الاشتراكية معناها بصفة عامة عدم استغلال الإنسان للإنسان، وفي اعتقادي أن الإجابتين مترادفتان برغم ما يبدو على ظاهرهما من تباين، فافرض — مثلًا — أنني طرحت سؤالًا عن القطن العربي ما طبيعته: أهو قطن عربي أم نبات عربي للقطن؟ فأجاب مجيب بالصيغة الأولى وأجاب مجيب آخر بالصيغة الأخرى، فهل ترى بينهما من خلاف في المعنى؟ كان اختلاف الرأي بين الفريقين عن الاشتراكية العربية ليكون ذا معنى لو أن كل فريق منهما عرف مفهوم الاشتراكية تعريفًا يخالف تعريف الآخر له، أما وقد اتفقا على التعريف، بأنها هي عدم استغلال الإنسان للإنسان، ثم أراد كل منهما أن يميز التعريف العام بصفة تجعله خاصًّا بحال معينة، وكذلك أراد كل منهما أن تكون صفة «العربية» هي المميزة، فأي فرق بين أن تصف الاشتراكية بأنها عربية أو تصفها بأنها تطبيق عربي؟ المهم في كلتا الحالتين أن ثمة فكرة عامة متفقًا عليها، ومميزًا خاصًّا يقيد الفكرة العامة، وهو أيضًا متفق عليه، فسيان بعدئذٍ أن تعبر عن هذا المعنى على هذا النحو أو ذاك … هل مجلة الفكر المعاصر مجلة عربية؟ أو هي تطبيق عربي لفكرة المجلات؟ هل تعد تماثيل مختار نحتًا عربيًّا أو تعد تطبيقًا عربيًّا لفن النحت؟

وهنالك حالة رابعة، لعلها أن تكون أعوص الحالات، وأحوجها إلى دقة التحليل وحسن التوضيح، وأعني بها الحالة التي نتلقى فيها إجابتين مختلفتين من شخصين، على ظن منهما بأنهما يجيبان عن سؤال واحد، ويعالجان مشكلة معينة مشتركة بينهما، على حين أنهما في حقيقة الأمر يجيبان عن سؤالين مختلفين، كل منهما يتناول مشكلة غير المشكلة التي يتناولها الآخر، وسرعان ما تتعقد الخيوط الفكرية وتتداخل فتتعذر الرؤية الواضحة، وإنما يوقعنا في مثل هذا الخلط، أن يقدم لنا السؤال واحدًا في صياغته اللفظية، لكنه في حقيقته يدمج سؤالين أو أكثر عن موضوعات مختلفة، فلو أردنا سلامة السير في مثل هذه الحالة، لوجب منذ البداية أن نفك المدمج، لنضع كل سؤال فرعي على حدة، وغالبًا ما يحدث هذا الازدواج، حين ترد في السؤال المطروح لفظة ينقصها التحديد، بحيث يستطاع فهمها على أكثر من وجه واحد؛ أعني أن تكون هذه اللفظة الواحدة بمثابة لفظتين أو أكثر، كل لفظة منها تستقل وحدها بمشكلة قائمة بذاتها، فافرض — مثلًا — أن المسألة المطروحة هي عن «الحقيقة» ما سبيلنا إليها؟ فعندئذٍ ترى من الفلاسفة من يقول إن السبيل إليها هو «الحدس»، ومنهم من يقول إن السبيل إليها هو «العقل» وآخرون يقولون بل السبيل إليها هو «الحواس»، أفلا يجوز في هذه الحالة أن يكون سر الخلاف بين أولئك وهؤلاء أن كلمة «الحقيقة» ينقصها التحديد، بحيث يندمج في هذه الكلمة الواحدة مشكلات عدة، فأخذ كل فريق من الفلاسفة مشكلة غير المشكلة التي أخذها الفريق الآخر؟ إذا تبين ذلك، كان ما بينهم من اختلاف هو أبعد ما يكون عن «الصراع»؛ لأن كلًّا منهم يلعب لعبته في ميدان مستقل.

تلك حالات أربع من اختلاف الرأي عند أصحاب الفكر، ألخصها لتكون مرئية للقارئ بنظرة واحدة، فيسهل عليه أن يرى الزعم الذي نزعمه، وهو أن «الصراع الفكري» لا يتحقق إلا في حالة واحدة دون سائر الحالات:
  • (١)

    مشكلة يقترح لها حلان، بحيث إذا أصاب حل منهما تحتم أن يكون الآخر باطلًا، وها هنا يكون صراع فكري.

  • (٢)

    مشكلة يقترح لها حلان، لكن كل حل منهما لا يتناول من المشكلة إلا جانبًا واحدًا، وهنا لا يكون صواب أحدهما نافيًا لصواب الآخر؟

  • (٣)

    مشكلة يقترح لها حلان، لكنهما لا يختلفان في المعنى وإن اختلفا في الصياغة اللفظية، وهنا يكون صواب أحدهما هو نفسه صواب الآخر.

  • (٤)

    سؤال يدمج في صياغته أكثر من مشكلةٍ واحدة، فيعالج أحد المفكرين مشكلة منها، ويعالج مفكر آخر مشكلة أخرى، وهنا يكون لكلٍّ منهما صوابه أو خطؤه مستقلًّا عن صواب الآخر أو خطئه، فلا صراع بينهما ولا ما يشبه الصراع.

وسبيلنا الآن إلى مزيد من الأمثلة، نأخذها من حياتنا الفكرية، توضيحًا لهذه الحالات الأربع.

لو نظرنا إلى الحياة الفكرية — كما ينبغي أن يُنظر إليها — باعتبارها مرحلة نظرية لا بُدَّ أن تلحقها مرحلة التنفيذ والتطبيق؛ أعني لو نظرنا إلى الحياة الفكرية، لا على أنها لهو ومتاع لأصحابها، بل على أنها هي مرحلة التخطيط التي تنتهي بالتصميم ثم بالتنفيذ، وجدنا أن الحالة الأولى من الحالات الأربع المذكورة — أعني حالة الصراع الفكري بمعناه الدقيق — هي الحالة الوحيدة التي يؤدي اختلاف الرأي فيها إلى اختلاف في طرائق التنفيذ، وبالتالي فإن اختلاف الرأي فيها معناه اختلاف فيما نغيره أو لا نغيره من أمور الواقع، ومن ثم تجيء أهميتها وخطورتها بالقياس إلى زميلاتها، إذ لا يؤدي اختلاف الرأي في الحالات الثلاث الأخرى إلى أي ضرب من ضروب التغيير على أرض الواقع، وإذن فهو — على أحسن تقدير — لا يعدو أن يكون رياضة ذهنية يلهو بها أصحابها كما يلهو لاعبو الشطرنج، ولنضرب أمثلة من «صراعاتنا» الفكرية الحقيقية والمزعومة ليتضح المعنى الذي نريد.

إن أقرب مثل حي نسوقه للصراع الفكري في أتم معناه، هو هذا الذي حدث ويحدث في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية منذ قيام الثورة، فقد كانت تلك الحياة قبلها تقوم على فكرة أو أفكار أساسية، وجاءت تلك الحياة بعدها لتقوم على فكرة أو أفكار تنقض الأولى لتحل محلها، فإذا كانت الفكرة السابقة تأخذ بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الرئيسية، فإن الفكرة الجديدة تأخذ بالملكية العامة لتلك الوسائل، وبين الفكرتين من الاختلاف ما يحتم الأخذ بإحداهما دون الأخرى، فإما هذه وإما تلك، مع استحالة الجمع بين الفكرتين في شيءٍ واحدٍ بعينه، وإذن فقد كان بين الفكرتين صراع، كانت الغلبة فيه للفكرة الجديدة، وهي غلبة لا تقف عند حد الرياضة الذهنية، بل يكون لها طريقها إلى التطبيق والتنفيذ، بحيث تتغير الأمور على أرض الواقع تغيرًا يجعل لها صورة غير التي كانت، وبهذا يصبح لكلمة «ثورة» معناها العيني المحسوس.

خذ مثلًا ثانيًا لمثل هذا الاختلاف الذي يحتم علينا أن نأخذ بأحد الطرفين دون الآخر، لما بين الطرفين من تناقض يمنع الجمع بينهما في لحظة واحدة، الاختلاف على مبدأ التعليم، أيكون واجبًا على الدولة إزاء المواطنين بحيث تتكفل الدولة بنفقاته في كل مراحله، أم يكون من الخدمات التي تباع لمن يملك المال لشرائها؟ ها هنا كذلك «صراع» بين الفكرتين؛ لأن قبول الفكرة الأولى بالنسبة إلى مرحلة معينة من مراحل التعليم، يقتضي رفض الفكرة الثانية، فلو فرض أن كان لكلِّ من الفكرتين أنصار، كان بين الفريقين صراع فكري، وهنا نلاحظ للمرة الثانية أن الصراع عندئذٍ إذا انتهى إلى انتصار فكرةٍ على فكرة، كان معنى ذلك تغيرًا حقيقيًّا في دنيا الواقع.

وهاك مثلًا ثالثًا للصراع الفكري حين يتم معناه، قضية المرأة وحريتها حين أعلنها قاسم أمين، فهل تخرج المرأة — التي هي من أوساط لم تكن تسمح للمرأة فيها بحقوق معينة — هل تخرج تلك المرأة إلى حيث تظفر بحقوقها تلك، من سفور ومن تعليم ومن مشاركة في الأعمال العامة؟ هنا تكون الإجابتان بالإيجاب والنفي إجابتين متعارضتين تعارضًا يجعل صواب الواحدة منهما مؤديًا بالضرورة إلى خطأ الأخرى، ونلاحظ للمرة الثالثة أن مثل هذا الاختلاف الفكري مؤدٍّ إلى تبديل صورة الحياة الواقعة إذا ما كتب النصر للفكرة الجديدة على الفكرة القديمة.

ومثل رابع وأخير للصراع الفكري بمعناه الذي حدَّدناه له، تلك المشكلة التي ثارت في أربعينيات هذا القرن عن الكتابة العربية: أنبقي عليها كما هي بأحرف عربية، أم نُبدل هذه الأحرف بأحرف لاتينية؟ ها هنا أيضًا ترى كيف يجيء الأخذ بإحدى الفكرتين مبعدًا للفكرة الأخرى، وفي هذه القضية قد حدث أن كان النصر للفكرة القديمة فاختفت الفكرة الجديدة، فلبثت صورة الواقع على حالها لم يُصبها تغير.

ونستطيع أن نمضي في ضرب الأمثلة لما قد حدث في حياتنا الفكرية خلال هذا القرن من «صراعات» حقيقية بين أفكار تتصل بهذا الجانب أو ذلك من جوانب حياتنا، وهي صراعات يتحتم فيها الأخذ بأحد الطرفين المتصارعين دون الآخر، مع استحالة الجمع بينهما في مشكلة واحدة بعينها، وقد كتبت الغلبة في معظم الحالات للفكرة الجديدة، فتغيرت الحياة فيما يتصل بالفكرة الغالبة، لكن تلك الغلبة أحيانًا لم تكن من نصيب الفكرة الجديدة، فظلت الفكرة القديمة غالبة سائدة، وبالتالي لم تتغير الحياة في جانبها المتصل بتلك الفكرة، وهنا ينبغي أن نذكر حقيقة هامة، وهي أن «التغير» في ذاته ليس هو المقصود، إنما المقصود هو التغير الذي يحدث تطورًا وتقدمًا ونموًّا، فإذا كانت الفكرة الغالبة في الصراع، محققة للتطور، كانت خيرًا من زميلتها، بغض النظر عن أيهما جديد وأيهما قديم.

أما الحالة الثانية من الحالات الأربع التي أسلفنا ذكرها، فهي حين يتناول كل من المتجادلين جانبًا من المشكلة المعروضة غير الجانب الذي يتناوله الآخر، وعندئذٍ لا يكون بين الطرفين «صراع» بقدر ما يكون بينهما تعاون وتكامل، حتى ليجوز لنا ضم الصواب الجزئي الذي أدركه أحدهما إلى الصواب الجزئي الذي أدركه زميله، ليكون لنا بذلك الضم الصواب كله، أو شطر من الصواب — على أية حال — أكبر من كلِّ من الصوابين على حدة، وقد ضربنا لذلك مثلًا مشكلة العلوم وترجمتها، فهل ننقلها إلى العربية أو نتركها على أصلها في أيدي طلابنا ودارسينا، ونسوق الآن مثلًا آخر أو مثلين.

فالمشكلة ما زالت قائمة، والنزاع ما زال محتدمًا، حول الفصحى والعامية بأيهما نكتب في مجال القصة والمسرحية والشعر بصفة خاصة، وسؤالنا الآن هو هذا: أحقًّا نحن بإزاء طرفين نقيضين لا يلتقيان؟ هل المسألة هي إما أن نكتب بالفصحى ولا عامية وإما أن نكتب بالعامية ولا فصحى؟ ألا يجوز أن يكون هنالك موقف يجمع بين الفصحى في سياق والعامية في سياق؟ ماذا لو كتب متن القصة — مثلًا — بالفصحى وحوار العامة بالعامية؟ ماذا لو أخذنا من الفصحى بطرف ومن العامية بطرف كالاقتراح الذي قدمه الأستاذ توفيق الحكيم؟ إن ما يقوله أنصار الفصحى لا ينقض بالضرورة ما يقوله أنصار العامية، كلا ولا ما يقوله أنصار العامية بالذي ينقض ما يقوله أنصار الفصحى، بدليل أننا قد رأينا بالفعل آثارًا أدبية التقى فيها الطرفان على وجه من الوجوه.

وقريب من هذا مشكلة الشعر القائمة المحتدمة بين قديمه وحديثه، ويحلو للقائمين بها أن يسموها «صراعًا» كأنما لو نظم الشعر شاعر على النسق التقليدي تحتم ألا يقرضه شاعر آخر على أيِّ نحو شاء! نعم كأنما في العربية كلها شاعر واحد وهو إما أن يقول الشعر على هذه الصورة أو على نقيضها! هب أن سائلًا سألك: أتريد للناس أن يأكلوا اللحم أو الأرز؟ أفلا يكون الجواب: أريد لهم أن يأكلوا اللحم والأرز ومائة صنف آخر غير اللحم والأرز إذا أسعفتهم جيوبهم وبطونهم، ولقد شهدنا في هذه «المعركة» عجبًا، إذ شهدنا شاعرًا ينظم الشعر على صورته التقليدية من وزن وقافية، ولأن شخصه محبب لدى أنصار الشعر الجديد، رأوا في شعره شعرًا جديدًا — إنني أؤكد لقارئي أنني لا أكتب هذا مؤيدًا لجديد أو قديم، بل أكتبه لأبين ألا «صراع» في مثل هذه المشكلات؛ لأن الطرفين المتنازعين لا يزيح أحدهما الآخر، بل يأتي ليقف إلى جواره، كأنما أنت صاحب منزل ذي ثلاث غرف فأضفت إليها غرفة رابعة.

ولقد شهدنا كذلك معركة عنيفة في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته بين أنصار الجديد وأنصار القديم — وكان الجديد والقديم عندئذٍ معناهما على التوالي: الثقافة الأوروبية والتراث العربي — وكان بيننا من انتصر للأولى انتصارًا تامًّا، ومن انتصر للتراث العربي انتصارًا تامًّا، ولو كان المتقاتلون ذوي بصر وسمع، لرأوا بين ظهرانيهم — حتى في ساعة احتدام المعركة — أدباء اجتمعت في قلوبهم وفي عقولهم أطراف الثقافتين معًا، مما يدل دلالة قاطعة على أن المسألة ليست إما هذا أو ذاك ولا اجتماع بين الجانبين، بل هي على صورتها الأصح: هذا وذاك معًا، فهل تعد طه حسين مثلًا مشربًا بالثقافة العربية وحدها أو تعده مشربًا بالثقافة الأوروبية وحدها؟ هل تعد العقاد من الفريق الأول أو من الفريق الثاني؟ وكذلك قل في هيكل والمازني وغيرهما، وها هي ذي الأعوام قد كرت بنا إلى يومنا الراهن، فإذا الثقافتان اليوم يتلاقيان في وحدة — إلا تكن قد تمت فهي في طريقها إلى أن تتم — بحيث يتكون منهما ما يصبح ثقافة جديدة مطبوعة بطابعنا الحديث.

وكذلك ليس من ضروب «الصراع» الفكري أن تختلف العبارتان في اللفظ لكنهما تترادفان في المعنى، وقد أسلفت لذلك مثلًا هذا الخلاف الظاهري الذي تجري به أقلام طائفة من كتابنا اليوم عن «الاشتراكية العربية» و«التطبيق العربي للاشتراكية»، وأريد الآن أن أزيد من الأمثلة لعلها توضح ما نريد، فمن المشكلات القائمة بيننا اليوم مشكلة «الالتزام» في الأدب والفن، بل وفي الفكر بصفة عامة، وإن الحديث في المشكلة ليوحي بأن هنالك فريقين: أحدهما يقول بوجوب الالتزام ويقول الآخر بعدم وجوبه، على أن ثمة مسلمة متفقًا عليها، وهي أن الالتزام لا يقصد به الإلزام، بمعنى أن الحركة تنبع من داخل المفكر أو الأديب، ولا تفرض عليه من عوامل خارجية، وإذن فقد انحصر الخلاف «المزعوم» في أن فريقًا يقول: إنه لا بُدَّ أن يكون عند الأديب أو المفكر هدف يلتزم بلوغه بالوسائل التي يراها، على حين أن الفريق الآخر يقول — في زعم الزاعمين — إنه لا هدف هناك عند الأديب أو المفكر، ولذلك فلا وسائل معينة محددة، وتسأل الزاعمين: ترى هل يمسك المفكر غير الملتزم — أو الأديب — قلمه، ويغمض عينيه، ويخبط بالقلم على الورق كيف اختلجت الأصابع، كأنه قطٌّ وجد أمامه آلة كاتبة فراح يخبط على مفاتيحها بمخالبه؟ فيكون جواب الزاعمين عن سؤالك هذا — فيما أظن — هو شيء كهذا: لا بل إن غير الملتزم هو من يفكر للفكر نفسه، ومن يصنع أدبًا للأدب نفسه، وفنًّا للفن نفسه … أي أن الأهداف «داخلية» لا «خارجية» — إن جاز هذا الوصف — ونحن نقول لهؤلاء: إن هذا هو التزام، ولا فرق — من حيث «الالتزام» ذاته — بين أن يكون الهدف هو داخل الأثر الفكري أو الأدبي، أو خارجه، كلاهما التزام لصاحب الأثر بما أراد أن يصنعه، فإذا كان هنالك بعد ذلك اختلاف بين قائل بأن الهدف لا بُدَّ أن يكون خارج الأثر المصنوع، وقائل آخر بأنه إنما يكون داخلًا في كيان الأثر ذاته، فليس الاختلاف عندئذٍ على «الالتزام» وجودًا وعدمًا، بل الاختلاف على موضع الهدف الذي يراد التزامه، وإذن فلا فرق — من حيث الالتزام — بين عبارتين: إحداهما تقول إن الأدب هو للأدب، وأخرى تقول إن الأدب للمجتمع، إذ العبارتان كلتاهما تقرران الالتزام على حد سواء وبمعنى واحد، وإن اختلف فيهما الشيء الذي نلتزم به، وإنه لمما يزيد هذا الأمر وضوحًا، أن القائلين بأن الأدب الملتزم معناه التزام بمشكلات المجتمع، لا يفوتهم أن يؤكدوا بأن هذا الالتزام بمشكلات المجتمع لا يعفي الأديب من أن يلتزم «أيضًا» بما يوجبه الفن الأدبي من قواعد وأصول، وحتى لو أخذنا بهذا التفسير، فإن الخلاف بين الفريقين لا يكون خلافًا على وجوب الالتزام أو عدم وجوبه، بل يكون على «عدد» الالتزامات، ففريق يقول إنهما التزامان: التزام بقواعد الفن الأدبي أولًا، والتزام بأن يكون المضمون هو مشكلات المجتمع ثانيًا، على حين أن الفريق الآخر يطالب بالتزام واحد، هو التزام بقواعد الفن الأدبي، ولا شأن لنا بعد ذلك بالمضمون ونوعه، فإذا كانت هذه هي حقيقة الموقف، أفلا يكون الفريقان معًا على اتفاق في فكرة الالتزام من حيث هو كذلك؟ وإلا فأين هو الأديب الواحد أو الفنان الواحد أو المفكر الواحد، على طول التاريخ الثقافي كله، الذي لم «يلتزم» في عمله شيئًا ما؟ فإذا قال قائل هنا: لا، بل نريده أن يلتزم كذا لا كيت، كان ذلك «إلزامًا» لا «التزامًا» … وقد اعترفنا جميعًا بأنه لا إلزام.

وأسوق مثلًا آخر وأخيرًا، لاختلاف الرأي الموهوم، حين تختلف العبارات في لفظها، حتى إذا ما أمعنت النظر في مدلولاتها، ألفيتها تستهدف هدفًا واحدًا، والمثل الذي أسوقه هو اختلاف القائلين بالفردية والاجتماعية، ففي ظني أنه لو ترك التقابل بين الطرفين هكذا مطلقًا من القيود، لأفرغناه من معناه، فالمعنى الحقيقي المقصود هو ألا ينشط الفرد في ميادين العمل والفكر إلَّا بما عساه أن يخدم المجموع، لكن هذا نفسه لا ينفي أن يكون الفرد في نشاطه فردًا، وإنما هو مطالب بنوع معين من النشاط الذي يحقق به فرديته والذي يفيد المجتمع في الوقت نفسه، إذ قد ينشط الفرد بما يهدم المجتمع، وإذن فليس الشرط هو ألا ينشط الفرد من حيث هو فرد، بل الشرط هو أن يوجه نشاطه الفردي نحو خدمة الناس، افرض أن الفرد الذي نخاطبه بهذا الكلام يحترف مهنة الحكم في لعبة الكرة، فكيف يمكن أن يمارس حرفته إلا من حيث هو فرد؟ لهذا فنحن لا نطالبه بأن يحد من فرديته، بل نطالبه بأن يوجه نشاطه الفردي في أدائه لحرفته نحو هدف معين يخدم اللاعبين جميعًا، إن أشد أنصار الفردية تعصبًا لرأيه، لا يطرح الناس من حسابه، بدليل أنه يتكلم ليعبر عن رأيه ذاك، ويرسل كلامه إلى المطبعة ليطبع وينشر، وهو حين يتكلم وحين يعمل على نشر كلامه، إنما يتوجه به نحو الناس، وإذن فالقائلون بالفردية والقائلون بالاجتماعية، إنما يقولان شيئًا واحدًا، إذا كان المراد هو أن يكون النشاط الفكري أو العملي ذا صلة بالمجتمع كله أو بعضه، ولا يكون بينهما فرق إلا إذا قصرنا معنى الفردية على النشاط الذي يهدم المجتمع، ويعارض مصالحه، لكن من أين يتحتم هذا المعنى؟ وعلى كل حال، فلو كان دفع المجتمع أو تعويقه هو موضع الحديث، كان لمثل هذا الاختلاف معنى، أما أن يكون المحوران هما الفردية والاجتماعية، من حيث هما، فلا اختلاف هناك في حقيقة الأمر؛ لأن الفردية لا تكون إلا في مجتمع.

وإن أغمض الحالات جميعًا عن الرؤية، هي الحالة الرابعة — من الحالات التي أسلفنا ذكرها — حين يكون لكلِّ متحدثٍ مشكلته التي يتصدَّى لها، وبرغم ذلك يظن المتحدثان أنهما يتصديان لمشكلة واحدة بعينها، وأن أحدهما، إذا أصاب الرأي، تحتم أن يوصم زميله بالخطأ.

وأعيد القول مرة أخرى، بأن الخلاف لا يكون بين رأيين، إلا إذا كان الرأيان مما يتعلقان بسؤال واحد، أي أنهما معًا يندرجان في مقولة واحدة، فإذا سئلنا — أنت وأنا — عن جدران هذه الغرفة، فقلت أنا إنها بيضاء، وقلت أنت إن ارتفاعها أربعة أمتار، فليس هذا الذي بيننا هو خلاف في الرأي؛ لأنك بمثابة من يُجيب عن سؤالٍ غير السؤال الذي أجيب أنا عنه، أنت تتحدث عن «الكيف» وأنا أتحدث عن «الكم» وهما مقولتان مختلفتان.

وحسبي هنا مثل واحد أسوقه لاختلاف الرأي المزعوم، حين لا يكون في حقيقة الأمر اختلاف؛ لأن كل رأي من الرأيين متصل بمشكلة غير المشكلة التي يتصل بها الرأي الآخر، وليكن هذا المثل هو اختلاف النقاد على مبدأ النقد الأدبي ماذا يكون؟ فها هنا تجد إجابات كثيرة، ناقد جعل مبدأ البحث عما تحمله القطعة الأدبية من رسالة فكرية، وناقد آخر يجعل مبدأ البحث عن القالب الذي صبت فيه تلك الرسالة إذا كان ثمة رسالة، وناقد ثالث، ورابع وخامس إلى آخر الصف الطويل، ويزعمون أنهم مختلفون في مشكلة واحدة بعينها، وليس الأمر كذلك؛ لأن كلًّا منهم يهتم بشيء غير الشيء الذي يهتم به الآخر، افرض أننا أربعة أصدقاء دخلنا معًا مكتبة ليبحث كل منا عن كتاب غير الكتاب الذي يبحث عنه الآخر: واحد يريد كتاب الوجود والعدم لسارتر، وآخر يريد كتاب مبادئ الهندسة لإقليدس، وثالث يسأل عن الأيام لطه حسين ورابع يطلب ديوان العقاد، فهل يكون بيننا خلاف على رأي؟ وهكذا قل في أربعة نقاد يتناولون قصة أو مسرحية، بمبدأ نقدي لكل منهم غير المبدأ الذي يأخذ به زميله، فالقصة المنقودة هي الدكان الذي سيدخلونه جميعًا، لكن لكل منهم فيها مأربًا، إن وجده كان خيرًا وإلا فهو يخرج منها بغير زاد … اختلفت المطالب، أي اختلفت الأسئلة فاختلفت الإجابات بالضرورة، فلا صراع هناك كما قد يظن المغرمون بالصراع الفكري، حيث يكون، وحيث لا يكون بغير تمييز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤