إلى جمهورية جنيف

أيها السادة المبجلون الأجلاء الكرام!

بما أنني اعتقدت أنه لا يستطيع غير المواطن الصالح أن يقدِّم إلى وطنه من التكريم ما يُمكِنه قبوله، فإنني عملت ثلاثين سنة لأكون أهلًا لأنْ أقدِّم إليكم تحيةً عامة، فتقوم هذه الفرصة السعيدة من بعض الوجوه مقام ما قد تنطوي عليه جهودي من نقصٍ، وحسبت أنه يُباح لي التأمل في الغيرة التي تُغْرِيني أكثر مما في الحق الذي يجب أن يُمهِّد لي السبيل، وبما أنه كان لي شرفُ الولادة بينكم، فكيف يمكنني أنْ أُنعِم النظر في المساواة التي وضعتها الطبيعة بين الناس وفي التفاوت الذي أقاموه، من غير أن أفكر في الحكمة البالغة التي مُزِجَتْ بها تلك وهذا مزجًا مُوَفَّقًا في هذه الدولة، فيسعيان من أقرب الطرق إلى القانون الطبيعي، ومن أكثرها ملاءمةً إلى المجتمع، حفظًا للنظام العام وسعادة الأفراد؟ وإني حين بحثتُ عن أصلح القواعد التي يُمْكِن العقل الرشيد أن يُمْلِيهَا حول نظام حكومة، بلغتُ من بهر النظر باكتشافي وجودها كلها جاريةً في حكومتكم ما كنتُ أرى معه عدم استطاعتي إعفاء نفسي من تقديم هذه الصورة عن المجتمع البشري إلى هذا الشعب، الذي يَلُوح أنه أكثر الشعوب أخذًا بمحاسنها واجتنابًا لمساوئها، ولو لم أكن قد وُلدْتُ داخل أسواركم.

ولو كان لي اختيارُ محلِّ ولادتي لاخترتُ مجتمعًا بالغًا من الاتساع ما يُحَدُّ معه بمدى الخصائص البشرية، أيْ بإمكان حُسْنِ الحكومة، حيث كل واحدٍ مساوٍ لعمله، فلا يُلزَم أحدٌ بأن يُفوِّض إلى آخرين بوظائف كان قد عُهِد إليه فيها. وإن دولةً يتعارف جميع الناس فيها لا يُمْكِن مكايد الرذيلة الخفية، ولا اتِّضَاع الفضيلة، أن يَغِيبا عن أنظار الجمهور وحكمه فيها، فتجعل هذه العادة اللطيفة في الالتقاء والتعارف حُبَّ الوطن حُبًّا للمواطنين أكثر من جعله حبًّا للأرض.

وكنتُ أود أن أولد في بلدٍ لا يمكن أن يكون للسيد والشعب فيه غير مصلحة واحدة بذاتها، وذلك لكي تميل جميع حركات الآلة إلى السعادة العامة، وبما أن هذا لا يمكن أن يكون ما لم يكن الشعب والسيد شخصًا واحدًا، فإنني أود لو وُلِدت في كنف حكومة ديموقراطية معتدلة بحكمة.

وكنتُ أود أن أحيا وأموت حرًّا، أيْ أنْ أبلغ من الخضوع للقوانين ما لا أستطيع معه، ولا يستطيع أحدٌ معه، إلقاء النير المُكرَّم عن الكاهل، هذا النير الشافي الهين الذي تحمله أكثر الرءوس تكبرًا بدعةٍ، كما لو كانت قد خُلِقتْ لكيلا تحمل غيره.

وكنتُ أود — إذن — ألا يكون في الدولة مَن يَقْدِر أن يقول إنه فوق القوانين، وألا يكون في الخارج مَن يَقْدِر أن يُمْلِيَ ما تُحْمَل به الدولة على الاعتراف بسلطانه؛ وذلك لأنه إذا ما وُجِدَ في الحكومة، مهما أمكن أن يكون نظامها، رجلٌ غيرُ خاضعٍ للقوانين، كان الباقون تابعين لهواه١ وذلك لأنه، إذا ما وُجِدَ رئيسٌ قوميٌّ وآخَرُ أجنبيٌّ فإنه، مهما كان اقتسام السلطة الذي يمكنهما أن يأتياه، يتعذر أن يطاع كلٌّ منهما كما يجب، وأن تُحْسَن إدارة الدولة.

وما كنتُ لأختار العيش في جمهوريةٍ ذات نظام جديد، مهما أمكن أن تكون قوانينها صالحةً، وذلك خشية أن تكون الحكومة قد كُوِّنت على غير مقتضيات الوقت، فتختلف هي والمواطنون الجدد، أو يختلف المواطنون والحكومة الجديدة، وتكون الدولة عُرْضَةً للارتجاج والانهيار منذ ولادتها تقريبًا؛ وذلك لأن الحرية هي كتلك الأغذية الجامدة والعُصارية، أو تلك الخمور السخية الصالحة لتغذية وتقوية البنيات القوية المتعودة إياها، ولكن مع إرهاقها وتقويضها وإسكارها الضعفاء والنحاف الذين لم يُخْلَقُوا لها قطُّ، وإذا ما تعودت الشعوب سادةً ذات مرةٍ عادت لا تستغني عنهم، وإذا ما حاولت الشعوب إلقاء النير، ابتعدت عن الحرية بالمقدار الذي تُحوِّلها به إلى تحلل جامح معاكس لها، وتُسْلِمها ثوراتها دائمًا تقريبًا إلى غواةٍ لا يفعلون غير إثقال قيودها، ولم يكن الشعب الروماني نفسه قطُّ — هذا الشعب الذي هو مثالٌ لجميع الشعوب الحرة — قادرًا على الحكم في نفسه عندما تفلَّت من ظلم آل تاركين، فهو إذ أُذِلَّ بالعبودية والأعمال الشائنة التي فرضوها عليه لم يَعُدْ في البداءة غير كونه رعاعًا أغبياء تجب مداراتهم والحكم فيهم بأعظم حكمة؛ وذلك لكي تنال بالتدريج هذه النفوسُ الواهنةُ، وإن شئتَ فقُلْ المتوحشة في عهد الطغيان، بتعوُّدها استنشاق هواء الحرية الصحي مقدارًا فمقدارًا، تلك المتانةَ الخُلُقيةَ وتلك العزةَ الباسلةَ اللتين جعلتاها أكثر الشعوب أهلًا للاحترام، وكان عليَّ أن أبحث لوطني إذن عن جمهورية سعيدة هادئة ضاع قدمها في ليل الزمن من بعض الوجوه، فلم تُخْتَبَر بتغير صدماتٍ صالحة لإظهارها وتمكينها خُلُق الشجاعة وحب الوطن، وحيث يكون المواطنون المتعودون استقلالًا حكيمًا زمنًا طويلًا جديرين بأن يكونوا أحرارًا، لا أحرارًا فقط.

وكنت أود أن أختار لنفسي وطنًا مصروفًا عنه لعجزٍ مجدودٍ (ذو الحظ)، وعن حبٍّ ضارٍ للفتوح، مضمونًا بموقعٍ أكثر حظًّا أيضًا، وذلك عن خوف غُدُوِّه فتحًا لدولة أخرى، وذلك كمدينةٍ حرة واقعةٍ بين شعوب كثيرة ليس لأي واحد منها مصلحةٌ في الاستيلاء عليها، ويكون لكل واحد منها مصلحةٌ في منع الآخر من الاستيلاء عليها، أيْ أن أختار جمهورية لا تُثيرُ طموح جاراتها مطلقًا، ويمكن أن تعتمد على مساعدة هذه الجارات اعتمادًا مناسبًا عند الضرورة، ومن ثَمَّ لا يمكن الدولة الجمهورية ذات الحظ في موقعها بهذا المقدار أن تخشى غير نفسها، فإذا كان مواطنوها يمارسون استعمال الأسلحة، فذلك ليُبْقُوا في بلدهم تلك الحمية الحربية وتلك العزة الباسلة الملائمتين للأحرار، واللتين تُغذيان ذوقهم أكثر من ضرورة توليهم أمر دفاعهم الخاص.

وكان عليَّ أن أبحث عن بلدٍ يكون حق الاشتراع فيه مشتركًا بين جميع المواطنين، فمَنْ ذا الذي يستطيع أن يعلَم أحسن من هؤلاء شروط العيش معًا في المجتمع عينه؟ ولكنني ما كنت لأستحسن استفتاءاتٍ مماثلةً لما قام به الرومان، حيث كان رؤساء الدولة ومَن هم أحرص الناس على بقائها ممنوعين من المباحثات التي تتوقف عليها سلامتها في الغالب، وحيث كان الحكام محرومين، عن تناقضٍ محالٍ، ما يتمتع به أحقر المواطنين من حقوق.

وكنتُ — على العكس — أرغب لوقف المشاريع المُغرضة السيئة المفهوم والبدع الخطرة التي قضت على الاثنين في نهاية الأمر، ألا يكون لكل واحد سلطة اقتراح قوانين جديدة وفق هواه، أن يكون هذا الحق خاصًّا بالحكام وحدهم، وأن يقوم هؤلاء بذلك مع حذرٍ كثير، وأن يكون الشعب من الاحتفاظ بحقه في الموافقة على هذه القوانين، وأن يكون نشرها من التعذر بغير احتفال كبير ما يكون معه قبل قلب النظام من الوقت الكافي ما يُقنع فيه بكون قِدَم القوانين البالغ على الخصوص هو الذي يجعلها مقدسةً محترمةً، وأن يزدري الشعب من فوزه ما يرى تبديله كل يومٍ من القوانين، وأن يُعْلَم أنه بتعود إهمال العادات القديمة بحجة الإصلاح تُتَّخذُ في الغالب شرورٌ كبيرة إصلاحًا لما هو دونها.

وكنت أجتنب على الخصوص، كسيئة الإدارة بحكم الضرورة، جمهوريةً يعتقد الشعب فيها إمكان استغنائه عن حكامه أو عدم تركه لهم غير سلطةٍ وقتية، فيحتفظ عن عدم تروٍّ بإدارة الأمور المدنية وتنفيذ قوانينه الخاصة، فهذا ما وجب أن كان عليه نظام الحكومات الأولى الغليظ فَوْر خروجها من الحال الطبيعية، وهذا ما كانت عليه إحدى النقائص التي قضت على جمهورية أثينة.

ولكنني كنتُ أختار مجتمعًا يكتفي الأفراد فيه بتأييد القوانين، وبتقريرهم أهم الشئون العامة ضمن هيئةٍ وبناءً على طلب الرؤساء فينشئون محاكم محترمةً، ويميزون بين مختلف الدوائر بعناية، وينتخبون بين عامٍ وعام أقدر مواطنيهم وأنزههم لإدارة العدل والحكم في الدولة. كنت أختار مجتمعًا تكون فضيلة الحكام فيه شاهدةً على حكمة الشعب، فيوجب كلٌّ من الفريقين شرف الآخَر مقابلةً، فإذا ما ظهر في مثل هذه الحال من سوء التفاهم المشئوم ما يكدِّر الوفاق العام، فإن أدوار العماية والضلال نفسها تُوسِم بدلائل الاعتدال والتقدير المتبادل وباحترامٍ شامل القوانين، أيْ بعلاماتٍ وضامناتٍ لوفاقٍ صادق دائم.

فتلك هي، أيها السادة المبجلون الأجلاء الكرام، ما كنتُ أبحث عنه من المنافع في الموطن الذي كنت أختاره نفسي، ولو أن العناية الإلهية أضافت إلى ذلك موقعًا رائعًا، وإقليمًا معتدلًا، وبلدًا خصيبًا، وأرغد ما يكون تحت السماء؛ ما كنت أرغب لكمال سعادتي في غير التمتع بجميع هذه الأطايب في صميم هذا البلد السعيد، عائشًا هادئًا في مجتمع ناعم مع مواطنيَّ مباشِرًا الإنسانية والمحبة وجميع الفضائل نحوهم وعلى مثالهم، تاركًا ورائي ما لرجل الخير والوطني الشريف من الذكرى المكرمة.

ولو كنتُ أقل سعادة وأكثر حكمةً، فوجدتني مُلزَمًا بأن أختم حياةً عاجزةً ذاويةً في أقاليم أخرى، آسِفًا بلا طائل على الراحة والسكينة اللتين كانت تحرمني إياهما شبوبية غافلة، لغذيت نفسي بتلك المشاعر التي لم أكن لأقدر على اتخاذها في بلدي، ولو كنت مُفْعَمًا بمودةٍ رقيقةٍ نزيهة تجاه مواطني البعداء لَوجَّهْتُ إليهم الكلمة الآتية تقريبًا:

مواطني الأعزاء، بل إخواني، بما أن روابط الدم والقوانين توحِّد بيننا جميعًا تقريبًا، فإنه يحلو لي ألا أستطيع التفكير فيكم من غير أن أفكر في الوقت نفسه في جميع الأطايب التي تتمتعون بها، والتي لا يوجد بينكم على ما يحتمل مَن يشعر بقيمتها أحسن مني، أنا الذي أضاعها، وكلما أنعمتُ النظر في وضعكم السياسي والمدني قَلَّ إمكان تصوري استطاعة أمور البشر أن تحتمل ما هو أطيب منها، وعندما يُبحَث في جميع الحكومات الأخرى عن ضمانِ أعظمِ خيرٍ للدولة يقتصر كل شيء على خططٍ في الأفكار دائمًا، وعلى الممكنات البسيطة جُهد الاستطاعة، وأمَّا أنتم فإن سعادتكم قد كَمَلَتْ، وليس عليكم غير التمتع بها، وليس عليكم لتكونوا سعداء تمامًا غير معرفتكم كيف تقنعون بأن تكونوا هكذا، وأخيرًا غدت سيادتكم المكتسبة أو المستردة بحد السيف، والتي حُفِظت مدة قرنين عن قيمة وحكمةٍ، معترفًا بها اعترافًا تامًّا عامًّا، وتُعِين حدودكم وتؤيد حقوقكم وتوطد راحتكم معاهداتٌ مكرمة، ونظامكم رائع، فقد أملاه عقلٌ عالٍ، وضمنته دولٌ صديقةٌ ومحترمة، ودولتكم مطمئنة، فليس عليكم أن تخشوا حروبًا ولا فاتحين، وليس عندكم سادةٌ غير ما وضعتموه من القوانين الحكيمة، ويعمل بهذه القوانين حكَّامٌ صالحون من اختياركم، ولستم من الغنى ما تتخنثون معه عن نعيمٍ وما تخسرون معه ذوق السعادة الحقيقية والفضائل المتينة في الأطايب الفارغة، ولستم من الفقر ما تحتاجون معه إلى المساعدات الأجنبية التي لا تُنْعِم صناعتكم بها عليكم، ولا يكلِّفكم شيئًا تقريبًا حفظ هذه الحرية الثمينة التي لا تُصان لدى الأمم الغليظة بغير الضرائب المُفرطة.

وهل تستطيع أن تدوم إلى الأبد، وفي سبيل مواطنيها، ولتكون مثالًا للشعوب، جمهورية تدار بحكمةٍ بالغةٍ وتوفيقٍ كبير! هذا هو الأمل الوحيد الذي يبقى لكم أن تصنعوه، والحذر الوحيد الذي يبقى لكم أن تتخذوه، وعليكم وحدكم يتوقف في المستقبل أن تجعلوا تلك السعادة دائمةً بحكمة حُسْن استعمالها، لا أن تصنعوا سعادتكم، فقد كفاكم أجدادكم مئونة ذلك، ويتوقف بقاؤكم على اتحادكم الدائم، وعلى إطاعتكم القوانين، وعلى احترامكم مَن يقومون بها، وإذا ما بقي بينكم أقلُّ أثر مرارةٍ أو تريبٍ، فسارعوا إلى تبديده كخميرة شؤمٍ ينشأ عنها شقاؤكم وخراب الدولة عاجلًا أو آجلًا. أستحلفكم جميعًا أن تعودوا إلى فؤادكم، وأن تستمعوا إلى صوت ضميركم الخفي، وهل يوجد بينكم مَن يعرف في العالم كيانًا أكثر صلاحًا ونورًا واحترامًا من حاكميتكم؟ أَلَا يُعطيكم جميع أعضائها مثال الاعتدال وبساطة الطباع واحترام القوانين وأصدق وفاقٍ؟ ضعوا بلا تحفُّظٍ — إذن — في رؤساء بالغي الحكمة تلك الثقة النافعة التي يكون العقل مدينًا بها للفضيلة، وفكروا في كونهم ممَّن اخترتم، وفي كونهم يُزكون هذا الاختيار، وفي كون ضروب الشرف التي تحُفُّ مَن رفعتموهم تعود إليكم بحكم الضرورة، ولا يُرى بينكم أحدٌ من قلة المعرفة ما يجهل معه كون ضياع قوة القوانين وسلطان حُماتها يؤدي إلى عدم استطاعة أحدٍ أن يتمتع بالسلامة والحرية، ولم تترددون، إذن، أن تصعنوا عن طيبة قلبٍ وطمأنينة نفسٍ ما أنتم مُلزَمون بصنعه عن مصلحةٍ حقيقية وعن واجبٍ وعقلٍ؟

ولا تدعوا أثيمًا ولا خليًّا مشئومًا، قائمًا على حفظ النظام، يغريكم عند الضرورة بإهمال ما لأكثركم نورًا وغيرةً من آراء حكيمة، ولكن ليَدُم الإنصافُ والاعتدال والرزانة البالغة الحرمة أمورًا ناظمةً لجميع خطواتكم، دالةً جميع العالم فيكم على مثال شعب فخورٍ متواضع محبٍّ لمجده حبَّه لحريته، واحذروا خاصةً، وهذه آخِرُ نصيحةٍ مني، أن تُصغوا إلى التفاسير الضارة والأحاديث السامة التي تكون عواملها الخفية أشد خطرًا من الأفعال التي هي موضوعها. أجَلْ، إن المنزل بأسره يستيقظ وينتبه إلى أول صراخٍ من كلب الحراسة الصالح المخلص الذي لا يعوي إلا عند اقتراب اللصوص، غير أننا نمقت إزعاج تلك الكلاب الصخابة التي تقلق الراحة العامة بلا انقطاع، فلا تؤدي تحذيراتها المستمرة التي هي في غير محلها إلى الإصغاء وقتما تكون ضرورية.

وأنتم أيها السادة المبجلون الأجلاء، وأنتم أيها الحكام الأفاضل المحترمون، اسمحوا لي بأن أقدِّم إليكم تحياتي وواجباتي على الخصوص، فإذا وُجِد في العالم مقامٌ صالح لتكريم مَن يشغلونه فذلك المقام هو الذي تُنعَم به المواهب والفضيلة، فذلك هو المقام الذي جعلتم به أنفسكم أكفياء، فذلك هو المقام الذي رفعكم إليه مواطنوكم، وتضيف مزيتهم الخاصة إلى مزيتكم بهاءً جديدًا، وبما أنه وقع اختياركم من قِبَل أناس قادرين على الحكم في أناس آخرين، وذلك للحكم فيهم، فإنني أجدكم أعلى من جميع الحكام الآخرين، وذلك بالمقدار الذي يكون به شعبٌ حُرٌّ، ولا سيما الشعب الذي لكم شرف قيادته، فوق عامة الدول الأخرى ببصائره وعقله.

وليُسمح لي بأن أذكر مثالًا يجب أن يبقى منه أحسن الآثار، وأن يظل ماثلًا لقلبي على الدوام، ولا أذكر من غير أحلى حنانٍ ذكري ذلك المواطن الفاضل الذي أراني مَدِينًا له بوجودي، والذي علَّمني في صباي غالبًا أن أقوم بالاحترام الواجب نحوكم، ولا أزال أراه يعيش من عمل يديه ويُغذِّي روحه بأعلى الحقائق، وأُبصر بجانبه ابنًا عزيزًا يتناول مع قليل ثمرةٍ أرقَّ ما يصدر عن أصلح الآباء من تعاليم، ولكن إذا كانت عماياتُ شبابٍ طائش جعلتني أنسى دروسًا بالغةً تلك الحكمة ذات حينٍ، فإن لي في نهاية الأمر سعادة الإحساس بأنه ليس من السهل على تربيةٍ مازجتِ القلب أن تضيع إلى الأبد، مهما كنا من ميلٍ إلى المُنْكَر.

أولئك، أيها السادة المبجلون الأجلاء، مَن وُلِدُوا في الدولة التي تَحْكُمُون فيها من المواطنين، ومن عامة السكان أيضًا، وأولئك هم الرجال الأذكياء المُعَلَّمون الذين تدور حولهم لدى الأمم الأخرى، وذلك باسم العمال والشعب، أفكارٌ بالغةُ الخسة والإفك، ولم يكن والدي ممتازًا بين مواطنيه مطلقًا، وهذا ما أعترف به مسرورًا، وهو لم يكن على غير ما كان عليه الآخرون، وهو مع ما كان عليه، لا تجدُ بلدًا لم يُبحثْ فيه عن مجتمعه، ولم يُتعهد فيه مجتمعه — حتى بمنفعةٍ — من قِبَل أكثر الناس صلاحًا، وليس من شأني والحمد لله، وليس من الضروري، أن أحدثكم عن الإكرام الذي يمكن أن ينتظره منكم أناسٌ من هذه الجبلة، أناسٌ يساوونكم بالتربية وبحقوق الطبيعة والولادة، أناسٌ يُعدُّون دونكم بإراداتهم وبما هم مدينون به لفضلكم من أرجحية يمنحونه إياها، فتكونون من أجلها مدينين لهم بضربٍ من الشكران بدوركم، وأعلمُ مع السرور الحار مقدار اللطف والعطف اللذين تُعدلون بهما مع اتزان حفظة القانون، ومقدار ما تردُّونه من الاعتبار والعناية إلى مَن هم مُلزَمون بالإجلال والطاعة نحوكم، وهذا السلوك زاخرٌ بالعدل والحكمة؛ وهو يصلح لأن يُبعِد بالتدريج ذكرى ما يجب نسيانه من الحوادث السيئة لكيلا يُرى ثانية، وهذا السلوك هو من الحصافة ما يجدُ معه هذا الشعب المنصف الكريم لذةً في القيام بواجبه، وما يجب معه أن يُمجدكم عن طبيعة، وما يكون معه أشد الناس حماسةً لتأييد حقوقهم أكثرهم استعدادًا لاحترام حقوقكم.

ولا ينبغي أن يُحار من حُبِّ رؤساء المجتمع المدني لمجده وسعادته، ولكن من الشاق على قرار الناس أن يبدي مَن يعدون أنفسهم حكَّامًا، وإن شئتَ فقُلْ سادةً، لوطنٍ أكثر قُدْسيةً وسموًّا، حبًّا لوطنٍ دنيويٍّ يغذيهم، ويا لما أجِدُ من حلاوةٍ في إمكان قيامي باستثناء بالغ الندرة نفعًا لنا، فأضع في صف أصلح مواطنينا حفظة العقائد المقدسة الغُيُرَ المُجاز لهم بالقوانين، رُعاة النفوس الأجلاء الذين تحمل فصاحتهم الحية العذبة إلى الأفئدة ما يأخذون في ممارسته بأنفسهم دائمًا من مبادئ الإنجيل! يُعْلَمُ جميع العالَم مقدار ما يُزاوَلُ من نجاحٍ فنُّ الوعظ في جنيف، غير أن من الناس مَن بلغوا من عادة سماعهم القول حول أمرٍ وملاحظتهم العمل بأمرٍ آخَر ما تجد معه أناسًا قليلين يعلَمون مقدار استيلاء روح النصرانية، وقدسية الطباع والقسوة على النفس والرأفة بالآخرين، على هيئة واعظينا، ومن المحتمل أن كانت جنيف وحدها هي التي تقدِّم مثالًا ممتعًا عن اتحادٍ كاملٍ بين مجتمعٍ من علماء اللاهوت ورجال الأدب، فتراني أقيم أملي في اطمئنانها الأبدي على حكمتهم واعتدالهم المعروف أمرها، وعلى غيرتهم حول سعادة الدولة، لمدى واسع، وألاحظ في الوقت نفسه، ومع غبطةٍ ممزوجةٍ بعجبٍ واحترامٍ، مقدار ما يساورهم من مقتٍ لما يحمل من مبادئ كريهة هؤلاء الناس المقدسون البرابرة الذين يقدِّم تاريخُهم غيرَ مثالٍ، فتراهم أقل ضنًّا بالدم البشري لتأييد حقوق الرب المزعومة، أيْ لتأييد حقوقهم الخاصة، وذلك بنسبة ما يعللون به أنفسهم من احترام دمهم على الدوام.

وهل أستطيع أن أنسى ذلك النصف من الجمهورية الغالي الذي يُوجِب سعادة النصف الآخَر، فما ينطوي عليه من حلمٍ وحكمة يؤدي إلى حفظ السلام وحُسْن الطباع فيه. فيا أيتها المواطنات المحبوبات الفاضلات «بنات جنيف»، إن من نصيب جنسكن أن يحكم في جنسنا دائمًا، ويا للسعادة عندما يشعر سلطانكن الطاهر، المزاول في القران الزواجي وحده، بنفسه في سبيل مجد الدولة والنعيم العام فقط! هكذا كان النساء يقُدْن في إسبارطة، وهكذا يستأهلن القيادة في جنيف، وأي رجل من البرابرة يقدر أن يقاوم صوت الشرف والعقل من فمِ زوجةٍ حنون؟ ومَنْ ذا الذي لا يزدري ترفًا باطلًا عندما يرى حِلْيَتكن البسيطة المتواضعة التي تلوح، بما تقتبسه من بهائكن، أنها أكثر ما يلائم الجمال؟ وعليكن أن تَصُنَّ بسلطانكن البريء المحَبَّب وروحكن الفتَّانة حب القوانين في الدولة والوفاق بين المواطنين، وأن تجمعن بين الأُسَر المفرقة بزواجاتٍ موفقة، وأن تُصْلِحن، على الخصوص، بدروسكن ذات الوداعة المقنعة، وبحديثكن ذي الألطاف المعتدلة، ما يكتسبه شبابنا من سوء سلوك البلدان الأخرى التى لا يُجلبون منها، مع لهجةٍ صبيانية وأوضاعٍ مضحكة مقتبسة من نساء فاجرات، وبدلًا من أمور مفيدة كثيرة يمكنهم أن يستفيدوها منها، غير إعجاب بما لا أدري ما يكون من عظمةٍ مزعومة وتعويضات حقيرة عن عبودية لا تساوي الحرية المبجلة، فكنَّ دائمًا — إذن — أَنْتُنَّ حارسات الأخلاق وروابط السلام العذبات، وداوِمْنَ على استغلال حقوق القلب والطبيعة نفعًا للواجب والفضيلة.

وأتملق نفسي إذ لم يُكذبني الحادث بإقامتي على مثل هذه الأسس أمل السعادة العامة للمواطنين والمجد للجمهورية. وأعترف مع جميع هذه المنافع، بأنها لا تسطع بذلك الضياء الذي يُعشي معظم العيون، والذي يُعَدُّ ذوقه الصبياني المشئوم عدو السعادة والحرية والأزرق.

وليذهب شبابٌ منحلٌّ لبحث في مكان آخَر عن ملاذ سهلةٍ وتوبات طويلة، وليُعجب ذوو الذوق المزعوم، في أماكن أخرى، بعظمة القصور وجمال الأجهزة، وبالأمتعة الرائعة والمناظر البهية، وبجميع دقائق الترف والتخنث، فلا يوجد في جنيف غير رجالٍ، غير أن لمثل هذا المحضر ثمنه على ذلك، ومَن يبحثون عنه يساوون المعجبين بالباقي.

فتفضلوا، أيها السادة المبجلون الأجلاء الكرام، أن تقبلوا جميعًا بذات الحِلْم هذا الدليل البالغ الاحترام على اهتمامي بإقبالكم الشامل، فإذا كنتُ من الشقاء ما أُعَدُّ معه مذنبًا بهيجان مذياع في قلبي الناري المفتوح، فإنني ألتمس العفو عنه لما ينطوي عليه من ودٍّ وطني صادق وللغيرة الحارة الشرعية في رجلٍ لا يرى لنفسه سعادةً غير رؤيته إياكم سعداء جميعًا.

ويا أيها السادة المبجلون الأجلاء الكرام، أجدني مع الاحترام البالغ خادمَكم ومواطنكم الكثير الخضوع والطاعة.

جان جاك روسو
شانبري، في ١٢ من يونيو سنة ١٧٥٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤