الفصل الأول

هلوسات صحوة الموت: فقه النصر والتمكين

بعد أن يشرح لنا الدكتور محمد عمارة منهج الوسطية الذي هو منهج الإسلام الصحيح، يوضح معنى مصطلح «الاستعلاء»، بكونه لونًا من «الكبرياء المشروع فنعتز بحضارتنا وبديننا وبلغتنا وبأمتنا وبثقافتنا وبكبريائنا» (الجزيرة، خطاب الهوية).

المهم أن هذا الاستعلاء بما لدينا من مبررات الكبرياء على العالمين، يصيب صاحبه بالأوهام ولا يعود يفرق بين الممكن والمستحيل، ففقهاؤنا المحدثون يرون أن المسلمين في طريقهم نحو التمكين، وأن لهذا التمكين علامات، فيقول الدكتور علي الصلابي: «إن القول بأن الأمة دُمرت أو أنها مهزومة، فهو قول غير صحيح؛ لأن الأمة تحقق انتصارات، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، إن المستقبل لهذا الدين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره» (الجزيرة، فقه النصر والتمكين).

ومن ثَم يقدم أدلته على الانتصارات التي تحققت للأمة الإسلامية ولدين الإسلام، فيشير إلى: «الانهيار الضخم للاتحاد السوفييتي، وانهيار أمريكا؟! (ربما يقصد ورطتها في العراق أو ربما يقصد دمار سبتمبر ٢٠٠١م)، وأوروبا في دور التراجع في المجال الفكري والعقائدي والأخلاقي والحضاري، روسيا تريد أن تفتح مصارف إسلامية وكذلك اليابان، أصبحت حقيقة أن الفكر الإسلامي الاقتصادي يحل أزمات حقيقية، وأيضًا في المشاركة في الحكم مع الأنظمة القائمة، أصبحت مرجعية الدساتير لكتاب الله ولسنة رسوله، الشعب التركي أعطاهم الأصوات، نجاح المسلمين في مقاومة المشاريع الغازية للأمة دليل على أنها نوع من التمكين، الانتصارات الدعوية الضخمة، في مجال الفكر والأخلاق، انتصارهم في المعارك، بأفغانستان، وتفتت قبلها الاستعمار الحديث، إن هذه انتصارات ضخمة وهائلة» (الحلقة ذاتها).

وفى حلقة الصحوة الإسلامية ومآلاتها في القناة ذاتها، يؤكد الدكتور قرضاوي أن الصحوة الإسلامية هي دليل الانتصار؛ لأنها كما يقول: «صحوة اجتماعية سياسية فكرية، الكتاب الإسلامي أصبح الكتاب الأول، هناك مئات أطروحات الماجستير والدكتوراه، الشابات يقبلن على الحجاب.»

إن خطاب فقهائنا المحدثين يصيب المتابع بالارتباك، فنحن نستعلي إذن على الدنيا بدين جاء من عند الله وليس بشيء أنجزناه نحن بأيدينا؛ لذلك اخترنا أنفسنا أوصياء على البشرية القاصرة، لتبليغها هذا الدين والتمكين للمسلمين في الأرض! لماذا وبأي مناسبة وبأي دليل موضوعي؟ هم لا يقولون ولا يجيبون، فعندهم ليس هناك إمكانية مقارنة بين إمكانيات الشعوب ومنجزاتها وبين دين الله؛ فالدين الإسلامي ميزة لأصحابه تغنيهم عن أي إمكانيات أخرى، لذلك هم الأعلون.

فإذا كان ذلك صحيحًا وأن الأمة تملك ميزة لا تملكها الأمم الأخرى، فلماذا تخرج المظاهرات في بلادنا تطالب بحقوق الإنسان والديمقراطية، ولا تخرج المظاهرات في أوروبا وأمريكا واليابان تطالب بالبيعة أو الشورى والحجاب والجهاد؟

مشكلة أخرى تواجهك مع مثل هذا الخطاب، عند التساؤل عمن سيتمكن؟ مرة يحدثك عن الأمة ومرة يحدثك عن الدين، فإذا كانت الأمة هي من سيتمكن فهي تتكون من مجموع أفراد، فأين هؤلاء الأفراد أو حقوقهم في خطاب التمكين؟ لا تجدهم همًّا شاغلًا بالمرة؛ لأن الورقة المخفية في اللعبة هي من هؤلاء المرشحين للتمكين؟ يجيب: هم من يشاركون الآن في أنظمة الحكم بانتصارات جبارة، وهم من أعطاهم الشعب التركي أصواته؛ فالذين سيتمكنون هم مثل الإخوان المسلمين الذين تمكنوا من المشاركة في حكومات عربية، وحزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي، وأيضًا من الذين يتمكنون، هؤلاء الذين يقاومون كما يحدث في أفغانستان؟!

من يوم ما أمسكت القلم أكتب وأكرر وأقول وأزيد «كلهم واحد»، ولا أذن تسمع ولا بصيرة ترى، هذا رجل في فلتة لسانية يرى الإخوان وحزب الفضيلة وبن لادن والزرقاويين هم من يسعون للتمكين، وهم أهل التمكين، دون بقية المسلمين، ودون أن يفرق بينهم أو يمايز أو يفاضل، وأن المستقبل لهم، بعد أن يمزج بينهم كبني آدمين بصوابهم ونقائصهم وبين الدين الكامل النظيف؛ فالعلماء هم الإسلام، لينتهي إلى أن هؤلاء هم من سيمكنون للدين عندما ينتصرون. وهكذا فالطريق إلى الله سيمر عبر حروب دموية جديدة.

وكم كنا نتمنَّى للفكر الفقهي المعاصر أن يكون قد تجاوز هذه العثرة، عثرة أن يكون الطريق إلى الله مفروشًا بدم خلق الله، كما الزرقاوي وكما بن لادن وكما بن السباعي سفيه لندن، وكما بن القرضاوي وكما بن عاكف، وكما بن هويدي، كلهم في الدموية ملة واحدة. أضف لذلك أنهم يتجملون بوصول حزب إسلامي إلى السلطة في تركيا مجرد تجمل؛ لأنهم يرفضون المنهج العلماني الليبرالي الديمقراطي برمته، ويعلنون تبني الديمقراطية كمجرد واجهة وتطبيقًا لمنهج التقية، انظر مفاجأة المذيع للدكتور الصلابي وهو يسأله: «إذن أنتم تعتبرون حزب العدالة والتنمية نموذجًا إسلاميًّا صالحًا ليسير بالأمة نحو النصر والتمكين؟»

السؤال جاء بغتة، فانظر إجابة الصلابي الذي ارتبكت صلابته فقام يغمغم بالنص: «لأ هوه … نحن نعتبر … هوه … طبعًا نعتبر … أن … هم لهم علاقات بأمريكا واعترفوا بإسرائيل، هذا نوع من السياسة الشرعية عليها جدل بين المسلمين ونحن يهمنا المضمون لا الشعارات.»

التمكين إذن لن يكون لا للإسلام ولا للأمة الإسلامية، إنما للفريق الإسلامي الذي سيركب الأمة ليوجهها نحو حرب عالمية مقبلة يجهز لها أصحاب التمكين، ستكون بين المسلمين في جانب والعالم كله في جانب آخر، اسمع السيد الدكتور يشرح معنى التمكين فيقول: «التمكين الذي ندعو إليه هو التمكين الرباني، وما نراه من تمكين مادي في الحضارة الغربية أو الأمريكية أو في اليابان فهو دنيوي يعزل الناس، التمكين يبدأ بالاستدراج، استدراج الأمم والشعوب … التمكين هو الوصول إلى السلطة وإلى القوة والهيمنة لتحكيم شرع الله … والهدف الأكبر … هو هيمنة هذه الأمة وإرجاع دورها الحضاري في هداية الناس … الهدف الوصول للدولة لاستخدام هذه الدولة في تطبيق شرع الله.»

مرة أخرى لا تجد في واجهة الصورة أي وجود للمواطن، لا تجد فاعلًا سوى رجل الدين، فالتمكين مسألة تحتاج كما يقول: «إلى العلماء لإتمام صياغة هذا المشروع الإسلامي الحضاري للتصدي للغزو الغربي وأفكاره الدخيلة.» وهو ما يدعمه فيه بشدة المرجع الفقهي د. يوسف قرضاوي، وإن رأى أن «العلماء التقاة هم من يعرض المشروع على الأمة» (حلقة الدستور ومرجعية التشريع، الجزيرة). وبعدها كما يقول الصلابي: «يأتي دور صاحب القرار السياسي مع العلماء الربانيين في بلورة هذا المشروع.» ولا تفهم هنا كيف تكون الأمة منتصرة كل هذه الانتصارات التي يزهو بها، بينما هي قد بلغت درجة من الضعف تعرضت فيه ثقافتها للهزال والتآكل، حتى أمكن أن تتعرض للغزو الغربي الحضاري وأفكاره الدخيلة، حتى إن التمكين يبدأ أولًا بصياغة مشروع ليتصدى للغزو الفكري.

نتابع فضيلته وهو يشرح معنى التمكين، فيكرر: «هو نوع من أنواع الاستدراج: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، وأمريكا الآن متورطة في العراق، ونحن نحيي المقاومة العراقية السنِّية الباسلة على إفساد مخططاتهم.»

مع مشايخ زماننا تجد نفسك دومًا في مشكلة مع المفاهيم، فلا تفهم لماذا لا يؤهلون شعوبنا للصراع الحضاري؟ فنكون شعوبًا فاعلة منتجة تدخل المنافسة مع الشعوب الأخرى، فنضيف للحضارة، وتصبح بلادنا موجودة على الخريطة فعلًا! لا تفهم لماذا كي يتقدم المسلمون لا بد أن يتم خراب بيوت غيرهم وانهيار حضارتهم أولًا، وبعدها يبدأ غزونا لهم لنتمكن في الأرض، فهذا هو درس التاريخ، انظره يقول: «بالدماء وبالعقيدة الصحيحة وبحب الشهادة في سبيل الله، استطاع المسلمون أن يحققوا انتصارات هائلة.»

والتمكين المنتظر ليس فوضى، إنما هو يسير على قانون تطوري مرسوم سلفًا، ويشرح الأستاذ الدكتور هذه المراحل فيقول: «في القرآن الكريم التمكين على مستوى الأفراد مثل ما حدث ليوسف، ثم تمكين على مستوى الجماعات، كما حدث لرسول الله، المرحلة الثالثة مرحلة الانتقال في التيه (تيه بني إسرائيل وموسى في سيناء)، والمرحلة الرابعة طالوت مع جالوت، والمرحلة الخامسة مرحلة داود وبعدها مرحلة سليمان، هذه هي دورتنا الحضارية، ولكل مرحلة سمات محددة.»

إذن فحضارتنا لها دورة، مش أي كلام يعني! مثل دورة حياة دودة القز، وتبدأ دورة التمكين بالتسلل إلى الحكومة كما حدث ليوسف في استدراج فرعون ليعرف بقدراته فتمكن، (وهو ما يشبه ما حدث من الإخوان في اختراق أجهزة الدولة الحساسة في أيامنا)، وقد يكون التمكين كاملًا على الجماعة الكبرى، من قبل مجموعة منها، وقد عرفنا هذه الجماعة المرشحة للاستيلاء على الحكم، فهم مثل الإخوان ومثل القاعدة ومثل طالبان، وذلك كما حدث زمن رسول الله . ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة التيه وهي التي نعيشها اليوم، والتيه يعني البحث عن خلاص والعثور على الطريق نحو الهدف، مثل خروج بني إسرائيل بقيادة موسى من مصر نحو فلسطين، والتيه حدث في سيناء حتى تم حشد القوة والقدرة الممكنة لغزو فلسطين واحتلالها. إذن نحن في مرحلة حشد القوة للغزو الخارجي، هنا تأتي مرحلة طالوت وجالوت، وطالوت بالتوراة هو شاءول أول ملك لإسرائيل، وجالوت هو جوليات بالتوراة الذي كان قائدا فلسطينيًّا يدافع عن فلسطين ضد الغزو اليهودي، وقد انتصر طالوت الإسرائيلي على جالوت الفلسطيني بعد قتال مرير، والمعنى أنه ستكون هناك حرب ضرورية حسب هذه المراحل التطورية لينتصر فيها المسلمون مع طالوت على اليهود الذين أصبحوا حسب هذا الفهم مع جالوت، (بالطبع بعد إجراء عملية أسلمة لطالوت كما تمت أسلمة جميع الأنبياء قبله وبعده.)

وإذا ما تساءلنا عن موقع معاهدات السلام بين العرب وإسرائيل من دورتنا الحضارية ومراحلها نحو التمكين، فإن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق يجيبنا في كتابه: «حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود وموقف المسلم منها» بقوله: «اليهود أعداء دائمون لهذه الأمة منذ بدأ رسول الله رسالته وإلى أن يخرج الدجال، إلى أن يستصرخ الحجر والشجر المسلم قائلًا: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله «متفق عليه»، وعداء اليهود لأهل الإسلام ورسوله إنما كان حسدًا وبغيًا أن تنتقل رسالة النبوة من فرع إسحاق إلى فرع إسماعيل، وأن يكون العرب الأميون هم سادة الدنيا بكتاب الله، ومن ظن أن الحرب والعداوة توضع بين المسلمين واليهود فهو يكذِّب بوعد الله ودينه، ومن عمل لإزالة هذه العداوة والبغضاء بين المسلمين واليهود فهو كافر.»

وبعد الانتصار الساحق، ومن فلسطين المحررة والموحدة على يد داود (رمزًا للمؤمنين)، ستبدأ المرحلة الأخيرة من التمكين وهي مرحلة سليمان، فبعد شاءول أو طالوت كملك أول لإسرائيل، جاءت مرحلة الملك داود الذي وحد الدولة وأقام لها المركزية، كذلك يعتبر داود المؤسس المعتبر للمملكة الإسرائيلية، وبعده جاء ولده سليمان، وهو في العقيدة الإسلامية حسب نص الحديث واحد من بين أربعة ملوك تسنى لكل منهم حكم العالم أجمع كله شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، «روى مجاهد عن ابن عباس قال: ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمنان: فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران: فالنمرود بن كنعان وبخت نصر.»

المعنى واضح إذن؛ فالتمكين يبدأ من بلد مسلم تقوده تلك الفئة الخاصة المتخصصة في التمكين، لتبدأ بتحرير فلسطين، وقيام حكومة إسلامية عالمية تحتل الأرض كلها من بعد ذلك. وتحقق التمكين بسيادة العرب الأميين على العالمين!

هذا كلام يقال في العلن من على الفضائيات وليس في اجتماعات سرية لخلايا إرهابية، فهل ترى ثمة أملًا بعد في تفهُّم فقهاء عصرنا لظروف عصرنا؟ وهل تراهم يعيشون واقع أيامنا بالفعل؟ وهل تلك الأدوات التي عرضوها علينا لتمكينهم من رقابنا ثم من رقاب العالمين، هي أدوات حقيقية وفاعلة؟ أم هو خطاب توهمي مريض بشدة؟ غارق في تخلفه قرونًا إلى الوراء، ولا يملك بيديه أي إصلاح ممكن لأي شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤