الفصل الثاني

قاصمة الظهر

سلسلة من الكتب التي دوَّنها المشايخ الدكاترة الأزاهرة كانت مهمتها ترسيخ القيم الإسلامية الرفيعة، وتبخيس وتدعير القيم الإنسانية الوضعية كما هي في بلاد الطاغوت، قبل أن تقرأ أيًّا من هذه الكتب سيخطر لك السؤال: إذا كانت هذه الكتب التي تنتقص القيم الإنسانية مكتوبة باللغة العربية، فليس مقصودها إذن إصلاح نقص تلك القيم في بلاد الأجانب، ولا تبليغهم بدعوة الإسلام وضرورة استبدالهم قيمهم بقيمنا، رغم أن ذلك الهدف يبدو هو المعلن بطول الكتب وعرضها وكل الكتبة هم رتبة الدعاة، فإذا كانوا يوجِّهون الدعوة إلى أهل الغرب كان يجب أن يكتبوها لهم بلغتهم، لكنهم ما داموا قد كتبوها باللغة العربية ونحن من يقرؤها، فكأنهم يوجهون الدعوة إلينا رغم أننا أسلمنا منذ أربعة عشر قرنًا مضت، إذن المقصود المعلن هو تلبيس الإسلام للعالم كله أخذًا بيده إلى أنوارنا، بينما الحقيقة الكامنة والكاملة أنه لا أحد يلبسه سوانا!

إنه خطاب يقف ضمن أيديولوجيا متكاملة تقوم على إقناع المسلمين أنهم بحالهم هذا هم أعظم الناس في العالم كله، وأنهم قد فازوا بالشهادة العليا التي لا تصل إليها أي درجة جامعية في العالم الطاغوتي.

وعلى مستوى بلاد المسلمين بعضها مع بعض، تجد الشيخ السعودي يقول لشعبه إن الإخوان في مصر يخرجون في مظاهرات كي يصبحوا مثلكم، إذن أنتم الأميز والفائزون بالدنيا والآخرة، يعني أن السعودي في بداوته هو في نعمة لا يعرفها من يعيش في وادي النيل، سيقتنع السعودي حين ذلك أن بناة الأهرام لم يستطيعوا أن يصلوا إلى ما وصل إليه السعوديون، وحين يعتقد شعب أنه يمتلك الدنيا والآخرة، سواء أكان مصريًّا أم سعوديًّا فلن يرجى منه أي تطور أو تغيير ممكن، وبذلك الاطمئنان للتميز بالدين عن بقية الدنيا يضمن الشيخ — كمرجعية في كل شأن — استمرار وجوده سيدًا على المسلمين.

ونموذجًا للسادة هؤلاء يقول د. مصطفى حلمي: «دعا جارودي الغرب إلى الأخذ بالقيم الدينية والمبادئ الإسلامية والإيمان بالله الواحد وكتبه ورسله، بدلًا من الإيمان بالصنمية والتي تتمثل في: التنمية، والتقدم، وتمجيد الأمة، وأصنام القوات المسلحة والقوة المسلحة والجيوش الجرارة، وغيرها من أصنام وطواطم» (الإسلام والمذاهب الفلسفية، الدعوة للنشر، ١٩٨٥م، ص٢٦٤–٢٦٧).

مرة أخرى أكرر أن هذا الخطاب يجب أن يكون موجَّهًا لأهل الغرب إذا كان صلاح الإنسانية وانتشار الإسلام هما ما يشغل مشايخنا، أبسط الأمثلة يقول لنا إن الصنمية تتمثل في أشكال منها التنمية، بينما هو يعلم أنه ليس لدينا شيء اسمه تنمية أصلًا، وما يقال عن تنمية في بلادنا هو نوع من الكوموفلاش، مثله مثل حرب ١٩٦٧م التي نعاني آثارها المروعة حتى اليوم، دخلناها كوموفلاش! وإذا كان عندنا شيء اسمه تنمية، فلماذا لدينا أعلى نسبة أمية في العالم؟ ولماذا نحن أكثر الناس إيمانًا بالخرافات؟ ولماذا تجد العفاريت يستحسنون ركوب المسلمين عن ركوب الحمير والبغال أو غيرهم في بلاد الدنيا؟ نحن لا نصنع شيئًا، نحن نستورد ولا نبدع، لقد تغير المصطلح وأصبحوا يشيرون إلينا بالعالم المتخلف بعدما كانوا يقولون العالم الثالث؛ أي أننا انحدرنا درجة في تصنيف الأمم.

ثم تتمثل الصنمية كما يقول فضيلته في الفردية، ونحن كما يعلم مشايخنا لا نؤمن بفردية أي مواطن أكان مسلمًا أم غير مسلم، نحن نؤمن بالقبيلة وبالأمة وبالعنصرية والمذهبية والطائفية على أشكالها وألوانها كافة، فلدينا هذا نصراني وذاك مسلم، وهذا رافضي وذاك من النواصب، هذه مصطلحاتنا بعضنا مع بعض فعن أي فردية صنمية يتحدث مشايخنا؟ المصيبة أننا حتى عندما نمجد الأمة نمجدها قولًا لا فعلًا، ونتفكك إلى قبائل تخوض صراعًا دمويًّا لأسباب تعود إلى أكثر من ألف عام إلى الوراء، ما بين عرب ويهود في فلسطين بحقوق تاريخية بين كل منهما، وما بين سُنة وشيعة في العراق، وقبائل مسلمة إفريقية ومسلمة عربية في دارفور، كذلك الصومال، كذلك الجزائر، كذلك لبنان، كذلك مصر، كذلك أفغانستان، كذلك باكستان، كذلك الكشح، كذلك كنيسة الإسكندرية، كذلك مذبحة الأقصر، كذلك تفجيرات جدة والرياض، هذه هي ثقافتنا، القبيلة العنصرية الطائفية التي لا تعرف شيئًا اسمه الفردية.

(١) ماذا بقي لدينا من صنميات مرفوضة؟ صنمية القوة المسلحة!

فماذا يا مشايخنا عن الجهاد الإسلامي؟ وماذا عن قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ (الأنفال: ٦٠)، وماذا عن الطير الأبابيل التي انحازت لقبيلة قريش رغم وثنيتها ضد الجيش الحبشي زعم إيمانيته، وأبادت هذا الجيش، وماذا عن فتوح البلدان، وماذا عن وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (الأنفال: ١٧). أليس ذلك تمجيدًا للقوة ومطالبة دينية برعاية القوة والتميز بالغلبة العسكرية.

مقصود مشايخنا الدكاترة المعلن هو تبليغ العالم المتقدم ما لدى العالم المتخلف من بدائل، وبذلك يصبح الإسلام دينًا عالميًّا لتدخل فيه شعوب الدنيا أفواجًا.

هذا بينما الواقع حولنا يشهد أن نظم الغرب الحر «الكافر الطاغوتي» هي من صنع عالمية الدين، ففي بلادهم ستجد البوذي والمسلم والشيعي والسني والملحد وعابد البقرة والوثني، ستجد المسلم في أمريكا وفرنسا وبريطانيا وكوريا وأستراليا والسويد والدانمارك وألمانيا … إلخ، أليس في ذلك عالمية للإسلام؟

نظام الغرب الحر سمح لكل الأديان بالوجود فأصبحت كلها عالمية وأصبحت قيمها عالمية، واستقبلت بلاد هذا الغرب موجات من الهجرة محملة بعادات ونظم وتقاليد تقبَّلها هذا الغرب بصدر رحب وتفاعل معها ولم يعتبرها غزوًا ثقافيًّا، كل الأديان أصبحت عالمية بما فيها الإسلام؛ لأن أصحابه يوجدون في كل دول العالم، وهم من سيمارس مطالب الإسلام وشعائره.

إن مثل هذا الخطاب هو دعوة للكراهية وتحريض عليها وتأسيس عداء قدسي للآخر واحتقاره والحط من قدره لكونه غير مسلم فقط. وهو ما يعني أن مجرد وجود هذا الآخر الكافر هو اعتداء على نظام الكون القدسي الذي يخضع بالكلية للمفهوم الإسلامي، وهو ما يعني أيضًا ضرورة مواجهة هذا الآخر المختلف. ولأن الآخر المختلف هو الأقوى والأقدر فإن دعوتهم للكراهية تقف عند حدود خطب التحريض للأفراد المسلمين لأخذ الأمر بأيديهم «من رأى منكم منكرًا فليصلحه بيده»، على أساس ثقافي لتعديل أوضاع العالم بما يرضي الله، لينفلتوا متفجرين في كل مكان وفي أي مكان.

ومع التحريض يتم تأسيس التمركز حول الذات المتميزة بالإيمان الصادق عن بقية الذوات، دون أن تسأل هذه الذات نفسها: لماذا تمكَّن المجتمع صاحب القيم المادية المنحطة والسلوك الفاسد والمنحل، ويعاني من العري والاغتصاب والقلق والإدمان والاغتراب، باختصار كيف تمكَّن مجتمع بهذه الصفات التي تنزله منزلة الحيوان، أن يصنع حضارته العظيمة التي لا ننكرها بل نفيد منها ونسعى لاقتناء منتجها؟ ولماذا نحن أصحاب الأخلاق الإسلامية الرفيعة، نحن الذوات الملائكية، لماذا نحن في قاع مزبلة الأمم؟

من حق كل مجتمع أن يدعي لنفسه ما يفخر به ويعتز ويشعره بالعظمة والذات المتميزة، وذلك باسم أخلاقها، أو بتاريخها المجيد، أو بمنجزها الحضاري العظيم، لكن المجتمعات والأمم لا تتفاخر بما لم تنجز الذات، ذواتنا تتوهم امتلاك تميز ممنوح لها من السماء؛ مما يعطيها الحق في وجوب تسيد الكون كله لضبطه حسبما يحب الله ويرضى، وتقع على أصحاب الحق الإلهي مسئولية إدارة الكون.

وعادة ما يعبر فقهاء زماننا عن رأيهم وعن أنفسهم، لكنهم يسوقون هذا الرأي بحسبانه هو الدين ذاته، فيتحول الرأي عن كونه مجرد وجهة نظر إلى حرم قدسي. ونموذجًا لذلك رأيهم في القيم الإنسانية التي توافقت عليها المجتمعات حسب ظروفها البيئية والاقتصادية والمجتمعية والسياسية والزمنية، فيصفونها أولًا بكونها قيمًا وضعية، أي أنها من وضع البشر وليست من وضع ربِّ السماء، حتى يسوغ بعد ذلك تسخيفها وتدعيرها وإقصاؤها.

اسمع معي أحد الدكاترة الأزاهرة الذي تتخرج من تحت يديه الأجيال وقد تشرَّبوا منه المعرفة وحدَّدوا المواقف، اسمعوه يقول: «إن القيم الوضعية لا تستطيع أن تؤثر في معنويات المجتمع تأثيرًا قويًّا كما يجب وكما ينبغي، حتى تجعل من أفراده وأبنائه أصحاب أخلاق مثالية» (د. الصاوي أحمد، القيم وثقافة العولمة، ص٢٨).

الرجل مثل كل فريقه من المنشغلين علينا بالإسلام لا يرى في غير المسلمين أي فضيلة ممكنة، ولو أعملنا رأيهم هذا في تاريخ البشرية؛ فهو ما سيعني أن الهند والصين واليابان وبابل ومصر القديمة واليونان، كلها كانت حضارات بدون قيم سليمة؛ لأنها لا تعرف القيم السماوية ولأنها وضعت قيمها حسب ظروفها وبأيديها، فلا كان الفرعون نبيًّا، ولا كان كونفوشيوس رسولًا ولا كان حمورابي من العارفين بالله، وكانت أديانهم وضعية أي من اكتشافهم وصنعهم، كذلك قيمهم كانت وضعية. ولا تجد بين البشر من ينكر على تلك الحضارات تحضرها وتمتعها بالخلق الرفيع سوى مفكرينا المسلمين وحدهم، نفعنا الله بهم؟!

ولأن مفكرينا المسلمين لا ينجزون شيئًا ولا ينتجون؛ فإنهم لن يشعروا بالتميز إلا إذا أنكروا على المنجِز إنجازه وعلى المبتكِر ابتكاره، لتتساوى الرءوس ولا يبقى من فارق في أسنان المشط سوى التقوى، التي يصفون بها أنفسهم من باب التميز عن سائر الناس، دون أثر واحد حقيقي لتلك التقوى فيما يقولون أو يفعلون، وهو ما سنثبته الآن!

لو راجعنا التاريخ الديني فسنجد أن التقوى لم تمنع نبيًّا من أولي العزم مثل إبراهيم من قوله عن زوجته سارة إنها أخته فيتزوجها الفرعون المصري، وذلك بحسب التوراة لأسباب: «قولي إنك أختي ليحصل لي خير بسببك وتحيا نفس من أجلك» (سفر التكوين). هذا بينما القيم الوضعية المصرية هي التي دفعت الفرعون إلى طلاق سارة وإعادتها إلى إبراهيم تاركًا لها مهرها لها، بل ومزودًا لها بخير عظيم كتكفير عما لحقه من عار الزواج بامرأة ذات بعل.

القيم السماوية لم تمنع الأسباط الكرام من بيع أخيهم يوسف طفلًا في سوق النخاسة، بينما القيم الوضعية المصرية هي التي أعطت الفرصة ليوسف عندما أثبت المهارة ليتبوأ منصب وزير خزانتها، وهو غير مصري، وهو المبيع لها عبدًا، وهو ما تمكنت أمريكا من إنجازه مؤخرًا بعد قرون من العنصرية البغيضة، وانتخب الشعب الأمريكي أوباما الذي هو من أول جيل مهاجر لأمريكا، ناهيك عن كونه قدم بالأمس من أصول زنجية إفريقية، هذا بينما عندما فتح العرب أصحاب القيم السماوية مصر أو العراق أو بلاد الشام، لم يتخذوا من أبنائها واليًا أو وزيرًا. وكان يأتيها الوالي والوزراء وكبار المتنفذين قرشيين من عاصمة الخلافة، أو عثمانيين من بعد.

وإذا تساءلنا عن السر في العداء الصريح للقيم الإنسانية، أجابونا: «إن القيم الوضعية توضع لحفظ النظام العام في حياة المجتمع، ولا تعالج إصلاح القلوب والضمائر، أما القيم السماوية فإنها تقوم بإصلاح القلوب والضمائر لكل شيء، وتكسبه قوة العقيدة، والإيمان، والسلوك الحميد» (المصدر نفسه).

وهذا إنما يعني أن القيم الوضعية لها مهمة هي حفظ النظام العام، وهي مهمة ليست بالقليلة ولا بالهينة، لكن هذه القيم لا تجعل أهلها أصحاب خلق كريم، وهنا يأتي دور القيم السماوية. وهو ما يعني أن ما يتعلق بالنظام العام للمجتمع ليس مهمة القيم السماوية؛ وهو ما يعني أن القيم الوضعية لها ضرورة لحفظ هذا النظام؛ وهو ما يعني أن القيم السماوية قاصرة عن الاهتمام بالمجتمع ككل لذلك يلزم اللجوء إلى القيم الوضعية لاستكمالها كي تحفظ لنا نظام المجتمع العام. ناهيك عن الدورين وأهمية كل منهما وعمق أثرهما في المجتمع ككل؛ فالقيم الإنسانية/الوضعية ينعكس أثرها على المجتمع ككل، وهي ابتكار توافق عليه المجتمع ككل، بينما القيم الدينية، حسبما يشرحون لنا، تتعلق بضمير الفرد وصلاح قلبه وأن مهمتها إكساب الفرد قوة العقيدة والإيمان! ودُمتم!

وهكذا تجدهم يدركون جيدًا دور كل من اللونين من القيم ومع ذلك يعيبون بشدة القيم الوضعية ويبخسونها، كما لو كانوا يضربون النظام العام للمجتمع في مقتل وهو ما أثبت جدارته وفعاليته في اختفاء وتواري القيم الإنسانية في بلادنا بعد الصحوة الإسلامية، وبقاء القيم الدينية وما نتج عنها من تفشي جرائم التحرش والاغتصاب بنسب غير معهودة في بلادنا، وتفشي التقوى ومعها الفساد والنصب والاحتيال بشكل لم يسبق أن عرفه تاريخنا سوى أيام المماليك والهكسوس.

لا تفهم مشايخنا هنا، ولا تفهم مبرر مهاجمتهم للقوانين الوضعية، ما داموا يعترفون بأن القيم السماوية لا يمكنها القيام بالعمل كله؛ لذلك نستوضحهم قولًا حاسمًا وحاكمًا فيقولون لنا: «إن القيم الوضعية لا تستطيع أن تخفف من محبة الدنيا وحب المادة، أما القيم الدينية فإن من خصالها القدسية التي تخفف من محبة الدنيا وحب المادة الوضعية» (المصدر نفسه).

أول ما يتبادر إلى الذهن هنا فورًا لماذا لا يريد لنا مشايخنا أن نحب الدنيا ومادتها التي يسميها الإسلام متاعًا أي متعة وبهجة وسرورا؟ وإذا لم نحب دنيانا فهل نكون فاعلين منتجين مبهجين؟ وهل إذا لم نسعد في هذه الدنيا ونفرح فيها يعني أن ذلك هو التقوى؟ ولماذا تشترط التقوى كراهة السعادة والسرور؟ وهل لذلك حرَّموا علينا كل الفنون؟ كراهة الفنون التشكيلية لأنها تصنع أصنامًا، ومعها كراهة الفنون الموسيقية رغم أن هُبل لم يكن ممسكًا بربابة! وهل لهذا كله علاقة بنصيبنا في إنجازات شعوب الدنيا وهو صفر حقير؟ وإذا كان ذلك صحيحًا فلماذا لا يوضحون لنا أسماء وأصناف القيم التي سادت مجتمع الصحابة الأوائل زمن الخلافة الراشدة؟ ولماذا لا يشرحون لنا كيف تصدت هذه القيم لحب الدنيا الذي غلب على الخليفة عثمان، كما غلب على الصحابة الذين قتلوه لأنهم لم ينالوا نصيبهم كبني أمية من الأموال المنهوبة من البلاد المفتوحة؟ وأن يبرزوا لنا كيف منعت القيم السماوية بني أمية من الضغط على الخليفة عثمان لينالوا النصيب الأعظم من جاه الدنيا دون بقية الصحابة، فكانت الفتنة الكبرى وما تلاها من فتن أكبر وأعظم وأكثر خزيًا. ثم هل صانت تلك القيم دماء الخلفاء الراشدين الأربعة بعد أن ماتوا جميعًا صرعى الاغتيالات؟

فإذا كان السادة الأزاهرة الدعاة الدكاترة يعلمون تفاصيل تاريخنا الدموي يقينًا، فهل تراهم يكذبون على المسلمين؟ وإذا كان هذا الفرض صحيحًا، فلأي غرض ولتحقيق أي هدف؟

إن التنفير الدائم من كل منجز بشري ونعته بالوضعي تقزيمًا وتحقيرًا رغم أنه نعم الوضع ونعم الإنجاز، ليس مقصوده وهدفه توفير الإسلام؛ لأن ذلك يهينه ولا يوقره، بقدر ما يضحُّون بتوقير الإسلام في سبيل لبس المسوح الدعوية ووجاهتها الاجتماعية ومردودها التجاري العظيم. القصد والهدف هما ليس توقير الإسلام وإلا ما كذبوا عليه، القصد والهدف هما توقير الشيخ الفقيه الدكتور، ثم الصعود إلى درجة أعلى لتقديس ما يقول الشيخ، وعندما يقول إنسان قولًا مقدسًا فقد حاز رتبة النبوة وإن لم يعلنها، فكان أن امتلأت بلادنا بالأنبياء الكذبة!

بينما الوقائع أمام عيوننا مترجمة إلى مكانة اجتماعية رفيعة في مجتمعات جهولة ومسوح دعوية من بيوت الأزياء العالمية من الغُترة السويسرية إلى السروال الطلياني، ومكاسب مادية ببذخ معهود في الفضائيات البترولية، ويسعى الناس إليهم بالنذور يقبِّلون الأيادي طلبًا للرضا السماوي، الهدف المقصود عند مشايخنا ليس الإسلام، الهدف والمقصود هو اكتساب الشيخ للقدسية وتوابعها من أطايب الحياة الدنيا التي يريدوننا أن نتخلى عنها، حتى لا نأخذ جزءًا من نصيبهم فيها، فيصرفوننا عن التطلع إلى ما بيد شعوب الدنيا من عز وسعادة ورفاه، ليحدثونا عن ارتفاع نسبة الانتحار في تلك البلاد نتيجة الشبع والبطر، الذي لم يحقق لهم السعادة حتى أنهم يعضون الأنامل غيظًا لما نحن فيه من جهل ومرض وخراب ضمائر جمعي وفساد عمومي هو العار نفسه؛ لذلك علينا بالفقر والجهل والمرض نعض عليها بالنواجذ فهي منقذنا يوم الدينونة أمام الرحمن الرحيم.

ولا يبقى سوى الشيخ حلًّا وحيدًا وقدسيًّا بلا منافس في سوق الفكرة، وتقام له الموالد بعد موته وينال خلود الذكر في الدنيا كما في حالة الشعراوي مثلًا، فأي مكسب أعظم من كل هذه الحظوظ مجتمعة؟ إنها الحظوظ التي تدفع بصاحبها إلى امتلاك الأرض والناس، فلماذا لا يرنو إلى الملك والكرسي الأعظم بالدعوة إلى دولة الخلافة؟

ومع التطور العملي في وسائل الاتصالات كثر شيوخ الدعوى والفتوى، من شيوخ تقليديين إلى دعاة جدد أو مودرن، ناهيك عن شيوخ الفضائيات ومشايخ الفيديو كليب، لأن المكاسب المتحققة من جهل أمة ضحكت من جهلها الأمم هو الأعظم بين كل المكاسب.

إنهم يتاجرون بنا وبديننا وبنبينا وبربنا وبالمسلمين وبالوطن في سوق فساد علني وسوق نخاسة نحن فيه العبيد، محمي برايات القداسة وأعلام الشرف والطهارة، مجرد أعلام وشعارات لا علاقة لها بما يفعلون بنا حقًّا.

وإذا كان فقهاء زماننا يريدون عالمية الإسلام، فقد تحققت هذه العالمية، لكنهم إذا كانوا يعنون بعالمية الإسلام إلزام العالم كله بدين الإسلام وهم في قاع الأمم، فتلك والله لقاصمة الظهر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤