الفصل الخامس عشر

ميمونة

ولم تتم القهرمانة كلامها حتى دخل الخصي ولم يتكلم فعلمت أن ميمونة قادمة في أثره، ثم دخلت ميمونة وعليها ثوب أرجواني واسع الكمين طويل الأردان ينسحب وراءها مع طول قامتها واعتدالها، ولها شعر ذهبي طويل قد ضمته حزمة واحدة وأرسلته على ظهرها، ولو تأملته جيدًا لرأيته ذهبيًّا ناصعًا، وإذا تفرست فيه وأنت إلى جانبها رأيت فيه ميلًا إلى الشقرة اللامعة، ومع ذلك فقد كانت سوداء العينين واسعتهما طويلة الأهداب سوداءها، وترى في عينيها لمعانًا يدل على الذكاء والدهاء أكثر مما يدل على الصدق والوفاء، وكانت صغيرة الأنف مطمئنة الفم، رقيقة الشفتين، بارزة الذقن، بيضاء البشرة، وخصوصًا العنق مع صفاء اللون، فلم تتمالك مريم عند وقوع نظرها عليها من الإعجاب بما يتجلى على وجهها من الهيبة والجمال، ورأت نفسها مظلمة منقبضة بما التفت به من الكساء الأسود.

فلما دخلت ميمونة ووقع نظرها على مريم هشت لها وابتسمت ابتسامة انفتح لها قلب الفتاة، وأحست للحال بأنس أنساها ما كانت فيه من القلق، وأجابتها بابتسامة يتوسم المتفرس فيها غير ما يتوسمه في ابتسامة تلك، ولا يميز ذلك إلا الناقد البصير، دنت ميمونة من مريم وحيتها ورحبت بها كأنها كانت على موعد من لقائها أو كأنها تعرفها من زمن طويل، فازدادت مريم استئناسًا وطمأنينة ونسيت ما سبق إلى ذهنها من التهيب عند مقابلة القهرمانة، أما هذه فإنها عندما دخلت ميمونة خاطبت مريم قائلة: «هذه هي ميمونة التي أخبرتك عنها الساعة فأرجو أن تستأنسي بها وترتاحي إلى مجالستها.» وأشارت إلى ميمونة وقالت: «هذه ضيفة الأمير عبد الرحمن قد بعث بها إلينا وأوصانا برعايتها.»

فجلست ميمونة إلى جانب مريم وهي تقول: «أهلًا بالضيفة الكريمة، من أين أتيت يا حبيبتي؟» قالت ذلك بكلام عربي تخالطه لهجة إفرنجية، فأدركت مريم من ملامح وجهها ومن لهجتها أنها إفرنجية الأصل كما قالت لها القهرمانة فأجابتها: «قد كنت في جملة أهل بوردو الذين قضي عليهم بالوقوع في أسر هذا الجند.»

قالت: «هل قبضوا عليك وحدك وليس معك أحد من أهلك؟»

قالت: «كلا ولكنهم قبضوا على والدتي أيضًا وخادم شيخ تركته مع خدم هذا الخباء خارجًا.»

قالت: «أراك تتكلمين العربية جيدًا وتقولين إنك من أهل بوردو فكيف ذلك؟»

قالت: «لا أدري السبب ولكن هذا هو الواقع.» قالت ذلك وهي تعلم أن والدتها لا تريد التصريح بأكثر منه.

فقالت: «وهل قتل أبوك في هذا الفتح؟»

قالت: «كلا.»

فقالت: «وهل أسر؟ أو فر؟»

فسكتت وأومأت برأسها أن: «لا هذا ولا ذاك.»

فأدركت ميمونة أن والدها توفي من قبل، ولكنها لم تكتف بذلك فقالت: «وما اسم والدتك، لعلي أعرفها؟»

قالت: «اسمها سالمة.»

قالت: «هي إذن عربية.»

قالت: «لا أدري.»

وكانت ميمونة في أثناء تلك المحادثة تتفرس في وجه تلك الفتاة وتستحث ذاكرتها لتستحضر صورة مثل صورتها، إذ خيل لها أنها تعرفها من قبل وأطالت السؤال لعلها تستدل على ذلك من كلامها، فلما رأتها قطعت الحديث بقولها: «لا أدري.» عدلت عن زيادة البحث، والتفتت إلى القهرمانة فرأتها قد أدلت رأسها على صدرها ونامت وأخذت في الشخير، فقالت لمريم: «هلم بنا إلى غرفتي فتمكثين عندي أثناء هذه الضيافة.»

فأطاعتها مريم ونهضت معها، وتحولت إلى غرفة من غرف الخباء فجلستا هناك، وقد عادت ميمونة تستنجد بذاكرتها لعلها تستحضر صورة ذلك الوجه وأين شاهدته، ومريم في غفلة عن ذلك وفي شاغل مما عاد إلى ذهنها من الهواجس بشأن هانئ وما تركه في فؤادها من لواعج الحب، فغلب الانقباض عليها وبدت في وجهها ملامح الاضطراب.

وظلتا صامتتين مدة وكل منهما تضطرب في أحلامها، وإذا بصوت القهرمانة يقرع الآذان وهي تنادي: «ميمونة مريم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤