الفصل السابع عشر

العقد

وبعد قليل عاد الغلام وقال إنه أعد كل شيء، فانصرفن جميعًا وسارت سالمة ومريم في أثر الغلام نحو الغرفة، وقبل أن تصلا إليها سمعتا صهيل فرس اختلج له قلب مريم اختلاجًا سريعًا؛ لأنه يشبه صهيل جواد هانئ، فلم تتمالك أن سألت والدتها قائلة: «كأني أسمع صهيل فرس الأمير هانئ، فهل هو هنا؟»

قالت: «لقد جاء معي إلى هذا المكان، وكنت أحسبه قد عاد فور وصوله؛ لأنه سائر في مهمة ذات بال تتعلق بأسقف بوردو، فالظاهر أنه في شغل مؤقت هنا، ثم ينصرف.»

فتوسمت مريم من بقائه هناك خيرًا، ودلها قلبها على أنه إنما بقي لمشاهدتها، فانشغل خاطرها في ذلك الأمر، وظهر الارتباك على وجهها ولو تفرست أمها فيها لرأت في عينيها ارتباكًا وتفكيرًا وقلقًا، ولكنها لم تنتبه لشيء من ذلك لانشغالها بأمر نفسها واستعدادها للمسير في الغد إلى بوردو.

أما القهرمانة، فلما خلت بنفسها أخرجت من جيبها منديلًا مطويًّا على شيء في داخله، ومشت نحو المصباح وفتحت المنديل، وأخرجت منه عقدًا من اللؤلؤ بسلاسل من الذهب، وفي وسط العقد صليب من الذهب مرصع بالياقوت والماس على شكل بديع، فوضعت العقد على كفها تقلبه وهي تبتسم وتقول في نفسها: «لا بد من غرض لهانئ في إهدائه هذا العقد لي، وإلا فليس في وجهي ولا في قامتي ما يدعو إلى الشغف أو العشق، ولا هو يحتاج إلى وساطتي لدى عبد الرحمن؛ لأنه صاحب الكلمة النافذة عنده.» ثم أمسكت العقد بأحد طرفيه بين إصبعيها ورفعته أمام المصباح فأبرق بما فيه من الحجارة الكريمة، فقالت: «لا شك أن هذا العقد من جملة ما أصاب هانئ من الغنائم في وقعة اليوم، فلا يهمه أن يتنازل عنه ولكن لا بد له من غرض في إهدائه.» ثم تنبهت بغتة وقالت في نفسها: «عرفت غرضه ولا بأس به.» ثم صفقت فدخل غلامها فقالت له: «قل للأمير هانئ أن يوافيني إلى غرفتي من بابها الخارجي خذ بيده إلى هناك.» قالت ذلك وأعادت العقد إلى جيبها، ومشت نحو الغرفة وهي تتوكأ وتترجرج فوصلت إليها قبل هانئ بقليل، فجلست على وسادة بجانب جدار الخباء، ثم أقبل هانئ وعلى رأسه بدل العمامة خوذة من الفولاذ، وقد أرخى العباءة فانفتحت عن صدره فبانت الدرع من تحتها، وحول خصره حمائل يتدلى منها سيفه المعهود دخل مسرعًا حتى اقترب من القهرمانة وهي جالسة لم تتحرك ولكنها قالت له: «مرحبًا بالأمير هانئ تفضل اجلس.»

قال: «لا صبر لي على الجلوس يا خالة؛ لأني ذاهب في مهمة عاجلة وقد أحببت أن أراك قبل ذهابي.»

قالت: «بورك فيك يا بني، هل من حاجة أقضيها لك؟»

فتبسم هانئ وقال: «لي حاجة سهلة جدًّا لا أظنك تضنين بها عليَّ.»

قالت: «وما هي؟»

قال: «أرأيت مريم؟ أحب أن أراها وأخاطبها ساعة بحضورك حتى تكوني على بينة من سلامة نيتي.»

قالت: «أتراها الآن؟»

قال: «كلا غدًا صباحًا بعد ذهاب والدتها ولست أشك في أنك ستجيبين سؤالي، وليس فيه ما يخشى منه عليك.»

فتنحنحت القهرمانة وضحكت، وأشارت بعينيها أنها ستفعل ما يريده، فهمَّ بيدها ليقبلها، فمنعته فخرج وانصرف.

أما مريم فقد تركناها مع والدتها في طريقهما إلى مكان النوم وهي غارقة في بحار الهواجس ووالدتها لا تخاطبها، فوصلت إلى غرفة جدرانها الأربعة من القماش السميك وفي أرضها بساط عليه فراش، وعلى أحد جدران الحجرة ركوة لشرب الماء معلقة بخيط، فجلستا على الفراش ومريم لا تزال ساكتة، فلما استقر بهما الجلوس قالت سالمة: «نحمد الله يا بنية على نجاتنا من هذه الوقعة ونجاحنا في إقناع أمير هذا الجند بما نريده وفيه خيره وخير هذه البلاد واعلمي يا مريم أني ذاهبة في صباح الغد إلى أسقف بوردو، وربما أبقى عنده يومًا أو يومين لقضاء بعض المهام، فهل يشق عليك هذا الفراق؟»

فقالت مريم: «ولماذا هذا الغياب؟ وما هي تلك المهام التي تقتضي أيامًا للفراغ منها؟ وأنا لم أفارقك قبل اليوم مطلقًا، فهل أستطيع البقاء وحدي بين أناس لا أعرفهم اتركي إذن عندي حسانًا فإني أستأنس به.»

قالت: «إني في حاجة إليه في هذه المهمة وإلا فإن غيابي يطول كثيرًا.»

قالت: «لقد شغلت بالي هل تكشفين لي عن سبب ذلك الغياب؟»

قالت: «لا أخفي عليك يا بنية أني اتفقت مع الأمير عبد الرحمن على أن أكون واسطة بينه وبين الغاليين سكان هذه البلاد الأصليين، على شرط أن يعاملهم بالرفق والإحسان كما عامل موسى بن نصير وابنه عبد العزيز نصارى الأندلس عند فتحها، وأنا ذاهبة في صباح الغد إلى أسقف بوردو فألاقيه بعد أن تكون الآنية قد وصلته وتأكد من صدق أمير المسلمين، فأستعين به وأستعين بسواه من سراة هذه المدينة في إقناع سراة البلاد الأخرى، وأساقفتها وكهنتها بأن المسلمين خير لهم من أود وغيره من أمراء الإفرنج، وأنا أعتقد أنهم إذا وافقوني على ذلك أفلحوا واعلمي يا مريم أني كاشفتك بسر يجب أن يبقى مكتومًا عن الجميع.»

ولم تكن مريم تهتم بهذا الحديث مع أهميته لما جاش في خاطرها من أمر هانئ، وودت لو أنها تعود إلى ذكره لعلها تستطلع شيئًا من أمره، ولكنها لم تستطع ذلك؛ لأن والدتها نهضت لتبديل ثيابها التماسًا للنوم فسايرتها مريم وذهبت إلى فراشها، ولكنها لم يغمض لها جفن معظم ذلك الليل، وهي تتوقع أن يناديها هانئ أو يناديها أحد عنه، فلما طال انتظارها يئست من ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤