الفصل الثاني

فتح بوردو

وكانت فرنسا في ذلك الحين تسمى بلاد الغال أو غاليا، وكانت الدولة الرومانية قد تقلص ظلها عنها وتولتها عائلة من قبائل الجرمان يسميها المؤرخون ميروفنجيان، أول ملوكها كلوفس Clovis حكمها سنة ٤٨١م، وتتابع الحكم في أولاده إلى أوائل القرن الثامن، وقد ضعف أمرهم وانقسمت مملكتهم وأفضى النفوذ إلى رجال دولتهم شأن كل الدول في دور تدهورها، وكان وزير الملك في ذلك الحين رجلًا من الإفرنج اسمه شارل، وكانت غاليا تنقسم إلى مقاطعات: كانوا يسمون الجنوبية منها سبتمانيا وعاصمتها نربونة، وكانت قد دخلت في حوزة المسلمين يليها من الشمال أكيتانيا وعاصمتها طولوزة، وهي مقاطعة كبيرة حاكمها أمير إفرنجي اسمه أود وحدودها من الشمال نهر اللوار، ومن الشرق نهر الرون، ومن الجنوب جبال البرينة، ومن الغرب الأوقيانوس، ويلي أكتيانيا من الشمال مقاطعة نوستريا ووراءها أوستراسيا، وحاكمها شارل المذكور، فضلًا عن أقسام أخرى، وكان كل دوق أو حاكم يريد الاستئثار بالسلطة العامة لنفسه، وكان عبد الرحمن قد أدرك اختلاف أمورهم أو جاءه البشير بذلك، فعزم على فتح بلادهم.

فأمر عبد الرحمن بالرحيل للجهاد وقد بلغه — وهو في الطريق — أن قائدًا من قادة المسلمين على الحدود الشرقية في جبال البرينة يخالف ذلك الرأي، وكان الأمير المذكور قائدًا بربريا يسمى المنيذر، وكان شجاعًا باسلًا، غير أنه كان يأبى الاتحاد مع العرب، وينظر إلى أمرائهم نظرة الحسد، مثله في ذلك مثل أكثر قواد البربر، وكان المنيذر قد عقد عهدًا مع أود دوق أكيتانيا، فزوجه أود ابنة له جميلة اسمها لمباجة، فلما علم عبد الرحمن بتلك المعاهدة أوجس خيفة من المنيذر، فبدأ به فبغته في إمارته وقتله واستولى على أمواله ونسائه، وأمر بإرسال لمباجة إلى الخليفة في الشام.

فلما اطمأن عبد الرحمن من ناحية المنيذر، وأَمِن على الأندلس، توجه برجاله وقواده إلى بلاد الإفرنج فاخترقها شمالًا، وجنده يفتحون البلاد ويجمعون الغنائم وليس من يصدهم وقد استولى الرعب على الإفرنج وخافوا على بلادهم، و«أود» لا يقوى عليهم، حتى وصلوا إلى مدينة بوردو الشهيرة اليوم بخمورها ففتحوها بالسيف، وقبضوا على الكونت حاكمها وهم يحسبونه «أود» نفسه، فقطعوا رأسه ليرسلوه إلى الخليفة في الشام على ما جرت عليه العادة في أيامهم.

وبوردو كان اسمها يومئذ بورديغاليا، وهي واقعة عند نهر غارون على ضفته اليسرى وكانت من المدن الحصينة، يحيط بها سور مربع الشكل عليه الأبراج العالية، وكان الرومانيون يعدونها من أكثر مدن غاليا علمًا وأدبًا، وفيها «أمفيتياتر» روماني عظيم كانوا يسمونه «أمفيتياتر غاليوس» وكنيسة كبرى اسمها كنيسة الصليب، ولا تزال آثار هذين البناءين باقية إلى اليوم.

فلما جاء المسلمون خيموا في ظاهرها، ثم فتحوها عنوة وأمعنوا فيها نهبًا وسلبًا فلما فرغوا من القتال عادوا بالغنائم والأسرى والسبايا إلى ساحة كبيرة أمام المعسكر، فأمر عبد الرحمن أميرًا من أمرائه اسمه هانئ، كان قائدًا لفرقة الفرسان وهي أهم فرق الجند عندهم؛ لأن مهارة العرب في الفروسية كانت من جملة ما ساعدهم على الفتح وخصوصًا في بلاد الإفرنج وكان هانئ شابًّا في نحو الخامسة والعشرين من عمره، اشتهر في معسكر عبد الرحمن بالبسالة وشدة البطش وقد شب على ظهور الخيل، وكان إذا ركب لا يبالي من يلاقي ولو كانوا مئات، وكان عبد الرحمن يحبه حبًّا شديدًا، ويقدمه على سائر القواد على حداثة سنه، ومع أنه ليس من قبيلته؛ لأن عبد الرحمن من قبيلة بني غافق وهي من القبائل اليمنية، وهانئ من قيس وهي من قبائل الحجاز، وكان التنافر متمكنًا يومئذ بين اليمنية والقيسية، فلم يبالِ عبد الرحمن بذلك، وكان هانئ من الجهة الأخرى يحب عبد الرحمن ويحترمه احترامًا شديدًا لكرم أخلاقه وسعة صدره، وكانا قد تحالفا سرًّا على الاتحاد الوثيق في أثناء هذه الحرب حتى يفرغا منها، لعلمهما أن الذين حاولوا فتح أوروبا قبلهما إنما كان سبب فشلهم الانقسام فكان عبد الرحمن — لثقته بهانئ — يعهد إليه بكل ما يحتاج إلى الثقة وحسن الظن، ومن هذا القبيل اعتماده عليه بعد فتح بوردو في تقسيم الغنائم وتدبير أمر الأسرى.

وكانوا يومئذ في أوائل الخريف سنة ١١٤ھ/٧٣٢م وضواحي بوردو مكسوة بالكروم وقد نضجت أعنابها، وكان هانئ قد أبلى في ذلك الفتح بلاء حسنًا حتى بهر الناس، ولم يتحول عن جواده طول ذلك اليوم، وهو يجول مقبلًا مدبرًا يحرض رجاله ويستحث القواد على الثبات والصبر، ولم يكن بين أمراء ذلك الجند من لا يحب هانئًا ويعجب ببسالته وإقدامه إلا من حسده لتقربه من الأمير الكبير مع صغر سنه، لكن حساده لم يجدوا سبيلًا إلى أذاه لشدة محبة عبد الرحمن له، وكان هانئ طويل القامة عريض الصدر، إذا مشى عرفه الناس لطوله وعرض كتفيه، وإذا أقبل إليك توسمت مناقبه مصورة في محياه، فقد كان على غضاضة شبابه واضح الملامح بارز الحاجبين والوجنتين، حاد العينين، صغير الأنف والفم، بارز الذقن، خفيف العارضين، أسود الشعر، لا ينفك وجهه باسمًا مع وقار، وركب في ذلك اليوم على جواد أدهم، لا يحب الركوب على سواه لخفة حركته وجمال مشيته وصبره في ساحة الوغى، وقد توسم فيه الخير؛ لأنه لم يركبه في قتال إلا عاد منصورًا، ولم يكن في معسكر عبد الرحمن من لا يعرف تعلق هانئ بجواده حتى توهموا أنه شغل به عن ملاذ الدنيا، والحقيقة أنه كان يهتم اهتمامًا بالغًا بمراعاة ذلك الجواد وإتقان عدته، حتى ألبسه لجامًا مُذهبًا وسلسلة وركابين من فضة، وعلق على جبهته لؤلؤة كبيرة عثر عليها في بعض غزواته في غاليا فصاغها في شكل نجمة وعلقها هناك، وكان الجواد شديد التعلق بصاحبه إذا ناداه أتاه صاغرًا، وإذا استحثه في ساحة الوغى أسرع حتى تظنه طائرًا فإذا استوقفه أذعن له ووقف بغتة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤