الفصل الثاني والعشرون

من شق الحائط

فلما نظرت ميمونة إلى عبد الرحمن تلك النظرة فهم أنها تعاتبه على ذلك القول ولسان حالها يقول له: «إني قتيلة هواك، متفانية في خدمتك.» فسره افتتانها به رغبة في الإفادة منها لما ينفع الجيش، فابتسم لها وهش وفي ظنه أنه بذلك يزيدها تفانيًا في خدمته، وهي كلما رأت منه عطفًا بالغت في إظهار الافتتان به، فلما علم عبد الرحمن أنها فرغت من التصريح بالخبر الذي استقدمته لأجله نهض وهم بالخروج، فنهضت ميمونة وهي تقول: «لولا علمي بالمهام الكثيرة التي تتعلق بذهابك أيها الأمير لتوسلت إليك أن تبقى هنيهة أخرى فهل أنت عازم على الذهاب لملاقاة العدو قريبًا؟ وإذا ذهبت فهل تتركني هنا؟»

فأدرك أنها تقول ذلك تدللًا فلم يجبها بغير الابتسام، وخرج مسرعًا يلتمس جواده ليرجع إلى المعسكر، فمشت ميمونة في أثره حتى إذا أوشك على الوصول إلى باب الخباء سمعته يقول: «مرحبًا بالأمير هانئ ألا تزال هنا؟ لماذا لم تدخل إلى الخباء؟» فازدادت ميمونة استغرابًا من ذلك الترحاب.

•••

فتقدم هانئ وهو يلتف بعباءته وليس في وجهه وجل ولا خجل، وقد أكبر أن يرجع إلى المعسكر رجوع الهارب بعد أن علم عبد الرحمن بوجوده هناك شق عليه أن يفعل ذلك أنفة وكبرًا وخصوصًا بعد أن علمت مريم به، فلما أوعز إليه غلام عبد الرحمن بالذهاب إلى المعسكر وقف ورجله في الركاب لا يتكلم ولا ينتقل، وخيل له أن مريم تنظر إليه تراقب حركاته فلبث حينًا واقفًا ثم تحول عن الجواد بغتة ومشى نحو باب الخباء يلتمس لقاء عبد الرحمن فقيل له إنه في خلوة لا يراه فيها أحد، فعزم على انتظاره فجعل يخطر أمام الخباء وعيناه تراقبه.

•••

وكانت مريم لما تركها عبد الرحمن مع القهرمانة عادت إلى التفكير في هانئ وخروجه على تلك الحالة، فأرادت أن تستطلع أمره فتحولت إلى جدار الخباء، ونظرت من شق فرأت هانئًا يتمشى خارجًا وعباءته وسيفه يجران وراءه وهو يلاعب شاربه ولحيته ويتمايل بمشيته كالأسد، فاختلج قلبها في صدرها سرورًا برؤيته، وودت لو أنها تخاطبه ولكنها خافت من القهرمانة، فاكتفت بالنظر إليه وتأمل حركاته على غفلة منها، وبعد قليل سمعت ضجة في الخباء فعلمت أن عبد الرحمن خارج، فأحبت أن تعلم ماذا يكون من أمره إذا لقي هانئًا، فتحولت بحيث تراهما ولا يراها أحد لاشتغال القهرمانة وسائر أهل الخباء بوداع الأمير، فرأت هانئًا يمشي نحو عبد الرحمن حتى التقيا، وسمعت عبد الرحمن يخاطبه مخاطبة الأخ ويعاتبه على تخلفه، وهانئ يدل عليه دلال الابن على أبيه، وعبد الرحمن يبتسم له ويرحب به، وسمعت هانئًا يقول وهو يخطر نحوه: «بلغني أنك سألت عني.»

فأجابه عبد الرحمن وهو يقترب منه حتى وضع يده على كتفه: «وهل يسأل المرء إلا عن أخيه أو حبيبه؟» قال ذلك وابتسم وأهل الخباء يسمعون، وأكثرهم سرورًا بذلك مريم وأشدهم غيظًا ميمونة، ثم مشى عبد الرحمن ويده بيد هانئ فقدموا لهما الأفراس فركبا إلى المعسكر وحولهما الخدم والأعوان.

•••

وظلت ميمونة ومريم تنظران إلى ذلك الركب وكل منهما في ناحية وقلبها في ناحية أخرى حتى تواروا، فعادت ميمونة إلى خلوتها وأعملت فكرتها في حيلة أخرى وقد أسفت أسفًا لا مزيد عليه لفشلها وذهاب سعيها هباء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤