الفصل السادس والثلاثون

رأي الإفرنج في المسلمين

فابتسمت سالمة ابتسام الاستغراب، وقالت: «يعبدون الأوثان؟ إن ذلك من الأراجيف التي يشيعها أعداؤهم، فإنهم يعبدون الإله الواحد، ويحترمون الديانة النصرانية احترامًا كبيرًا ويكرمون السيد المسيح كثيرًا، ولا يعقل أن تنسب إليهم الوثنية ونبيهم إنما قام لإبادة الأصنام التي كان العرب يعبدونها من قبله فكسرها ومحا الصورة التي كانت في معبد الوثنية في مكة، وبَغَّض الوثنية إلى أتباعه حتى حرم عليهم التصوير ونحت التماثيل فما يبلغكم من هذا القبيل إنما هو حديث مقصود لغرض من الأغراض، ولا أنكر عليك ما قد يبديه بعضهم من سوء التصرف أو الطمع أو نحو ذلك، فهذا لا يصح القياس عليه كما لا يصح أن نقيس كل أعمال الأساقفة بعمل واحد منهم شذ عن المنهج القويم، وزد على ذلك أن العرب مهما يكن من أمرهم فهم أرفق بأهل هذه البلاد من هؤلاء الإفرنج الذين جاءوا بقبائلهم واستبدوا بهم واستعبدوا الناس واستخدموهم في أشق الأعمال ولم يقلدوا واحدًا من أهل البلاد وظيفة من وظائفها، فهم القابضون على زمام الحكومة، وهم المغتصبون لخيرات البلاد، وما الغاليون إلا مثل العبيد أو الأقنان الذين يشتغلون في الحقول، هل رأيت غاليا تقلد منصبًا كبيرًا، أو هل رأى الغاليون راحة منذ وطئ هؤلاء الإفرنج بلادهم؟ أما العرب فإذا فتحوا بلدًا أطلقوا حرية الأديان والمذاهب والمعاملات، حتى الحكومة والقضاء فإنهم يتركونهما لأهله ويقتصرون هم على قيادة الجند وحماية الأهالي من الأعداء، لا يلتمسون أجرًا على ذلك إلا مالًا يسمونه الجزية وهي لا تساوي بعض ما يقتضيه أولئك الإفرنج من الضرائب الفادحة، ناهيك بالحرية التي يتمتع بها الأهلون تحت عنايتهم، وسيادتكم تعلمون حال أهل هذه البلاد مع الإفرنج الفاتحين فإنها أصعب مما كانت تحت سلطان الرومان قبلهم، أليس معظم الناس هنا عبيدًا، فحكامهم يتصرفون فيهم تصرف المالك فيما يملك؟ نعم إن العرب عندهم العبيد والموالي ولكنهم أشد رفقًا بهم من أولئك، فإن الرق عند المسلمين غير مستحسن، وكان الإسلام يدعو إلى إبطاله ولو لم يرَ نصارى الشرق والغرب ما رأوه من الرفق والعدل تحت ظل المسلمين ما فضلوهم على الروم والفرس لقد أطلت عليك الشرح، إن غرضي أن تسعى في حقن الدماء، فهل تساعدني على ذلك؟ إن المسلمين فاتحون هذه البلاد لا محالة، فبدلًا من أن يفتحوها عنوة ويسفكوا فيها الدماء ويهدموا المنازل والقصور، فليكن فتحها صلحًا ويحفظ لكل واحد ماله وعرضه والسعي في هذا السبيل من واجبات سيادتكم أكثر مما هو من واجبات أمثالي.» وكانت سالمة تتكلم وأمارات الجد والاهتمام ظاهرة في كل كلمة وحركة.

وكان الأسقف يسمع أقوالها ويعجب بسعة علمها عن العرب كأنها عاشرتهم وساكنتهم زمنًا طويلًا، وكأنها أطلعت على علومهم وآدابهم، ومع كل ما في أقوالها من المخالفة للاعتقاد الذي كان متسلطًا على عقول أهل تلك البلاد يومئذ فإنه أحس بالاقتناع بقولها، ونبهه ضميره إلى واجب يقضي عليه بالسعي في حقن الدماء على ما سمعه من سالمة فقال لها: «جزاك الله يا ابنتي على سعيك في مصلحة شعب الله، ونطلب إليه تعالى ونتضرع إلى السيد المسيح أن يقدم ما فيه الخير.»

فلما آنست منه اقتناعًا، عمدت إلى تحقيق هدفها بلباقة وحسن سياسة فقالت: «لا أريد من سيادة الأسقف أن يكلف إخواننا المسيحيين تسليم البلاد إلى هؤلاء المسلمين عفوًا، ولا أن يساعدوهم على أخذها بالسيف وإنما أرى أن يتركوا الأمر لمن غلب بغير أن يساعدوا أحد الفريقين على الآخر، فإذا غلب الإفرنج فهم أصحاب السيادة والبلاد في أيديهم، وإذا انتصر العرب فلا يضرنا انتصارهم بل هم خير لنا من أولئك.»

فارتاح الأسقف إلى قولها وكان روماني الأصل، وقد رأى من الإفرنج استبدادًا في دائرة نفوذه حتى كادت السلطة أن تخرج من يده، فقال لها: «أود أن يعلم إخواني الأساقفة بهذه النصيحة في البلاد الأخرى، ولكنني أخشى أن يطلع الحكام الإفرنج على ذلك فيعود وبالًا علينا.»

قالت: «عليَّ إبلاغ ذلك إلى من شئت، وإنما أطلب منك كتابًا ترسله معي إلى أسقف بواتيه لا تذكر فيها شيئًا غير التعريف البسيط، وأني من أبنائك المخلصين، فإذا أنا لقيته أطلعته على ما أراه من هذا الموضوع، وأتوسل إلى مولاي أن يبث هذه الروح في رجال بطانته على ما يراه، ولا أظن واحدًا من أهل بوردو لا يشهد هذه الشهادة عن العرب وقد أعادوا إليهم أسراهم وآنية كنيستهم.»

فقال الأسقف: «صدقت يا ابنتي، ولا يجوز لنا إنكار هذا الجميل.»

قالت: «لذلك أرجو إذا لقيت حاكم البلد أن تبث هذه الروح فيه، إذ ربما طلب إليه الكونت أود نجدة لمساعدته في قطع الطريق على العرب؛ لأني علمت أن الكونت المذكور معسكر في مضيق دردون، وعلى كل حال فقد تركت تدبير هذا الأمر إليك، وإني مسافرة إلى بواتيه في هذه الساعة، فهل تأذن لي في كتاب إلى أسقفها؟»

قال: «نعم» ثم نهض وكتب على منديل من حرير سطرين للغرض المقصود، فتناولت الكتاب وقبلت يده فباركها، وقبل خروجها تذكرت المسافة بين بوردو وبواتيه، وهي نحو مائة ميل لا يمكن قطعها في أقل من ثلاثة أيام أو أربعة، وحسان لا يقدر على السير في ركابها ماشيًا كل هذه المسافة، فطلبت إلى الأسقف أن يأمر لها بفرس يركبه حسان فأمر لها بواحد، فخرجت شاكرة وأهل القرية يتباحثون فيما عسى أن يكون من أمر هذه السيدة ومجيئها على تلك الصورة، أما هي فإنها خرجت فرأت حسانًا والفرسين في انتظارها فركبت وركب حسان وخرجا من بوردو يلتمسان بواتيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤