الفصل الحادي والخمسون

البلغاريون

فعاد رودريك إلى كلامه، وهو يخشى ضياع الوقت، فقال: «وبرغم وفاة الخليفة، فقد كان يمكننا أن نصبر على الحصار سنة أخرى، وقد تعودنا الزرع وألفنا الإقليم، ولكن جاءنا شتاء قاس لم نستطع معه الزرع ولا العمل فقلت مئونتنا حتى أكلنا الدواب والجلود وجذوع الأشجار والورق، ومما زاد الطين بلة أن ملك القسطنطينية — وهو يومئذ لاون — لما طال عليه الحصار، ورأى العرب مقيمين عمل على مضايقتنا، فبعث إلى البلغاريين المقيمين على ضفاف الطونة (الدانوب) يستحثهم الدفاع عن عاصمته بالأموال والهدايا، فجاءوا في البر وأحاطوا بمعسكرنا وضيقوا علينا حتى أصبح الرجل منا لا يستطيع الخروج من المعسكر وحده لئلا يصطاده أولئك البرابرة، وأعد لاون منشورًا وزعه على أهل بلده أوهم الناس فيه أن الإفرنج قادمون إلى القسطنطينية بالأساطيل الهائلة للدفاع عن النصرانية، فلما وصل ذلك الخبر إلى مسلمة لم يعد يستطيع صبرًا على البقاء فأزمع الانسحاب.

فاستقدم ما بقي من أسطوله وأمر بالإقلاع والتقويض للركوب في البحر والرجوع إلى شواطئ آسيا، فجاءت السفن وأخذوا ينقلون إليها الخيام وما بقي من الخيول والجمال، وكنت أنا كما أخبرتك مقيمًا مع والدتي في الخباء فلما أخذوا في تقويضه اشتغل كل بمهام نفسه، واشتغلت والدتي عني، فخرجت لالتقاط بعض النبال المبعثرة هناك فبعدت عن المعسكر وأنا لا أدري، والظاهر أنهم لم ينتبهوا لذلك فما شعرت إلا واثنان من البلغاريين انقضا عليَّ كالذئاب الكاسرة فصحت وناديت: يا أبتاه! يا أماه! وما من مجيب، على أني التفت بعد هنيهة نحو معسكر العرب وأنا بين ذراعي أحدهما فرأيت والدتي المسكينة تنظر إليَّ من فوق السور وهي تلطم وجهها وتصيح وتستغيث، ثم توارى بي الرجل بين الأشجار فلم أعد أرى أحدًا، فأخذت في البكاء وهم تارة يهددونني، وطورًا يتملقوني.»

وتوقف رودريك عن الحديث، فذرفت سالمة دمعتين تدحرجتا على خديها حتى ضاعتا في أهداب خمارها وهي تنظر إلى رودريك والأسف بادٍ على وجهها تتخلله الدهشة، ففهم أنها فعلت ذلك لتأثرها من حكايته، فهم بإتمام حديثه فإذا هي تقطع حديثه قائلة: «هل علمت بما أصاب والدتك ووالدك؟»

قال: «كلا يا مولاتي؛ لأني لم أعد أراهما ولا سمعت خبرًا عنهما، ولا رأيت أحدًا يعرفهما من ذلك الحين؛ لأني ربيت في بلاد البلغار في أشقى الأحوال، أعمل في رعاية الماشية وجمع الأحطاب والأخشاب للوقود من شدة البرد، وكنت أطوف التلال والأودية مع رفاقي من أولاد البلغار أو بعض خدمهم، نلتقط ما نعثر عليه من قطع الخشب ونحوها ونأتي بها إلى المنازل، فإذا أظلم الليل اجتمع أهل المنزل في غرفة قد أوقدوا النار في وسطها من الحطب والعيدان والأعشاب اليابسة، فيصطفون حولها يستدفئون وفيهم الرجال والنساء والأطفال وكلهم أحسن مني لباسًا، فقد كان على بعضهم أردية من الفرو أو الصوف، وأنا لا أزال كما جاءوا بي ليس عليَّ إلا رداء وقميص، ولولا إشفاق ربة ذلك المنزل عليَّ لتوفيت من شدة البرد، فإنها نفحتني ببقية خمار مبطن بالجلد كان لأحد أولادها، فخمرتني به وأعطتني شبه جبة من جلد الماعز كانت لزوجها وقد تهرأت، فلبستهما فغطتني إلى أسفل قدمي فارتدت إليَّ روحي، ولا أظنهم فعلوا ذلك شفقة وإنما ساءهم أن أموت فيخسروا ما كانوا يطعمون فيه من ثمني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤