الفصل السادس والخمسون

طارقان

ثم سمعت دق الأجراس مؤذنة بالفراغ من الصلاة، وتفرق الجند إلى مضاربهم، وعاد أود إلى فسطاطه وحوله الحاشية والأعوان، ودخلت سالمة خيمتها وحول الخيمة ثلاثة من رجال أود بالحراب يحرسونها، ولكنها لم ترَ الأحول بينهم ولا رأته منذ ذلك الصباح، وقضت بقية ذلك اليوم في الخيمة وقلبها يحدثها بأمر سيحدث، ويكون فيه الفرج لها، وإن كانت لا ترى ما يدعو لهذا الأمل فكل الظروف المحيطة بها توحي باليأس ولكن في ذوات الإحساس الدقيق من النساء نوعًا من الشعور لا يعبر عنه بغير الإلهام، فقد تشعر المرأة بالحادث قبل وقوعه وتنذر رجلها به، ولو طالبها بالدليل لأسكتها؛ لأنها لا تتكلم عن اقتناع بالبرهان، ولكنها تشعر فتتحدث عما تشعر به ويغلب صدقها فيه لأسباب لا تزال مجهولة، وأما الرجل فإنه لا يتخيل إلا ما يرشده إليه عقله بالقياس والبرهان، فلما أحست سالمة بتلك الآمال انبسطت نفسها، ولكنها كانت تعزو ذلك الشعور إلى الوهم؛ لأنها ترى المصائب محدقة بها من كل ناحية.

ولما أمسى المساء جلست على بساط مفروش في خيمتها وهي تشعر بارتباك وتردد، فعمدت إلى الصلاة؛ لأنها كانت قد تأثرت من قداس ذلك الصباح ورأت في الصلاة راحة، وبعد الصلاة توسدت وليس في خيمتها مصباح، وهي لم تطلب النوم لرغبة فيه، ولكنها ملت الحبس — ومن يظلم بصره تستنر بصيرته — فاستغرقت في الأفكار، ولم يكن يعترض تيار تفكيرها غير ضجيج الخدم في ذهابهم وإيابهم وصوت النفير أحيانًا، وبينما هي كذلك إذ سمعت حديثًا قريبًا من خيمتها فنهضت والتفتت، فرأت بصيص نور يتراءى في الخارج وراء جدار الخيمة وسمعت لغطًا لم تستطع فهمه، فجلست وأصاخت بسمعها فانجلى لها الصوت فسمعت الحديث الآتي بلغة البلاد: لا أظنك تقدر على منعي.

– بل أنا قادر حتى يأمرني الدوق بما يريد.

– وماذا في هذه المسألة مما يستدعي مشورة الدوق؟

– بل لا بد من مشورته؛ لأن لهذه السجينة شأنًا خاصًّا لا يقارن بشئون سائر المسجونين، وقد أوصانا حضرة الدوق بمنع أي كائن عن مقابلتها.

– يا للعجب، أبلغت منك القحة أن تقف في سبيل الفروض الدينية؟

– لا يهمني وما الذي يضرك لو استأذنت الدوق في ذلك؟

– لا يضرنا شيء، ولكنكم تعلمون أننا كرسنا حياتنا لاستتابة المجرمين وأصحاب الذنوب وأننا نطوف السجون ونعظ المسجونين وندعوهم إلى التوبة.

– ربما كان ذلك صحيحًا، ولكننا أمرنا بالمنع منعًا باتًّا ومع ذلك فإن لنا قيِّما لو كان هنا لأغنانا عن مشورة الدوق؛ لأنه مفوض من قبله في هذا الشأن.

– أين هو ذلك القيم؟

– لا ندري، فقد ذهب في هذا الصباح وأكد التوصية علينا، وشدد في منع أي كائن من الدخول.

– أرسلوا واحدًا يستأذن الدوق.

– نخشى أن يكون في فراشه فأجلوا المقابلة إلى الغد.

– الوقت ضيق لا يأذن بالتأجيل؛ لأننا ذاهبون في صباح الغد إلى دير القديس مرتين اذهب لاستئذان الدوق، ولا تطل الجدال إني لم ألقَ وقحًا مثلك طول عمري وإذا لم تذهب، فإني سأدخل الخيمة رغم أنفك وستلاقي جزاء وقاحتك في الغد.

صوت آخر: لا تغضب يا حضرة الأب، إن رفيقي شاب لا يعرف حقوق السادة الرهبان والقسس تفضلا وادخلا ولا حاجة إلى الاستئذان، لكننا نطلب إليك أن تذكرنا في صلاتك.

– بورك فيك يا بني، هكذا يكون أبناء الخلاص ولكنني أرغب إليكم أن تبتعدوا قليلًا عن جوانب الخيمة لئلا يصل إليكم حديث الاعتراف، ولا يخفى عليكم أن الاعتراف سر من الأسرار المقدسة.

– طبعًا لا شك في ذلك تفضل وادخل ونحن مبتعدون ولكن أرجو من قداستك أن تختصر بقدر الإمكان لئلا يبلغ الأمر إلى حضرة الدوق فيلومنا على إدخالكم بدون إذنه.

وكانت سالمة تسمع ذلك وقلبها يخفق خفقانًا شديدًا لدهشتها واستغرابها، وبذلت جهدها في معرفة ذلك الصوت فلم تعرفه، ولكنه ذكرها بالراهب الذي صحبها من الدير إلى قرب بواتيه؛ لأنه مثل صوته.

فلبثت صامتة لترى ما ينتهي إليه الجدل، فلما انتهى على تلك الصورة نظرت لترى الداخل، فإذا بيده مصباح على شكل طائر ملتفت إلى أعلى، والنور فتيلة مضيئة بارزة من منقاره، وقد أمسك الراهب ذلك المصباح بإحدى يديه على قبضة في أسفله على شكل صليب، وتوكأ باليد الأخرى على عكازه فلما رأته سالمة نهضت وتفرست في وجهه فإذا هو ذلك الراهب بعينه، فرحبت به وهمت بتقبيل يديه والصليب الذي هو قابض عليه، وبينما هي تفعل إذا رأت راهبًا آخر دخل وأسرع إلى يدها ليقبلها فأجفلت وتراجعت وقد خجلت، ولكنها ما لبثت أن تفرست في وجهه حتى عرفت أنه خادمها حسان، فبغتت وكادت تنطق باسمه لو لم تنتبه لنفسها وتتذكر موقفها، فتجلدت وأشارت إلى الراهب وحسان بالجلوس وجلست هي والدهشة لا تزال بادية على وجهها، وهي تتوقع أن تسمع من أحدهما ما يذهب بدهشتها.

فوضع الراهب المصباح على الأرض وجلس، وظل حسان واقفًا فأشارت إليه أن يجلس فجلس متأدبًا وهو يقول بصوت منخفض: «أحمد الله على وصولي إليك، يا مولاتي، وأرجو أن أكون قد جئتك بالفرج.»

فهمت سالمة بالجواب وهي تحاذر أن يبدو منها ما تؤاخذ عليه لعلمها أن رئيس ذلك الدير شديد التعصب للإفرنج ويكره العرب، فلم تكن تتوقع مجيء ذلك الراهب إليها لنصرتها فقالت: «وما الذي جئتني به؟ أليس حضرة الأب من رهبان الدير الذي بتنا فيه وبقيت أنت هناك جريحًا؟»

فأجابها الراهب قائلًا: «بلى وأنا أوصلتك إلى بواتيه حيث أخذوك مني فرجعت وأخبرت حضرة الرئيس بما جرى، ولولا ذلك لم يكن الاهتداء إليك ممكنًا.»

فلم يزدها قوله إفصاحًا عن المهمة التي قدما من أجلها، فالتفتت إلى حسان وتفرست في ثوبه فكاد يضحكها ما هو فيه من ملابس الرهبان فقالت له: «يظهر أنك انتظمت في سلك الرهبنة!»

قال: «لبست هذا الثوب يا مولاتي ذريعة للوصول إليك، وقد نصحني بذلك حضرة الرئيس، وأرسل معي حضرة الأب برسالة سيبلغها إليك.»

فاشتاقت لمعرفة ما تضمنته تلك الرسالة فالتفتت نحو الراهب ولسان حالها يقول: «تفضل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤