الفصل الثامن والستون

لمباجة

قضوا ذلك اليوم واليوم التالي في الانتقال والترتيب، حتى لم يبقَ في الضفة الأخرى غير الأخبية والأحمال الثقيلة ونحوها، وفي أصيل اليوم التالي، سار عبد الرحمن وهانئ معًا إلى الأخبية لمحاكمة ميمونة سرًّا، وكان هانئ لا يرى باعثًا على المحاكمة ولو ترك الأمر له لقطع رأسها بسيفه بغير سؤال ولا جواب، أما عبد الرحمن فأراد أن يتصرف بحكمة وتؤدة فلما وصلا إلى الخباء الأكبر ترجلا ودخلا القاعة، وبعث عبد الرحمن إلى القهرمانة فجاءته بخلاخلها ودمالجها وهي تترجرج في مشيتها كأنها في أحد قصور طليطلة، فلما وصلت إلى عبد الرحمن حيته، فقال: «أين ميمونة؟»

قالت: «لم أشاهدها منذ مساء الأمس وأظنها مع مريم في غرفتها.»

قال: «ابعثي إليها أن تأتينا وحدها.»

فصفقت القهرمانة فجاءها أحد الصقالبة الخصيان فقالت: «اذهب إلى السيدة ميمونة، وقل لها إن الأمير عبد الرحمن يحتاج إليها.» وقد كلمته بألفاظ عربية مشوشة على نحو ما ينطق بها الغرباء عن اللغة إذا تعلموها التقاطًا من أفواه الناس، شأن أولئك الصقالبة والإفرنج وأمثالهم ممن كانوا في خدمة العرب في تلك الأيام.

فأشار الصقلبي برأسه إشارة الطاعة، وخرج ولبثوا في انتظاره، وهانئ يود الانصراف ليرى مريم ويخبرها عن والدتها ويكون هو أول من يخبرها بذلك — وفي هذا السبق لذة يشعر بها كل إنسان وخصوصًا بين المحبين — فإن الرجل إذا سمع خبرًا جديدًا وهو بعيد عن زوجته أو حبيبته، فإنه يشعر بميل شديد إلى إطلاعها عليه، وإذا كان ما سمعه من قبيل السر كان أشد رغبة في مكاشفتها به، وكلما بالغوا في تحريضه على كتمانه ازداد رغبة في كشفه، وهو لا يعد ذلك إفشاء للسر؛ لأنه يكاشفها به سرًّا ويوصيها بأن تكتمه، وربما كان السبب في لذة المكاشفة شعور الحبيبين بالامتزاج قلبًا وروحًا، بحيث لا يليق التكتم مع ذلك الامتزاج وزد على ذلك أن المساواة تزيد في توثيق عرى المودة، فإذا تواد اثنان تزداد الرابطة بينهما وثوقًا إذا اطلعا على سر لا يعلم به سواهما، ولهذا السبب كانت المحافظة على الأسرار الماسونية من أقوى أسباب ثباتها وإن لم تكن تلك الأسرار مهمة، فما بالك إذا سمع المحب خبرًا يتعلق بشخص حبيبه كما كان الحال مع هانئ، فإن الخبر متعلق بمريم نفسها فلا غرو إذا رأيناه شديد الميل إلى مكاشفتها.

على أنه كان من ناحية أخرى يريد البقاء مع عبد الرحمن بعد مجيء ميمونة ليحرضه على قتلها، وقد طال غياب الرسول، فبعثت القهرمانة رسولًا آخر وآخر، وبعد برهة عاد الرسول الأول وحده وهو يقول: «بحثت عن السيدة ميمونة في كل مكان، فلم أقف لها على أثر.»

فبغت عبد الرحمن وهانئ أكثر من بغتة القهرمانة لعلمهما بما لم تعلمه، فقال عبد الرحمن: «وأين ميمونة يا خالة؟»

قالت: «ربما كانت في شغل وستعود منه قريبًا.»

قال: «إني أريد مقابلتها الساعة، اذهبي أنت للبحث عنها.»

فنهضت وهي تقول: «لم أرها منذ غروب شمس الأمس وليس أحد أعلم برواحها وغدوها من مريم.» ثم خرجت وهي تتمايل وتتدحرج، وطال غيابها ثم عادت ومريم معها وهي تقول: «لم أجدها في أي مكان فهي بلا شك في غير هذه الأخبية.»

ولما دخلت مريم فاحت رائحة طيبها، وابتسم لها عبد الرحمن رغم غضبه من ميمونة وخوفه من فرارها بعد أن عرفت حقيقتها وكان في وجه مريم من المعاني والملامح ما لا يستطيع معها الناظر غير الإعجاب بها والانشراح لرؤيتها، فكيف بهانئ بعد أن ملكت فؤاده واستولت على عواطفه حتى أصبح يغار عليها من النسيم، فأصبح عند دخولها كله آذان وعيون يرقب ما يبدو منها أو من عبد الرحمن عند المقابلة، ولا مسوغ لتلك الغيرة غير الحب الشديد؛ لأن الحب يدعو إلى الغيرة حتى من أقرب الناس نسبًا وأبعدهم شبهة، وهاك لسان حال المحب الغيور يخاطب حبيبته:

أغار عليك من نظري ومني
ومنك ومن خيالك والزمان
ولو أني وضعتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني

أما عبد الرحمن فما لبث أن ابتسم لمريم وأمرها بالجلوس، ثم ابتدرها بالسؤال عن ميمونة فقالت: «لم أشاهدها منذ مساء الأمس، وقد قضيت كل ما مضى من هذا النهار وأنا أبحث عنها؛ لأنها رفيقتي ومعزيتي على غياب والدتي.»

فقال: «وهل عرفت سببًا يدعو إلى خروجها؟»

قالت: «لم أعرف شيئًا من هذا القبيل، ولكنني رأيت منها ما يدل على الاضطراب والقلق منذ أصيل الأمس، فلم أعبأ بذلك ولا سألتها عن سببه.»

قال: «هل رأيت أحدًا جاءها بكتاب أو خطاب في صباح الأمس؟»

قالت: «لم أشاهد غير بعض الخدم ممن تعودوا خدمتها.»

قال: «هل كان بينهم عدلان الأحول؟»

قالت: «نعم وكان قد مضى عليَّ مدة لم أشاهده.»

فلما قالت ذلك تبادل عبد الرحمن وهانئ نظرتين تفاهما بهما، فتحققا أن عدلان، بعد أن رمى حسانًا بالنبال، جاء إلى ميمونة وحرضها على الذهاب إلى أبيها خوفًا من انكشاف أمرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤