الفصل الثالث والسبعون

الوداع

وكانت سالمة تتكلم والعرق يتصبب من جبينها ويتسرب على خديها حتى يقطر على ثيابها، وقد احمرت عيناها وتوردت وجنتاها من شدة التأثر، أما مريم فإنها نهضت مبهوتة وقبلت والدتها وهي تقول: «أنت والدتي الحمد لله، لقد أقلقت بالي بسؤالك إذا كنت أعرف والدتي، فخشيت أن أكون ابنة سواك فإذن أنا عربية ووالدي أمير عربي وأمي ملكة الإسبان …»

فقطع هانئ كلامها، وقد غلب عليه الحب وسره تفويض أمر مريم إلى عبد الرحمن لسهولة الظفر بها على يده، وقال: «لا شك أنك عربية الأصل عريقة في الحسب والنسب.» والتفت إلى سالمة وقال لها: «إن حديثك يا سيدتي قد نقش على صفحات قلبي، وأراك فقت العرب بحفظ الوداد ووفاء العهود، وتفضلت عليهم بالحب العميق لزوجك، ونصرتهم بسعيك وفديتهم بنفسك فبورك فيك، والله لو كان في رجالنا عشرة مثلك أو مثل ابنتك هذه لفتحنا العالم لا محالة، ولكننا محاطون بجماعة لا يجمعهم إلا الجشع، وقل فيهم من يفهم معنى الفتح والنصر، وإنما يفهمون الغنائم والسبايا، ونحن في كل يوم نقاسي العذاب في سبيل التوفيق بين قبائلهم وشعوبهم ولو كان أميرنا غير عبد الرحمن ما استطعنا الوصول إلى هنا، فنطلب إليه تعالى أن يأخذ بناصرنا حتى نقطع هذا النهر، وإذا قطعناه هان علينا كل عسير.» والتفت إلى مريم وضحك ففهمت أنه يشير إلى زواجهما، ولكن قلقها لفراق والدتها شغلها عن الخجل.

وكانت سالمة في أثناء ذلك مشتغلة بمسح العرق عن وجهها وكأنها أحست بحمل أزيح عن صدرها بعد أن كشفت ذلك السر، لكنها انتبهت للمحفظة فقالت لمريم: «أوصيك بتلك المحفظة، اعتني بها ولا تسلميها لعبد الرحمن الغافقي بعد عبور هذا النهر.»

فقالت مريم: «والآن لا بد من ذهابك إلى الدوق أود؟»

قالت: «نعم ولا بأس عليَّ منه اطمئني واعلمي أنك في كفالة الأمير عبد الرحمن فقد أوصيته بذلك من قبل.»

فتنسمت من هذه التوصية أن والدتها لا ترجو اللقاء بعد هذا الفراق، وأحست سالمة أنها تريد مراجعتها فنهضت وهي تقول: «لقد آن لي إجابة طلب الدوق.» قالت ذلك وضمت مريم إلى صدرها وأخذت في تقبيلها تكرارًا، وكلاهما تبكي وهما متعانقتان متماسكتان كأنهما لا تريدان الفراق، فأثر منظرهما في هانئ حتى كاد يبكي، ثم خاف عليها فتقدم وفرق بينهما فرأى عيني سالمة حمراوين من شدة البكاء، وهي مع ذلك تنظر إلى ابنتها وتبتسم ومريم تقول لها: «قلت إن هانئًا لا يجب التفريط فيه لحاجة الجند إليه وأنا ما الفائدة مني؟ دعيني أسير حيثما تسيرين.»

فقطع هانئ كلامها قائلًا: «إن الجند لا ينفع شيئًا بدونك.»

ففهمت أن هانئًا لا يريد فراقها وتذكرت شدة حبه لها فهان عليها فراق والدتها، وسمعته سالمة يقول ذلك فأدركت أنه يحبها، ولكنها كانت تثق في شهامته وتعلم منزلته عند عبد الرحمن، وازدادت ثقة به حينما رأت عبد الرحمن قد أذن له أن يرافق مريم إلى هذا الدير.

ولما استعدت للخروج قالت لهانئ: «اذهب أيها الأمير بمريم قبل ذهابي.»

قال: «العفو أيتها الملكة الجليلة إني لا أخطو خطوة قبل أن أراك ذاهبة بإكرام ورعاية، وإلا فإنهم لن يأخذوك وفيَّ عرق ينبض.»

قالت: «ثق بأني سأذهب مكرمة، وسأقيم هناك لا أقول مكرمة ولكني لا أخاف بأسًا؛ لأن أود يعرف من أنا، وأرجو أن يكون بقائي في معسكر أود هذه المرة مثمرًا مثل بقائي المرة الماضية، فقد كشفت فيه سرًّا أبعد عنا شرًّا عظيمًا.»

قال: «ربما كان ذلك، ولكنني أستحي من نفسي أن أخرج من هذا الدير وحوله الجند يطلبونك فإذا كنت لا تسمحين أن أمنعهم من أخذك أفلا تأذنين لي أن أراك ذاهبة معهم؟»

قالت مريم: «إن هانئًا مصيب في رأيه.»

قالت سالمة: «فلأذهب إذن لرئيس الدير لأودعه، فانتظراني في الحديقة.» قالت ذلك وخرجت فتبعاها فتحولت هي إلى غرفة الرئيس، ونزلا هما إلى الحديقة وكانت مضيئة بالأقباس، وطلب هانئ من البواب أن يحضر الجوادين، فأمر فجيء بهما فدفع هانئ إليه صرة فيها دنانير فاستأنس البواب بذلك الكرم وأمر الخادم أن يحسن العناية بالجوادين، فوقف بهما وجواد هانئ يتجلى كالعروس بما عليه من العدة المتقنة وما في عنقه من القلائد والعقود، وما على عدته من الأحجار الكريمة، وخصوصًا اللؤلؤة الكبيرة المصاغة على شكل النجمة فوق جبهته، ناهيك بلجامه المذهب وما على صدره من سلاسل الفضة، وهو أدهم شديد السواد فأصبح كأنه ليل تتلألأ فيه النجوم، وكان هانئ واقفًا إلى جانبه ينظر إليه نظرة وإلى مريم نظرة أخرى، ولم يبقَ أحد من أهل الدير في تلك الحديقة أو بالقرب من الباب إلا وقد جاء ينظر إلى الأدهم وإلى صاحبه، وكلاهما غريب في نظرهم، وكأن الأدهم أدرك إعجاب الناس فازداد دلالًا وأخذ يضرب الأرض بيمناه ويصهل ويشخر، كأنه يطلب النزال، أو كأنه فهم من صهيل الخيول حول سور الدير أنهم أعداء صاحبه فأخذ يهددهم به.

أما مريم فقد كادت تنسى فراق والدتها قبل ذهابها لانشغال خاطرها بحب هانئ وخاصة بعد هذه السفرة، وقد تحققت من أنها عربية الأب ملوكية الحسب فتذكرت المحفظة فافتقدتها وعادت إلى هواجسها.

وبعد قليل سمعوا ضوضاء داخل الدير، ثم خرج بعض الخدم يحملون الشموع ووراءهم جماعة من الرهبان يسيرون بين يدي سالمة ورفيقها الراهب، وساروا بهما إلى السور فمروا بهانئ ومريم فحيتهما سالمة، ومشت حتى خرجت من الباب وكانوا قد أعدوا لها جوادًا ركبته وركب الراهب جوادًا آخر، ونفخ في البوق فاجتمع الفرسان الإفرنج ومشوا إلى جانبها وبعضهم إلى ورائها برعاية وإكرام، وهانئ ومريم ينظران، وأحست مريم في تلك اللحظة أن أمها اقتلعت من قلبها، فغلب عليها البكاء ولكنها كتمت بكاءها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤