الفصل السادس والسبعون

معسكر شارل

فالتفت عبد الرحمن إلى هانئ وقال: «لو قلنا له إني الأمير عبد الرحمن لا يصدقنا، فالأفضل أن ندله على خيمتي ثم ندخلها من باب آخر ونوهمه أننا كنا هناك.» فأشار هانئ بيده إلى فسطاط الأمير وأمامه النار ومشى وتبعه الرجل، ومضى عبد الرحمن من جهة أخرى حتى دخل خيمته من باب سري ثم دخل هانئ، وبعد قليل جاءه الحاجب يقول: «إن شابًّا إفرنجيًّا بالباب.» فأمره عبد الرحمن بإدخاله فأدخله، وعاد لاستقدام الترجمان وخيمته بقرب خيمة الأمير، فلما دخل الشاب نظر إليه عبد الرحمن فإذا هو في مقتبل العمر عليه قيافة الإفرنج وملامح العرب، أسمر البشرة، خفيف اللحية، صغير العارضين لحداثته، فلما جاء الترجمان أمره عبد الرحمن أن يسأله عن غرضه، فسأله فقال الشاب: «أنا لا أخاطب أحدًا غير الأمير عبد الرحمن، وإذا كان غائبًا فالأمير هانئ.»

فلما سمع هانئ اسمه تعجب، فقال عبد الرحمن بواسطة الترجمان: «إنك في حضرة الأميرين معًا.»

قال: «إني رسول من سالمة.»

فلما سمعا ذلك الاسم توسما خيرًا فقال عبد الرحمن: «وأين هي الآن؟ ومن أنت.»

قال: «هي في معسكر الدوق أود، وأما أنا فإني رجل عربي الأصل، وانتهى بي الأمر إلى الانتظام في جند الدوق أود، ولي حديث طويل قصته عليَّ سالمة منذ برهة وجيزة، وقد قبض علينا أود وسجن كلًّا منا في مكان، ثم افترقنا ففرت هي من سجنها وظللت أنا في المعسكر، ثم أطلق الدوق سراحي وأحسن الظن بي وأعادني إلى خدمته، ثم علم أود من عدلان الأحول أنها في دير مرتين فبعث فرسانًا لاستقدامها كنت أنا في جملتهم.»

فقال هانئ: «لعلك رودريك؟»

فبغت الشاب، والتفت إلى هانئ وابتسم، وقد استأنس بذلك السؤال وقال: «نعم يا سيدي هذا هو اسمي.»

وكان عبد الرحمن يسمع ذلك ويتعجب، ونظر إلى هانئ نظرة استفهام فقال هانئ بصوت منخفض: «إن هذا المسكين حفيد حسان وله قصة تعرفها مريم.»

فالتفت عبد الرحمن إلى رودريك وقال: «اقصص علينا سبب مجيئك.»

قال: «عندما رجعنا من الدير المذكور ومعنا سالمة ذهبنا بها إلى خيمة باتت فيها تلك الليلة، وفي الصباح التالي جاءوا بها إلى مجلس الدوق وكنت في جملة الحرس الواقفين ببابه، ورأيت عنده امرأة جميلة كانت جالسة بجانبه عرفت بعد ذلك أنها ابنته لمباجة، وأنها كانت في معسكر العرب وفرت إلى أبيها في تلك الليلة، فلما دخلت سالمة خفت عليها من غضب الدوق، ولكنني رأيت من إجلاله إياها واحترامه لها ما كاد يذهب برشدي، وسمعتها تخاطبه بجرأة وقوة وهو يتحمل منها ويستعطفها كما يستعطف المحب حبيبته، وقد سمعته يسميها بغير اسمها ويعاتبها وأخيرًا أمر بإرجاعها إلى خيمتها، وكانت قد لاحت منها التفاتة وهي خارجة فرأتني وعرفتني، فأومأت إليَّ خلسة أن أقابلها، فاحتلت في مقابلتها تلك الليلة فلما رأتني قالت: «إنك عربي وأولى بنصرة العرب مني فامضِ إلى معسكر الدوق شارل واستطلع أحواله، وأخبر أمير جند العرب بذلك؛ لأنهم إذا عرفوا قوة عدوهم هان عليهم أن يحاربوه.» وألحت عليَّ بسرعة الذهاب فخرجت في تلك الساعة والمعسكران متقابلان، وبت في معسكر شارل وقضيت طول الأمس واليوم في الاستقصاء، ولما أمسى المساء فررت إليكم كما رأيتموني.»

فأعجب الأميران بشهامة سالمة، وتذكر هانئ قولها إنها ستكون في معسكر أود أنفع لهم مما في معسكر العرب، فقال عبد الرحمن: «ما الذي عرفته من أحوال الجند؟»

فقال: «اعلم يا مولاي أن قائد هذا الجند رجل شديد اسمه شارل (قارله) بن ببين وهو رئيس حاشية ملك نوستريا من العائلة الميروفيجيانية، ونظرًا لضعف ذلك الملك كان حظ شارل من تلك المملكة دوقية أوستراسيا وراء نهر لوار لكنه لم يقنع بالدوقية بل طمع في لبس التاج، ولذلك كان أود هذا من أكبر منافسيه ولم يستنجد به على العرب إلا بعد اليأس الشديد، فلما استعان به، جرد ما يستطيع جمعه من قبائل الإفرنج وما يمكن حمله من العدة والسلاح واستقر في هذا المعسكر …»

فقطع عبد الرحمن كلامه قائلًا: «كم عدد جنده؟»

قال: «لم أستطع معرفة عدده تمامًا ولكنني علمت أنه كثير، وربما زاد على ضعفي عدد جيشكم، على أنني تحققت أنه مؤلف من عدة قبائل تختلف لغاتها وعاداتها وأخلاقها، وإن كانت تعد في الجملة من الإفرنج، أو الأوروبيين ولكنها على التخصيص مؤلفة من شعوب عديدة من جملتهم الأوستراسيون أهل البلاد الأصليون، والأتوريون، والبروكتيون، والطورنجيون، والهيميون، وغيرهم، وعليهم دروع من الجلد وعلى صدور خيولهم دروع من الحديد الثقيل أسلحتهم السيوف الطويلة المعتدلة ذات الحدين والفئوس الحادة، والرماح المستطيلة، والدبابيس الثقيلة في رءوسها حسك الحديد، والجند مؤلف من المشاة والفرسان، أما الفرسان فإنهم قليلون وهم وحدهم يرمون النبال.»

وكان رودريك يتكلم باهتمام، وعبد الرحمن وهانئ يصغيان لكل كلمة يقولها، فلما بلغ إلى هنا ابتسم هانئ والتفت إلى عبد الرحمن وقال: «نحن بلا ريب غالبون؛ لأن فرساننا كثيرون وقد عرفت بسالتهم وخبرت مهارتهم، وفيهم الرماة وحملة السيوف والفارس العربي يفوق ثلاثة من الفرسان الإفرنج، ولأن مشاتنا فيهم الرماحة والرماة، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.»

والتفت عبد الرحمن إلى رودريك فرآه يتحفز للنهوض، فقال له: «وهل عندك خبر آخر؟»

قال: «كلا يا مولاي ولكنني عائد إلى معسكر أود بأمر السيدة سالمة فهل من رسالة؟»

قال عبد الرحمن: «هل أمرتك بالرجوع؟»

قال: «نعم لعلها تطلع على أمر يهمكم من هذا القبيل فتبعثني به.»

فقال عبد الرحمن: «بلغها سلامنا وقل لها إننا حافظون لها هذا الفضل.»

فنهض رودريك واستأذن وخرج، ثم خرج الترجمان ومكث عبد الرحمن وهانئ برهة يتداولان في أمر الجيش، فقررا الإسراع في الهجوم ما أمكن قبل أن يستعد الإفرنج للدفاع وفي اليوم التالي بعد صلاة الفجر نفخ في النفير فاجتمعت جيوش المسلمين، فجعل عبد الرحمن المشاة في الوسط والفرسان في الجناحين، وجمع الأمراء على اختلاف قبائلهم، فجاءوا على خيولهم وعلى رءوسهم العمائم مكان الخوذ وقد تقلدوا السيوف، فوقف عبد الرحمن أمامهم موقف الخطيب وقال: «اعلموا أيها الأمراء أننا قطعنا أكيتانيا كلها والظفر حليفنا، ولما يئس عدونا من الفوز استنجد بعدوه صاحب أوستراسيا وقد جاءنا بجنده وكفانا مئونة الذهاب إليه وهذا معسكره وفيه كل قواته، والذي نصرنا على صاحب أكيتانيا سينصرنا عليه، وقد علمنا أنه أضعف منا عددًا وعدة والنصر موقوف على الصبر، فاصبروا وتكاتفوا ينصركم الله، فتفتحون بلادًا طالما تشوق المسلمون لفتحها، ويتم على يدكم ما وعد الله نبيه من فتح العالم، فيكون لكم الفخر ويخلد لكم الذكر مدى الدهر، وأنا واثق من أنكم فاعلون بإذن الله، والله مع الصابرين.»

ولما فرغ من كلامه تقدم هانئ على أدهمه وعلى وجهه أمارات البشر وقال وهو يبتسم: «إن هذا اليوم يوم الموعد العظيم سنناله بالصبر والجلد، يكفينا سعادة أننا وقفنا إلى أمر طالما تحسر أسلافنا لعدم الوصول إليه وسيحسدنا عليه الذين سيخلفوننا ويتمنون لو شاركونا فيه بدمائهم وأعناقهم، وسترونني وأنا أضعفكم عزيمة وأقلكم بسالة باذلًا نفسي في سبيل الله، فإذا فزنا فتحنا عالمًا جديدًا وإذا استشهدنا في الجهاد، فذلك خير لنا عند الله.» قال ذلك والعرق يتصبب من تحت عمامته والحماس باد في كل جارحة من جوارحه.

ثم قال عبد الرحمن: «فعليكم أيها الأمراء أن تستحثوا رجالكم وتوصوهم بالصبر والثبات، وأخبروهم بالفخر الذي سينالونه بحد سيوفهم فضلًا عن الغنائم فإنها أضعاف ما نالوه حتى الآن.» ثم تلا من آيات القرآن ما يزيدهم حماسًا وشجاعة، فتقدم كبير أمراء البرابرة وقد تحمس خصوصًا بعد أن سمع بكثرة الغنائم وقال: «لا يخفى على مولانا الأمير أن جند البربر من أشد جنود المسلمين بطشًا وأكثرهم ثباتًا في ساحة الحرب، وكلهم من الرماة الماهرين فاجعلوهم في المقدمة.»

فأراد عبد الرحمن تشجيعهم فقال: «نفعل ذلك.» وأمر أن يتقدم البربر بأقواسهم، وبعدهم العرب والفرسان في الجناحين.

•••

وكان شارل من الجهة الثانية يتأهب لمهاجمة المسلمين، والمخابرات جارية بينه وبين أود، في كيفية التعاون على ذلك، ولكنه لم يكن يتوقع هذه السرعة فلما أخبرته الطلائع باصطفاف المسلمين للحرب رتب جنوده صفوفًا متلاصقة بشكل الكتائب، فأصبحوا كأنهم سور من الرجال وأكثرهم من الجنود المحنكة، وقد حاربوا تحت راية شارل غير مرة، فوقفوا موقف الدفاع، والرماح ناتئة من بينهم صفوفًا بعضها فوق بعض لتمنع العرب من اختراق ذلك السور المتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤