الفصل الثاني

تكوين صداقات جديدة

لم تضحك البدينة إرمنجارد سان جون عندما عرَّضت سارا — بطلاقتها في الفرنسية — الآنسة منشن للإحراج عن غير قصد. لم تر إرمنجارد أن هناك ما يدعو للضحك إذا ما قورنت حماقتها بحماقة تلك الفتاة الجديدة؛ أو إذا ما قورنت بأي شخص آخر مثلما اعتاد والدها أن يقول دائمًا. كان والدها باحثًا، ويتوقع من ابنته أن تقرأ كل الكتب التي يرسلها إليها وتفهمها. لكن هذا أمر مستحيل، لأن إرمنجارد لم يكن بمقدورها أن تسترجع ما قرأته لتَوِّها وكانت أبلد تلميذة في المدرسة. وكانت تدرس الفرنسية على مدار سنوات دون أن تحقق أي نجاح يُذكر، ونطقها الفرنسية مريع للغاية، فقد كانت «حمقاء!»

كانت إرمنجارد غارقة في التفكير حتى إنها لم تلحظ أنها تمضغ ضفائرها. فكما يقول والدها، تجدها دائمًا تمضغ شيئًا ما. ومن سوء حظها أن الآنسة منشن لاحظت هذا.

صاحت الآنسة منشن: «آنسة إرمنجارد، كفاكِ مضغًا لشعرك!»

فزعت الفتاة لدى سماعها ذلك وتوردت وجنتاها خجلًا. وقد لاحظت أن سارا كانت تشاهدها، مما ضاعف إحساسها بالخجل، فقالت في نفسها: «والآن ستظن الوافدة الجديدة أيضًا أنني حمقاء.»

لعل هذا لن يحدث. فبعد انتهاء الحصص الدراسية، اقتربت سارا منها.

قالت سارا في عذوبة: «أحب اسمك.» ثم أخذت تنطقه ببطء: «إرمنجارد … يبدو وكأنه اسم روائي.»

سألتها إرمنجارد: «أترين ذلك بالفعل؟» وحقًّا، عندما نطقت سارا اسمها بدا وكأنه اسم ملَكِي.

وفجأة قالت سارا: «أتحبين أن تأتي معي وتلتقين بإيميلي؟»

فسألتها إرمنجارد: «ومن تكون إيميلي؟»

مدت سارا يدها وقالت: «تعالي معي إلى غرفتي وانظري بنفسك.»

وفيما كانتا ترتقيان السلم متجهتين إلى غرفة سارا، سألت إرمنجارد: «أحقًّا تملكين غرفة جلوس خاصة بكِ وحدكِ؟»

– «أجل، لقد حصل لي أبي على واحدة، فعندما أنسج القصص وأقصُّها على إيميلي، لا أحب أن يسمعني أحد غيرها.»

قالت إرمنجارد في انبهار: «أتتحدثين الفرنسية وتؤلفين قصصًا من نسج خيالك أيضًا؟»

– «وما الغريب في ذلك، بمقدور أي شخص أن يؤلف قصصًا من نسج خياله، ويمكنكِ أنتِ أيضًا.»

لم تصدقها إرمنجارد، لكن لم يكن هناك وقت للاعتراض، فعندما بلغتا باب غرفتها المغلق، وضعت سارا إصبعها على فمها كي تحثها على الصمت.

همست سارا في غموض: «صه، دعينا نحاول ضبطها!»

لم تكن إرمنجارد تعرف ما الذي تتحدث عنه سارا، لكنه بدا أمرًا في غاية الإثارة. دفعت سارا الباب بقوة على حين غرة، فحملقت إرمنجارد في الغرفة، لكنها لم تر سوى دمية جميلة متكئة على مقعد بجانب المدفأة.

قالت سارا وهي تضحك: «يا لها من ماكرة. لقد عادت إلى مقعدها قبل أن نضبطها وهي تتحرك. دائمًا ما يفعلون ذلك!»

لم يبد أن إرمنجارد قد فهمت شيئًا، لذا أطلعتها سارا على الحياة التي تحياها الدمى في الخفاء.

في تلك اللحظة لم تبد إرمنجارد متحيرة فحسب وإنما خائفة أيضًا؛ إذ أخذت تتساءل: تُرى ما الذي يحيا في الخفاء أيضًا؟ لعلَّ قطع الأثاث؟ وأخذت تحملق في مقعدها في شك وريبة.

قالت سارا: «لا تقلقي. هذا مجرد خيال. ألم يسبق لك أن تخيلت حدوث بعض الأشياء؟»

أجابت إرمنجارد: «كلا.»

قالت سارا: «لا تقلقي. هذا أمر سهل للغاية، وسأعلمّك إياه.»

وعلى مدار الساعة التالية جلست إرمنجارد تحتضن ركبتيها في سرور فيما تعلِّمها سارا أساسيات التخيل، من سرد قصص واختلاق أشياء غريبة. وبالطبع لم تستطع أن تعلمها الفرنسية في ساعة واحدة، لكنها أخبرتها المزيد عن حياة الدمى الخفية، وعن رحلتها من الهند. وأخيرًا أخبرتها عن والدها.

وعندئذ توقفت سارا عن الحديث، وتغضَّن وجهها، وبدت وكأنما قد تبكي.

سألتها إرمنجارد: «هل أنتِ بخير؟»

فردت سارا بسؤال آخر: «هل تحبين والدكِ؟»

أجابت إرمنجارد: «قلَّما أراه، لكن لا بد أن أحبه، أليس كذلك؟»

اندفعت سارا قائلة: «أنا أحب والدي أكثر من أي شيء في العالم. وأفتقده كثيرًا.» ثم رفعت رأسها، وتنهدت بعمق، ثم أضافت: «لكنني قطعت له وعدًا بأن أكون جنديًّا قويًّا، ولسوف أكون كذلك بكل تأكيد. سوف أكون كذلك!»

وعندئذ تبادرت فكرة إلى ذهن إرمنجارد التي ألهمها حديث سارا، فقالت: «لافيينا وجيسي صديقتان حميمتان، أتظنين أنه بمقدورنا أن نصيرا نحن أيضًا صديقتين حميمتين؟ حتى ولو تظاهرنا بذلك؟»

قالت سارا: «يا لها من فكرة رائعة! ولسنا في حاجة إلى التظاهر!»

•••

في اليوم التالي قالت إرمنجارد لسارا في الردهة: «لافينيا تكرهك.» ونظرت خلفها خشية أن تسمعها لافينيا، ثم أضافت: «قبل مجيئك إلى هنا، كانت هي أذكى فتيات المدرسة وأكثرهن أناقة. كانت لافينيا «مهمة».»

قالت سارا: «لكن ليس هناك ما يدعو لافينيا لأن تكرهني. إنها تغار مني، لكن يمكنها أن تظل مهمة؛ أي شخص يمكنه ذلك.» اندهشت إرمنجارد لدى سماعها الكلمات الأخيرة وأخذت تفكر في نفسها: «حتى أنا؟»

الحقيقة أن لافينيا كانت فتاة حقودة اعتادت أن تفرض نفوذها وسيطرتها على بقية الأطفال من حولها. وقبل أن تصل سارا، كانت لافينيا تجلس إلى جانب الآنسة منشن أثناء تناول الوجبات، وتتقدم الصفوف أثناء الزيارات الخارجية التي تنظمها المدرسة. لكنها لم تعد كذلك الآن.

وإحقاقًا للحق، كانت سارا تظن أن الأشياء تحدث للناس بمحض المصادفة، ففكرت في نفسها: «ليس ذنبي أنني أحببت المدرسة دائمًا، وأنني لدي أبٌ يحبني ويهبني أشياء جميلة.»

قالت سارا في صرامة: «مهما كان الأمر، أنا لا أكره لافينيا.»

ردت إرمنجارد: «أنتِ تتمتعين بقلب لا يستطيع أن يكره أي شخص.» غرقت سارا في التفكير لحظة.

ثم أفصحت عما يدور بخلدها: «أحاول أن أكون طيبة. لكن كيف لي أن أعرف إذا كنت طيبة بالفعل؟ ففوق كل شيء، يسهل على الإنسان أن يكون طيبًا عندما ينعم برغد العيش، لكن إذا كنت أعاني من ضنك العيش واجتزت الكثير من البلايا، فربما ما كنت لأصبح طيبة، لعلي كنت سأصبح مؤذية!»

قطع حديث سارا وإرمنجارد صرخة قوية وحادة، فرفعتا أعينهما لتريا لافينيا تقف فوق لوتي، وعلى وجنة لوتي علامة حمراء حديثة في حجم يد لافينيا اليمنى. دمدمت إرمنجارد قائلة: «هذا بمناسبة التحدث عن الشخصيات المؤذية …»

انتحبت لوتي: «لقد صفعتني!»

هرعت سارا إليها فحالت بينها وبين لافينيا، ثم صرخت في وجه لافينيا: «ماذا تفعلين؟ لوتي في الرابعة من عمرها، وأنت في الثالثة عشرة من عمرك تقريبًا، أي أنكِ تكبرينها بتسع سنوات!»

أجابت لافينيا: «حقًّا! تجيدين الجمع!» وكانت تتمنى أن تصفع سارا أيضًا، لكنها نظرت إليها بازدراء، واندفعت خارج الحجرة.

وحتى مع خروج لافينيا، لم تتوقف لوتي عن البكاء. كانت لوتي هي الطفلة الصغرى، ليس في المدرسة وحدها، وإنما في عائلتها أيضًا، وقد دُلِّلت كثيرًا طوال حياتها. وعلى خلاف سارا فسدت لوتي من التدليل المفرط؛ إذ ماتت والدتها ومنحها من حولها الانطباع بأنها بمقدورها أن تستغل هذه الحقيقة في أن تحظى باهتمام خاص. وهي لا تنطق أبدًا بعبارات مثل «من فضلك» أو «أشكرك.» ومتى احتاجت إلى شيء ما، تجدها تركل الأرض بقدميها وتصرخ. وكانت لوتي الصغيرة تنعم برئتين قويتين؛ فمتى صرخت، كاد يُسمع صوتها في كل أرجاء لندن.

لا شك أن صرخاتها بلغت آذان الآنسة منشن والآنسة أميليا، فجاءتا مهرولتين.

سألت الآنسة منشن: «ما الذي يحدث هنا؟ لوتي، لماذا تبكين؟»

ردت إرمنجارد: «لقد صفعتها لافينيا.»

قالت الآنسة منشن: «قطعًا هذا غير صحيح. لافينيا آنسة مهذبة.»

صرخت لوتي وهي لا تزال تركل الأرض بقدميها: «أوووووووو! ليس لي …»

قالت الآنسة أميليا: «يا لها من طفلة مسكينة. ماذا تحتاج؟»

فأجابت الآنسة منشن: «تحتاج أن تُبرَح ضربًا. هذا كل ما في الأمر!»

عندئذٍ تعالت صرخات لوتي أكثر.

فقالت سارا: «آنسة منشن، اسمحي لي بأن أحاول أن أتحدث إليها لعلَّها تهدأ.»

أومأت الآنسة منشن على نحو مقتضب.

جلست سارا على الأرض إلى جانب لوتي. وبدلًا من أن تتحدث سارا، نظرت إليها دون أن تنبس ببنت شفة. وقد تحير الجميع من تصرفات سارا الغريبة.

بل إن لوتي نفسها تحيرت أيضًا؛ فعادةً عندما تبكي يُحدث الجميع جلبة من حولها، ويتوسلون إليها كي تتوقف عن البكاء، ويعدونها بتنفيذ أي شيء تطلبه شريطة أن تتوقف عن البكاء فحسب. بيد أن تصرف سارا كان غريبًا حتى إن لوتي نسيت صراخها.

قالت سارا عندما صمتت لوتي أخيرًا: «مرحبًا.» فردت لوتي لاهثة: «أهلًا.»

سألتها سارا: «لم تبكين؟»

همّت لوتي بالرد عليها، فقالت: «ليس لي …» ثم انقطعت عن الكلام.

شجَّعتها سارا: «تكلَّمي.»

أخيرًا اندفعت لوتي قائلة: «ليس لي أم!» ومع أن شفتها السفلى كانت لا تزال ترتجف، حدثت المعجزة وهدأت لوتي.

سألت سارا الآنسة منشن: «أحقًّا هذا؟» ربما لا تكون لوتي سعيدة الحظ.

ردت الآنسة منشن في وضوح: «أجل، ماتت والدة لوتي عندما كانت صغيرة.»

وعندها احمرَّ وجه لوتي، وبدا أنها تستعد لأن تركل الأرض وتصرخ من جديد، لكن سارا تفوهت قبل أن تبدأ نوبة الهياج، وقالت: «وأنا أيضًا.»

طرفت لوتي بعينيها من المفاجأة الثانية. لم تشأ لوتي أن تتوقف عن البكاء والعويل، ولكنها متحيرة؛ لا فائدة منه الآن. سألتها لوتي: «أين هي؟»

ردت سارا: «في السماء. هكذا تكون معظم الوقت …»

اتسعت عينا لوتي، وسألتها: «وأين تكون بقية الوقت؟»

أخذت سارا تطلعها على أفكارها عن الملائكة، وتشرح لها أنهم يحيون في الخفاء، شأنهم شأن الدمى، ويعودون إلى الأرض من حين إلى آخر للاعتناء بأحبائهم.

نهضت لوتي وأخذت تتلفت حولها؛ ففكرة أن والدتها ربما تكون في مكان ما في الجوار تراقبها جعلتها ترغب في أن تتصرف كفتاة يمكنها التواصل مع الملائكة.

طلبت لوتي: «أخبريني بالمزيد!» فقد كانت قصص سارا حلوة على مسامعها مثل الحلوى.

بدأت سارا تحكي وهي متلألئة العينين متوردة الخدين. واجتمع حولها الكثير من الفتيات الأخريات، فسحرتهن أيضًا قصص سارا؛ فطريقة سارا في إلقاء القصص جعلتها تبدو وكأنها قصص حقيقية.

كان صوت سارا وهي تصف السماء عذبًا وجذابًا: «ثمة حقول من الأزهار يركض فيها الصغار ويجمعون باقات كثيرة منها، ويضحكون، ويصنعون عقودًا طويلة من أزهار الزنبق. وثمة جنيَّات في كل مكان لا يفعلن شيئًا سوى أن يسبحن في كل الأرجاء.»

قالت لوتي: «أريد أن أسبح مع الجنيات، لأنه ليس لي أمٌّ هنا على الأرض.»

كانت سارا تعرف الرد المناسب، فقالت: «سأكون أنا أمك. سنتخيل أنكِ طفلتي الصغيرة بالتبنِّي، وستكون إيميلي أختك.»

عندما ابتسمت لوتي ظهر في خدها غمَّازة كبيرة زادتها جمالًا.

سألت لوتي المبتسمة: «حقًّا؟ أستكون أختي؟»

أجابت سارا وهي تثب على قدميها: «أجل، لنذهب ونخبرها بهذا.»

وافقت لوتي وسارت في ابتهاج شديد وراء سارا إلى خارج الغرفة، فمن الآن فصاعدًا لديها الكثير لتستمتع به.

•••

كثيرًا ما كانت سارا تلمح فتاة تكبرها ببضع سنوات تجلس في الظلام بالقرب من المدخل الخلفي للمدرسة أو في أحد ممراتها. كانت الفتاة تحمل طرودًا ثقيلة في معاناة شديدة، وعرفت سارا أنها ليست طالبة بالمدرسة. ولأنها فتاة فضولية، صمَّمت على أن تعرف المزيد.

وبدا أن هذه الطفلة يساورها نفس الفضول لمعرفة المزيد عن سارا؛ فدائمًا كانت تختلس النظر إليها بعينيها الواسعتين اللتين يحددهما وجه حلو ملطخ بالفحم. وكانت الفتاة في الرابعة عشرة من عمرها، لكنها بدت في الثانية عشرة نتيجة للحياة القاسية التي تتكبدها.

حدث ذات يوم أن اصطدمت سارا بالفتاة أثناء سيرها في الممر، فابتسمت لها.

وعادة ما يرد الناس ابتسامة سارا بابتسامة مثلها، لكن هذه الفتاة ارتاعت وكأنها قد أُخبرت بأنه ليس من شأنها أن تنظر إلى كل الفتيات الراقيات، فما بالك أن تبتسم لهن.

قالت سارا في رقة: «لا بأس. ما اسمك؟» لكن الفتاة كانت قد انطلقت بالفعل عائدة نحو الظلام.

وفي ذلك المساء، وفيما كانت سارا جالسة في الردهة تسرد قصة أخرى من قصصها الشهيرة (حول عرائس وعرسان البحر، وبالطبع حول الأميرات أيضًا)، إذ بنفس الفتاة تدخل إلى الردهة، وكانت تبدو هزيلة ومنهكة القوى، وتحمل صندوق فحم ثقيل للغاية.

نزلت الفتاة على ركبتيها كي تكنس الرماد. كنست الفتاة مرة بعد مرة بعد مرة، وفي تلك اللحظة أسرتها قصة سارا حتى إنها توقفت عن الكنس، وبدلًا من إزالة الرماد، جلست مسترخية حالمة في أحد المقاعد حتى إنها فقدت قبضتها على فرشاة المدفأة التي أوشكت أن تسقط من يدها.

وقبل أن تدرك الفتاة هذا، إذ بها تجد نفسها في أغوار البحار بصحبة سارا وسائر الفتيات الأخريات ذوات الشأن، وبصحبة عرائس وعرسان البحر. ولم تحيا قط الفتاة في خلال فترة حياتها القصيرة الشاقة لحظات وسط أزهار البحر والأعشاب التي تتمايل بخفة وكأنها تتراقص على ألحان الموسيقى التي كانت تسمعها في خيالها الآن أيضًا بفضل سارا.

سقطت الفرشاة من يد الفتاة فأصدرت صوت ارتطام مرتفع، فالتفتت إليها كل الفتيات.

كشرت لافينيا عن أنيابها، وظهر جانب شخصيتها الذي يفيض بالحقد والتعالي، وصاحت فيها: «كيف تجرئين على أن تستمعي إلى هذه القصص! أقصد إنها قصص حمقاء ساذجة … وأنتِ لستِ سوى خادمة!»

تمتمت الفتاة المذعورة بكلمات الاعتذار، والتقطت فرشاتها، وهرولت إلى خارج الغرفة.

ثارت ثائرة سارا على لافينيا، وصاحت فيها: «كيف تجرئين على فعل هذا؟ القصص ملك الجميع وليست حِكرًا على أحد!» استشاطت سارا غضبًا حتى إنها كادت أن تصفع لافينيا، لكنها كانت تعرف أن عليها أن تتصرف كأميرة حقيقية وألا تنحدر بمستواها إلى مستوى لافينيا.

اكتشفت سارا لاحقًا أن اسم الفتاة بيكي، وأنها يتيمة، وتعمل خادمة بالمطبخ الواقع في الطابق السفلي، ومنوط بها مهام النظافة الشاقة التي لا يؤديها أحد سواها. وعادة كانت الفتيات تسمع صوت الآنسة منشن يدوِّي من الدور السفلي وهي تقول: «بيكي، افعلي هذا.» و«بيكي، افعلي ذاك.» ومع ذلك، لم يكن ذلك ليسترعي انتباه أحد، لأنه بدا أمرًا بعيدًا كل البعد عن عالمهم المليء بالثراء والراحة.

وفي ذلك اليوم أقسمت سارا أن تقيم علاقة صداقة مع بيكي. فعادة كانت سارا تهرع إلى مساعدة المحتاجين دون تفكير، ولم تكن بيكي لتُستثنى منهم.

ومع ذلك في المرات القلائل التي التقتا فيها مصادفة، بدت بيكي مرتبكة. وكانت سارا تدرك أن بيكي ستُعنف أيما تعنيف إذا ضُبطت متلبسة وهي تتحدث إلى التلميذات، لذا التزمت بالابتعاد عنها.

وبعد مضي أسابيع قلائل، حدث موقف سعيد؛ فعندما دخلت سارا غرفة الجلوس الخاصة بها، وجدت بيكي تغط في نوم عميق على الكرسي الهزاز الوثير المصنوع من القطيفة بجانب المدفأة.

وكانت بيكي قد جاءت إلى غرفة سارا كي ترتبها وتضيف المزيد من الفحم إلى مدفأة سارا. وكانت غرفة سارا مميزة عن بقية الغرف؛ فهي غرفة دافئة تعج بالألوان المبهجة، وتزخر بالصور والكتب والبطاطين الناعمة وأشياء غريبة من الهند. وكانت هناك أيضًا سجادة من جلد نمر كان والدها قد اصطاده. وكانت بيكي دائمًا ترجئ تنظيف غرفة سارا إلى النهاية باعتبارها مكافأة لنفسها لإتمامها أعمال النظافة.

لم تتجرأ بيكي من قبل قط على الجلوس على الكرسي الهزاز الخاص بسارا، لكنها قالت في نفسها في هذا اليوم: «سأجلس لأرتاح دقيقة واحدة …»

لكن الدفء الذي تبعثه المدفأة طواها بسحره، فقالت لنفسها قبلما تغطُّ سريعًا في سبات عميق: «دقيقة واحدة أخرى فقط.»

همست سارا إلى إيميلي: «أوه! يا لها من مسكينة! إنها متعبة للغاية.» وأخذت سارا تفكر في أن المصادفة وحدها هي من جعلتها تحيا حياة كريمة وجعلت بيكي تحيا مثل تلك الحياة الشاقة؛ فما هما إلا فتاتان صغيرتان لا فرق بينهما.

لم تشأ سارا أن توقظ بيكي، لكنها خافت أن تمر بهما الآنسة منشن وتجدها هناك. وبينما كانت سارا تفكر، إذ بجمرة نار ترتطم بحاجز المدفأة محدثة صوتًا قويًّا، ففتحت بيكي عينيها اللتين وقعتا على سارا في الحال فقفزت لتوها من على مقعدها.

فقالت لها في ارتباك: «أنا آسفة يا آنسة!»

قالت سارا: «لا تأسفي. أنا سعيدة لأنكِ هنا.» ثم اقتربت سارا وأمسكت يد بيكي. ومع أن بيكي كانت أكبر، فقد بدت أنها بحاجة إلى الأمومة بقدر حاجة لوتي لها تمامًا.

استمرت بيكي في اعتذارها: «لم أقصد أن أفعل هذا يا آنسة.» اعتادت بيكي تلقي التوبيخ والتعنيف الشديدين حتى إنها لم تلحظ معاملة سارا الطيبة لها فواصلت: «لكن النيران كانت دافئة، والكرسي ناعم للغاية، وأنا كنت متعبة بشدة …»

حاولت سارا أن تهدئ من روعها: «أعرف ذلك، وأنت تكدين في العمل.» أخيرًا اكتشفت بيكي أنها ليست في ورطة.

فقالت لاهثة: «أحقًّا لستِ غاضبة يا آنسة؟ ولن تبلغي الآنسة منشن؟»

أجابت سارا: «بالطبع لن أطلع أحدًا على الأمر.» وطرأت فكرة أخرى ببال سارا فسألتها: «هل انتهيتِ من إتمام عملكِ؟ ألا يمكنك أن تمضي معي وقتًا أطول؟»

حدقت بيكي في عينيها الواسعتين.

– «هل أبقى يا آنسة؟ أنا؟ هنا؟»

هرعت سارا نحو الباب كي تتحقق من أنه لا يوجد أحد حولهما.

قالت سارا: «الممر هادئ، ولا أحد يعلم أنكِ هنا. إذا كنتِ قد انتهيتِ من إتمام عملك، فهل يمكنك أن تأتي لتقضي معي بعض الوقت؟»

أومأت بيكي بتؤدة. بالتأكيد ظنت بيكي أنها لا تزال تحلم في كرسي سارا الهزاز.

ثم فتحت سارا أحد الأدراج، وأخرجت كعكة شوكولاتة مجمَّدة، ثم قطعت شريحة سميكة من أجل بيكي. ابتسمت سارا في سرور عندما كادت بيكي تلتهم القطعة كلها في قضمة واحدة.

قالت سارا: «بيكي، إذا جئت إلى غرفتي كل ليلة، يمكنني أن أقص على مسامعك جزءًا من قصة عروسة البحر في كل مرة، إلى أن تنتهي القصة.»

تهللت بيكي، وقالت: «سأفعل! وسأحب هذا بشدة حتى إنني لن أعبأ مرة أخرى بثقل صناديق الفحم، أو بكوني جائعة، أو بالمعاملة القاسية التي أتلقاها من الآنسة منشن. أظنني أستطيع أن أتحمل كل شيء إذا وضعت هذا نصب عينيّ!»

وعاشت بيكي الليالي اللاحقة، ليس فقط على الوجبات الخفيفة التي تقدمها لها سارا والقصص التي ترويها على مسامعها؛ وإنما أيضًا على دفئها وحنانها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤