الفصل السادس

في الحركات القلمية والعقلية

مقدمة

كانت الشام من البلاد ذات الثقافة العريقة منذ عهد حضارة الفينيقيين وحضارة رأس شمرا. أما بعد الاحتلال الروماني فقد عددنا أسماء طائفة من أئمة العلم، والفلسفة، والفقه، والأدب، والتشريع، والمحاماة في مقدمة الباب الخامس. وقد كان لمدارس أنطاكية وقيسارية وبيروت وتدمر ودمشق وحلب في العهد الروماني أثر كبير في إيجاد حركات علمية وعقلية ذات صيت عالمي مشهور.

وقد كانت اللغتان اللاتينية ثم اليونانية هما لغتا العلم والتأليف، وقد حفظت في خزائن أوروبا آثار كثيرة من تراث ذلك العهد، كما حفظت لنا مدارس الروم في أنطاكية وبيروت ودمشق والإسكندرية علوم الروم من فلك، وجغرافية، ورياضيات، وطب، فجمع علماء الإمبراطورية البيزنطية رومهم وعربهم وفرسهم هذه العلوم، وأكملوها ونشروها.١ ولما جاء المسلمون هذه الديار ركدت الحركات الفكرية أول الأمر لسببين:
  • أولهما: أن العرب الفاتحين كانوا ينظرون بحذر شديد إلى رجال الدين والتشريع، وهم رجال العلم في الدولة البيزنطية.
  • ثانيهما: أن حركة العلم في الدولة العربية كانت بعدُ في عهد الإنشاء؛ فقد كان العرب أمة أمية، ولم يكن عمل الخلفاء الراشدين في هذا الحقل ذا أثر كبير، وكذلك كان الحال في الفترة الأولى من عهد بني أمية، ولكن على الرغم من ذلك فإن بداية بعض الحركات العلمية قد ظهرت وهذا تبيانها.

(١) القرآن

في ولاية يزيد بن أبي سفيان على الشام كتب إلى عمر بن الخطاب يقول: إن أهل الشام قد كثروا وربلوا وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم فأعِنِّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم. فبعث إليه بمعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وقال لهم: ابدءوا بحمص، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين، فذهب عبادة إلى حمص، وأبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. وهذه أول بعثة علمية تركت الحجاز إلى الشام، يرجع الفضل فيها إلى عمر، كما يرجع إليه الفضل في جمع القرآن للمرة الأولى. قال زيد بن ثابت: أُرسلت إلى أبي بكر فأتيته فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال لي: إن القتل قد استحرَّ بالقُرَّاء يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل في القراء في المواطن كلها، فيذهب كثير من القرآن، فأرى أن يُجمع القرآن بالحال. فقلت لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله؟

فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله له صدري.

فقال له أبو بكر: يا زيد، إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن واجمعه. فكانت الصحف عند أبي بكر حياته ثم عند عمر.٢ ولما كثر المسلمون وانتقلوا في الفتوح في الشام ومصر والعراق وإفريقية وإيران في عهد عثمان، وحدث أن وجدت بعض الحوادث والفتن؛ بسبب بعض الاختلافات في آي القرآن وقراءته، وأخذ بعضهم ينسب إليه ما ليس فيه من أحاديث الرسول، وبلغت هذه الأخبار مسامع الخليفة، فأمر في سنة ٣٠ﻫ زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث المخزومي أن يكتبوا نسخًا من القرآن، وقال: إن اختلفتم في حكمة فاكتبوها بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. فلما كتبوها بعث بها إلى الأمصار الإسلامية: مكة والبصرة والكوفة ودمشق، وأبقى نسخة في المدينة ونسخة لنفسه، وصار المصحف العثماني مرجع الناس وعنه انتسخوا نسخهم، وأمر بإتلاف كل ما خالفها، ومنذ ذلك الحين أخذت علوم القرآن وقراءاته والروايات تنشأ في الشام والعراق.

(٢) الفقه والحديث

نزل الشام بعد الفتح الإسلامي جماعة من كبار الفقهاء، الذين نشئوا في مدرسة الرسول الكريم وسمعوا أقواله وأحاديثه، وتأدبوا بآدابه؛ منهم: أبو الدرداء الذي بعث به عمر لتعليم المسلمين في دمشق، والذي تولى قضاء دمشق في خلافة عثمان ومات سنة ٣٢ﻫ، ومنهم أبو ذر الغفاري الصحابي الزاهد الفقيه الجليل، ومنهم عبد الرحمن بن غنم الأشعري، الصحابي الذي بعثه عمر إلى الشام لتفقيه الناس، ومنهم فضالة بن عبيد الصحابي الذي ولاه معاوية قضاء دمشق وأمَّره على غزو الروم بحرًا. وقد نبغ من الشاميين جماعة نشئوا على هؤلاء الرجال أمثال: بلال بن أبي الدرداء الذي تولى قضاء دمشق (؟–٩٣)، وشهر بن حوشب الأشعري المحدث (؟–١٠٠)، وأبو مسلم الخولاني شيخ دمشق وزاهدها وعالمها، وغيلان بن مروان الدمشقي، الفقيه المتكلم، أحد كبار المعتزلة.

(٣) الشعر

نبغ في الشام جمهرة من الشعراء الفحول؛ فقد كان الشعر أرقى الشُّعب العلمية في ذلك العصر. وقد كان للخلفاء الأمويين كمعاوية ويزيد ومروان حب للشعر وتقدير لأهله، بل كان يزيد شاعرًا مفلقًا يحب الشعر وأهله، ويجزل العطاء على قوله، وكان فحول الشعر في هذا العصر جرير والفرزدق والأخطل، وهؤلاء الثلاثة وإنْ كانوا عراقيين إلَّا أنهم عاشوا في كنف شعراء أمية. والحق أن الشعر ازدهر أيَّ ازدهار في عصر معاوية وأخلافه لأسباب سياسية واجتماعية وأدبية، فصَّلتها كتب الأدب، وقد انقسم الشعراء في هذه الفترة إلى أحزاب؛ فحزب عليٍّ له شعراؤه ومنهم: النعمان بن بشر الأنصاري (؟–٦٥)، ويزيد بن مفرع الحميري (؟–٦٩)، وأبو الأسود الدؤلي (؟–٩٩).

وحزب معاوية له شعراؤه، ومنهم: مسكين بن عامر الدارمي (؟–٩٠)، وأعشى ربيعة عبد الله بن خارجة (؟–٨٥).

وحزب الزبير ومنهم: ابن قيس الرقيات (؟–٧٥).

وحزب الخوارج، ومن شعرائهم: الطرماح بن حكم (؟–١٠٠)، وعمران بن حطان (؟–٨٩)، وعبد الله بن الحجاج (؟–٩٥).

وحزب المستقلين اللاهين في الحجاز بعد أن أقصاها معاوية عن السياسة، ومن شعرائها: جميل بن معمر (؟–٨٢)، وعمر بن أبي ربيعة (؟–٩٣)، وعبد الله بن عمر العرجي.

وهناك طائفة أخرى من الشعراء، إلَّا أن هذا ليس مجال التفصيل في أخبارهم وأحوالهم.

(٤) الخطابة

ازدهرت الخطابة في هذا العصر؛ فقد كان الخلفاء والأمراء خطباء يعولون على الخطابة في إبلاغ الناس مقاصدهم، والتأثير عليهم في نشر مبادئهم وأغراضهم. قالوا: كان معاوية ويزيد من أخطب الناس، وكذلك كان كثير من الأمراء الأمويين خطباء مصاقع يعجبهم القول المُرتجَل والحكمة البليغة.

(٥) الأخبار والتاريخ

كان العرب في جاهليتهم وإسلامهم يحبون رواية الأخبار للمسامرة والاعتبار، وكان معاوية يحب استماع الأخبار القديمة، وقصص الماجنين من عرب الجاهلية والإسلام والأقدمين، كما كان مغرمًا بمعرفة أنساب العرب وأيامهم ووقائعهم في الجاهلية. وقد أُغرم الناس بهذه الأخبار، فاعتنوا بها وجمعوها منذ زمن مبكر، حتى صارت فيما بعدُ مادة للمؤرخين الإسلاميين الذين دونوا السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي والعربي في القرن الثاني. وكان أقدم هؤلاء الرواة الإخباريين عبيد بن شرية الجرهمي، وهو عربي يمني، كان جمَّاعة للأخبار والقصص، استدعاه معاوية إلى دمشق؛ ليسامره ويقص عليه قصص الماجنين من أهل اليمن، وعامة العرب والعجم. ويقال: إن عبيدًا هو أوَّل من ألَّف في كتب التاريخ والأخبار، وأخبار الملوك والأمم الماضية.٣ ومنهم كعب الأحبار وهو يهودي يماني، كان واسع الاطلاع على علوم الأولين وأخبار الإسرائيليين، قرَّبه معاوية وكان يستمع إلى أقاصيصه.٤ ويقول المسعودي: إن معاوية كان يجلس لأصحاب الأخبار في كل ليلة بعد العشاء إلى ثلث الليل، فيقُصُّون عليه أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها في رعيتها وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكائدها، ثم ينام ويأتيه غلمان مرتبون، وعندهم كتب قد وكلوا بحفظها وقراءتها، يقرءون عليه ما في تلك الكتب من سير الملوك وأخبار الحروب ومكائدها وأنواع السياسات.٥ ويُعلِّق جرجي زيدان على هذا الكلام بقوله: والغالب في اعتقادنا أن تلك الكتب في اليونانية أو اللاتينية، وفيها أخبار أبطال اليونان والرومان، كالإسكندر ويوليوس قيصر وهنيبال، وأن الغلمان كانوا يفسرونها له بالعربية.٦
وممن ألَّف في هذا العصر أبو مخنف أحد أصحاب الإمام علي؛ فقد روى ابن النديم أن له بعض الكتب في أخبار الأمم وتراجم الرجال٧ ومنهم دغفل بن حنظلة السدوسي النساب البكري.٨

(٦) علوم الأقدمين

عرف العرب في الجاهلية وصدر الإسلام بعض المعلومات الساذجة من علوم الأقدمين اليونان والفرس من طب وصيدلة، ولما جاء الإسلام لم يكن في الوقت مُتَّسع للانصراف إلى هذه العلوم ودراستها دراسة صحيحة، ولما اتسع الوقت للعلوم القديمة أن تظهر في كنف البلاط الأموي، وجدنا بعض الأطباء والفلاسفة الروم يقربهم الخليفة ويفيد من علمهم وفضلهم، كابن أثال الطبيب، وسرجون الكاتب، وماسرجويه الطبيب في عهد مروان الحكم.٩ ولكن العلم البيزنطي نفسه كان الوقت في دور الانحلال والتقهقر، ولذلك لم نرَ أثرًا كبيرًا لذلك الاتصال؛ فقد وصل العلماء البيزنطيون إلى زمن كان علمهم شرح كتب الأقدمين ووضع الحواشي عليها ليس غير.
ولما قام الأمير الأموي النابه خالد بن يزيد بن معاوية حكيم آل مروان (؟–٨٥)، ينقِّب عن كتب الحكمة والكيمياء وعلوم الأقدمين، وأمر المترجمين أن يترجموها لهم. لم يكن ذلك العمل ذا أثر كبير؛ إذ لم يعقب ذلك العمل الابتدائي أية حركة أخرى بعده، وإنما هي أخبار تروى عن خالد إذا صحت الرواية.١٠ ويقولون: إنه أول من أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مصر، وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل كتب الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي. يقول ابن النديم: الذي عُني بإخراج كتب القدماء في الصنعة خالد بن يزيد بن معاوية، وكان خطيبًا شاعرًا فصيحًا حازمًا ذا رأي، وهو أول من تُرجمت له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء، وكان جوادًا، رأيت من كتبه كتاب الجرارات، كتاب الصحيفة الكبير، كتاب الصحيفة الصغير، كتاب وصية إلى ابنه في الصنعة.١١ ويقول الأستاذ كرد علي: «وكانت الكتب التي تُرجمت لأبي هاشم خالد بن يزيد، أول نقل أو تعريب في الإسلام في عاصمة الشام، وخالد بن يزيد هذا زهد في الخلافة وعشق العلم، وإذا أنشأ جده معاوية ملكًا في الشام دام ألف شهر، فإنه أنشأ بعلمه مملكة باقية بقاء الدهر، وخالد بن يزيد أول من جُمعت له الكتب وجعلها في خزانة في الإسلام؛ ففي دمشق إذن أُنشئت أول دار كتب في العالم العربي، ودمشق أول عاصمة أنشئت فيها دار ترجمة؛ فأولى أبو هاشم بعمله هذه الأمة، وهذه العاصمة شرفًا لا يبلى عليه الأيام …»١٢
إلَّا أن المستشرق الألماني «يوليوس روسكا» يشك في الأمر، ويقول: ليس لدينا شهادة من عصر خالد تُثبت ميله العلمي، وليس فيما نعرفه عن الحياة الرسمية في ذاك العصر، أقل إشارة تدعو إلى الظن بأن ابن خليفة في دمشق عُني بالعلم اليوناني، وعبثًا يبحث الإنسان عن رجل اهتم بترقية العلم بين المغنين والشعراء والنساء والرجال، فإن المهندسين الذين كانوا يبنون قصور الخلفاء والجوامع هم من الغرباء، وكذلك كان الأطباء والفلكيون من الغرباء، ولكننا لا نستطيع أن نتبيَّن أو ننقض ما ذُكر من أن خالدًا له ولع بالكيمياء، وما من تأليف علمي نثري أو شعري نُسب إليه يمكن أن يعتبر أنه من تآليفه.١٣ وكذلك يذهب الأستاذ «حتي» فيشك في الأمر ويقول: وفي عزو هذا العمل إلى خالد — وإنْ كان لا يوثق به — ما يشير إلى الحقيقة الراهنة، وهي أن العرب استقوا معلوماتهم العلمية من المصادر الإغريقية القديمة.١٤ والحق أن ابن النديم هو أقدم مصدر ذكر قصة خالد بن يزيد، ثم تناقلها المؤلفون من بعده، ولم يذكر ابن النديم المصدر الذي نقل عنه، ولا يكفي أن يذكر أنه رأى بعض الكتب منسوبة إليه، فإن التزوير في التأليف كان معروفًا من عهد مبكر، وبخاصة في كتب الصنعة وما إليها مما يراد الترويج له. وما يُنسب إلى خالد، في رأينا، هو مثل ما نُسب إلى جابر بن حيان وجعفر الصادق ممن عرفت عنهم بعض النزعات فألف الكتب باسمهم.

(٧) تدوين الكتب

رأينا أن أول من دوَّن كتب التاريخ والقصص والأخبار، هو عبيد بن شرية لمعاوية لما استدعاه، وقيل: بل إن التأليف كان قبل ذلك؛ فقد روى الإمام البخاري أن عبد الله بن عمر كان يدوِّن بعض أحاديث النبي حينما كان يسمعها من الرسول فهو أول تدوين في الإسلام. وروى صاحب توجيه النظر في علوم الأثر أن زيد بن ثابت دوَّن كتابًا في المواريث والفرائض. كما روى الإمام مسلم أن بعض العلماء قد ألف رسالة قضاء علي في زمانه. وذكر ابن النديم في الفهرست أنه رأى في مدنية الحديثة خزانة كتب فيها خطوط الإمامين الحسن والحسين، وأمانات وعهودًا بخط أمير المؤمنين علي، وبخط غيره من كُتَّاب الوحي، وأن في خزانة المأمون كتابًا بخط عبد المطلب بن هاشم في أدم …١٥ ولكن ذلك كله لا يمكن التأكد من معرفة أسلوبه وطريقة تأليفه؛ لأنه قد فُقد.
١  يراجع المصادر الآتية: ch. Seignobos, Hist. de la Civilisation. Monsen, Histoire Romaine Seignobos, Histoire Romaine Seignobos, Hist. politique de L’europe Contemporaine (انظر تاريخ الرومان لمومسن وسنيوبوس).
٢  الفهرست لابن النديم، ص٢٤، وأبو الفداء ١: ١٧٦.
٣  ابن النديم، الفهرست، ص٨٩، وابن خلكان ٢: ٣٦٥.
٤  المعارف لابن قتيبة، ص٢١٩.
٥  المسعودي، المروج ٢: ٥٢.
٦  تاريخ أمراء اللغة ١: ٢٢٧.
٧  بروكلمان GAL ١: ٦٥، والذيل ١: ١٠١.
٨  بروكلمان GAL ١: ٦٥، والذيل ١: ١٠١.
٩  جرجي زيدان، تاريخ الآداب ١: ٢٢٩، وبروكلمان، الذيل GAL ١: ١٠٦.
١٠  انظر خطط الشام ٤: ٢١، وحتي، التاريخ المطول، ص٣٢٥.
١١  الفهرست، ص٣١١.
١٢  خطط الشام ٤: ٢٠.
١٣  خطط الشام ٤: ٢٠.
١٤  تاريخ العرب المُطوَّل، ص٣٢٥.
١٥  الفهرست.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤