الفصل الأول

عبد الملك بن مروان

٦٥–٨٦ﻫ/٦٨٥–٧٠٥م

(١) أوَّليته

هو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ولد سنة ٢٦ في خلافة عثمان.١ وشهد يوم الدار مع أبيه وهو ابن عشر سنوات، وتلقى العلم عن أشياخ المدينة وفضلاء الصحابة، كأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعثمان، وغيرهم من أكابر أصحاب رسول الله، وكان فقيهًا عالمًا أديبًا شاعرًا٢ عاقلًا حازمًا أديبًا. قال أبو الزياد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان.
وقال الشعبي: ما ذاكرت أحدًا إلَّا وجدت لي الفضل عليه، إلَّا عبد الملك فإني ما ذاكرته حديثًا إلَّا زادني فيه، ولا شعرًا إلَّا زادني فيه. وقال جعفر بن عقبة الطائي: قيل لعبد الملك: أسرع إليك الشيب، فقال: شيبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن.٣ وكان عبد الملك على جانب عظيم من الدهاء والسياسة، وهو بحق المؤسس الثاني لدولة بني أمية.

(٢) خلافته

كان عبد الملك يوم وفاة أبيه سنة ٦٥ بعيدًا عن دمشق، فأسرع إليها خوفًا من وثوب عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المعروف بالأشدق؛ فقد كان أميرًا نبيلًا بليغًا خطيبًا، أعان مروان على استلام الخلافة، فجعل له البيعة من بعده، ولما ولي عبد الملك أراد خلعه من ولاية العهد، فنفر عمرو، ثم خرج عبد الملك إلى الرحبة لقتال زفر بن الحارث الكلابي، فاستولى عمرو على دمشق، وبايعه أهلها لحبهم إياه، فلما عاد عبد الملك لم يمكنه الأشدق وتحصن بدمشق، فتلطف له عبد الملك ثم قتله سنة ٧٠.٤
وبويع عبد الملك في سنة ٦٥، وله في أرجاء المملكة أعداء كثيرون يتربصون به الدوائر، فلم يكد يتم له الأمر حتى اجتمع نفر من الشيعة العلوية، الذين ثاروا انتقامًا لمقتل الحسين، نادمين على ما فرطوا في حقِّه من عدم نصرته، فأعلنوا توبتهم وسموا بالتوَّابين، وأمَّرُوا عليهم سليمان بن صرد، فبعث إليهم عبد الملك أمير العراق عبيد الله بن زياد، فالتقى بهم في عين الوردة، وجرت بين الطرفين معارك، أبلى التوَّابون فيها أحسن بلاء، وتشتتوا بعد مقتل رئيسهم.٥ ولم يكد عبد الملك يقضي على حركة التوَّابين، حتى ثار المختار بن أبي عبيد الثقفي عامل الكوفة من قِبل الزبير فطرده، وكان ذا مطامع واسعة، فاستغل حركة التوابين واستتر وراء محمد ابن الحنفية، وزعم أنه أمينه ووزيره، وأنه إنما يثور انتقامًا للعلويين وحقوقهم المهضومة، فانضوت الشيعة تحت لوائه من توابين وكيسانية وسبئية. أما التوابون فهم الذين تابوا عن معصيتهم التي اقترفوها بخذل الحسين فسببت قتله، وقد تحالفوا وتعاهدوا على بذل أرواحهم انتقامًا له ومقاتلة قاتليه وأتباعهم وتنصيب رجل من آل علي، ومن شعرائهم عبد الله بن الأحمر (انظر مروج الذهب ١: ١١٠) وأعشى همدان.

قصيدة أعشى همدان الشيعي التي كان الشيعة يكتبونها سرًّا:

ألمَّ خيال منكِ يا أم غالبِ
فحُيِّيت عنا من حبيب مجانبِ
وما زالت في شجو وما زالت مقصدًا
لهم غير أني من فراقك ناصبِ
فما أنسَ لا أنسَ انتقالك في الضحى
إلينا مع البيض الحسان الكواعبِ
تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا
لطيفة طي الكشح ريَّا الحقائبِ
مقبلة غرَّاء رود شبابها
كشمس الضحى تنكل بين السحائبِ
فلما تغشاها السحاب وحوله
بدا حاجب منها وضنَّت بحاجبِ
فتلك الهوى وهي الجوى لي والمنى
فأحبِب بها من خلةٍ لم تصاقب
ولا يبعد الله الشباب وذكره
وحب تصافي المعصرات السواكب
ويزداد ما أحببته من عتابنا
لعابًا وسقيا للخدين المُقارب
فإني وإنْ لم أنسهن لذاكرٌ
رذية مخباتٍ كريم المناسب
توسل بالتقوى إلى الله صادقًا
وتقوى الإله خير تكساب كاسب
وخلَّى عن الدنيا فلم يلتبس بها
وثاب إلى الله الرفيع المرائب
وما أنا فيما يبكر الناس فقده
ويسعى له الساعون فيها براغب
توجه من دون الثويَّة ثائرًا
إلى ابن زياد في الجموع الكتائب
بقوم همُ أهل التقية والنُّهَى
مصاليت أنجاد شراة مناجب
مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبة
ولم يستجيبوا للأمير المخاطب
فساروا وهم ما بين ملتمس التقى
وآخر مما جرَّ بالأمس ثائب
فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلًا
إليهم فحسوهم ببيضٍ قواضبِ
يمانية تذري الأكف وتارة
بخيل عتاق مقربات سلاهب
فجاءهم جمع من الشام بعده
جموع كموج البحر من كلِّ جانب
فما برحوا حتى أُبيدت سُرَاتهم
فلم ينجُ منهم ثَمَّ غير عصائب
وغُودِر أهل الصبر صَرْعى فأصبحوا
تعاورهم ريح الصَّبا والخبائب
فأضحى الخزاعي الرئيس مجدَّلًا
كأن لم يقاتل مرة ويحارب٦
ورأس بني شمخ وفارس قومه٧
شنوءة٨ والتيمي هادي الكتائب٩
وعمرو بن بشر والوليد وخالد
وزيد بن بكر والحليس بن غالب
وضارب من همدان كل مشيع
إذا شد لم ينكل كريم المكاسب
ومن كل قوم قد أصيب زعيمهم
وذو حسب في ذروة المجد ثاقب
أبَوْا غير ضرب يفلق الهام وقعه
وطعن بأطراف الأسنة صائب
وأن سعيدًا يوم يدمرُ عامرًا
لأشجع من ليث بدرب مواثب
فيا خير جيش بالعراق وأهله
سقيتم روايا كل أسحم ساكب
فلا يبعدن فرساننا وحماتنا
إذا البيض أبدت عن خذام الكواعب
فإن يُقتلوا فالقتل أكرم ميتة
وكل فتًى يومًا لإحدى الشواعب
وما قُتلوا حتى أثاروا عصابة
محلين ثورًا كالتيوس الضوارب
وأما الكيسانية فقد اختلف في الشخص الذي يُنسبون إليه، فقيل:١٠ إنه كيسان مولى علي بن أبي طالب، ولكنه قول غريب؛ لأنه مات في صفين قبل قيامهم بنحو ثلاثين سنة. وقال المسعودي في المروج ٢: ٧٩، وابن عبد ربه في العقد ١: ٢٦٩، والطبري أيضًا ٢: ٦٧١، والنويحي في فرق الشيعة، ص٢١، إنه كيسان أبو عمرو مولى بجيلة، صاحب شرطة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهو الصواب الذي يُؤيده ابن سعد (٥: ٧٧)، وأبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال، ص٢٩٦، والبلاذري في أنساب الأشراف (٥: ٢٢٩)، ويذكر ابن سعد: أن كيسان كان ضمن الرجال الذين شهدوا بأن ابن الحنفية سمح للمختار بن أبي عبيد، أن يبث الدعوة باسمه (أي باسم ابن الحنفية)، وإنْ كان هذا القول غير صحيح تاريخيًّا؛ فإن ابن الحنفية لم يمالئ المختار، بل بايع يزيد بن معاوية؛ لأنه لم يكن يثق بأهل الكوفة. وأول ما نسمع بذكر المختار الثقفي في الفتنة بين علي ومعاوية، ثم ينحرف إلى الخوارج عندما يَقْوى أمرهم، فحين صفعوا تركهم والتحق بابن الزبير، ثم تركه وساير محمد ابن الحنفية وادَّعى أنه من أنصاره، وانحدرا إلى الكوفة يدعو له، ويزعم أن محمد ابن الحنفية (المهدي) قد بعثه إلى الكوفيين لينقذهم، وهذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها بذكر «المهدي».
وأما السبئية: فنسبتهم إلى عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديًّا فأسلم وتشيَّع لعلي وآله، وغالى في ذلك غلوًّا كبيرًا، وأخباره كثيرة مشهورة. وقد كان المختار داهية، استطاع أن يجمعَ كافة فرق الشيعة تحت لوائه، كما تمكن من أن يخدع التوَّابين، ويجتذب فلولهم التي بقيت بعد معركة عين الوردة «رأس العين» سنة ٦٥ﻫ، وخدع الموالي، ونفخ فيهم روح التمرد على العرب، وهذه هي الفترة الأولى التي ظهرت روح التمرد من الموالي، فتمكن أن يجمع جيشًا كبيرًا، واستطاع به أن يقضي على عامل الكوفة من قِبَل ابن الزبير فطرده، ثم أرسل جيشًا بقيادة إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد، فالتقى جيشاهما على نهر الخازر فقُتل ابن زياد وتفرق جيشه، وبذلك انتقم للحسين من قاتليه، ثم حمل رأسه إلى المختار فبعث به إلى ابن الزبير، وكان لقتل ابن زياد عدو الشيعة وقاتل الحسين، أنهم تعلقوا بالمختار وأيدوه، حتى خاف ابن الزبير على مكانه في العراق، فبعث إليه أخاه مصعبًا بجيش كثيف، فقتل المختار وعددًا كبيرًا من الشيعة، واستولى مصعب على الكوفة سنة ٦٧، جرت هذه الحوادث وعبد الملك يرقب الأمور عن كثب، وقد راقه تقاتل الطرفين ليُنهك بعضهما الآخر، فلما قُتل المختار واستولى مصعب على زمام الأمر، خرج إليه عبد الملك بعد أن هادن إمبراطور البيزنطيين حين أغار على الثغور الإسلامية في سنة ٧٠، وتعهد عبد الملك بدفع الأموال والهدايا، وخمسين ألف دينار كل عام. ولما يكد جيش عبد الملك يخرج من دمشق ويصل إلى أراضي الفرات، حتى بلغه أن عمرو الأشدق قد ثار عليه في دمشق، فرجع إلى الشام، وأخذ يتلطف مع عمرو حتى تمكن منه وقتله بعد أن أمَّنه، وكان هذا أول عهدٍ غُدر به في الإسلام.١١
ولما استقر لعبد الملك أمر دمشق رجع إلى العراق، فحاصر زفر بن الحارث زعيم القيسية في قرقيسياء قرب رحبة مالك بن طوق على نهر الخابور، والذي كان يدعو لابن الزبير، ورأى أن الحزم في مصالحته فصالحه، وبذلك انضوت القيسية تحت لواء عبد الملك، وبانضوائها سيطر عبد الملك على جناحَي النسر العربي (قيس واليمن) ثم سار عبد الملك للقاء مصعب، فانخذل جيش مصعب أمام عبد الملك، ثم إنه أخذ يدعوهم ويُمنيهم، فتخلَّى كثيرٌ منهم عن ابن مصعب وانضموا إليه. وكتب عبد الملك إلى قوَّاد مصعب وأعيان الكوفة حتى أفسدهم عليه إبراهيم بن الأشتر، فإنه أعطى الكتاب الذي بعث به إليه عبد الملك إلى مصعب، فوجده يمنيه بولاية العراق، ثم إن إبراهيم بن الأشتر أخبر مصعبًا بخبر سائر القواد، وأنهم أخفوا كتب عبد الملك عن مصعب، وطلب منه أن يقتلهم لئلا يفسدوا في الجيش فلم يفعل، فطلب منه أن يحبسهم إلى أن يتبين الأمر فأبى ذلك عليه أيضًا.١٢ وكان مصعب مخطئًا في سياسته هذه، فقد تفرق عنه قواده لما نشب القتال بين الطرفين، وقُتل مصعب بعد أن أظهر من ضروب البطولة والجرأة ما يدهش له المرء، ودخل عبد الملك الكوفة سنة ٧١، ثم سيطر على البصرة، وصفا له العراق ولم يبقَ أمامه إلَّا الحجاز الذي سيطر عليه ابن الزبير. وما أن استقرت له أمور العراقيين حتى بعث جيشًا كبيرًا بقيادة الحجاج لقتال ابن الزبير في الحجاز، فذهب إليه وقتله على الشكل الذي رأينا في الفصل الخاص بابن الزبير.

ولما قُتل ابن الزبير وصفا أمر الحجاز لعبد الملك، ولَّى عليه الحجاج بن يوسف من ٧٣–٧٥ﻫ حين ولَّاه على العراق، فسار إليه في جيش لجب من أهل الشام، ولما بلغ القادسية أمر الجيش بالاستراحة، واستمر هو في الكوفة فدخلها، وألقى في مسجدها خطبته المشهورة التي أولها:

أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
وفي سنة ٧٤ ولى عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد خراسان، فاستعمل أمية ابنه عبد الله ووجهه للقتال في سجستان، فغزا رتبيل فصالحه رتبيل، وبذل له ألف ألف فلم يقبل، وقال: إنْ ملأ لي هذا الرواق ذهبًا وإلَّا فلا صلح لي، فخلى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها، ثم هجم عليه رتبيل فكاد أن يأخذه، وصالحه عبد الله، وبلغت هذه الأخبار عبد الملك فعزله وأباه، وضمها إلى العراق، فاستعمل الحجاج المهلب بن أبي صفرة على خراسان. وفي سنة ٧٩ قطع المهلب نهر بلخ ونزل على كش، وكان معه أبو الأدهم الزماني البطل الجبار، فغنم المسلمون مغانم كثيرة، ووصلوا إلى بخارى، وفي تلك السنة سنة ٧٩ استأذن الحجاج عبد الملك في تسيير الجنود إلى رتبيل، فأذن له، فجعل على البصرة عشرين ألف مقاتل، ومثلهم على الكوفة، وأعطى المقاتلين أُعطياتهم، وأنفق عليهم ألفَي ألف غير الأعطيات، وأنجدهم بالخيل القوية والسلاح الكامل، وكان في المقاتلين عدد من أبطال المسلمين، كأبي الأدهم الزماني، وأبي محجن الثقفي، وكان هذا الجيش يُسمَّى جيش الطواويس لجماله، ولما تم للحجاج تنظيم أمورهم، سيَّرهم بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقدم سجستان وسار معه أهل سجستان، فلما بلغت أخباره رتبيل استجار وطلب الصلح فلم يقبل، فدخل عبد الرحمن بلاده وفتك بجنده، ثم كتب إلى الحجاج يهنيه، فحمد له جهده وأمَّره على تلك الديار، وأمره بالاستمرار في الغزو فاعتذر، فكتب إليه الحجاج يُعنِّفه فغضب، ورجع إلى العراق خالعًا الحجاج وعبد الملك، وجرت بين الجانبين معركة في دير الجماجم سنة ٨٢ وسنة ٨٣، ثم تراجع عبد الرحمن إلى سجستان، وفي هذه السنة سنة ٧٩ بعث عبد الملك ابنه عبد الله بجيش كثيف إلى أرمينيا ففتح قالقيلا، وغنم مغانم كثيرة.١٣ وفي سنة ٧٤ ولَّى حسان بن النعمان الغساني على إفريقية، فسار إليها في جيش عظيم لم يدخل إفريقية جيش مثله، ولما وصل القيروان رتَّب أمورها، ومنها سار إلى قرطاجنة، فاجتمع عليه ملوك إفريقية من الروم والبربر، فقتل منهم عددًا لا يُحصى، ثم سأل عمن بقي من ملوك إفريقية، فدلوه على امرأة تُعرف بالكاهنة، تملك البربر بجبل أوراس فسار إليها، ولكنها تغلبت عليه وشتتت شمل جنده، ثم بعث إليه عبد الملك مددًا كبيرًا، فتمكَّن من قتل الكاهنة، ومنذ ذلك الحين فشا الإسلام في البربر، وفي هذه الأثناء جاء النعي بموت عبد الملك، وكان ذلك في منتصف شوال سنة ٨٦.

(٣) الحوادث الكبرى في عهده

فتنة الخوارج

ذكرنا في الباب الخاص بمعاوية بن أبي سفيان شيئًا من أمر الخوارج في عهده؛ فقد كانوا يكرهونه أشد الكراهية، فعهد معاوية إلى المغيرة بن شعبة — وكان داهية قويًّا — ففتك بهم، وقبض على جماعة منهم: حيان بن ظبيان، ومعاذ بن جوين الطائي وغيرهما، وأخطرهم إلى الجلاء عن الكوفة، فجمعوا إخوانهم، فبعث إليهم المغيرة جيشًا بقيادة معقل بن قيس الرياحي، والتقى الجمعان بالمذار بالقرب من البصرة فقُتلوا عن آخرهم.

وفي سنة ٤٥ ولَّى معاوية البصرة زياد ابن أبيه، فقدِمها في ربيع الأول منها، فخطب في أهلها خطبته المشهورة بالبتراء التي جمع فيها ضروب التهديد بالسياسة والحزم، وكان من جراء ذلك أن توطدت أركان دولة معاوية في العراق. ولما مات والي الكوفة المغيرة بن شعبة في سنة ٥١ أضاف معاوية الكوفة إلى زياد، فذهب إليها وخطب في أهلها خطبة قطعت ظهورهم، ثم أتبع القول بالسيف ففتك بهم، ووجه أكثر همه إلى الخوارج، فلم يرتفع لهم صوت إلى أن مات زياد ابن أبيه، فلما وليها ابنه عبيد الله بن زياد تحركوا من جديد ففتك بهم مثل أبيه، وكان ممن قتلهم صبرًا جماعة منهم: عروة بن أدية التميمي سنة ٥٨، وهو أول من قال: لا حكم إلَّا لله، وسيفه أول ما سُلَّ من سيوف أُباة التحكيم، وقد حضر النهروان ونجا منها، ولما زاد عبيد الله بن زياد في فتكه بالخوارج اجتمعوا وتذاكروا في أمرهم، فقال لهم نافع بن الأزرق الحنفي: «إن الله قد أنزل عليكم الكتاب، وفرض عليكم الجهاد، واحتج عليكم، وقد جرد أهل الظلم فيكم السيوف، فاخرجوا بنا إلى هذا الذي قد ثار بمكة — ابن الزبير — فإن كان على رأينا جاهدنا معه، وإنْ يكن على غير رأينا وافقناه عن البيت.» ثم سار بهم إلى مكة، فأظهر لهم ابن الزبير أنه يرى رأيهم فقاتلوا معه إلى أن مات يزيد بن معاوية، ووضعت الحرب بين ابن الزبير وجند يزيد أوزارها، وقوي أمر ابن الزبير. ظهر للخوارج أن ابن الزبير لا يعتقد اعتقادهم، وأنه يطلب الأمر لنفسه، وأنه إنما قام بالأمر انتقامًا لعثمان الذي يكرهونه، تركوا الحجاز ونزلوا البصرة وأخذوا ينشرون فكرتهم، فكثرت جموعهم، واستطاعوا أن يكسروا باب السجن ويُخرجوا من فيه من إخوانهم، وما زال أمر الأزارقة الخوارج من أزارقة وصفرية ونجدات يعظُم حتى امتدَّ نفوذهم إلى البحرين والأهواز، فاضطر مسلم بن عبيس بن كريز أمير البصرة أن يقاتلهم، فخرج الخوارج إلى دولاب من أرض الأهواز، فلحق بهم أمير البصرة وفتك بهم، وقتل نافع في سنة ٦٥ كما قتل دغفل بن حنظلة النسابة وغيره من وجوه الخوارج، فجمعوا جموعهم وقتلوا مسلم بن عبيس، وشتتوا جنده، وساروا نحو البصرة، فلما قربوا من البصرة خاف أهلها منهم، فأتوا الأحنف بن قيس وسألوه أن يتولى حربهم، فأشار عليهم بالمهلب بن أبي صفرة؛ لشجاعته وعقله وخبرته، فقبل المهلب ذلك على أن تكون له ولاية ما غلب عليه، وأن ينتخب من وجوه الناس وفرسانهم من أحب، وأن يُعطَى من بيت المال ما يتقوى به، فأجابوه إلى ذلك، فخرج للقاء الخوارج فهربوا منه حتى كرمان وأصفهان فلحق بهم وفرقهم، وظل يتعقبهم إلى أن ولَّى عبد الله بن الزبير أخاه مصعبًا على العراق. ولما حضر مصعب ولَّى المهلب بلاد الجزيرة، وولى عمر بن عبيد الله بن معمر حرب الخوارج فحاربهم حتى أجلاهم عن أصفهان، ولكن عمر بن عبيد الله لم يكن في مثل بطش المهلب، فاستطاع الخوارج أن يجمعوا فُلُولهم ويسيروا إلى العراق، فطلب العراقيون إلى مصعب أن يعيد المهلب إلى قتالهم فرجع المهلب لمحاربتهم، وكان على رأس الخوارج آمر شجاع قوي، هو قطري بن الفجاءة، فاقتتل الفريقان قتالًا دام قُرابة سنة، تضعضع فيه أمر الخوارج بعد أن ظهرت فيهم ضروب الشجاعة والفروسية من جهة، والفتك بالأطفال والشيوخ والنساء من جهة أخرى.١٤
ولما قُتل مصعب بن الزبير وسيطر عبد الملك على العراق، خرج الخوارج من جديد وقوي أمرهم، وكان سبب ذلك أن عبد الملك ولَّى خالد بن عبد الله بن أسيد بلاد العراق، فصرف هذا المهلب عن قتالهم، وولى أمرهم أخاه عبد العزيز بن عبد الله بن أسيد، فبعث إليه عبد الملك يعنفه في كتاب قال فيه: «قبَّح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيًّا من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، المقاسي للحرب، ابنها وابن أبنائها. أرسِل إلى المهلب يستقبلهم، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة ليمدك بجيش، فسر معهم ولا تعمل في عدوك برأي حتى يحضر المهلب والسلام.»١٥
وكتب عبد الملك إلى أخيه بشر بن مروان بالكوفة يأمره بإنفاذ خمسة آلاف عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان ذلك سنة ٧٢، فدارت معارك عديدة بين الجانبين أظهر كلٌّ منهما ضروبًا من الشجاعة والفتوة، صارت مضرب الأمثال، وكاد الخوارج أن يتغلبوا، فبعث عبد الملك بالحجاج أميرًا على العراق، فأخذ يسير الأمور بسياسته الشديدة، فطردهم من العراق إلى فارس، ثم تبعهم إلى جيرفت ففتك بهم وشردهم، ثم إن الشقاق دبَّ صفوفهم فتفرقوا شيعًا؛ شيعة تَزعَّمها قطري بن الفجاءة ورحل بها إلى طبرستان، وشيعة تزعَّمها عبد ربه الكبير. ولما وصل قطري وصحبه إلى طبرستان أخذوا يفتكون بمناوئيهم، فاضطر الحجاج أن يبعث إليهم بجيش فتك بقطري، وأضعف شوكة الأزارقة من ذلك الحين.١٦ وبموت قطري سقط أمر الخوارج سقوطًا مريعًا لما كان يتمتع به قطري من شجاعة وحزم ونبل وفضل.١٧

وممن فتك بهم الحجاج من الخوارج طائفة منهم تُسمَّى الصفرية المقيمة في الموصل وبلاد الجزيرة، وكان على رأسها رجل صالح عابد اسمه صالح بن مسرح التميمي، وشبيب بن يزيد الشيباني، خرجوا في الجزيرة ففتكوا بجيش محمد بن مروان عامل الجزيرة، فاستنجد بالحجاج فأنجده بجيش لقي الخوارج منه بلاءً عظيمًا، ولكنه لم يستطع أن يفرق جموعهم على قلتهم بالنسبة إلى عدد خصومهم. وقد اضطر الحجاج أن يسأل عبد الملك مده بجيش من أهل الشام للفتك بالصفرية، فبعث إليه عبد الملك ستة آلاف، حمل عليهم شبيب بن يزيد أكثر من ثلاثين حملة، فصمدوا إلى أن هلك شبيب غرقًا، فحمل أهل الشام عليهم وأفنوهم، وبموت شبيب طويت صفحة رائعة من صفحات الفروسية التي تحلَّى بها هؤلاء الخوارج، وبالقضاء على الصفرية والأزارقة وغيرهم من الخوارج صفا الجو في العراق لعبد الملك.

فتنة لبنان

لما وقعت الفتنة بين عبد الملك وعمرو بن سعيد الأشدق خرج الجراجمة، ويسمون بالمردة أيضًا — أما الجراجمة فنسبة إلى مدينة جرجومة، كانت على جبل اللكام بالثغر الشامي عند معدن الزاج، بين بيَّاس — بياس اليمام — و«لوقة» قرب أنطاكية، وأما المردة فجمع مارد، وإنما سموا بذلك لتمردهم على السلطان وعصيان أمره — من جبل لبنان بزعامة يوحنا في اثني عشر ألفًا، فأتوا البقاع ونزلوا قب إلياس، وغزو جبل لبنان الشرقي، وشنوا الغارات على الحجاج، وقطعوا السابلة، وأفسدوا في الأرض، فاضطر عبد الملك إلى تجديد الهدنة التي كان عقدها مع إمبراطور الروم على أن يدفع كل جمعة ألف دينار.١٨ ويقول ابن عساكر: إن طاغية الروم لما رأى ما صنع الله للمسلمين من منعة مدائن الساحل، كاتب أنباط جبل لبنان واللكام، فخرج الجراجمة وعسكروا بالجبل، ووجه ملك الروم، فلقط البطريق في جماعة من الروم في البحر، فسار بهم حتى رسا بهم بوجه الحجر — فوق البترون — وخرج بمن معه حتى علا بهم على جبل لبنان، وبث قواده في أقصى الجبل حتى بلغ أنطاكية وغيرها من الجبل الأسود، فأعظم ذلك المسلمون بالساحل حتى لم يكن أحد يخرج في ناحية من رجال ولا غيرها إلَّا بالسلاح، فغلبت الجراجمة على الجبال كلها من لبنان، وسنير، وجبل الثلج، وجبال الجولان، حتى بعث إليهم عبد الملك بالأموال؛ ليكفوا حتى يفرغ إليهم، وكان مشغولًا بقتال أهل العراق ومصعب وغيره، ثم كتب عبد الملك إلى سحيم بن المهاجر أمير طرابلس، يأمره بالخروج إليهم١٩ حتى استطاع أن يفتك بهم.
ويقول ابن الأثير في حوادث سنة ٦٩: إن سحيم بن المهاجر تلطف حتى وصل إلى يوحنا متنكرًا فأظهر له ممالأته، وذم عبد الملك وشتمه ووعده أن يدله على عوراته، وما هو خير له من الصلح، فوثق إليه، ثم إن سحيمًا عطف عليه وعلى أصحابه، وهم غازون غافلون بجيش من موالي عبد الملك وبني أمية، وخندق ثقات جنده وشجعانهم كان أعدَّهم بمكان خفي قريب. وفي سنة ٧٠ﻫ اجتمع الروم واستجاشوا على من بالشام، فصالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدي له كل جمعة ألف دينار.٢٠ وظل عبد الملك يداريهم ويدفع له الأموال إلى أن صفا له الأمر، فالتفت إليهم وفتك بهم.

الفتن بين قيس وكلب

كانت القبائل القيسية زبيرية الهوى، وكانت القبائل الكلبية مروانية الهوى، وجرت بين الطرفين معارك وفتن كثيرة، اشتهرت في التاريخ والأدب بما جرى فيها من حوادث وما قيل فيها من شعر وأمثال، وهذا موجز أخبار تلك الوقائع أو الأيام كما هي مشهورة:
  • (١)

    يوم مرج راهط: وقد تقدمت بعض أخباره، وهو لمروان بن الحكم على الضحاك بن قيس الفهري.

  • (٢)
    يوم بنات قين: لما تولَّى عبد الملك ووقعت الفتنة بين القبائل القيسية واليمانية، خرج زفر بن الحارث الكلابي بعد أن انقضى يوم مرج راهط إلى قرقيسياء، فتحصَّن بها وجعل يُغير على بلاد كلب، وكانت كلب تفعل ذلك بقيس، وكان عمير بن الحباب السلمي يُغير مع زفر ببني تغلب، فغزا زفر تدمر وعليها عامر بن الأسود الكلبي، وجرت بين الطرفين معركة عند بنات قين، وهو ماء، وقد فازت فيه قيس على اليمانية.٢١
  • (٣)

    يوم ماكسين: بين قيس وتغلب، وعلى رأس قيس عمر بن الحباب، وعلى رأس تغلب شعيث بن مليل، وماكسين من قرى الخابور، بينها وبين رأس العين يوم أو يومان، فقتل من تغلب خمسمائة، منهم شعيث، وإلى هذا اليوم يشير جرير بقوله:

    تركوا شعيث بني مليل مسندًا
    والآسيين وأقعصوا شعرورا
  • (٤)

    يوم الثرثار الأول: هو نهر ينزع من هرماس نصيبين شرقي سنجار ويفرغ في دجلة، استنجدت فيه بنو تغلب ببني النمر بن قاسط، وقال لهم شيخها مالك بن مسمع: ما أحسبكم إلَّا من نبيط تكريت، ولو كنتم من بني تغلب حقًّا لدافعتم عن أنفسكم وحرمكم. فقالوا له: إنا حيٌّ فينا ما قد علمت من النصرانية، ومضرُ مضرُ، وأي السلطانين غلب فهو مع قيس. فقال مالك: اذهبوا فإن أمدَّهم السلطان بفارس فلكم فارسان، وإن السلطان اليوم لفي شغل عنكم وعنهم. فذهبت بنو تغلب وأمَّرت عليها زياد بن هوبر التغلبي، والتقى الجمعان، فقتلت بنو تغلب مقتلة كبيرة من قيس حتى قال الأخطل:

    لما رأونا والصليب طالعًا
    ومارسرجيس وسمًّا ناقعا
    والخيل لا تحمل إلَّا دارعًا
    والبيض في أيماننا قواطعا
    خلَّوا لنا الثرثار والمزارعا
    وحنطة طيسًا وكرمًا يانعا

    فأجابه جرير:

    ستعلم ما يُغني الصليب إذا عدت
    كتائب قيس كالمهنأة الجرب
  • (٥)
    يوم الثرثار الثاني: تجمَّعت قيس واستمدت، وعليها عمير بن الحباب، ومعهم زفر بن الحارث، وعبد الملك مشغول عنهم، فهاجموا بني تغلب وقتلوها قتلًا عظيمًا.٢٢
  • (٦)
    يوم الفدين: أغار فيه عمير بن الحباب على الفدين، وهي لتغلب على الخابور ففتك بهم.٢٣
  • (٧)

    يوم السكر، أو سُكر العباس: لقي فيه عمير بن الحباب على السكر — وهي قرية لتغلب على الخابور — بني تغلب وفتك بهم.

  • (٨)

    يوم المعارك: وهو موضع بين الحضر والعقيق من أرض الموصل، اجتمعت فيه بنو تغلب بعد يوم السكر، فالتقوا بقيس فهزمت تغلب.

  • (٩)

    يوم لِبى: وهو دير فوق تكريت من أرض الموصل، تناصفوا فيه، فتغلب تقول: هو لنا، وقيس تقول كذلك.

  • (١٠)

    يوم بلد: تناصفوا فيه، فتغلب تقول: هو لنا، وقيس تقول كذلك.

  • (١١)

    يوم الشرعبية: وهي ببلاد تغلب، كان لتغلب على قيس، وفيه يقول الأخطل:

    ولقد بكى الجحاف لما أوقعت
    بالشرعبية إذ رأى الأهوالا
  • (١٢)

    يوم البليخ: وهو نهر بين الرقتين، التقوا وعلى قيس عمير، وعلى تغلب ابن هوبر، فهُزِمت تغلب وبقرت بطون نسائها كيوم الثرثار (الأنساب ٥: ٣٢٢).

  • (١٣)

    يوم الحشَّان: وهو تل قريب من الشرعبية، جمعت فيه تغلب حاضرتها وباديتها وصارت إلى الحشان، ولقيهم عمير بن الحباب وزفر بن الحارث، والهذيل ابنه، فاقتتلوا قتالًا طويلًا حتى قُتل عمير، وبعثت بنو تغلب برأس عمير إلى عبد الملك، وهو بالغوطة مع وفد، فأعطى الوفد وكساهم، فلما صالح عبد الملك زفر بن الحارث بعد ذلك واجتمع الناس عليه. قال الأخطل قصيدته التي يُعاتب فيها عبد الملك، وفيها يقول:

    بني أمية قد ناضلت دونكم
    أبناء قوم همُ آووا وهم نصروا
  • (١٤)
    يوم الكحيل: من أرض الموصل في عبر دجلة الغربي؛ وذلك أن تغلب لما قتلت عميرًا جاء تميم بن الحباب إلى زفر واستنصره للانتقام لأخيه، فامتنع ثم قتل، وأغار على تغلب عند الكحيل فقتل وأسر وبقر بطون النساء.٢٤
  • (١٥)

    يوم البشر أو الرحوب: وهو جبل في عبر الفرات الغربي؛ وسببه أن الأخطل قدم على عبد الملك وعبده الجحاف بن حكيم السلمي، فقال له: أتعرف هذا يا أخطل؟ فقال: نعم، الذي أقول فيه:

    ألا سائل الجحاف هل هو ثائر
    بقتلى أصيبت من سليم وعامر
    وأتى على القصيدة، فتغالظا في الكلام، ثم خرج الجحاف حتى أتى الرحوب عند جبل البشر، وهو ماء لبني جشم بن بكر، قوم الأخطل، ففتك بهم، فأُخذ الأخطل وعليه عباءة وسخة، فظن آخذه أنه عبد، وسُئل، فقال: أنا عبد، فأطلقه، وقُتل أبوه يومئذٍ، ثم إن الجحاف استخفى خوفًا من عبد الملك، فدخل بلاد الروم، فأقام بطرابندة، ثم استأمن عبد الملك فأمَّنه، ثم قدم العراق وقصد الحجاج فأكرمه ثم حجَّ وتاب.٢٥

(٤) الفتوح

فتح المسلمون في عهد عبد الملك فتوحًا في المشرق وأخرى في المغرب، فأما فتوح المشرق: ففي سنة ٧٤ ولَّى عبد الملك بلاد خراسان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فلما أتاها ولى ابنه عبد الله بن أمية على سجستان، فلما قدمها غزا رتبيل، الذي مَلَك بعد رتبيل الأول المقتول، وكان هيَّابًا للمسلمين، فلما وصل عبد الله إلى بست أرسل رتبيل إليه يطلب الصلح وألف ألف وهدايا ورقيقًا، فأبى عبد الله وكان غرًّا، فخلى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها، ثم طوق عليه فأخذه، فطلب عبد الله أن يخلي عنه وعن المسلمين، ولا يأخذ شيئًا، فأبى رتبيل وقال: نأخذ ثلاثمائة ألف درهم، ويكتب لنا كتابًا ولا يغزو بلادنا، ولا تُحرق ولا تُخرب، فقبل عبد الله، وبلغ ذلك عبد الملك فعزله، وولاها الحجاج إضافة إلى العراق، فبعث الحجاج المهلب بن أبي صفرة، وعبيد الله بن أبي بكرة، فسار عبيد الله وغزا بلاد رتبيل، وأمره الحجاج ألَّا يرجع حتى يستبيح بلاده، ويهدم قلاعه، ويقيد رجاله، فأصاب من الغنائم ما شاء الله وهدم الحصون، وكذلك سار المهلب إلى ما وراء النهر وفتح حصونها، وأقام حتى بلغ «كش» وأقام فيها.

وفي سنة ٨٠ استأذن الحجاج عبد الملك في تسيير جند عظيم إلى بلاد رتبيل، فأذن له فجهز أربعين ألفًا من أهل البصرة والكوفة، وأعطى الناس أعطياتهم، وأنفق عليهم ألفي ألف — كما قلنا — وزوَّدهم بالخيل والسلاح والعدد والذخيرة، وبعث فيهم الأبطال والفتيان، وأمَّر عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وسُمِّي هذا الجيش جيش الطواويس؛ لقوته وكماله، فبلغ بلاد رتبيل وفتك بهم، وغالى في اللحاق بهم، وكتب بذلك إلى الحجاج فهنأه وأمره باستمرار الغزو، فكان من أمره ما كان من خلع الحجاج وحصول معركتَي دير الجماجم ومسكن بين جند الحجاج وجند عبد الرحمن، وهروب عبد الرحمن ثانية إلى بلاد رتبيل.

أما المُهلب بن أبي صفرة فإنه بلغ بلاد «كش»، ثم أدركته منيته وهو قافل بمرو، فاستخلف ابنه يزيد، وأوصاه أن يستمر في فتوحه، فسار يزيد في فتوحه حتى بلغ قلعة نيزك بباذغيس، فحاصرها وملكها وما فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع وأمنعها، وكان نيزك إذا رآها سجد لها.٢٦

وفي سنة ٨٥ عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها أخا المفضل، ففتح باذغيس وأصاب مغنمًا كثيرًا، ثم غزا «أخرون» و«شومان» فغنم وفتح.

وأما فتوح الغرب: قال ابن الأثير ٤: ٤٣: لما ولي عبد الملك بن مروان ذُكر عنده مَن بالقيروان من المسلمين، وأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش إلى إفريقية لاستنقاذهم، فكتب إلى زهير بن قيس البلوي بولاية إفريقية، وجهز له جيشًا كثيرًا، فسار سنة ٦٩ إلى إفريقية فبلغ خبره إلى كسيلة بن كرم البربري — الذي أسلم ثم خرج على المسلمين — فاحتفل وجمع وحشد البربر والروم، وأحضر أشراف أصحابه، فالتقى العسكران واشتدَّ القتال حتى آيس الناس من الحياة، فلم يزالوا كذلك أكثر النهار، ثم نصر الله المسلمين وانهزم كسيلة، ثم قُتل هو وجماعة من أصحابه بمحش، وتبع المسلمون البربر والروم فقتلوا من أدركوا منهم فأكثروا، وفي هذه الوقعة ذهب رجال البربر والروم وملوكهم وأشرافهم، وعاد زهير إلى القيروان، ثم إن زهيرًا رأى بإفريقية ملكًا عظيمًا فأبى أن يُقيم، وقال إنما قدمت للجهاد، فأخاف أن أميل إلى الدنيا، واستمرَّ في غزوه إلى أن مات، فولَّاها عبد الملك، حسان بن الضحاك، فقدمها وتمم فتوح زهير حتى سيطر على إفريقية الشمالية كلها، ولم يترك موضعًا من بلادهم إلَّا وطئه.٢٧ ثم جرت له وقائع مع الكاهنة التي سبق أن تحدثنا عنها فيما سلف.

(٥) الأعمال الكبرى في عهده

  • (١)
    ضرب الدراهم والدنانير: قال ابن الأثير في سنة ٧٦: وفي هذه السنة ضرب عبد الملك الدنانير والدراهم، وهو أول من أحدث ضربها في الإسلام، فانتفع الناس بذلك، وكان سبب ضربها أنه كتب في صدور الكتب إلى الروم قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وذكر النبي مع التاريخ، فكتب إليه ملك الروم إنكم قد أحدثتم كذا وكذا، فاتركوه وإلَّا أتاكم في دنانيرنا ما تكرهون، فعظم ذلك عليه، فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية، فاستشاره فقال: حرِّم دنانيرهم واضرب للناس السكة فيها ذكر الله تعالى، فضرب الدنانير والدراهم. ثم إن الحجاج ضرب الدراهم، ونقش فيها قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فَكَرِه الناس ذلك لمكان القرآن.٢٨ ونهى أن يضرب أحد غيره، فضرب سمير اليهودي فأخذه ليقتله، فقال له: عيار دراهمي أجود، فلِمَ تقتلني؟ فلم يتركه، فوضع للناس صنج الأوزان ليتركه، فلم يفعل، وكان الناس لا يعرفون الوزن إنما يزنون بعضها ببعض، فلما وضع سمير الصنج كف بعضهم عن بعض. وأول من شدَّد في أمر الوزن، وخالص الفضة، أبلغ من تخليص من قبله عمر بن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك. وكانت دراهم الأعاجم مختلفة كبارًا وصغارًا. ونقل البلاذري عن الحسن بن صالح قال: «كانت الدراهم من ضرب الأعاجم مختلفة كبارًا وصغارًا، فكانوا يضربونها مثقالًا (وهو وزن عشرين قيراطًا)، ويضربون منها وزن اثني عشر قيراطًا، ويضربون عشرة قراريط، وهي أنصاف المثاقيل. فلما جاء الإسلام واحتيج في أداء الزكاة إلى الأمر الواسط، فأخذوا عشرين قيراطًا واثني عشر قيراطًا وعشرة قراريط، فوحَّدوا ذلك ٤٢ قيراطًا، فضربوا على وزن الثلث من ذلك، وهو ١٤ قيراطًا، فوزن الدرهم قيراطًا وزن سبعة مثاقيل.»٢٩ وروي عن أبي الزناد: أن عبد الملك أول من ضرب الذهب عام الجماعة، ويقال إن مصعبًا ضرب الدراهم في العراق قبل عبد الملك، وكذلك ضرب الدنانير.٣٠ وقد اتخذ عبد الملك في دمشق، والحجاج في العراق دار ضرب، جمعا فيها الطباعين لطبع التبر والفضة والزيوف.٣١ وقال السيوطي: أول من ضرب الدنانير والدراهم في الإسلام عبد الملك، ونقش اسمه عليها سنة ٧٥، أخرجه ابن سعد، وهو أول من عمل الموازين. ونقل عن ابن سعد قال: فلما كانت مثاقيل التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطًا، الأصبة بالشامي، وكانت العشرة وزن سبعة. ونقل عن مرآة الزمان أنه نقش عليها في وجه «لا إله إلَّا الله محمد رسول الله»، وفي الآخر أرَّخ وقت ضربها، وقيل: جعل في وجه قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وفي الآخر «محمد رسول الله»، وزاد الحجاج: أرسله بالهدى ودين الحق.٣٢ قلت ويظهر أن هناك محاولات فردية كانت لمصعب بن الزبير، فقد رووا أنه ضرب دراهم ودنانير كما كان في العراق، كما رووا أن زياد ابن أبيه هو أول من فعل ذلك.
  • (٢)

    تمصير واسط: في سنة ٨٣ بنَى الحجاج مدينة واسط؛ وسبب ذلك أن بعض جنوده الشاميين سكر، وتعدَّى على بعض البيوت في الكوفة، فقتله صاحب البيت، وأهدر الحجاج دمه لما علم من زوجة صاحب البيت أنه أراد بها سوءًا، ثم أمر مناديه ينادي: ألَّا ينزلن أحد على أحد، وأخرج الجند الشاميين، فبعث لهم روَّادًا يرتادون فاختاروا موضع واسط، فاختط الحجاج مدينة هناك.

(٦) خاتمته ومناقبه

في منتصف شوال سنة ٨٦ مات عبد الملك وله ستون سنة، وقيل ثمان وخمسون، وكانت خلافته من لدن قتل الزبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلَّا أسبوعًا، ولما اشتدَّ مرضه قال الطبيب: إنه شرب الماء فاشتدَّ عطشه، وطلب الماء فمات لما شربه. وقد أوصى بنيه قبل موته بقوله: «أوصيكم بتقوى الله، فإنها أزين حلية وأحصن كهف. ليعطف الكبير على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه نابكم الذي عنه تفترون، ومجنُّكم الذي عنه ترمون، وكونوا بني أم بررة، لا تدب بينكم العقارب، وكونوا في الحرب أحرارًا فإن القتال لا يُقرب منية، وكونوا للمعروف منارًا، فإن المعروف يبقى أجره وذكره، وضعوا المعروف عند ذوي الإحسان فإنهم أصون له، وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب، فإن استقالوا فأقيلوا، وإنْ عادوا فانتقموا، ثم التفت إلى الوليد فقال له: لا ألفينك إذا مت تعصر عينيك وتحن حنين الأمة، ولكن شمِّر واتزر والبس جلد نمر، ودلني في حفرتي وخلني وشأني، وعلك وشأنك، ثم ادعُ الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه كذا (أي لا) فقل بالسيف (أي اضرب عنقه).

ولما مات دُفن خارج باب الجابية، وصلى عليه الوليد، وله من الأولاد: الوليد، وسليمان، ومروان الأكبر، وعائشة، وأمهم ولادة بنت العباس العبسية، ويزيد، ومروان، ومعاوية، وأم كلثوم، وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وهشام وأمه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام بن الوليد واسمها عائشة، وأبو بكر بكار وأمه عائشة بنت موسى بن طلحة، والحكم وأمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان، وفاطمة وأمها أم المغيرة بنت خالد بن العاص، وعبد الملك ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات أولاد.٣٣
وكان عبد الملك من عقلاء الناس وأدبائهم وساستهم ودهاتهم، هو الذي وطَّد ملك بني أمية بعد معاوية، بعلمه وحُسن إدارته وكياسته وحزمه. قال العتبي: كان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم. وله أوَّليات كثيرة في تنظيم شئون الدولة؛ فهو أول من ضرب الدراهم والدنانير. وروى الثعالبي في لطائف المعارف إنه أول من تلقَّب من الخلفاء، لقَّب نفسه بالموفق بالله.٣٤ وهو أول من نقل الدواوين من الرومية إلى العربية، أمر بذلك كاتبه سلمان بن سعد الخشني، وهو أول مسلم وليها.٣٥ وهو أول من طلب إلى أبي الأسود — وقيل إلى الحسن البصري — أن ينقط القرآن.٣٦ وهو أول من جمع الأموال من الخلفاء وغالى في كنزها. ولما مات كانت خزائنه عامرة بالأموال حتى استطاع الوليد بعده أن يبني القصور والمساجد الضخمة.
١  ابن سعد ٥: ١٧٥، الطبري ٨: ٥٧، ابن الأثير ٤: ١٩٨.
٢  ابن سعد ٥: ١٧٣.
٣  ابن الأثير ٤: ١٩٨.
٤  الإصابة ٣: ١٧٥، وتهذيب التهذيب ٨: ٣٧، وفوات الوفيات.
٥  ابن الأثير ٤: ٧٣–٧٩.
٦  هو سلمان بن صرد الخزاعي.
٧  هو المسيب بن نجية الفزاري.
٨  عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي من أزد شنوءة.
٩  عبد الله بن فال التيمي.
١٠  الطبري ١: ٣٩٣، والبغدادي في الفرق، ص٣٧، والشهرستاني في الملل ١: ١٩٦.
١١  مروج الذهب ٢، ص١١٦.
١٢  انظر الإمامة والسياسة لابن قتيبة ٢: ٢٠.
١٣  ابن الأثير ٤: ١٧٦.
١٤  ابن الأثير ٤: ١١٨–١٢٠.
١٥  ابن الأثير ٤: ١٣٢-١٣٣.
١٦  ابن الأثير ٤: ١٨٢.
١٧  ابن خلكان ١: ٤٣٠.
١٨  ابن الأثير ٤: ١١٨.
١٩  خطط الشام، نقلًا عن ابن عساكر ١: ١٤٩-١٥٠.
٢٠  ابن الأثير ٤: ١١٨-١١٩، وأنساب الأشراف، للبلاذري ٥: ٣٠٠.
٢١  انظر أنساب الأشراف ٥: ٣٠٨.
٢٢  أنساب الأشراف ٥: ٣٢٠، وابن الأثير ٤: ١٣١.
٢٣  أنساب الأشراف ٥: ٣٢١.
٢٤  ابن الأثير ٤: ١٢٣، والأنساب ٥: ٣٢٨.
٢٥  الأنساب ٥: ٣٣٠.
٢٦  ابن الأثير ٤: ٩٤.
٢٧  ابن الأثير ٤: ١٤٣.
٢٨  ابن الأثير ٤: ١٦١.
٢٩  البلدان، ص٤٧١، «البلاذري».
٣٠  البلاذري، البلدان، ص٤٧٣.
٣١  البلدان، ص٤٧٤.
٣٢  ابن الأثير ٤: ١٦١.
٣٣  الطبري ٨: ٥٧.
٣٤  الوسائل، للسيوطي، ص٧٧.
٣٥  الوسائل، للسيوطي، ص١٠١.
٣٦  الوسائل، للسيوطي، ص١١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤