الفصل الثالث

سليمان بن عبد الملك

٩٦–٩٩ﻫ/٧١٥–٧١٧م

(١) أوَّليته

هو أبو أيوب سليمان بن عبد الملك بن مروان، وأمُّهُ ولادة بنت العباس أم أخيه الوليد، وكان فصيحًا بليغًا خطيبًا معجبًا بنفسه شرهًا، يأكل كل يوم مائة رطل، ولما حج في سنة ٩٧ وتوجه إلى الطائف أكل من رمانها ١٧٠ رمانة وسلتين من الزبيب وجماجم وكُلًى كثيرة.

(٢) خلافته

بويع في اليوم الذي مات فيه أخوه وهو بالرملة، أتته البيعة هناك، فجاء القدس فدخلت عليه الوفود والأجناد والقواد والوجهاء فبايعوه، ولم يُرَ وفادة أحسن منها، جلس في قبة في صحن المسجد العمري، وقد بسطت له البسط والنمارق عليها والكراسي، فجلس وأذن للناس في الجلوس على الكراسي والموائد، وإلى جانبه الأموال والكسى وأواني الذهب والفضة والدواوين، فيدخل وفد الجند، ويتقدم صاحبهم، ويتكلم عنهم وعمن قدموا من عنده، فيقول: إن حال جندنا كذا، ومن حاجتهم كذا، ومما يصلحهم كذا، فيأمر سليمان بذلك كله، ثم يقبل على حاجته، فإن سأله زيادة في عطائه وبلاغًا في شرف أمر الكتاب، فما يطلب أحد شيئًا إلا نوَّله مرامه.١ ثم دخل دمشق في موكب حافل، فأول عمل عمله أنه أبعد أعوان الحجاج من السلطة؛ عملًا بنصيحة عمر بن عبد العزيز.

(٣) الحوادث الهامة في عهده

أول عمل قام به سليمان أنه أقصى جماعة الحجاج، فعزل عثمان بن حيان عن المدينة وولَّاها أبا بكر بن محمد بن حزم، ثم عزل يزيد بن أبي مسلم عن العراق وولاه يزيد بن المهلب، وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره بقتل بني عقيل وتعذيبهم، وهم أهل الحجاج بن يوسف، وأراد أن يعزل قتيبة بن مسلم؛ لأنه من جماعة الحجاج، ولأنه كان قد وافق الوليد على عزل سليمان من ولاية العهد، فأحسَّ قتيبة بذلك، وبعث إليه كتابًا يهدده بالثورة فأقلع، ولكن قتيبة لم يأمن أن يغدر به فخلعه، ودعا الجند إلى ذلك فأبوا أن يجيبوه، ووقعت فتن كثيرة بين جنده، انتهت بقتله وقتل أهله وإخوانه، فلما رأى بعض الخراسانيين ذلك قال للعرب: يا معشر العرب قتلتم قتيبة، والله لو كان منا فمات لجعلناه في تابوت، فكنا نستقي به ونستفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد بخراسان ما صنع قتيبة.٢ وقد كان قتل قتيبة مصيبة كبيرة سببتها العصبية الجاهلية القبلية. وما إن بلغت أخبار قتل قتيبة مسامع سليمان حتى جاءه سنة ٩٧ خبر مقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير أمير الأندلس، وقيل إنه هو الذي أمر بقتله لما غضب على أبيه موسى بن نصير، فلما قُتل وجيء برأسه ووُضع بين يدي أبيه تجلَّد وقال: قتلتموه، وكان والله صوَّامًا قوَّامًا.

ثم إن سليمان ولَّى الأندلس الحارث بن عبد الرحمن الثقفي، كما عزل عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية، وولاها محمد بن يزيد القرشي.

وفي سنة ٩٨ ولَّى يزيد بن المهلب بلاد المشرق، فذهب وفتح بلاد جرجان وطبرستان. وفي تلك السنة نفذ سليمان مشروع أخيه الوليد بغزو القسطنطينية لكنه فوجئ بالموت، فلما تولى أخوه عزم أن ينفذ ذلك المشروع فأنفذ حملة كبيرة، وكان على الروم الإمبراطور أناستاسياس الثاني، وعلى المسلمين مسلمة بن عبد الملك، فلما التقى الجمعان دافع الروم عن بلادهم دفاعًا قويًّا، وحدث أن انضم إلى المسلمين أحد قادة الروم واسمه «إليون» فأخذ المسلمون يتغلبون حتى بلغوا أسوار القسطنطينية، وجاءهم الأسطول الإسلامي من دار، كادت الدائرة تدور على الروم، فقالوا لإليون: إن جرفت هؤلاء ملكناك علينا، فاحتال على مسلمة حتى جعله يتلف، ثم انضم إليون إلى الروم، واستمر مسلمة في حصاره وهو في ضيق، فبلغت الأخبار سليمان فأتى مرج دابق بالقرب من حلب يستطلع الأخبار، وأدركته منيته هناك فبلغت هذه الأخبار جيش المسلمين فاضطر إلى التراجع.

(٤) خاتمته ومناقبه

لم يطل عهد سليمان في الخلافة أكثر من سنتين، ولما مرض واشتد عليه المرض أراد أن يعهد لبعض بنيه وهو طفل، فقال له رجاء بن حيوة: إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على الناس الرجل الصالح، فقال سليمان: أنا أستخير الله وأنظر، فمكث يومًا أو اثنين، ثم قال: إنه عهد إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب عهده لعمر، ثم من بعده ليزيد بن عبد الملك، وأخذ لهما البيعة من بني مروان والوجوه والقواد، ومات وكان ذلك بمرج دابق سنة ٩٩ للهجرة.٣

وكان سليمان نبيلًا فصيحًا، محا كثيرًا من المظالم، وأخرج كثيرًا من المظلومين المسجونين بأمر الحجاج وصحابته، وأعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة وكساهم. ولو لم يكن له إلا استخلاف عمر بن عبد العزيز لكفاه فخرًا. ولكنه كان نهمًا محبًّا للنساء، وهو أول من أفسد البلاط الأموي بمن أدخل فيه من الخصيان والحشم.

(٥) كبار الرجال في دولته

  • (١)

    يزيد بن أبي مسلم دينار الثقفي أبو العلاء (١٠٢)، من موالي ثقيف، واستكتبه الحجاج، ولما احتضر جعله خلفه على العراق فأقره الوليد سنة ٩٥، ولما مات استخلف سليمان فعزله واستدعاه فكلمه، وأعجبه عقله فاستبقاه عنده لعقله وحكمته، وبعثه في سنة ١٠١ وولاه إمارة إفريقية، فأتَمَر به أهلها فقتلوه (ابن خلكان).

  • (٢)

    صالح بن عبد الرحمن التميمي بالولاء أبو الوليد الكاتب (؟–٩٠) من عقلاء الرجال وأفاضلهم، وهو أول من حول كتابة دواوين الخراج من الفارسية إلى العربية، اتصل بالحجاج لما ولي العراق، فاستكتبه ثم قلده أمر الديوان، فنقله من الفارسية إلى العربية سنة ٧٨ﻫ، ووضع اصطلاحات للكتاب والحساب، فساروا عليها من بعده، حتى صار جميع كتاب العصر عيالًا عليه. قال عبد الحميد الكاتب: لله در صالح، ما أعظم منَّته على الكُتَّاب (الوزراء والكتاب، للجهشياري).

  • (٣)
    الطِّرِمَّاح بن الحكم الطائي (؟–٨٠) شاعر فحل، نشأ بالشام، وانتقل إلى الكوفة، واعتنق مذهب الشراة الأزارقة، واتصل بخالد بن عبد الله القسري، فكان يكرمه ويستحسن قوله، وكان هجَّاء، جرت له حوادث مع أكثر عصره، كان صديقًا حميمًا للكميت، لا يتفارقان. قال الجاحظ: كان قحطانيًّا عصبيًّا.٤
  • (٤)

    رؤبة بن العجاج التميمي (؟–١٤٥) راجز فصيح، لمع نجمه في أيام سليمان، أقام بالبصرة، وأخذ عنه أعيان اللغويين والشعراء، ومات في البادية. قال فيه الخليل بن أحمد: دَفَنَّا يوم موته اللغة والشعر والفصاحة.

  • (٥)

    قرَّة بن شريك العبسي (؟–٩٦) أمير نبيل، قرَّبه سليمان بن عبد الملك، وولَّاه الوليد إمرة مصر، وكان جبَّارًا صلبًا، تعاقد نحو مائة من الشراة على قتله، فعلم بهم فقتلهم جميعًا بالإسكندرية، وهو باني جامع مصر، وقد أتقنه وزخرفه.

  • (٦)

    بشر بن صفوان الكلبي، من شجعان العرب وذوي الرأي والحزم، كان من رجال بني أمية، قرَّبه سليمان، ولَّاه يزيد بن عبد الملك مصر في سنة ١٠١، ثم أضاف إليه إفريقية سنة ١٠٢ﻫ، فأقام في القيروان، وله أعمال عمرانية كثيرة، غزا صقلية وغيرها، ومات سنة ١٠٩ﻫ.

١  خطط الشام، لكرد علي ١: ١٥٤.
٢  ابن الأثير ٥: ٧.
٣  الطبري ٨: ١٢٧.
٤  الأغاني ١٠: ١٤٨، والبيان والتبيين ١: ٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤