الفصل الثامن

يزيد بن الوليد

١٢٦ﻫ/٧٤٤م

(١) أوَّليته

هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمُّهُ أمُّ ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بن يزدجرد، كان فتًى أسمر طويلًا صغير الرأس، متنسكًا يميل إلى مذهب القدرية المعتزلة.١ مقترًا نقص أرزاق الجند وبخاصة الحجازيين، فسمي بالناقص؛ لأنه نقص الزيادة التي كان الوليد زادها في أعطيات الناس وهي عشرة عشرة. وكان يزيد من عقلاء الخلفاء، له مشاركته في المباحث الكلامية، وقد التف القدرية المعتزلة حوله. وروى الذهبي عن الشافعي أن يزيد حين ولي الخلافة دعا الناس إلى القدر وحملهم عليه.٢ ويقول المسعودي: إن يزيد كان يذهب إلى قول المعتزلة في الأصول الخمسة.٣ وأنهم عاونوه على الخلافة، وأنهم كانوا يفضلونه على عمر بن عبد العزيز.٤

(٢) خلافته

بويع يزيد قبل قتل الوليد، فلما استخلف خطب الناس فقال — بعد أن ذكر سوء سيرة الوليد وفسقه — أيها الناس: إن لكم عليَّ ألَّا أضع حجرًا على حجر، ولا لبنة على لبنةٍ، ولا أكري نهرًا، ولا أكثر مالًا، ولا أنقل مالًا من بلد إلى بلد حتى أسد ثغرة وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل منه نقلته إلى البلد الآخر الذي يليه، ولا أغلق بابي دونكم، ولكم أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم كل شهر، حتى يكون أقصاكم كأدناكم، فإن وفيت لكم بما قلت فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن لم أَفِ فلكم أن تخلعوني إلى أن أتوب، وإن كنتم تعلمون أن أحدًا ممن يُعرفَ بالصلاح يعطيكم من نفسه ما قد بذلت لكم وأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه معكم، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.٥

ولما قتل الوليد ثارت أهل حمص، وأغلقت أبواب المدينة، وأقامت النوائح عليه، وحلفوا ألَّا يطيعوا يزيد، وأمَّروا عليهم معاوية بن يزيد بن الحصين بن نمير، فكتب إليه يزيد فلم يسمعوا، فسيَّر إليهم أخاه مسرورًا فَشَتَّتَ شملهم.

وفي تلك السنة ثار أهل فلسطين، وطردوا عامل يزيد، وولوا عليهم محمد بن عبد الملك، فبعث إليه يزيد سليمان بن هشام بن عبد الملك ففتك بهم، وأخذ بيعتهم للخليفة.٦
بعد قتل الوليد استعمل يزيد على العراق منصور بن جمهور، وكان من الغيلانية القدرية.٧ فدخل العراق وأرسل أميرًا من قبله على خراسان، فطرده نصر بن سيار ووقعت فتن كثيرة في خراسان بين النزارية واليمانية.٨ ولم تنتهِ هذه الفتن حتى مات يزيد.

(٣) الحوادث الكبرى في عهده

  • (١)
    كانت الفتن بين اليمن وقيس في خراسان وسائر المشرق واليمامة أجلَّ الحوادث أثرًا في عهد يزيد؛ فقد اقتتل فيها الفريقان، ولقي الإسلام والعروبة من ذلك شرًّا مستطيرًا، وجرت بين الطرفين أيامٌ تُذكرنا بأيامهم في الجاهلية وفي عهد المروانية، ذكرها ابن الأثير مفصلًا.٩
  • (٢)
    ومن الحوادث الكبرى فتنة مروان بن محمد، فقد ثار في سنة ١٢٦ مطالبًا بدم الوليد، وسار ومعه عدد كبير من رجاله، ونفر من أهل فلسطين، فبعث إليه يزيد، ثابت بن نعيم، والتقى جمعاهما، فتغلب مروان وأسر ثابتًا، وعظم أمره في حران والجزيرة، فكتب إليه يزيد أنه يُولِّيه الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان إذا بايعه، فقبل وبقي هناك إلى أن مات يزيد.١٠
  • (٣)

    ومن الحوادث الكبيرة في عهده اشتداد أمر العباسيين؛ ففي سنة ١٢٦ وجَّه إبراهيم الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصية، فقدم مرو وجمع النقباء والدعاة، فنعى إليهم محمد بن علي بن عبد الله، ودعاهم إلى ابنه إبراهيم، ودفع إليهم كتابه فقبلوه، ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة العباسية، فقدم بها بكير بن ماهان إلى إبراهيم.

  • (٤)

    وفي تلك السنة أخذ يزيد بن الوليد البيعة لأخيه إبراهيم بن الوليد، وجعله ولي عهده، ولعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بعد إبراهيم، وذلك حين مرض يزيد في ذي الحجة سنة ١٢٦. وكان الذي دفعه إلى ذلك هم القدرية؛ فقد قالوا له: إنه لا يحل لك أن تهمل أمر الأمة، فبايع لأخيك. فقبل.

(٤) كبار الرجال في عهده

  • (١)

    يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم الثقفي (؟–١٢٧) أمير من الولاة الكبار من أهل الشام، ولَّاه هشام بن عبد الملك اليمن ثم العراق سنة ١٢١، وهو الذي قتل خالد بن عبد الله القسري، أقام إلى أيام يزيد بن الوليد، فعزله سنة ١٢٦، وقضى عليه وحبسه في دمشق إلى أن قتله يزيد بن خالد القسري انتقامًا لأبيه، وكان شديدًا يقتفي سيرة الحجاج.

  • (٢)

    عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي (؟–١٣٠) أمير من القادة الشجعان النبلاء، كان من رجال مروان بن محمد في عهدَي إمارته وخلافته، سيَّره مروان من الشام لقتال أبي حمزة وطالب الحق، فالتقى بأبي حمزة في وادي القرى من أعمال المدينة فقتله، ثم قصد اليمن وطالب الحق فيها قد بويع بالخلافة فقاتله وقتله.

  • (٣)

    المهير بن سلمى بن هلال الدؤلي الحنفي (؟–١٢٦) زعيم أهل اليمامة، كان شجاعًا حازمًا، لما بلغه مقتل الوليد بن يزيد في الشام، دخل على أمير اليمامة علي بن المهاجر الكلابي، فقال له: اترك لنا بلادنا، فلم يفعل، فقاتله المهير وطرده وتأمَّر على اليمامة إلى أن مات.

  • (٤)

    المثنى بن عمران العائذي (؟–١٢٧) شجاع ثائر، كان مع الضحاك بن قيس لما خرج في العراق، وولَّاه الضحاك على الكوفة، فقصده ابن هبيرة فاقتتلا وقُتِل المثنى.

  • (٥)

    يزيد بن الطشرية العادي (؟–١٢٧) من شعراء العرب الفحول، حسن الشعر، حلو الحديث، شريف كريم، غزل شجاع، قُتِل في إحدى الوقائع بفلج في اليمامة.

  • (٦)

    نوح بن جرير بن الخطفي (؟–١٤٠) من شعراء الدولة، وكان شاعرًا فحلًا، له قصائد ومقطوعات كثيرة في الحوادث التي جرت في العصر بين قيس واليمن.

(٥) وفاته ومناقبه

مات يزيد بن الوليد في سلخ ذي الحجة، وقيل لعشرين بقين منه سنة ١٢٦، وكانت خلافته ستة أشهر، وكان موته بدمشق، وله من العمر ست وأربعون سنة.١١
وكان يزيد من القائلين بالقدر، وقد التفَّ القدرية حوله، وهم الذين شجعوه على تولية أخيه إبراهيم بعده؛ لأنه كان من جماعتهم كما مرَّ، وكان دينًا ورعًا، أراد أن يعيد إلى الخلافة المروانية أبهتها فلم يفلح، وهو أول من خرج بالسلاح في العيدين؛ ليرفع من قدر الخليفة في ذلك المحفل.١٢ ولكن عمره القصير حال دون ذلك.
١  روى الذهبي في دول الإسلام ١: ٦٥ عن الشافعي أن يزيد حين ولي الخلافة دعا الناس إلى القدر وحملهم عليه، وفي ذلك يقول الحكم بن الوليد بن يزيد يهجوه:
وساد الناقص القدري فينا
وألقى الحرب بين بني أبينا
(الطبري ٩: ٥٤).
٢  دول الإسلام ١: ٦٥.
٣  المروج ٦: ٢٠–٣١.
٤  المروج ٦: ٣٢.
٥  ابن الأثير ٥: ١٠٨، وابن الطقطقي، ص١١٦.
٦  ابن الأثير ٥: ١٠٨-١٠٩.
٧  فرقة من القدرية، زعيمها غيلان بن مسلم الدمشقي، ظهر أمره في أيام عمر بن عبد العزيز فاستتابه. وكان يقول: كل شيء بقدر الله. أخذ ذلك عن معبد بن عبد الله الجهني الذي قتله الحجاج. وهو تلميذ غيلان (انظر التبصر في الدين، ص١٣–٤٠، والفَرق بين الفِرق، ١٧–٧٠).
٨  ابن الأثير ٥: ١١٢.
٩  ابن الأثير ٥: ١١١.
١٠  ابن الأثير ٥: ١١٤، والطبري ٩: ٣٤.
١١  اختلف في عمره كثيرًا، فقال بعضهم: كان عمره ثلاثين، وقال آخرون: بل سبع وثلاثون (انظر الطبري ٩: ٤٦).
١٢  أوائل السيوطي، ص١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤