الفصل الأول

فتح الأندلس١

كانت بلاد الأندلس خاضعة للواندل ثم للقوط، وهم قبائل بربرية قوية زحفت على إفريقية من أوروبا الشمالية، وقوَّضت أركان الإمبراطورية الرومانية، وأسست دولة في شبه جزيرة إيبريا في نهاية القرن الخامس للمسيح، جعلت عاصمتها «طليطلة». ولم تستطع هذه القبائل إقامة ملك قوي لغلبة روح البداوة عليها، وعدم تمكنها من الامتزاج بالسكان الأصليين امتزاجًا صحيحًا؛ ولذلك انقسم الناس إلى حكام هم القوط، ومحكومين هم سكان البلاد، وكانت الهوة سحيقة بين القسمين، فأولئك هم أصحاب الإقطاعات والأملاك والخيرات، وهؤلاء هم شبه رقيق، ومن بين هؤلاء وأولئك توجد طبقتان؛ أولاهما طبقة رجال الدين المسيحي الذين يتمتعون بسلطان واسع؛ لأن القوط كانوا نصارى متعصبين، وثانيتهما طبقة اليهود الذين كانوا يتمتعون بالذكاء والعلم والمال، ولكنهم كانوا مضطهدين، تحاول الكنيسة تنصيرهم أو نفيهم أو مصادرة أموالهم، وتقع الفتن والحروب بينهم وبينها، ومن أعنف هذه الحروب والفتن ما جرى في سنة ٦١٦م.

هكذا كانت بلاد الأندلس حين استولى العرب على الشمال الإفريقي، وكان ملك القوط اسمه «وتيزا»، ويسميه العرب «غيطشة»، ينافسه على الملك الأمير «رُودريك» الذي يُسمِّيه العرب «الذريق»، فلما كانت سنة ٧١١م هلك «وتيزا»، واستقل «ردريك» بالبلاد، وكان موسى بن نصير يرقب الأمور عن كثب من الجانب الإفريقي، فبعث مولاه طريفًا على رأس خمسمائة مقاتل في سنة ٧١٠م، فاحتلوا شبه الجزيرة المعروفة اليوم باسم جزيرة «طاريقا»، وهي آخر نقطة جنوبية من القارة الأوروبية. وفي سنة «٩٢ﻫ/٧١١م» بعث مولاه طارق بن زياد الليثي في سبعة آلاف مقاتل، فاحتل سفح الجبل المعروف باسمه اليوم، واشتبك مع جيوش ردريك في تموز من تلك السنة على شاطئ بحيرة «جاندا»، وانتصر طارق، وتقحم المسلمون بلاد الأندلس حتى بلغ العاصمة طليطلة، فافتتحها وبعث أمراء جنده يفتتحون العواصم فسيطروا على غرناطة، وقرطبة، وأستجة، ومالقة، واستطاع في فترة ستة أشهر أن يستولي على نصف شبه الجزيرة، ويقضي على دولة القوط في موقعة شذونة ويُديل دولتهم التي دامت ثلاثة قرون، ثم تلقى طارق أوامر من مولاه موسى بوقف الفتح خوفًا على المسلمين؛ لأنه كان قد أمره ألَّا يتجاوز قرطبة، فرأى موسى أن ينجده بنفسه، فسار على رأس عشرة آلاف من العرب وثمانية آلاف من البربر يحملهم أسطول عظيم، ولما وصلوا «الجزيرة» استقبلهم الكونت أليان (يوليان) في رمضان سنة ٩٣ﻫ/حزيران ٧١٢م، ثم زحف موسى، فاستولى على شذونة و«قرمونة»، وهي من أمنع معاقلهم، و«إشبيلية» وهي من أعظم قواعدهم و«ماردة»، ثم التقى بطارق فأنبه أشد تأنيب على مخالفته أوامره وزجَّ به في السجن.٢ ثم أفرج عنه، ونظم معه خطة فتح سائر شبه الجزيرة، فافتتحا ولاية «أراجون» في الشمال الشرقي، ثم استوليا على «سرقسطة» و«طركونة» و«برشلونة»، وبعد هذا الفتح افترقا، فسار طارق نحو المشرق؛ ليفتح «جيليقية» التي تجمعت فيها فلول القوط، وسار موسى نحو الشمال، فاخترق جبال البرانس، واستولى على «قرقشونة» و«أربونة» و«لوطون».٣ وعزم على أن يخترق أوروبا، فيزحف على مملكة الفرنج «فرنسة»، ثم على مملكة اللنبرد «لومبارديا»، ثم يدخل رومية «روما»، ويقضي على كرسي النصرانية الأعظم، ثم يخترق سهول الطونة «الدانوب»، ثم أراضي الدولة البيزنطية، ويستولي على العاصمة «القسطنطينية»، ثم يخترق آسية الصغرى حتى يصل إلى دمشق.٤ وكانت أخبار فتوحه قد بلغت هذه الممالك، فاضطربت له أشد الاضطراب، وعزمت على الاستسلام، ولكن الخليفة الوليد بن عبد الملك في دمشق خاف على جيشه من مغبة هذه المغامرة، فكتب إلى موسى ينهاه عن الإقدام على توغله ويستدعيه إلى دمشق، فتراجع موسى عن عزمه وهو غاضب مُكره؛ لعلمه بضعف الغرب عن الوقوف أمامه، ولعل السبب الذي حدا بالخليفة إلى استدعائه هو ما بلغه عن موسى وطارق من الخلاف، وتخوفه من أن تتوسع شقة الخلاف بينهما في تلك المجاهل، فخضع موسى لأمر الخليفة بعد أن نظم إدارة البلاد، وجعل حاضرتها «إشبيلية» لاتصالها بالبحر. وقد كانت حاضرة أيام الرومان، واستخلف عليها ولده الأمير عبد العزيز، كما استخلف على المغرب ولده الثاني الأمير عبد الملك، وولده الثالث عبد الله على إفريقية، ثم سار نحو دمشق في ذي الحجة سنة ٩٥ﻫ/آب ٧١٥م، ومعه أبناء ملوك الأندلس وأمراؤها ونفائس تحفها، ولما دخل دمشق كان الخليفة يقاسي مرض الموت، وما لبث أن مات وخلفه أخوه سليمان بن عبد الملك، فاستدعى موسى وطارق، وسمع من طارق ما فعله موسى بطارق، فغضب عليه وزج به في السجن، وفرض عليه غرامة فادحة لم يستطع إعطاءها فصادر أمواله، ثم اضطره إلى الرجوع إلى الحجاز، فقضى أيامه الأخيرة فقيرًا إلى أن مات سنة ٩٧ﻫ.٥
figure

أما طارق فتزعم الروايات أن سليمان أراد أن يبعث به أميرًا على الأندلس ولكنه لم يفعل، بل أبقاه إلى جانبه في دمشق لما علم من طموحه، وتسكت الروايات العربية عن خاتمة حياته رحمه الله.

ولما توطدت أقدام المسلمين في الأندلس عمدوا إلى نشر الدين، وإحياء روح العلم، وتنمية الزراعة والتجارة، والإحسان إلى أهل الذمة؛ فازدهرت البلاد أيما ازدهار في فترة قصيرة. قال المؤرخ الإنكليزي لين بول: «أنشأ العرب حكومة قرطبة التي كانت أعجوبة القرون الوسطى، بينما كانت أوروبا تتخبط في ظلمات الجهل، فلم يكن سوى المسلمين من أقام بها منائر العلم والمدنية، وما كان المسلمون كالبربر من القوط أو الواندل، يتركون وراءهم الخراب أو الموت، بل إن بلاد الأندلس لم تشهد قط أعدل من حكمهم ولا أصلح من حُكَّامهم، ومن العسير أن نتعرف إلى الخبرة الحقيقية الفائقة التي وصل إليها العرب في الأمور الإدارية، فقد خرجوا من الصحراء القاحلة إلى الغزوات المقدسة، ولم يفسح لهم سيل الفتح مجالًا للدرس، ولا وقتًا لمراس الإدارة في الأمم المفتوحة …»٦
ويقول المؤرخ الأميركي سكوت: «… إن في أقل من أربعة عشر شهرًا استطاع العرب أن يقضوا على مملكة القوط تمامًا، وفي أربع وعشرين شهرًا، وطدوا سلطانهم ما بين البحر الأبيض المتوسط وجبال البرانس، ولا يذكر لنا التاريخ مثلًا آخر يشبه هذا المثل الذي اجتمعت فيه السرعة والكمال والرسوخ. وقد كان يظن في البداية أن الفتح العربي إنما هو غزو مؤقت، ولا يُتوقع أن يكون احتلالًا دائمًا وتوطيدًا لحضارة، ولكن لما استقرت الجماعات المحتلة، وفتحت الثغور للتجارة، وأقيمت المعاهد، أدرك القوط أي خطب نزل بهم، ثم إن عدل الحُكَّام الجدد خفَّف عليهم من ألم الهزيمة، وكان دفع الجزية يضمن لأقل الناس الحماية الكاملة، كما كان يسمح للنصراني المتعصب أن يستمر في أداء شعائر دينه، ويسمح للمارق الملحد أن يجاهر بآرائه دون أي خوف. أما أقوال بعض المؤلفين النصارى المتعصبين التي ينسبون فيها التعصب والظلم للعرب فهي مبالغة محضة، أو افتراء صريح …»٧

وقد قسَّم العرب بلاد الأندلس على ضوء تقسيمها الروماني والقوطي إلى خمس ولايات، يرأس كلًّا منها حاكم محلي، يسميه الحاكم العام الذي يُسميه حاكم إفريقية الشمالية بموافقة خليفة دمشق، وكانت «الولاية الأولى» تشتمل على إقليم الأندلس الممتد من البحر الأبيض المتوسط ونهر الوادي الكبير حتى وادي آنة، وأشهر مدنه قرطبة وإشبيلية ومالقة وأستجة وجيان.

وكانت «الولاية الثانية» تشتمل على إسبانية الوسطى من البحر إلى حدود البرتغال ونهر دورو، وأشهر مدنها طليطلة على نهر تاجة، وقونقة، وسقوبية، وبلنسية، ودانية، ولقنت، وقرطاجنة، ويورقة، ومرسية، وبسطة.

وكانت «الولاية الثالثة» تشتمل على إقليمَي جبليقية ولوزبتانية، وأشهر قواعدها ماردة، ويابرة، وباجة، وإشبونة، وقلمرية، ولكَّ، واسترقة، وشلمنقة.

وكانت «الولاية الرابعة» تشتمل على الأرض الممتدة من نهر دورو إلى جبال البرانس «البرت» على ضفتَي نهر إبرة، وأشهر قواعدها سرقسطة، وطرطوشة، وطركونة، وبرشلونة، وأرقلة، وبلد الوليد، ووشقة.

أما «الولاية الخامسة» فتشتمل على المقاطعات الواقعة شمالي جبال البرانس، وأشهر مدنها أربونة، ونيمة، وقرقشونة، ويزيية، وأجدة، ولوديف.

وقد نزلت القبائل العربية في هذه الولايات كل واحدة في البقعة التي أعجبتها، فنزل أهل دمشق بقرطبة، وأهل حمص بإشبيلية، وأهل حلب وقنسرين بحيَّان، وأهل فلسطين بشذونة والجزيرة ومالقة، وأهل اليمن بطليطلة، وأهل العراق بغرناطة، وأهل مصر بماردة وإشبونة، وأهل الحجاز بالمدن الداخلية، وأهل فارس بشريش.٨

وقد أسلفنا أن موسى بن نصير قد سمَّى ولده عبد العزيز لحكم الأندلس، وقد أقره الخليفة سليمان بن عبد الملك على هذه التسمية، فكان صالحًا في إدارته، إلى أن ثار عليه وزيره حبيب بن أبي عبدة العمري، وقتله وهو في صلاته سنة «٩٧ﻫ/٧١٦م»، وبعث برأسه إلى دمشق تقربًا من الخليفة الذي نظن أنه هو الذي دبر له هذه المؤامرة، وبعد اغتياله اتفق زعماء القبائل العربية على تولية أيوب بن حبيب اللخمي ابن أخت موسى بن نصير، وكان عاقلًا مصلحًا، نقل العاصمة من إفريقية إلى قرطبة، ولم يلبث طويلًا في ولايته حتى أقاله محمد بن يزيد الذي بعث به الخليفة إلى إفريقية بعد أن عزل عبد الله بن موسى بن نصير في سنة ٩٧ﻫ، فأرسل محمد بن يزيد حاكمًا جديدًا على الأندلس هو الحر بن عبد الرحمن الثقفي، فسار نحو الشمال الذي كان مهددًا، ووطد الحكم فيه، وسار حتى بلغ نهر الغارون في فرنسا، وسار بالبلاد أحسن سيرة إلى أن عزله الخليفة عمر بن عبد العزيز في سنة «١٠٠ﻫ/٧١٩م» لقسوته، وولاها السمح بن مالك الخولاني، وقرَّر أن تكون الأندلس ولاية مستقلة عن إفريقية لأهميتها وسعة رقعتها، وأوصى السمح بحسن السيرة والعدل فلم يخلف ظنه، وخمس أراضي الأندلس التي فُتحت عنوة؛ أي إنه مسحها، وقرر عليها الخراج بنسبة الخُمس كما يقضي بذلك الدين، وبنى كثيرًا من القناطر والجسور وأشهرها قنطرة قرطبة على نهر الوادي الكبير، وغزا بلاد الفرنج حتى بلغ طولوشة «طولوز»، فالتقى بجيش الدوق أودو ظاهر طولوشة، ونشبت بينهما معركة هائلة سقط السمح فيها قتيلًا سنة «١٠٢ﻫ/٧٢١م»، فاختار الجند أحدهم وهو عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي للقيادة العامة، فوطد الأمور حتى قدم عنبسة بن سحيم الكلبي، الذي سماه بشر بن صفوان الكلبي أمير إفريقية واليًا على الأندلس في سنة «١٠٣ﻫ/٧٢٢م»، فنظم إدارة البلاد وأحسن إدارتها إلى أن مات في سنة «١٠٧ﻫ/٧٢٥م». وتوالى على الأندلس عدة ولاة إلى أن تولاها عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي في سنة «١١٣ﻫ/٧٣١م»، فأحسن السياسة والإدارة والحكم، وجمع جيشًا عظيمًا سيره إلى فاليسيا (فرنسا) في سنة «١١٤ﻫ/٧٣٢م»، فاحتل بلاد أراغبون وناقار وآرل، حتى وصل إلى نهر الغارون، ووصل إلى مدينة بردال (بوردو) فاستولى عليها، ثم زحف نحو «ليون» و«بيزانصون» و«صالصن» التي تبعد مائة ميل عن باريس، وسيطر على نصف بلاد غاليسيا (فرنسا) في بضعة أشهر، إلى أن كانت المعركة الحاسمة بين الإسلام والنصرانية بأوروبا سنة «١١٤ﻫ/٧٣٢م» في السهل الواقع بين مدينتَي «تور» و«بواتيه»، ولم يستطع المسلمون الوقوف أمام جحافل أوروبا بقيادة قارله «كارل مارتل»، فسقط عبد الرحمن الغافقي شهيدًا في سنة «١١٥ﻫ/٧٣٣م»، وفقد العرب سيادة العالم القديم، ولم يتح لهم النفاذ إلى قلب أوروبا بعد يوم «بلاط الشهداء»، وهو اليوم الذي قُتل فيه الغافقي — رحمه الله — فلما بلغت أخبار ذلك اليوم المشئوم إلى دمشق تأثر الخليفة هشام بن عبد الملك، وعزم على أن يرسل إلى الأندلس خير قواده، ويعمل على توطيد أقدام الإسلام في هاتيك الديار، فأرسل عبد الملك بن قطن الفهري، وكان من خيرة القادة الحازمين؛ فوطد أقدام الدولة، وأخمد ثورات المناطق الشمالية، ثم خلعه عقبة بن الحجاج السلولي في سنة «١١٦ﻫ/٧٣٤م»، وكان حازمًا حسن السيرة فقطع دابر الثوار، ونَظَّمَ أمور الجيش، واسترد كثيرًا من الأراضي الخاضعة لكارل مارتل، وأعاد ظلَّ الإسلام عليها طول عهده إلى أن مات في سنة «١٢٢ﻫ/٧٣٩م»، فلما مات اضطربت البلاد، وثار البربر وخاشنوا العرب، ووقعت فتن بينهم وبين العرب في الأندلس وإفريقية، وعزم الخليفة هشام على القضاء على هذه الفتن مهما كلَّفه الأمر، وكانت موقعة كبيرة بينهم وبين حنظلة بن صفوان الكلبي، والي إفريقية في سنة «١٢٥ﻫ/٧٤٢م»، ولم تنتهِ هذه الاضطرابات إلا بانتهاء عهد الولاة، وتأسيس الملك الأموي في الأندلس.

١  يطلق العرب اسم «الأندلس» على جميع «شبه جزيرة إيبريا»، ولا يستعمل المؤرخون العرب كلمة «إسبانيا» للدلالة على شبه الجزيرة، بل ربما استعملوا كلمة «الإسبان» أثناء الحديث عن سكان شبه الجزيرة، وأما كلمة الأندلس فآتية من كلمة «واندل فاندلس» VANDALS، وهم من الشعب القوي الذي كان يحتل شبه الجزيرة قبل الفتح الإسلامي.
٢  انظر تفاصيل ذلك في ابن الحكم، ص٢١٠، وتاريخ ابن عذاري ٢: ١٧.
٣  وتسمى أيضًا لودون، وهي المعروفة الآن باسم «ليون».
٤  راجع تاريخ ابن خلدون ٤: ١١٧، ونفح الطيب ١: ١٢٠.
٥  فتوح مصر لابن عبد الحكم، ص٢١٩، وابن الأثير ٤: ٢١٦، ونفح الطيب ١: ١٢٤.
٦  راجع الفصل الأول من كتاب Lane-Poole, The moors in Spain.
٧  راجع ١: ٢٦٠–٢٦٤ من كتاب Scott, Moorish, Empire in Europe.
٨  تاريخ ابن خلدون ٤: ١٩٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤