الفصل الرابع

فترة الطوائف

انقضى عهد الخلافة الأموية في الأندلس، وقامت على أنقاضها طوائف متعددة، تُشكل دويلات صغيرة في شبه الجزيرة كلها؛ فقرطبة وما إليها تحت تصرف بني جهور، وإشبيلية ومقاطعاتها تحت سلطان بني عباد، وغرناطة وما حولها تحت إمرة بني زيري من البربر، وغرناطة وجوارها تحت إدارة وزير يهودي يُسمَّى إسماعيل بن نغرالة «صمويل بن نجزيله»، ومالقة والمقاطعات المجاورة لها تحت إدارة بني حمود، ثم انتقلت إلى بني زيري، وطليطلة تحت إدارة بني ذي النون البربر، وسرقسطة وما حولها خاضع لحكم بني هود.

وهكذا تفسَّخت بلاد الأندلس، تفرق أهلها مذاهب وأحزابًا، وكان النفوذ البربري هو الغالب، بينما أخذ ظل السلطان العربي ينزوي. ومما هو جدير بالذكر أن الإسلام إنما استطاع أن يثبُت في الأندلس بعض الوقت على الرغم من تناحر أهله، فما ذلك إلا لتناحر خصوم المسلمين من قادة النصرانية وملوكها، وأنهم حين استطاعوا توحيد كلمتهم استطاعوا ضرب الإسلام في الصميم، وقضوا على آخر معاقله في شبه الجزيرة.

وليس في تاريخ هذه الأسر المتغلبة ما يستحق الذكر، كما أنه ليس من بينها أسرة يجدر أن نُعنَى بها إلا أسرة بني عبَّاد أصحاب إشبيلية.

وبنو عبَّاد قوم من العرب الخلص، يُنسبون إلى المناذرة اللخميين، نبغ منهم في إشبيلية قاضٍ ذكي ألمعي داهية وهو القاضي أبو عباد محمد بن عباد، وكان له سلطان واسع في سنة ١٠٢٣م، فلما مات في سنة ١٠٤٢ خلفه ابنه عباد، وكان مثل أبيه دهاء وعبقرية، فاستطاع أن يستوليَ على كثير من الأمراء المتغلبين الذين يجاورونه من المسلمين، واستطاع أن يتجنب ضربات الملك فردلند (فرديناند) صاحب قشتالة وليون، ولقَّب نفسه بألقاب الخلفاء فتسمى بالمعتضد، وتوسَّع ملكه وعظم سلطانه حتى توفي سنة ١٠٦٩م، فخلف لابنه محمد المعتمد دولة ضخمة واسعة الأرجاء تشتمل على جميع القسم الجنوبي الغربي من الأندلس. وفي سنة ١٠٧١ استطاع أن يضم إقليم قرطبة إلى ملكه. ولما مات فردلند خلفه ابنه ألفونس السادس، وكان عنيفًا شديدًا لم يقبل من المعتمد الجزية التي كان يعطيها لأبيه، وأصرَّ على اقتحام بلاد المعتمد، فاستولى على طليطلة، وسار نحو الجنوب حتى بلغ جزيرة طريف، واستنجد المعتمد ببعض الأمراء المسلمين في الأندلس فلم ينجدوه، وتمكَّن منه ألفونس، وأخذت دول الطوائف تسقط الواحدة تلو الأخرى في أيدي النصارى إلى أن قُضي عليها جميعًا، فتراجع الإسلام إلى شمالي إفريقية، وظهرت فيه بعض الدول القوية، وكانت أعظمها دولة المرابطين، وزعيمهم يوسف بن تاشفين البربري، فرأى المعتمد أن يستنجد به، فبعث إليه بكتاب مطول يرجوه فيه أن ينتقم للإسلام من النصرانية، ويعينه على حرب ألفونس.١ فقدم يوسف بجيش لجب، والتقى الجمعان عند الزلَّافة Sacralias بالقرب من مدينة بطليوس في تشرين الأول سنة ١٠٨٦م، وفتك يوسف وجنده بألفونس وجنده شرَّ فتك، ولم ينجُ ألفونس من القتل إلا بأعجوبة، وسُرَّ المسلمون بهذا الظفر، ورجع المرابطون إلى شمال إفريقية، ولكنهم لم يلبثوا فيها فترة حتى طمعوا في خيرات الأندلس، واستطابوا أرضها وثمراتها، فزحفوا عليها فاتحين لا منقذين، واحتلوا غرناطة سنة ١٠٩٠م، ثم احتلوا إشبيلية سنة ١٠٩١، ثم استولوا على أكثر مدن الأندلس، ونفوا المعتمد بن عبَّاد إلى شمال إفريقية، واعتقلوه مكبلًا بالحديد في سجن أغمات حتى مات سنة ١٠٩٥م، وبموته استتبت الأمور في الأندلس لابن تاشفين، ولمع نجم دولة المرابطين.

(١) المرابطون

كانت قبيلة لمتونة — وهي إحدى قبائل صنهاجة البربرية — ممتدة مضاربها من بلاد السنغال حتى شمالي إفريقية، وقد نبغ فيها بعض الزعماء السياسيين، وأشهرهم يحيى بن إبراهيم الجدالي، فرأى أن يبني حركته السياسة على حركة دينية، فذهب إلى الحج سنة (١٠٤٨-١٠٤٩م)، واتصل في مراكش أثناء عودته بالفقيه عبد الله بن يس الجزولي الصوفي فاستقدمه معه، وأسكنه مع نفر من متصوفي قومه ومجاهديهم في جزيرة بالسنغال، وابتنى لهم رباطًا، فأخذ الإمام الجزولي يشرح لهم عقائد الدين، وبيَّن لهم فضائل الجهاد والرباط في سبيل الله، ثم تكاثر هؤلاء المريدون المرابطون، فاستعان بهم يحيى الجدالي على محاربة أمراء الأطراف، وعظم نفوذه ولم يمت في سنة ١٠٥٦م، حتى ترك لأخيه أبي بكر وابن عمه يوسف بن تاشفين أُسس دولة فتية قائمة على أسس متينة من الدين والاستبسال في نصرته؛ وأخذت هذه الدولة تستولي على الأطراف حتى كانت سنة ١٠٦٢م، فابتنى يوسف بن تاشفين مدينة مراكش، وجعلها عاصمة لدولته الجديدة، ثم استولى على فاس في سنة ١٠٧٠م، وعلى طنجة في سنة ١٠٧٨م، ثم امتدَّ سلطانه ما بين سنتَي ١٠٨٠–١٠٨٢م على جميع إفريقية الشمالية من المحيط الأطلسي حتى بلاد الجزائر.

ولما ضعف ملوك الطوائف، واستنجد أعظمهم المعتمد بن عبَّاد صاحب طليطلة بيوسف بن تاشفين لإنقاذه من براثن ملوك النصرانية استجاب يوسف للدعوة شرط أن يمنح الجزيرة الخضراء لتكون مركزًا لجنده، ثم زحفت جيوش يوسف، فاحتلت الجزيرة الخضراء، ثم سارت نحو إشبيلية فأقبل عليها المعتمد بن عباد مرحبًا خاضعًا، وكان الملك ألفونس يحاصر مدينة سرقسطة، فلما علم بمقدم جيوش المرابطين البربر زحف للقائه في جيش لجب، والتقى الجمعان عند الزلاقة، وانهزم ألفونس بعد أن أخلى إقليم بلنسية، وتراجع إلى إقليم مرسية ولورقة، ثم رجع ابن تاشفين إلى إفريقية، حين علم بوفاة ابنه أمير سبتة، فترك الأندلس وقفل راجعًا إلى بلاده، ولم تمضِ فترة حتى اجتمعت جيوش صاحب قشتالة، وروذريق القنبيطور.٢ وهاجمت ديار المسلمين من جديد، فاستنجد أمراؤهم بيوسف بن تاشفين، وزحف في ربيع عام ١٠٩٠م على الأندلس ثانية، وانضم إليه أمراء مالقة وغرناطة وألمرية وإشبيلية، وسار بهم فحاصر «حصن الليط»، وقضى على حاميته النصرانية، وقوي سلطانه في البلاد، فاجتمع إليه الفقهاء والوجوه، وطلبوا إليه أن يقضي على ملوك الطوائف ويُوحِّد البلاد تحت سلطانه، فأعجبته الفكرة، واستصدر من قاضيَي غرناطة ومالقة فتويَين تقولان بأن ملوك الطوائف قد ضعفوا عن حكم البلاد، وأهملوا شعائر الدين، وأن الدين يقضي بإقصائهم عن دست الحكم؛ فاستولى ابن تاشفين على الأندلس، وضمه إلى المغرب موجدًا أعظم إمبراطورية إسلامية في المغرب، وسار بالبلاد أحسن سيرة إلى أن هلك سنة ١١٠٦ فخلفه ابنه علي، وكان متحمسًا في دينه، متعصبًا تعصبًا بعيدًا عن المنطق وروح الدين الحقيقية، فسيطرت الجهالة على المسلمين، وعمَّت الفوضى والتخاذل، وخلف عليًّا بعد سنة ١١٤٣م أمراء ضعاف، وانتهز أمراء النصارى هذا الضعف، فأخذوا يغيرون على البلاد بعد أن انصرف المرابطون في الملذات، وتمَّ للملك ألفونس ملك أرغونة أن يفتح سرقسطة، ثم هاجم غرناطة وفتك بأهلها شر فتكة، وأخذ نجم المرابطين يأفل، وسلطانهم يخمل حتى قضى على آخرهم إسحاق في سنة ١١٤٧م.
figure

(٢) دولة الموحدين

ما إنْ زالت دولة المرابطين حتى ظهرت دولة المُوحدين، وهم جماعة من البربر ينتهون إلى قبيلة معمودة البربرية القوية، وكان مبدأ دعوتهم أن أحد الفقهاء المثقفين الذين تلقوا العلم في المدرسة النظامية ببغداد، واسمه محمد بن تومرت المهدي، رأى الجهالة التي حلَّت بقومه، وفساد الوضع الاجتماعي والديني، فآلى على نفسه أن يقوم بحركة تهدف إلى إحياء الدين، والقضاء على البدع والضلالات، وتعمل على بث التوحيد، وعاضده في حركته الإصلاحية الدينية زعيم سياسي اسمه عبد المؤمن بن علي من قبيلة زنانة البربرية، فاتفق الرجلان على القيام بهذه الحركة الدينية الدنيوية، وتعهد عبد المؤمن بأن يتولَّى الحركة الدنيوية، ويقود جماعات الموحدين لنشر دعوتهم، فامتدت الحركة حتى استولت على بلاد مراكش وفاس، وجبال الأطلس إلى أن مات ابن تومرت في سنة ١١٣٠م، فقام عبد المؤمن بأعباء الدعوة، وعظم سلطانه. وكانت دولة المرابطين في دور النزاع، فاستولى على أملاكها في شمالي إفريقية، ثم بعث قائده الأمير برَّاز إلى الأندلس، فقضى على بقايا المرابطين، ووسَّع رقعة الإمبراطورية الموحدية.

ولما مات مؤسس دولة الموحدين عبد المؤمن في سنة ١١٦٣م خلفه ولده أبو يعقوب يوسف (١١٦٣–١١٨٤م)، ثم حفيده يعقوب المنصور (١١٨٤–١١٩٩م)، فسارا على غرار عبد المؤمن، وتوسَّعت رقعة الدولة، فبلغت من المحيط الأطلسي إلى حدود مصر مع سائر بلاد الأندلس.

ولما مات المنصور سنة ١١٩٩م خلفه ابنه محمد الناصر (١١٩٩–١٢١٤م)، وتجمعت ملوك الفرنجة في عهده لقتاله والقضاء على الإمبراطورية الموحدية، فلقيهم بجيش عدده تسعة وخمسون ألف مقاتل، فمزقوا شمله وهرب الناصر إلى مراكش. وتعاقب على الملك بعده تسعة نفر من أسرته، لم يكن في سيرتهم ما يستحق الذكر إلى أن سقطت دولتهم بيد بني مرين البربرية في سنة ١٢٦٩م.

أما الأندلس بعد انهزام الناصر فقد تقاسمها أمراء الفرنجة وبعض متنفذة المسلمين، ومن أشهرهم بنو نصر أصحاب آخر دولة مسلمة في الأندلس.

(٣) دولة بني نصر

قام بعد القضاء على دولة الموحدين أمير مسلم عظيم في سنة ١٢٣١م، يحاول الوقوف أمام ملوك النصارى، وهو محمد بن يوسف بن أحمد بن نصر المعروف بابن الأحمر، مؤسس دولة بني نصر أو دولة بني الأحمر، وكان محمد رجلًا قويًّا حازمًا، أعلن إمارته على الأندلس، واستولى على بلاد جيان، ووادي آش، وبسطة، وغرناطة، ولما سقطت غرناطة بيد النصارى في حزيران سنة ١٢٣٥م، حاول محمد أن يستردها فلم يُفلح، واضطر أن يصالح الملك فرديناند الثالث صاحب قشتالة (١٢١٧–١٢٥٢م)، وظل على ذلك إلى أن مات، فخلفه ابنه محمد الثاني (٦٧١ﻫ/١٢٧٢–١٣٠٢م)، وحاول أن يتحلل من معاهدة الصلح مع فرديناند ومن الجزية التي كان يدفعها أبوه إليه، فاتصل ببني مرين أصحاب مملكة مراكش، وطلب إليهم أن يعاونوه على فرديناند، فأنجده السلطان أبو يوسف المريني، كما أنجد المرابطون والموحدون ملوك الأندلس ضد النصارى من قبل، وزحفت جيوش بني مرين على الأندلس، ولكنها لم تستطع أن تقضي على النفوذ النصراني، فعمد محمد الثاني إلى المخاتلة والمراوغة، وعقد معاهدات مع ملك قشتالة، واستطاع أن يأمن شره، ويعيش فترة من الزمن في هدوء وسكينة، استطاع أن يُعنى فيها بأمور البلاد وعمرانها، فشيد بعض القصور والأماكن العامة، وأجلُّها وأشهرها «قصر الحمراء» الخالد في غرناطة، التي غدت كالبقعة البيضاء في البساط الأسود، فقد استولى النصارى من أصحاب قشتالة وليون على كل بقاع الأندلس إلا عليها. في سنة «٥١٢ﻫ/١١١٨م» كانت قد سقطت مدينة سرقسطة. وفي سنة «٥٢٤ﻫ/١١٣٠م» سقطت مدينة تطيلة. وفي سنة «٥٤١ﻫ/١١٤٧م» سقطت مدينة إشبونة، وفي سنة «٥٤٢ﻫ/١١٤٨م» سقطت مدن طرطوشة ولادة وأفراعة. وفي سنة «٦٢٧ﻫ/١٢٢٩م» سقطت جزيرة ميورقة. وفي سنة «٦٢٨ﻫ/١٢٣٠م» سقطت ماردة وبطليوس. وفي سنة «٦٣١ﻫ/١٢٣٣م» سقطت مدينة أبدة. وفي سنة «٦٣٣ﻫ/١٢٣٦م» سقطت مدينة قرطبة. وفي سنة «٦٣٤ﻫ/١٢٣٧م» سقطت بياسة وأستجة والمدور. وفي سنة «٦٣٦ﻫ/١٢٣٨م» سقطت مدينة بلنسية. وفي سنة «٦٣٨ﻫ/١٢٤٠م» سقطت شاطبة ودانية. وفي سنة «٦٤٠ﻫ/١٢٤٢م» سقطت مدينة لقنت وأريولة وقرطاجنة. وفي سنة «٦٤١ﻫ/١٢٤٣م» سقطت مرسية. وفي سنة «٦٤٤ﻫ/١٢٤٦م» سقطت مدينة جيان. وفي سنة «٦٤٦ﻫ/١٢٤٨م» سقطت مدينة إشبيلية، ولم يأتِ منتصف القرن السابع للهجرة حتى أضحت مقاطعات الأندلس الشرقية والوسطى تحت يد النصارى، ولم يبقَ بيد بني الأحمر إلَّا بعض المدن الصغيرة.

ومن الأحداث الخطيرة التي جرت في هذه الحقبة زواج الملك فرديناند ملك الأرغون بالملكة إيزابيلا ملكة قشتالة في سنة ١٤٦٩م؛ فقد اتَّفقا على توحيد مملكتيهما، وعلى القضاء على دولة بني نصر٣ التي تعاقب ملوكها الواحد والعشرون على العرش في فترات طويلة، ولكنها مضطربة، ومملوءة بكثير من الدسائس والفتن حتى سقطت المدن الإسلامية الواقعة تحت نفوذ بني نصر مدينة مدينة، ولم يبقَ إلَّا مدينة غرناطة، فحاصرها الملك فرديناند حصارًا عنيفًا، وقطع عنها الطعام حتى استسلمت في «ربيع الأول سنة ٨٩٧ﻫ/كانون الأول سنة ١٤٩١م»، وعقد الملك أبو عبد الله الصغير — آخر ملوكها — مع فرديناند معاهدة الاستسلام، على أن يسمح له بمغادرتها سالمًا، ويسكن في منطقة البشرات Alpujarras المرتفعة الواقعة جنوبي سلسلة جبال «سيرانيفادا»، وأن يمهله حتى يأخذ أهله وأمواله ورجاله، وتمَّ له ما أراد، ولم تدخل جيوش فرديناند إلَّا في كانون الثاني سنة ١٤٩٢م.
وهكذا طويت راية العروبة والإسلام في هاتيك الربوع الجميلة، واضطر الخليفة أبو عبد الله الصغير إلى أن يهاجر إلى مدينة فاس، فسكن فيها إلى أن مات سنة ٩٤٠ (١٥٣٣-١٥٣٤).٤ ولم يُنفذ الملكان المسيحيان فرديناند الثاني وإيزابيل الكاثوليكية تعهدهما للمسلمين بالمحافظة على شعائرهم وحماية مقدساتهم، ورعاية كتبهم وآثارهم، بل أسَّسا محاكم للتفتيش عن المسلمين والفتك بهم وإكراههم على اعتناق الدين المسيحي، أو الجلاء عن البلاد إلى شمال إفريقية.
١  راجع التفاصيل في نفح الطيب ٢: ٦٧٤.
٢  هو Rodrigo el Campeador صاحب الأسطورة الجميلة التي بنى عليها الشاعر الفرنسي الكبير «كورني» مسرحيته العظيمة «السيد» Le Cid.
٣  راجع التفاصيل في تاريخ ابن خلدون ٤: ١٧٢.
٤  راجع التفاصيل في نفح الطيب، للمقري ٢: ٨١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤