مقدمة

يُعَد تاريخ العلم تاريخ أعمال الإنسان الحضارية، وهو في الوقت نفسه تاريخ العمل على ديمقراطية المعرفة الإيجابية،١ وقد تلمَّس الباحث توماس كوهن Th. Kuhn دور تاريخ العلم فقال: «إذا كان العلم هو مجموع الوقائع — النظريات والمناهج المجتمعة في المؤلفات الشائعة — فالعلماء هم الرجال الذين جهدوا بنجاح، أو بدون نجاح، لإضافة هذا العنصر أو ذاك إلى هذا المجموع الخاص. والتطور العلمي يصبح السياق المجزأ الذي أضيفت بواسطته هذه العناصر، منفصلةً أو ممتزجة، إلى الأساس المشترك الذي يشكل في نموٍّ مستمر التقنيةَ والمعرفة العلميتَين. وتاريخ العلم يصبح قواعد الضبط التي ترسم من جديد وبوقتٍ واحدٍ هذه الإسهاماتِ المتعاقبةَ والعوائق التي أخَّرت تراكمها.»٢ لذلك استطاع أن يحدد لمؤرِّخ العلم مهمَّتَين:٣ الأولى تحديد الشخص الذي توصَّل للنظرية أو القانون، واللحظة التي اكتشف فيها (أي تحديد الزمان والإنسان)، والثانية هي وصف وتفسير كتل الأخطاء والأساطير والخرافات التي كبحَت تراكم العناصر المكوِّنة للمذهب العلمي العصري (أي تحديد المعيقات التي منعته من الوصول لما وصلنا إليه).

وهذا ما دأبنا عليه في كتابتنا لتاريخ الفيزياء في الحضارة العربية والإسلامية؛ فنحن نبذل كل جهدنا لتحديد العلماء العرب والمسلمين الذين أسهموا في كل علم من العلوم الفيزيائية، ثم نحاول أن نبحث في المعيقات التي منعت استمرار تطوُّر الفيزياء في البلاد العربية والإسلامية.

ويأتي كتابنا هذا (التبريد في التراث العلمي العربي) مُكملًا للمشروع الذي بدأناه منذ عام ٢٠٠٥م، وهو أن نوثِّق ونحلِّل ونقارن كل الإسهامات العلمية العربية والإسلامية في مجال الفيزياء.

وكما هي الحال في نشأة العلوم، فإن علم البرودة لم ينشأ وتَرسُ قواعده بسرعة، بل استغرق الأمر آلاف السنين حتى وصل إلى الحال التي نعرفها عليه اليوم، بل ونتج عنه فروع معرفية أخرى تغوص في أعماق درجات الحرارة المنخفضة، وهو ما نجده في علم التقريس Cryogenics الذي يدرس «درجات الحرارة الشديدة الانخفاض، ويشمل تطوير أساليب التوصل إلى تلك الدرجات، والحفاظ عليها، واستخدامها في الأبحاث العلمية والصناعية»، ٤ والذي يرتكز عليه علم فيزياء الناقلية الفائق وتطبيقاته في مجالات الطاقة.

والأسئلة التي نطرحها في كل مرة: هل كان للعلماء العرب والمسلمين أي إسهام في هذا العلم؟ وإلى أي مدًى خرجوا عن التقليد اليوناني في هذا المجال؟ وما تأثير أفكارهم الجديدة على الفكر العلمي الأوروبي لاحقًا؟

أما بشأن الإجابات عن تلك الأسئلة فإن القارئ سيجدها في كل فصل من فصول تاريخ علم البرودة؛ فقد كان للعلماء العرب والمسلمين إسهامات فيه، وسيجد أن تلك الإسهامات كانت غائبةً لزمن طويل، وأنه سيكون من الإجحاف أن نقفز في تاريخ علم البرودة وغيره من العلوم من التاريخ اليوناني إلى النهضة الأوروبية، دون المرور على ما قدَّمه العلماء العرب في هذا المجال.

يُغطي العمل توثيقًا لِما قدَّمَته البشرية في مجال البرودة والتبريد منذ أقدم العصور حتى نهاية القرن التاسع عشر.

إنني أرجو أن أكون قد وُفِّقت في تحقيق أهدافنا من هذا العمل؛ بأن نُسلط الضوء على كل ما وصلنا إليه من إسهامات علمية عربية وإسلامية في علم البرودة وتطبيقاته.

والله وليُّ التوفيق.
د. سائر بصمه جي
حلب، ٢٠٢٠
١  هوجين، لانسلوت، العلم للمواطن، ترجمة عطية عبد السلام عاشور وسعيد رمضان هدارة، ج١، دار الفكر العربي، القاهرة، ص١٢.
٢  كوهن، س. توماس، بنية الثورات العلمية، ترجمة: علي نعمة، ط١، دار الحداثة، بيروت، ١٩٨٦م، ص١٨.
٣  المرجع السابق نفسه، ص١٨.
٤  الموسوعة العربية العالمية، مدخل «علم التقريس»، مؤسسة أعمال الموسوعة، الرياض، ٢٠٠٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤