الفصل السادس

التهوية بوساطة المراوح

مقدمة

نتيجةً لتأثير ارتفاع درجة الحرارة، فإن جلدنا يصبح مبللًا بالعرق ومعرضًا للهواء لدرجة تشبعه بالبخار أقل من درجة حرارة الجلد؛ لذلك فإن العرق يتبخر، وبذلك تنخفض درجة حرارة الجلد، حيث إن تحول العرق إلى بخار ماء يحتاج إلى طاقة. لكن بعد فترة قصيرة يصبح الهواء الملامس للجلد مشبعًا ببخار الماء فيتوقف التبخر. وحتى تستمر عملية التبخر يجب إزاحة هذا الهواء المشبع ميكانيكيًّا من خلال استعمال المراوح اليدوية أو الآلية، أو طبيعيًّا نتيجة حركة الهواء في محيط الجسم.١

لا شك أن أول أداة استخدمها الإنسان للتهوية على وجهه هي يده، ثم ما لبث أن وجد أشياء حوله قد تقوم بالوظيفة بشكل أفضل، وهو ما قاده إلى اختراع المروحة اليدوية.

المروحة أداة تُستخدم لتحريك الهواء بغرض تلطيف الجو. وقد تعلم الناس، منذ القِدم، كيف يشعرون أنفسهم ببرودة أكثر في الأيام الحارَّة بتلويح ورقة شجر في الهواء وعمل نسيم عليل. وكان لدى الأثرياء خدم يلوحون لهم بأوراق شجر ضخمة.٢

سنستعرض في هذا الفصل مراحل تطور المرواح عبر الحضارات، مع التركيز على ما قدَّمه العرب والمسلمون في هذا المجال.

المبحث الأول: الحضارات القديمة

استخدم المصريون الأوائل المراوح اليدوية المصنوعة من أوراق النيلوفر المجففة أو من ورق البردي؛ فقد عُثر على مروحتَين تعودان إلى ما قبل ٤٠٠٠ سنة في قبر توت عنخ آمون كانت إحداهما من الذهب. وكانت الملكات الفرعونيات يتنقلن في المحفات وهن ممسكات بالمراوح.٣
أما في الصين فقد كانت المراوح تصنع من نبات الخيزران، حيث تلصق قطع الخيزران، إما بقماش رقيق من الحرير أو الورق.٤ وقد كان سائدًا في الفكر العلمي الصيني أن المروحة تبدد الحرارة؛ «لأن الأشياء تستدعي بعضها بعضًا حقًّا ومثيلًا لمثيل، فالتنين يجلب المطر، والمروحة تبدد الحرارة».٥ وهي فكرة ترتكز على مبدأ التجاوب والرنين بين الأشياء.
ويرى المؤرخون أن المروحة المطوية اخترعت في اليابان في القرن الثامن الميلادي. وربما ابتكر المخترع المروحة بعد أن لاحظ الطريقة التي يطوي بها طائر الوطواط جناحَيه. ويلوِّن الفنَّانون اليابانيون المراوح عادةً بألوان زاهية، ويستخدمونها في الرقصات أثناء الاحتفالات. وسرعان ما بدأ الصينيون في استخدام المروحة المطوية.٦

المبحث الثاني: العرب والمسلمون

لم يُشِر المؤرخون٧ الأجانب إلى أي إسهام للعرب في صناعة المراوح، سواء اليدوية منها أو السقفية، في حين أننا سنجد معرفة العرب والمسلمين بالمراوح اليدوية التي توجه الهواء نحو الوجه بكافة أشكالها وأنواعها، سواء من خلال موروثهم الثقافي الخاص أو من خلال الشعوب التي احتكوا بها منذ القرن السادس الميلادي. أما المروحة السقفية التي توجه الهواء نحو أرجاء الغرفة كافةً؛ فقد تأخر ظهورها إلى القرن الثامن الميلادي إلى أيام العباسيين، ويبدو — من خلال الوثائق التي بين أيدينا حتى الآن — أنه أعيد ابتكارها من جديد عند العرب دون المعرفة بوجودها سابقًا.
دخل لفظ المروحة المعجم العربي بوصفه آلةً لتحريك الهواء وتعديل درجة حرارته بهدف تبريد الجسم، فقد ورد في القاموس المحيط: «والمروحة كمرحمة: المفازة والموضع تخترقه الرياح. وكمكنسة ومنبر: آلة يتروح بها.»٨ وفي المحيط في اللغة: «والمراويح: الكواء، واحدتها: مروحة، وهي أيضًا: الموضع الذي تخترقه الريح.»٩
وجاء في تاج العروس وتهذيب اللغة ولسان العرب أن: «مروحة كانت في الأصل مريوحة.»١٠ وفي تهذيب اللغة: «والمروحة بكسر الميم التي يتروح بها.»١١ وقد قال الجوزي: «العامة تقول: مروحة ومريخ، بفتح الميم فيهما. والصواب الكسر.»١٢
كانت المراوح اليدوية تسمى في بغداد ﺑ «الهفاهيف». وكانت المراوح الكبيرة في الكويت تدعى «رهطة»، وهي تصنع من ريش النعام المعطر بالمسك، وتستعمل في المنازل.١٣
figure
«إلى اليمين» مراوح مصرية، «إلى اليسار» مروحة صينية (مصدر الصورة: Flory, M. A., Abook about Fan: The History of Fans and Fan-Painting , Macmillan and Co.; First Edition Edition, 1895. p. 17).

المبحث الثالث: أخبار وأشعار المراوح

يُروى عن الملك سيف بن ذي يزن (توفي٥٠ﻫ/٥٧٤م) أنه كان يجلس على العرش وخلفه غلامان يحركان الهواء ويطردان الحشرات عنه بوساطة مراوح واسعة من ريش طيور النعام. وعلى مقربة من هذين الغلامين يقف غلام ثالث يرش الطيب والمسك أمام المراوح، فإذا تحرك الهواء انتعش الملك برائحة الطيب.١٤
وفي عهد الأمويين دعا الحجاج بن يوسف الثقفي (توفي ٩٥ﻫ/٧١٤م) إلى عمل ملاقف الرياح في مدينة واسط؛ عاصمته التي بناها في العراق، حيث إنه عمد إلى المرافق التي في المجالس ووضع فيها ألواح الجليد، فكانت الرياح تمرُّ في الملاقف ويخرج نسيمها إلى المجالس والصحون، حتى إن الناس استغنَوا عن استخدام المراوح اليدوية حينها.١٥
كما ورد عن الإمام مالك بن أنس (توفي ١٧٩ﻫ/٩٧٥م): «قال قتيبة: كنا إذا أتينا مالكًا خرج إلينا مزينًا مكحلًا مطيبًا قد لبس من أحسن ثيابه، فتصدَّر ودعا بالمراوح فأعطى كل إنسان مروحةً.»١٦

وقد أخذت المروحة بألباب الشعراء العرب، فراحوا يصفونها ويتغنون بفوائدها؛ إذ يروى أنه عندما عاد جعفر بن عثمان المصحفي (توفي ٣٧٢ﻫ/٩٨٣م) بعض إخوانه وهو مريض مضطجع فتناول مروحة وجعل يروح بها عليه، فقال جعفر بن عثمان في لحظتها:

روحَّني عائدي فقلت له
لا لا تزدني على الذي أجد
أمَا ترى النار وهي خامدة
عند هبوب الرياح تتَّقد؟!١٧

وقال محمد بن سوار نجم الدين بن إسرائيل (توفي ٦٧٧ﻫ/١٢٧٨م) في مروحة:

ومحبوبة في القيظ لم تخلُ من يد
وفي القر تجفوها أكفُّ الحبائب
إذا ما الهوى المقصور هيَّج عاشقًا
أتت بالهوى الممدود من كل جانب١٨

ووصف فخر الدين أبو عمرو بن زين الدين الطائي الحلبي الشافعي بن خطيب جبرين (توفي ٧٣٩ﻫ/١٣٣٨م)، فقيه حلب ومقرئها وحاكمها، المروحة بقوله:

وخادمٍ ما مثلها خادم
بكل معنًى حسن توصف
يروق من يُبصرها حسنُها
أخلاقها محبوبة تؤلف
لباسها الوشي وفي حجرها
عود لها وهي به أعرف
يحرك الأرواح ترويحها
ويشتفي المكروب إذ تطرف١٩

ويذكر ابن تغري بردي (توفي ٨٧٤ﻫ/١٤٧٠م) أن الشيخ شهاب الدين الشاطر الدمنهوري (توفي ٧٨٧ﻫ/١٣٨٥م) الشاعر المشهور، كان أديبًا فاضلًا، بارعًا في فنون لا سيما في حل المترجم ونظم القريض. ومن شعره في مروحة:

ومخطوبة في الحر من كل هاجر
ومهجورة في البرد من كل خاطب
إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقًا
أتت بالهوى الممدود من كل جانب٢٠

وذكر عبد الرزاق البيطار (توفي ١٣٣٥ﻫ/١٩١٦م) أن الشيخ إبراهيم بن المرحوم الحاج علي الأحدب الطرابلسي ثم البيروتي (توفي ١٣٠٨ﻫ/١٨٢٤م) قال في مروحة:

أبصرت مروحةً بكف مهفهف
تطفي ببرد هوائها نار الجوى
قد كنت خلوًا قبل ترويح بها
نحوي فجاءتني بأسباب الهوى٢١

وقال ابن معقل:

ومروحة أهدت إلى النفس روحها
لدى القيظ مبثوثًا بإهداء ريحها
روينا عن الريح الشمال حديثها
على ضعفه مستخرجًا من صحيحها٢٢

وقال أبو الحزم مكي القوصي في مروحة:

ما منية النفس غير مروحة
توصل للقلب غاية الراحة
تجود لكن بمسعد ولقد
تبخل إن لم تساعد الراحة٢٣

وقال ابن أبي الندى المعري:

وقابضة لعنان النسيم
تصرفه حيث شاءت هبوبا
فمن حيث شاءت أهبَّت صبًا
ومن حيث شاءت أهبَّت جنوبا
إذا أقبل القر كانت عدوًّا
وإن أقبل الصيف كانت حبيبا٢٤

وأحسن ما سُمع في المروحة قول أبي الندى حسان بن نمير (توفي ٥٦٧ﻫ/١١٧١م) المعروف بعرقلة الدمشقي:

ومحبوبة في القيظ لم تخلُ من يد
وفي القر تسلوها أكف الحبائب
إذا ما الهوى المقصور هيَّج عاشقًا
أتت بالهوى الممدود من كل جانب٢٥

المبحث الرابع: أشكال المراوح

عرف العرب ثلاثة أشكال للمراوح: المطوية والثابتة، ولكلٍّ منهما شكل دائري أو نصف دائري. وقد دلنا على هذه الأشكال الأشعار التي قيلت فيها، والصور التي تم رسمها في المخطوطات.

figure
صورة توضيحية لأجزاء المروحة (مصدر الصورة: Rhead, G. Wooliscroft, History of Fan, p. 25).

(١) المروحة المطوية

عرف العرب في الأندلس المروحة المطوية؛ إذ نجد وصفها قد ظهر في شعر يحيى بن هذيل (توفي ٣٨٩ﻫ/٩٩٩م) بقوله:

ومصروفة عن خلقها إن صرفتها
إلى طي برد أو إلى طي مهرق
على أنها شبه المِجن ودونه
فإن كنت ذا فهم أبِن لي واصدق
لها لطف أنفاس الصباح ورقة
تلذ بها نفس الفتى المتشوق

وقال أيضًا:

إذا نُشرت كانت على دارة البدر
وإن طُويت كانت كتابًا بلا نشر
جوانحها بيت الرياح ورجلها
على يد مشغول بها فارغ الفكر٢٦

(٢) المروحة نصف الدائرية

وكانت المراوح ذات الشكل النصف دائري معروفةً في الأندلس، فقد ذكر أبو العباس المقري (توفي ١٠٤١ﻫ/١٦٣١م) أن لسان الدين بن الخطيب (توفي ٧٧٦ﻫ/١٣٧٤م) قال في مروحة سلطانية:

كأني قوس الشمس عند طلوعها
وقد قدمت من قبلها نسمة الفجر
وإلا كما هبَّت بمحتدم الوغى
بنصر ولكن من بنود بني نصر٢٧

(٣) المروحة الدائرية

وهي مراوح كانت تُصنع من الجلود ثم تزين وتزركش وتلون، وهي قابلة للطي أو ثابتة. قال فيها الشاعر القرطبي ابن خروف أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف (توفي ٦٠٤ﻫ/١٢٠٧م):

ومروحة إن تأملتها
ترى فلكًا دائرًا في اليد
وتُطوى وتنشر من حسنها
فتشبه قنزعة الهدهد٢٨
figure
صفحة من مخطوطة تعود لعام للقرن ١٦م تصور مجلس علم يقف فيه الخادم خلف الحضور وهو يمسك بمروحة من ريش النعام (مصدر الصورة: Manuscripts AKM218 Musical Gathering 2000, 6 Dust Muhammad. Portrait of Shah Abul Ma‘ali. Ca. 1556, Aga Khan Collection).

(٤) المروحة المستطيلة

وهي مروحة تشبه الراية أو العَلم، كانت تُصنع من الجلد الرقيق، وقد كانت تزخرف ببعض الرسومات لتزيينها.

ولعلها المقصودة في قول الشاعر:

figure
في «حكاية العاشق والمعشوق» من قصص ألف ليلة وليلة (الليلة ١٥٩) تصوير للسيدة دنيا، ذات الشأن الكبير، وهي تحمل بيدها مروحة فاخرة ليست دائرية، ومن خلفها خادماتها يلوحن بمروحة لها ولضيفتها يبدو أنها كانت مصنوعة من الريش (إلى اليمين) (ألف ليلة وليلة، ج١، ص٢٩٦).
دقيقة الجسم لها ساعد
تسعد من تحييه أنفاسها
محبوبة في القيظ مهجورة
في القر لا يقربها ناسها
كأنها من بيت مال الهوا
إن لوحت تنفض أكياسها٢٩
figure
ملكان في معركة يحمل خادم أحدهما (إلى اليمين) مروحة من ريش، ويحمل الآخر (إلى اليسار) مروحة دائرية الشكل قد تكون مصنوعة من القماش أو الجلد، وكلٌّ منهما ثابت غير قابل للطي، واللافت في الأمر أن الملوك حتى وهم في حالة الحرب والمعارك كانوا يرفهون عن أنفسهم (مصدر الصورة: MS Persian 78. Houghton Library, Harvard University. Shahnamah Manuscript, 1718-1721, f.400v. Seq. 811).

المبحث الخامس: المواد التي تُصنع منها المراوح

لصناعة المرواح كان العرب يستخدمون سعف النخل أو الموز أو الأدم (جلود الحيوانات) أو أرياش الطيور كالنعام والطاووس.٣٠ كما كانت أغصان نبات الشوح Abies Fraesi (أو خشب السويد الأصفر) تستخدم في صناعة المراوح العطرية في بلاد الشام.٣١

وقد ثبت لنا معرفتهم بثلاثة أنواع من المراوح حسب المادة المصنوعة منها، وهي: مراوح الخيش ومراوح الأديم ومراوح الخوص.

figure
انتشرت المروحة المستطيلة الشكل بين صفوف النساء كثيرًا، ويبدو أن التجار الإيطاليين قد نقلوها إلى إيطاليا، فقد وُجدت في البندقية ونابولي وبادوا (مصدر الصورة: Flory, M. A., A Book about Fan: The History of Fans and Fan-Painting, p. 27).

(١) مروحة الخيش (مروحة سقفية لتبريد غرفة)

الخيش «نسيج خشن ثقيل منسوج من خيوط من ألياف نبات الجوت، تُصنع منه الغرائر والجوالق».٣٢ وهو نسيج قماشي، ويُستخدم عادة للمهمات التي تتطلب تحملًا ومتانةً مثل صناعة الخيم والأشرعة والحقائب وغيرها. يُصنع الخيش حاليًّا من القطن أو الكتان، في حين أنه تاريخيًّا كان يُصنع من القنب.
وكان السبب في اختراع هذه المروحة أن هارون الرشيد (توفي ١٩٣ﻫ /٨٠٩م) دخل يومًا على أخته علية بنت المهدي (توفيت ٢١٠ه‍/٨٢٥م) في يوم قيظ، فألِفاها وقد صبغت ثيابها من زعفران وصندل ونشرتها على الحبال لتجفَّ، فجلس هارون قريبًا من الثياب المنشورة، فصارت الريح تمرُّ على الثياب فتحمل منها ريحًا بليلةً عطرةً، فوجد لذلك راحةً من الحر واستطابه، وأمر أن يُصنع له مثل ذلك. وقال الشريشي في شرح المقامات: «وهذه المروحة شبه الشراع للسفينة تعلق بالسقف ويشد بها حبل وتبل بالماء وترش بالماورد (ماء الورد)، فإذا أراد الرجل في القائلة (نوم الظهيرة) أن ينام جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجيء، فيهب على النائم منها نسيم بارد رطب.»٣٣ قال الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة التلمساني (توفي ٧٧٦ﻫ/١٣٧٥م): وبعد ذلك «اشتهرت واستعملها الناس».٣٤
لكن يوجد في النقوش الآشورية المكتشفة دليل بارز من نينوى يشير إلى استخدام المروحة المتأرجحة ومعلقة من السقف وتعمل بسحب الحبل؛ في الفترة بين القرن السابع إلى القرن العاشر قبل الميلاد.٣٥
بقي هذا النوع من المراوح السقفية موجودًا لدى الحكام والملوك؛ إذ يروي الجغرافي والرحَّالة العربي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي (توفي حوالَي ٣٩٠ﻫ/حوالَي ١٠٠٠م)، أنه رأى في دار عضد الدولة (توفي ٣٧٢ﻫ/٩٨٣م) بشيراز بيوت الخيش التي يبللها الماء على الدوام بوساطة قنًى حولها من فوق، ويبدو أن هذه الطريقة في التبريد كانت شائعة جدًّا في بغداد. وقد كان يستخدم في هذه البيوت الصيفية مروحة سقفية تشبه شراع السفينة، بحيث إنها تعلق في سقف المنزل ويربط بها حبل يديرها، وقد كانت تبلل بالماء وترش بماء الورد، فإذا أراد الرجل أن يأخذ قيلولة جذبها بحبلها، فكانت تذهب بطول البيت وتجيء فيهب منها نسيم بارد برائحة الورد.٣٦

وقد قال الأمير الهمام شهاب الدين أبو الفوارس، سعد بن محمد بن الصيفي التميمي (توفي ٥٧٣ﻫ/١١٧٧م)، من ولد أكثم بن الصيفي الملقب «حيص بيص» في صفة مروحة الخيش لغزًا:

وليِّنة الأعطاف خوَّارة
ذات غصون لونها أورق
غبراء لا تبرح ممطورةً
وهي على الغبرة لا تورق
موثقة مطلقة لينة
شديدة ثابتة تقلق
تسعى بلا رجل على طائر
للذر في مسلكها مزلق
تجري مدى الشمس على أنها
محصورة مذهبها ضيق
طيارة يمنع إبعادها
أسبابها والسور والخندق
كأنها، من حيرة، ناشد
يدأب نشدانًا ولا يلحق
إذا أريحت خلتها والهًا
ثكلى بها من حزنها أولق
كرارة في حرب شمس الضحى
لا ترهب البأس ولا تفرق
ما بين إدريس ونوح لها
في حالتَيها نسبٌ مُعرِّق
تهدي الكرى للمستهام الذي
ينبو به المضجع والنمرق
لا يسأل المجبل معروفها
ويجتدي نائلها المعرق
تنقص من خاشنها بزها
وتوسع الجود لمن يرفق
قوية السلطان في مدنها
ضعيفة إن ضمَّها سملق
تجبل حال الأرض من فضلها
سيراف من إحسانها جلق
من لي بأخرى مثلها للذي
أعيا على الآسي فما يعرق؟٣٧

وقد أنشد بهاء الدين كافي الدولة ابن حمدون الكاتب (توفي ٥٦٢ﻫ/١١٦٧م) صاحب «التذكرة» في مروحة الخيش ملغزًا:

ومرسَلة معقودة دون قصدها
منفذة تجري لجيش طليقها
يمر خفيف الريح وهي مقيمة
وتسري وقد سدت عليها طريقها
لها من سليمان النبي وراثة
وقد عزمت نحو النبيط عروقها
إذا صدق النوء الشمالي أمحلت
وتمطر والجوزاء ذاك حريقها
وتحسبها إحدى الصنائع أنها
لذلك كانت كل روح صديقها٣٨
وقد كان لبعض العرب مراوح خيش تعطي هواءً باردًا شديدًا ولطيفًا لدرجة يستسلم معه الجالس أمامه؛ فقد ورد في كتاب «الفرج بعد الشدة» لمحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم داود التنوخي البصري (توفي ٣٨٤ﻫ/٩٩٤م) القصة الآتية:

«صاحب ديوان الخراج يسرق توقيع الخليفة من يد الرسول، استسلف موسى بن عبد الملك من بيت مال الخاصة، مالًا، إلى أجل قريب، وضمن للمتوكل أن يرده في الأجل.

فجاء الأجل ولم يحمل المال، فغضب المتوكل من مدافعته، وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان، وقع إليه عني بردِّ المال اليوم، وضيِّق عليه في المطالبة، وأنفذ التوقيع مع عتاب بن عتاب، ومُرْه أن يطالبه، فإن أخَّر أداء المال، طالبه، واضربه بالمقارع في ديوان الخراج بحضرة الناس، وألا يرفع عنه المقارع حتى يصحح المال.

فبادر بعض الخدم إلى موسى فأخبره بذلك، فجلس ينظر في وجوه يردُّ منها المال.

وصار إليه عتاب بالتوقيع مختومًا، وكان يومًا شديد الحر، وقد انتصف النهار، وموسى في خيش، في حجرة من ديوانه، وفيه مروحة، يتناولها فراشان يروحانه، فدخل عتاب، وفي يد موسى كتاب طويل يقرؤه، فجلس، وأكبَّ موسى على الكتاب يتشاغل به عن خطاب عتاب، وأصاب عتاب بردُ المروحة والخيش، فنام واستثقل.

وكان عتاب قد أخرج التوقيع حين جلس، فوضعه على دواة موسى، فغمز موسى بعض غلمانه فأخذ الكتاب فغيَّبه.

وما زال عتاب ينام مرة وينتبه أخرى، وموسى يعمل، إلى أن انقضت الهاجرة، وقد توجه لموسى بعض المال، وأنفذ أصحابه لقبضه.

فقال له عتاب: انظر فيما جئنا له.

قال: قل أصلحك الله، فيمَ جئت؟ قال: فيما تضمن التوقيع.

قال: وأي توقيع؟ قال: الذي أوصلته إليك من أمير المؤمنين.

قال: متى؟ قال: الساعة وضعته على الدواة.

فقال له: قد نمت نومات، وأظن أنك رأيت في نومك شيئًا.

فطلب عتاب التوقيع فلم يجده، فقال: سُرق والله التوقيع، يا أصحاب الأخبار اكتبوا.

فقال موسى: يا أصحاب الأخبار اكتبوا، كذب فيما ادعاه، ما أوصل إليَّ توقيعًا، وأنتم حاضرون، فهل رأيتموه أوصل إليَّ توقيعًا؟ قم فانظر لعلك يا أبا محمد ضيَّعت التوقيع في طريقك.

فانصرف عتاب إلى عبيد الله فأخبره بذلك.

فدخل عبيد الله إلى المتوكل فحدَّثه، فضحك وقال: أحضروا موسى الساعة. فحضر.

فقال له المتوكل: يا موسى، سرقت التوقيع من عتاب؟ قال: إي والله يا سيدي خمَّنت أن فيه مكروهًا، ونام عتاب من قبل أن يوصله إليَّ، فأمرت من سرقه، وقد أعددت نصف المال، والساعة أحمله إلى صاحب بيت مال الخاصة، وأحمل الباقي بعد خمسة أيام، وأتبع ذلك بتضرع.

فأنفذ المتوكل معه من قبض منه ذلك، وانصرف وقد رضي عنه.»٣٩

وقد قال أبو الفتح محمود بن الحسين الرملي، المعروف بكشاجم (توفي ٣٦٠ﻫ/ ٩٧٠م) في مروحة الخيش:

وبيت نشيِّده في الهجير
على غير أس وثيق البناء
ونهجره عند لفح الشتاء
إذا كان عنا قليل الغناء
فيا لك بيتًا بناه الحكيم
حصينًا من الحر رحب الفناء
ويحمل ماءً كحمل السحاب
وليس يجود بغير الهواء
إذا قام قام على أربع
ومن بين أثوابه ثوب ماء
حكى فرسًا بات في جله
وقد أسبل الغيث تحت السماء٤٠

وقال علي ابن صاحب تكريت ملغزًا في الخيش:

ما ذات خدر حصان كان منشؤها
بين الحواضر لا بين الأعاريب
منقادة طال ما أهدت أزمتها
روحًا إلى كل محرور ومكروب
شدت صليبًا وزنَّارًا وما عرفت
دين المسيح ولم تركن إلى حوب
تسري إذا قيل للقوم المسير ولا
تسعى على أربع كالخيل والنيب
مصلوبة ما رأت عيبًا ولا اجرحت
ذنبًا فتلحظها في زي مصلوب
ككاعب يوم عيد تعتلي لعبًا
أرجوحةً بين أتراب كواعيب٤١
تروى وتظمأ أحيانًا وما عرفت
كغيرها طعم مأكول ومشروب
يميتها القر في المشتى وينعشها
حر الهجير بترجيع وتأويب
نواظب الغسل عن طهر وما ارتكبت
يومًا مباضعة الشبان والشيب
في ذيلها ديمة في الصيف ساكبة
بالقطر والقطر فيه غير مسكوب٤٢

وقد جاء ذكر مروحة الخيش في المقامات التي ألفها محمد الحريري البصري (توفي ٥١٦ﻫ/١١١٢م) وتحديدًا «المقامة النجرانية» حيث قال: اسمعوا وُقيتم الطيش ومليتم العيش. وأنشد ملغزًا في مروحة الخيش:

وجارية في سيرها مشمعلة٤٣
ولكن على أثر القفول قفولها٤٤
لها سائق٤٥ من جنسها يستحثها٤٦
على أنه في الاحتثاث رسيلها٤٧
ترى في أوان القيظ٤٨ تنطف٤٩ بالندا
ويبدو إذا ولي المصيف فحولها٥٠
فقال أحمد بن عبد المؤمن الشريشي (توفي ٦١٩ﻫ/١٢٢٣م) في شرح هذه المقامة: «هذه المروحة تكون شبيه الشراع للسفينة وتعلق في سقف ويشد بها حبل تدير به مشيها وتبل بالماء وترش بماء الورد، فإذا أراد الرجل في القائلة أن ينام جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجيء فيهب على الرجل منها نسيم بارد طيب الريح فيذهب عنه أذى الحر ويستطب وهي فوقه ذاهبة وجائية؛ ولذلك سمَّاها جارية.»٥١
كما ذكر عبد الله بن أحمد بن حمويه (توفي ٦٤٢ﻫ/١٢٤٤م) المراوح في مقاماته بقوله: «وأجلسنا على الأنطاع والوسائد، والمذاب والمراوح بأيدي الولدان والولائد.»٥٢

ومن مُلح ألغاز الصاحب بن عبَّاد (توفي ٣٨٥ﻫ/٩٩٥م) في مروحة الخيش قوله لأبي العباس الحارث في يوم قيظ: ما يقول الشيخ في قبله؟ فلم يفهم عنه؛ أراد في قلب الشيخ وهو الخيش. وقال السري الرفَّاء:

وخيش كما نجرت ذيول غلائل
مصندلة تختال فيها الكواعب
وقد اطلعت فيها الشمائل وأنشدت
مقبلة في جانبَيها الحبائب٥٣
figure
شكل الشراع في هذه السفينة العربية يشبه شكل مروحة الخيش التي جاء وصفها؛ فهي ذات شكل مستطيل بحيث يغطي مساحة واسعة من الحجرة التي يتحرك فيها جيئةً وذهابًا (مصدر الصورة: Agius, Dionisius A., Classic Ships of Islam From Mesopotamia to the Indian Ocean, Brill NV, Leiden, 2008, p. 168).
ويبدو أن هذا النوع من المراوح كانت توضع في وسط المحال التجارية في بغداد فيما بعد، حيث يقوم صبيٌّ متفرد بتحريكها، وكانت تُسمى «المهاف» أو «المهفات».٥٤ هذه المهاف كانت توجد لدى بعض المحال (خصوصًا الحلاقين) في قرية حريتان شماليَّ مدينة حلب في سوريا في فترة الخمسينيات من القرن العشرين كما حدَّثني بذلك أحد أقربائي.

(٢) مروحة الأديم (مروحة يدوية)

الأديم هو الجلد الذي يغلف جسم الإنسان أو الحيوان، ولا نعتقد أبدًا أنه كانت تُصنع مراوح من جلود البشر، وإنما من جلود الحيوانات؛ البقر أو الجمال أو الخراف.

ومروحة الأديم تعرف أيضًا باسم المروحة الهندية، وهي على نوعين؛ إحداهما مستديرة إلا موضع النصاب فقط، والأخرى مستديرة، ثم يقطع ربع دائرتها التي تلي الوجه.

قال الشريف:

مروحة الهند إذا ما بدت
فوصفها من فلسفي حكيم
كأنها البرجاس٥٥ في دورها
لكنها دائرة من أديم
وأعطت الجلاس أنفاسها
عدلًا فكانت لولبًا للنسيم٥٦

وقال الشيخ شرف الدين التيفاشي (توفي ٦٥١ﻫ/١٢٥٣م):

وبدر تم غدا ينفي الحرور كما
ينفيه مُشبهه في الأفق إن طلعا
يهدي لأرواحنا روحًا بمروحة
من الأديم إذا ما حسنُها برعا
كالشمس ترعد من بدر ألمَّ بها
مقارنًا كاسفًا من جرمها الربعا
حظ اللحاظ وحظ الروح قد جمعا
فيه لكل جليس يأتيان معا٥٧

وله أيضًا:

ومروحة الهند من فيلهم
أقيم على ذاك برهانه
ألست تراها إذا روحت
كما روح الفيل آذانه
وتعدل صاحبها في النسيم
ينال ويشمل جيرانه٥٨

(٣) مروحة الخوص (مروحة يدوية)

خوص النخلة هو سعفاتها وورقها. وقد ذكر أبو سهل الهروي (توفي ٤٣٣ﻫ/١٠٤١م): «المروحة التي يتروح بها؛ أي تجتلب بها الريح. وجمعها مراوح. وهي أداة معروفة من خوص مسفوف أي منسوج، لها مقبض من خشب أو خيزران.»٥٩
figure
لوحة «غفوة القيلولة في ظل المشربية» للرسَّام جون فريدريك لويس تعود لمنتصف القرن التاسع عشر. نراه قد رسم إلى أسفل اليسار مروحةً مصنوعة من ريش نعام أسود (مصدر الصورة والتعليق من: سعد، أشرف، المشربيات أو الشناشيل بين العمارة الإسلامية والفنون التشكيلية، مجلة الرافد، تصدر عن مديرية الثقافة، العدد ٢٤٢، نوفمبر، الشارقة، ٢٠١٧م، ص١١٩).
المروحة التي أُهديت لصلاح الدين الأيوبي أيضًا كانت مصنوعة من الخوص؛ فقد ذكر بهاء الدين العاملي (توفي ١٠٣٠ﻫ/١٦٢١م) في «الكشكول» أن صلاح الدين لما قرأ بيتَي الشعر المكتوبين عليها «عرف أنها من خوص النخل الذي في مسجد الرسول ، فقبَّلها الملك ووضعها على رأسه، وقال للرسول: صدقت صدقت».٦٠

قال السَّري الرفَّاء الموصلي (توفي ٣٦٢ﻫ/٩٧٢م) في مراوح الخوص:

ومبثوثة في كل شرق ومغرب
لها أمهات بالعراق قواطن
تحرِّك أنفاسَ الرياح حراكُها
كأن نسيم الريح فيهن كامن٦١

وقال نور الدين علي ابن صاحب تكريت ولله درُّه:

يا سائلي عن نسيم طي مروحة
أهدت سرورًا بترجيع وترويح
أما ترى الخوص أهدى من مراوحه
ما أودعته قديم نسيمة الريح٦٢

قلت: وعلى ذكر الخوص فما أحسن ما قاله الشيخ برهان الدين القيراطي في وصف النوق:

صاح هذي قباب طيبة لاحت
وفؤادي على اللقاء حريص
وتبدَّت نخيلها للمطايا
فعيون المطي للنخل خوص٦٣

المبحث السادس: الكتابة والرسم على المراوح

حتى تكون الكتابة واضحة ومقروءة كانت تتم على الجزء العلوي من المروحة وليس المقبض؛ لأن المقبض عرضة للاحتكاك براحة اليد، وبالتالي ستنمحي الكتابة مع كثرة الاستعمال، كما أن المساحة المتاحة على المقبض ضيقة، كما أن الجزء العلوي من المروحة كان يحظى بالزخارف والرسومات الهندسية أو النباتية لإضفاء مسحة جمالية عليها ولا تكون جامدةً جافة.

فقد أهدى سالم بن قاسم من بني مهنا الحسنيين (توفي ٦١٢ﻫ/١٢١٥م) لصلاح الدين الأيوبي (توفي ٥٨٩ﻫ/١١٩٣م) مروحة بيضاء، وفيها مكتوب بالأحمر بيتان وهما:

أنا من نخلة تُجاور قبرا
ساد من فيه سائر الخلق طرا
شملتني سعادة القبر حتى
صِرت في راحة ابن أيوب أقرا
«وقد كان الرسول بها قال لصلاح الدين: خذ هذه فما أهدي لك ولا لأبيك قط مثلها. فغضب السلطان من هذا الكلام، فقال الرسول: لا تعجل وانظر ما فيها من الكلام. فلما نظرها وقرأ البيتين قبَّلهما ووضعهما على رأسه وقال: صدق الشريف، ما وصلتني قط هديةٌ مثل هذه.»٦٤
figure
في لوحة تمثل مشهدًا لاستقبال أحد الملوك وهو يدعو بعض الناس على وليمة فاخرة، حيث يقف خادمان خلف رأسه ويلوح أحدهما على اليمين بمروحة مصنوعة من ريش الطاووس، ويقابله خادم يلوح بمروحة مصنوعة من ورق النبات (مصدر الصورة: https://raseef22.com/culture/2015/11/07/the-imaginary-banquets-of-haroun-al-rashed).

ويروي لنا ابن عبد ربه (توفي ٣٢٨ﻫ/٩٤٠م) في عقده الفريد في أخبار ابن أبي عتيق أن عبد الملك بن مروان (توفي ٨٦ﻫ/٧٠٥م) كان في مجلسه جاريتان تحملان مراوح، من النوع الواسع العريض الذي يمكن الكتابة عليه. أبو القاسم جعفر بن محمد قال: لما وصف عبد الله بن جعفر لعبد الملك بن مروان ابن أبي عتيق وحدَّثه عن إقلاله وكثرة عياله، أمره عبد الملك بن مروان أن يبعث به إليه. فأعلمه ابن جعفر بما دار بينه وبين عبد الملك وبعثه إليه، فدخل ابن أبي عتيق على عبد الملك فوجده جالسًا بين جاريتين قائمتين عليه يميسان كغُصنَي بان، بيدِ كل جارية مروحة تروح بها عليه، مكتوب بالذهب على المروحة الأولى:

إنني أجلب الريا
ح وبي يلعب الخجل
وحجاب إذا الحبيـ
ـب ثنى الرأس للقُبل
وغياث إذا النديـ
ـم تغنَّى أو ارتجل

وفي المروحة الأخرى:

أنا في الكف لطيفة
مسكني قصر الخليفة
أنا لا أصلح إلا
لظريف أو ظريفة
أو وصيف حسن القد
شبيه بالوصيفة
قال ابن أبي عتيق: فلما نظرت إلى الجاريتين هوَّنتا الدنيا عليَّ، وأنستاني سوء حالي، وقلت: إن كانتا من الإنس فما نساؤنا إلا من البهائم. فكلما كررت بصري فيهما تذكَّرت الجنة؛ فإذا تذكَّرت امرأتي، وكنت لها محبًّا، تذكَّرت النار. قال: فبدأ عبد الملك يتوجع إليَّ بما حكى له ابن جعفر عني ويخبرني بما لي عنده من جميل الرأي. فأكذبت له كل ما حكاه له ابن جعفر عني، ووصفت له نفسي بغاية الملاء والجدة. فامتلأ عبد الملك سرورًا بما ذكرت له، وغمًّا بتكذيب ابن جعفر. فلما عاد إليه ابن جعفر عاتبه عبد الملك على ما حكاه عني وأخبره بما حليت به نفسي. فقال: كذب والله يا أمير المؤمنين، وإنه أحوج أهل الحجاز إلى قليل فضلك، فضلًا عن كثيره. ثم خرج عبد الله فلقيني فقال: ما حملك أن كذبتني عند أمير المؤمنين؟ قلت: أفكنت تراني تجلسني بين شمس وقمر، ثم أتفاقر عنده؟! لا والله ما رأيت ذلك لنفسي وإن رأيته لي. فلما أعلم بذلك عبد الله بن جعفر عبد الملك بن مروان، قال: فالجاريتان له.»٦٥

ويذكر ابن عبد ربه أيضًا قصة أخرى: قال إسحاق بن إبراهيم: دخلت على الأمين محمد بن زبيدة وعلى رأسه وصائف في قراطق مفروجة، بيد وصيفة منهن مروحة مكتوب عليها:

بي طاب العيش في الصيـ
ـف وبي طاب السرور
ممسكي ينفي أذى الحر
إذا اشتد الحرور
الندى والجود في وجـ
ـه أمين الله نور
ملكٌ أسلمه الشبـ
ـه وأخلاه النظير٦٦

وذكر المؤرخ المخضرم محمد بن إسحاق (توفي ١٥١ﻫ/٧٦٨م) قال: حدَّثني محمد بن عبد الله قال: رأيت على مروحة مكتوبًا:

الحمد لله وحده
وللخليفة بعده
وللمحب إذا ما
حبيبه بات عنده٦٧

ويذكر لنا أبو الطيب الوشاء (توفي ٣٢٥ﻫ/٩٣٦م) ما كان يكتب على المراوح أيضًا:

وأخبرني أبو جعفر القارئ قال: أخبرني من قرأ على مروحة بيتين للقطامي:

قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وربما فات بعض القوم أمرهم
مع التأني وكان الحزم لو عجلوا

قال: فحضرني بيتان، فكتبت على الجانب الآخر:

لا ذا ولا ذاك في الإفراط أحمده
وأحمد الأمر ما في الفعل يعتدل
إفراط ذا في التأني فوت حاجته
وليس يعدم عثرًا دونها العجل

وقرأت على مروحة لبعض الظرفاء:

محتمل، حسبك لي، ساعةً
ذاك إذا أجهدك الحَر
غيرك مني طالب مثل ما
تطلبه يا أيها الحُر

وكتب بعض الأدباء على مروحة:

إن روح الحياة في
حركات المراوح
كم بنان لطيفة
من ظباء سوانح
حرَّكتها فنفست
عن خدودٍ رواشح٦٨

وأنشد أبو جعفر عبد الله بن عميد الدين أبي شجاع المظفر بن هبة الله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء، ابن عم الوزير عضد الدين، ما يكتب على مروحة:

أحسن ما روَّح بي شادن
يداه تحكي اللؤلؤ الرطبا
يروح الجسم بترويحه
وحسنه قد روَّح القلبا٦٩

ومما يكتب على مروحة لشرف الدين التيفاشي:

أنا في الكف راحة
لصحيح وذي عِلل
أنا ستر لعاشق
عندما يخلس القُبل
أنا مخفٍ لوجنة
خجلت أيسر الخجل
أنا أهدي إليكم
أرج الزهر إن ذبل
أنا وحدي كروضة
جادها واكفٌ هَطِل
أنا بي يبعث النديـ
ـم على الكاس إن غفل
مجلس لا أزوره
ليس في قربه أمل٧٠

ومما كتب على مروحة ملك:

تأمل إلى ما قد حويت من الفخر
لخدمة ملك جلَّ في رفعة القدر
وفكِّر تجد منه ومني روضةً
يمرُّ بها طيب النسيم على البحر٧١
إذن فقد عرف العرب المراوح بكافة أشكالها وأنواعها، وحتى إنهم طوَّروا المروحة السقفية بشكل مستقل عن المروحة الآشورية، والتي ستعود للظهور في القصور الملكية البريطانية في القرن السابع عشر.٧٢

المبحث السابع: الأوروبيون

لا نستبعد أبدًا انتقال المراوح اليدوية من عرب المشرق أو المغرب في الأندلس إلى الأوروبيين، والتي سيصبح لها شأن كبير في الثقافة الأوروبية.

figure
مروحة مطوية تُفتح حتى ١٨٠°، عليها رسم بالأسود والأبيض تعود للقرن ١٩م (مصدر الصورة: Rhead, G. Wooliscroft, History of Fan, p. 278).
وفي القرن السادس عشر الميلادي أحضر البرتغاليون المراوح إلى أوروبا، وأقبلت نساء أوروبا على المراوح الملونة واستخدمنها. ولفترة قصيرة، خلال عصر لويس الخامس عشر Louis XV (توفي ١٧٧٤م) ملك فرنسا، حمل الرجال أيضًا مراوح مطوية أنيقة. كما استطاع الفنان والعالم الإيطالي ليوناردو دافينشي Leonardo da Vinci (توفي ١٥١٦م) بناء أول مروحة آلية للتهوية. واستطاع الإنجليز عام ١٥٥٣م تطوير مروحة دوَّارة لتهوية المناجم، واستُخدمت القدرة المائية لتشغيل المروحة.٧٣
وفي القرن التاسع عشر الميلادي، عمل مشاهير الفنانين في رسم المراوح التي كانت تباع بأسعار مرتفعة. وكانوا يصنعون المراوح الغالية الثمن من جلد الحمير الصغيرة أو من الرق (البرشمان) أو من الحرير، كما صنعوا المراوح البديعة من شرائط الزينة والشاش وريش النعام وريش الطاووس. وكانوا يركبون المراوح على مقابض جميلة منحوتة من العاج أو صدف السلحفاة أو القرون أو العظام أو خشب الصندل.٧٤
١  فتحي، حسن، الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية، تحرير والتر شيرر وعبد الرحمن أحمد سلطان، ط١، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٨٨م، ص١٠١.
٢  الموسوعة العربية العالمية، مدخل «المروحة».
٣  الغزي، نادية، الطرق الشرقية القديمة للتخلص من الحر، ص١٢٧.
٤  المرجع السابق نفسه، ص١٢٦.
٥  نيدهام، جوزيف، موجز تاريخ العلم والحضارة في الصين، ترجمة محمود غريب جودة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٥م، ص٢٧٣.
٦  الموسوعة العربية العالمية، مدخل «المروحة».
٧  نذكر هنا:
Flory, M. A., A Book about Fan: The History of Fans and Fan-Painting , Macmillan and Co.; First Edition Edition, 1895. p. 17.
Rhead, G. Wooliscroft, History of Fan, London, KEGAN PAUL, TRENCH, TRUBNER & CO. Ltd. 1910.
٨  الفيروزابادي، القاموس المحيط، ج١، ص٢٨٢.
٩  الصاحب بن عبَّاد، المحيط في اللغة، ج٤، ص٤٢.
١٠  الزبيدي، تاج العروس، ج٧، ص١٦٢؛ والأزهري، تهذيب اللغة، ج٢، ص١٧٧؛ وابن منظور، لسان العرب، ج٢، ص٤٥٥.
١١  الأزهري، تهذيب اللغة، ج٢، ص١٨٠.
١٢  منق، علي بن لالي بالي بن محمد القسطنطيني الحنفي، خير الكلام في التقصي عن أغلاط العوام، تحقيق حاتم صالح الضامن، ط١، دار عالم الكتب، بيروت، ص١٣.
١٣  الغزي، نادية، الطرق الشرقية القديمة للتخلص من الحر، ص١٢٨.
١٤  المرجع السابق نفسه، ص١٢٦–١٢٧.
١٥  الزركاني، خليل حسن، الشناشيل والبادكير في التراث المعماري الإسلامي، مجلة آفاق الثقافة والتراث، دبي، العدد ٣٨ السنة ١٠، ٢٠٠٣م، ص١٠٤–١٠٥.
١٦  الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان، تذكرة الحفاظ، دراسة وتحقيق زكريا عميرات، ط١، ج١، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٩٨م ص١٥٦. ووردت في تاريخ الإسلام للإمام الذهبي، ج٣، ٣٢٨؛ وج١٨، ص٤٩٨.
١٧  الطبيب، محمد بن الكتاني، كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، تحقيق إحسان عباس، ط٢، دار الشروق، بيروت-القاهرة، ١٩٨١م، ص٢٣٦.
١٨  الكتبي، محمد بن شاكر، فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس، ط١، ج٣، دار صادر، بيروت، ١٩٧٤م، ص٣٨٨.
١٩  الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك، أعيان العصر وأعوان النصر، تحقيق علي أبو زيد ونبيل أبو عشمة ومحمد موعد ومحمود سالم محمد، ط١، ج٣، دار الفكر المعاصر، بيروت-دمشق، ١٩٩٨م، ص٢٢١.
٢٠  ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، القاهرة، ج١١، ص٣٠٦.
٢١  البيطار، عبد الرزاق بن حسن بن إبراهيم، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، تحقيق محمد بهجة البيطار، دار صادر، بيروت، ١٩٩٣م، ص٥٢.
٢٢  ابن حجة الحموي، تقي الدين أبو بكر بن علي، ثمرات الأوراق، ج١، مكتبة الجمهورية العربية، ص٤٥–٤٦.
٢٣  العماد الأصبهاني، خريدة القصر وجريدة العصر، ج٢، ص٣٧٥.
٢٤  التيفاشي، أبو العباس أحمد بن يوسف، سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، ص٢٢٧.
٢٥  ابن حجة الحموي، تقي الدين أبو بكر بن علي، ثمرات الأوراق، ج١، مكتبة الجمهورية العربية، ص٤٥–٤٦.
٢٦  الطبيب، محمد بن الكتاني، كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، ص٢٣٢–٢٣٣.
٢٧  المقري، أحمد بن المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج٦، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ١٩٩٧م، ص٥٠٣.
٢٨  التيفاشي، أبو العباس أحمد بن يوسف، سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، ص٢٢٨–٢٢٩.
٢٩  التيفاشي، أبو العباس أحمد بن يوسف، سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، ص٢٢٧.
٣٠  الغزي، نادية، الطرق الشرقية القديمة للتخلص من الحر، ص١٢٦–١٢٧.
٣١  المرجع السابق نفسه، ص٣٣.
٣٢  المعجم الوسيط (خيش).
٣٣  الأزراري، تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي، خِزانة الأدب وغاية الأرب، تحقيق عصام شعيتو، ط١، ج١، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ١٩٨٧م، ص٩٢–٩٣.
٣٤  الغزولي، علاء الدين علي بن عبد الله، مطالع البدور ومنازل السرور، ج١، ص٢٩.
٣٥  Rhead, G. Wooliscroft, History of Fan, p. 26.
٣٦  متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ج٢، ص٢١٢.
٣٧  العماد الأصبهاني، خريدة القصر وجريدة العصر، ج١، ص٢٨٦–٢٨٧.
٣٨  الكتبي، محمد بن شاكر، فوات الوفَيات، تحقيق إحسان عباس، ط١، ج٣، دار صادر، بيروت، ١٩٧٤م، ص٣٨٨.
٣٩  القاضي التنوخي، الفرج بعد الشدة، تحقيق عبود الشالجي، دار صادر، بيروت، ١٩٧٨م، ص٣٨٩–٣٩١.
٤٠  التيفاشي، أبو العباس أحمد بن يوسف، سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، ص٢٢٨–٢٢٩. ووردت عند العماد الأصبهاني، خريدة القصر وجريدة العصر، ج١، ص١٨٤.
٤١  التيفاشي، أبو العباس أحمد بن يوسف، سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، ص٢٢٩.
٤٢  المرجع السابق نفسه، ص٢٣٠.
٤٣  مشمعلة: سريعة الذهاب.
٤٤  قفولها: رجوعها.
٤٥  السائق: الشريط الذي يسوقها إذا جذبت به.
٤٦  يستحثها: يستعجلها. ومن جنسها: أي هو من كان مثلها.
٤٧  رسيلها: أي يرسل معها لزاوية البيت، وترجع معها.
٤٨  أوان القيض: وقت الصيف.
٤٩  تنطف: تقطر.
٥٠  قحولها: يبسها.
٥١  الغزولي، علاء الدين علي بن عبد الله، مطالع البدور ومنازل السرور، ج١، ص٢٩.
٥٢  ابن حموية الجويني، مقامات ابن حمويه، أنستاس ماري الكرملي، مجلة المجمع العلمي العربي، الجزء ١١–١٢، المجلد ١٨، تشرين٢ وكانون١، دمشق، ١٩٤٣م، ص٥٠٣.
٥٣  الغزولي، علاء الدين علي بن عبد الله، مطالع البدور ومنازل السرور، ج١، ص٢٩.
٥٤  الغزي، نادية، الطرق الشرقية القديمة للتخلص من الحر، ص١٢٨.
٥٥  جاء في المعجم الوسيط: «هدف يُنصب على رمح أو سارية (يونانية)، ومعناه عندهم: رمح أو سارية في أعلاه كرة من ذهب أو فضة، يرميها الحذاق وهم على الجياد. والجمع: براجيس.»
٥٦  التيفاشي، أبو العباس أحمد بن يوسف، سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، ص٢٢٧.
٥٧  المرجع السابق نفسه، ص٢٢٨.
٥٨  المرجع السابق نفسه، ص٢٢٩.
٥٩  الهروي النحوي، محمد بن علي بن محمد، دراسة وتحقيق أحمد بن سعيد بن محمد قشاش، ط١، ج٢، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ١٩٩٩م، ص٦٥٢.
٦٠  بهاء الدين العاملي، محمد بن حسين، الكشكول، تحقيق محمد عبد الكريم النمري، ط١، ج١، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٩٨م، ص٦٤–٦٥.
٦١  التيفاشي، أبو العباس أحمد بن يوسف، سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، ص٢٢٧.
٦٢  الغزولي، علاء الدين علي بن عبد الله، مطالع البدور ومنازل السرور، ط١، ج١، ص٢٨.
٦٣  المرجع السابق نفسه، ص٢٨.
٦٤  البلوي، خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد، تاج المفرق في تحلية علماء المشرق، ص١٣–١٤. ووردت القصة عند:
  • ابن حجة الحموي، تقي الدين أبو بكر بن علي، ثمرات الأوراق، ج١، ص٤٥–٤٦.

  • بهاء الدين العاملي، محمد بن حسين، الكشكول، ج١، ص٦٤–٦٥.

٦٥  ابن عبد ربه الأندلسي، أبو عمر، العقد الفريد، ط١، ج٧، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٨٣م، ص٢٥.
٦٦  المرجع السابق نفسه، ج٨، ص١٢٩.
٦٧  المرجع السابق نفسه، ص١٣٢.
٦٨  الوشاء، محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، الموشى (الظرف والظرفاء)، تحقيق كمال مصطفى، ط٢، مكتبة الخانجي، القاهرة، ١٩٥٣م، ص٢٤٨.
٦٩  العماد الأصبهاني، خريدة القصر وجريدة العصر، ج١، ص١٥٤.
٧٠  التيفاشي، أبو العباس أحمد بن يوسف، سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، ص٢٢٧.
٧١  المرجع السابق نفسه، ص٢٢٧.
٧٢  Rhead, G. Wooliscroft, History of Fan, p. 9.
٧٣  الموسوعة العربية العالمية، مدخل «تكييف الهواء».
٧٤  الموسوعة العربية العالمية، مدخل «المروحة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤