النقد الفلسفي

تبلور تفكير ماركيوز من خلال حوار صامت أجراه مع «هيجل وماركس ونيتشه وفرويد» ومن خلال حوار حقيقي أجراه مع «هيدجر». وإذا كان من المعترف به أن هذه هي الشخصيات الرئيسية التي تحكَّمت في تشكيل فكر الإنسان المعاصر، فمن الصعب أن نتصوَّر كيف يستطيع عقل واحد أن يستوعب كل هذه المؤثرات المتعارضة ويعترف صراحة بأنه كان بالفعل تلميذًا لكل هؤلاء في آنٍ واحد. على أن كل شيء — كما هو معروف — يتوقَّف على نوع «التلمذة» التي ربطت بين ماركيوز وبين هؤلاء الأقطاب. والأمر المؤكد أنه كان تلميذًا خلَّاقًا، وأن شخصيته كانت هناك دائمًا، أيًّا كانت قوة المصادر التي أثرت في تفكيره.

على أن تأثير هذه الشخصيات على ماركيوز لم يُمارس في وقت واحد أو في نفس الميادين؛ فقد كان تأثير «هيجل» هو الأسبق، وهو الذي ظل ملازمًا له حتى النهاية. وتلاه تأثير ماركس، ومع «نيتشه». وفي مرحلة تالية كان تأثير «فرويد»، ثم «هيدجر»، «ومن جهة أخرى فإن تأثير هيجل وهيدجر كان أقرب إلى الطابع الفلسفي، على حين أن «ماركس ونيتشه وفرويد» قد زودوه بالأسلحة اللازمة لنقد المجتمع الحديث نقدًا حضاريًّا وأيديولوجيًّا.»

ولكن هذا كله قد يوحي بأن تفكير ماركيوز قد سار في ميادين منفصلة. بل إن عنوان هذا القسم قد يعني أن ثمة نقدًا فلسفيًّا مستقلًّا، وأن لدى ماركيوز مذهبًا واسع الأطراف، يعالج في جانب منه مشكلات فلسفية خالصة وفي جانب آخر مشكلات اجتماعية أو نفسية أو فنية. وحقيقة الأمر أن هذه الصورة التجزيئية، وإن كانت تصدق على كثير من المفكرين، هي أبعد ما تكون عن الصواب في حالة ماركيوز؛ ذلك لأن من الميزات القليلة لفكره ذلك التماسكَ والإحكام وروح الوحدة التي تبلغ أحيانًا حد التكرار شبه الحرفي للآراء؛ فهناك علاقة عضوية وثيقة بين كل ما يقوله ماركيوز في مختلف مجالات الفكر.

ولقد تعمدنا أن نبدأ هذا العرض لفكر ماركيوز بالكلام عن نقده الفلسفي لسببين رئيسيين: «أولهما» أن النقد الفلسفي عنده أساس لكل نقد آخر، وأن الفلسفة هي التي تقدم بذور تفكيره في سائر الميادين، «وثانيهما» أن نظرته إلى الفلسفة — التي يفترض أنها أكثر ميادين الفكر تجريدًا — كانت أبعد ما تكون عن التجريد، بل إن الفلسفة عنده يستحيل أن تنعزل وتنتحي جانبًا، تاركة بقية ميادين النشاط الروحي وشأنها؛ فهي على الدوام متشابكة متداخلة مع هذه الميادين. ومن هنا كان عرض نقده الفلسفي في بداية هذا البحث يمثل في الواقع إشارة واضحة إلى تلك الوحدة الفكرية العميقة التي هي من أبرز سمات هذا الفيلسوف.

•••

إن تفكير ماركيوز يُعد في واقع الأمر نموذجًا للبحث الفلسفي الذي لا يكتفي بمعالجة المفاهيم أو المذاهب بصورة تجريدية تعزلها عن مضمونها الاجتماعي، بل هو يحاول دائمًا كشف هذا المضمون حتى في أشد المفاهيم تجريدًا، وحتى في تلك المذاهب التي تبدو بعيدة كل البُعد عن حركة الواقع ومجرى التاريخ. وهو من جهة أخرى ينقِّب عن الأسس الفلسفية للحركات والتيارات الاجتماعية في عصرنا الحديث بوجه خاص، ويؤمن بأن هناك، من وراء كل ممارسة عملية أساسًا نظريًّا تستطيع الفلسفة أن تعبر عنه تعبيرًا كافيًا.

«وهكذا يتبين لنا، في موقف ماركيوز من الفلسفة، اتجاهان متكاملان: أولهما الاتجاه إلى كشف الأساس العيني — المستمد من تجربة المجتمع الفعلية — للمعاني والأفكار الرئيسية التي تحكَّمت في مسار الفكر الفلسفي، وثانيهما هو الاتجاه المقابل الذي لا يكتفي، في تحليله لأية حركة اجتماعية، بالوصف المباشر، بل يمضي في التحليل حتى يكتشف لها أسسًا فلسفية عميقة.» ومن الجلي أن الاتجاه الأول يبدو كما لو كان يقضي على الطابع المميز للفلسفة؛ إذ إنه لا يعترف بالاستقلال الذاتي للمفاهيم الكبرى في الفلسفة، وإنما يربطها على الدوام بسياق أوسع، هو سياق العلاقات الاجتماعية التي تكتسب هذه المفاهيم معناها الحقيقي منها، ومن ثم فهو ينكر أن يكون للفلسفة تطور تلقائي مستقل، وإنما يجعل تطورها جزءًا من التطور الأعم الذي مرَّت به المجتمعات البشرية في كفاحها من أجل حياة تسودها علاقات متحررة من الظلم والاستغلال. غير أن الاتجاه الثاني يعوض تأثير الأول، ويعيد تأكيد هذا الطابع المميز للفلسفة، بل إنه يجعل الفكر الفلسفي النظري منبثًّا في أكثر حركات التاريخ عينية وأقواها تأثيرًا في حياة الناس العملية. ومن ثم فإن الفلسفة تصبح، في هذه الحالة، هي التيار الخفي الذي يتحكم في كل ما يظهر فوق السطح من اتجاهات.

ومعنى ذلك أن إضفاء الطابع العيني على الفلسفة لا يتم — عند ماركيوز — على حساب الفلسفة ذاتها، وهو في ذلك يتميز عن الكثيرين ممن يستهويهم هدف القضاء على عزلة الفلسفة وتستبد بهم الرغبة في إعطائها وظيفة عملية من نوعٍ ما، وإزالة الحواجز بينها وبين بقية مظاهر النشاط العيني للإنسان، فينتهي بهم الأمر إلى القضاء على خصوصية التفكير الفلسفي، أو إلغاء كل ما هو مميز له. فقيمة المحاولة التي قام بها ماركيوز — مع الاعتراف بكل ما يشوبها من عيوب سنُنبِّه إلى البعض منها بعد قليل — تكمن في أنها قد احتفظت للفلسفة بكل عناصرها، واكتشفت، داخل هذه العناصر، مضمونًا عينيًّا هو أساس تلك النظرة الجديدة التي تأمل بها ماركيوز مفاهيم الفلسفة وتياراتها الكبرى.

ولقد عبَّر ماركيوز ذاته تعبيرًا واضحًا عن نظريته الجديدة هذه، القائلة بوجود مضمون اجتماعي وتاريخي حتى لأشد المفاهيم الفلسفية تجريدًا، فقال: «توجد في الفلسفة مفاهيم أساسية لها طابع ميتافيزيقي ينأى بها عن الجذور الاجتماعية التاريخية للفكر. ويبدو أن بقاء مضمونها على ما هو عليه في أشد النظريات الفلسفية تباينًا هو أقوى تبرير لفكرة «الفلسفية الأزلية الثابتة Philosophia Perennis» ومع ذلك فحتى أرفع التصورات الفلسفية وأشدها مفارقة تخضع للتطور التاريخي، وليس ما يتغير هو مضمونها، بقدر ما هو موقعها ووظيفتها داخل المذاهب الفلسفية.»١
ومن الجدير بالذكر أن ماركيوز قد اتخذ هذا الموقف من الفلسفة منذ بداية حياته الفكرية الناضجة، وكان اتخاذه هذا الموقف تعبيرًا عن طريقته الخاصة في الجمع بين تأثير «هيجل وماركس وهيدجر» في مركب واحد؛ ذلك لأن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، وإن اختلفوا في اتجاههم العام اختلافًا هائلًا، يشتركون جميعًا في أنهم يؤمنون بأن للفلسفة طابعًا عينيًّا، وبأن عهد التجريد المطلق قد انتهى. وهكذا نرى ماركيوز يؤلف بحثًا من أول كتاباته بعنوان «في الفلسفة العينية über konkrete Philosophie» (١٩٢٩م) وينطلق فيه من أفكار «هيدجر»كما عبر عنها في كتابه الأكبر «الوجود والزمان»، ليمزجها بأفكار «هيجل وماركس» في التاريخ، ويخرج من هذا كله بوظيفة جديدة للفلسفة — حتى في أشد اتجاهاتها إغراقًا في التجريد — هي في أساسها وظيفة عينية مرتبطة بالواقع والتاريخ، وبالمجتمع الذي نشأت فيه.

إن الحقيقة الفلسفية، في رأى ماركيوز، لا تعيش في عالمها الخاص، عالمها المفارق الذي انقطعت جميع روابطه بعالم الإنسان، بل إنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بممارسة الإنسان العملية، وبوجود الإنسان في معناه العيني لا المجرد. هذا الوجود العيني لا يمكن أن يفهم بمعزل عن اللحظة التاريخية التي يتحقق فيها، وعن المجتمع الذي يحدد لقدرات الإنسان وإمكاناته مجالًا تُمارَس فيه. وينبغي أن نذكر أن هذ العنصر التاريخي الذي يتحكم في تحديد معنى المفاهيم والمشكلات الفلسفية وفي تطورها ليس مجرد حالة عارضة تُضاف إلى أساس ثابت، بل جزء لا يتجزأ من بناء هذه المفاهيم والمشكلات. ولا جدال في أن التشابه واضح بين نظرة ماركيوز الديناميكية العملية إلى الفلسفة، وبين رأي ماركس القائل إن على الفلسفة ألا تكتفي بفهم العالم، بل ينبغي أن تعمل على تغييره.

ولو أمعن المرء النظر في موقف ماركيوز لتبيَّن له أن ينطوي على نقد لنوعين من المذاهب الفلسفية: الأولى هي تلك المذاهب التي تؤمن بأن للفلسفة طابعًا مطلقًا يعلو على الزمان، وبأن مشكلاتها أزلية لا يؤثر فيها أي تطور تاريخي، أعني المذاهب التي لا تعتقد بأن هناك تطورًا فلسفيًّا، وربما ذهبت إلى حد القول بأن هذا التطور — إن وُجد — قابل للانعكاس. أما النوع الثاني من المذاهب التي ترفضها نظرة ماركيوز هذه، فهي تلك التي تقوم على أساس تجريبي محض. وقد يبدو لأول وهلة أن المذاهب التجريبية تقترب من تحقيق هدف ماركيوز في إقامة الفلسفة على أساس عيني، ولكن حقيقة الأمر هي أن حرص هذه المذاهب على التقيد بالتجربة يجعلها تلتزم الواقع في صورته القائمة بالفعل، ولا تُلقي بالًا إلى أية إمكانات قد تكون كامنة في قلب هذا الواقع دون أن تظهر فيه ظهورًا فعليًّا في حالته الراهنة، وتلك، في رأي ماركيوز، آفة من الآفات التي يمكن أن تصيب الفلسفة، إذ إنها تحكم عليها بأن تظل إلى الأبد حبيسة «الوضع الراهن»، عاجزة عن المشاركة بأي نصيب في نقل ما هو ممكن، وما يسعى جاهدًا إلى تحقيق ذاته، إلى مستوى الواقع الفعلي.

ولعلنا نستطيع، في ضوء نقد ماركيوز هذا لكافة ضروب المذاهب التجريبية، أن نزيد فكرته عن «الفلسفة العينية» إيضاحًا. فمن الواضح، بعد ما قلنا، إن المقصود بالفلسفة العينية ليس على الإطلاق تلك الفلسفة التي تقتصر على ما هو عيني مباشر، أو تلتزم عالم الواقع على ما هو عليه. إنها على عكس ذلك، تستخلص من قلب الواقع ما هو ممكن فيه، وبذلك يمكن القول إنها تعترف بالواقع من ناحية، وتنكره وترفضه من ناحية أخرى. ولا بد أن تتسم كل فلسفة عينية أصيلة بقدر من عنصر الرفض هذا — ومن هنا كان للفلسفات التي تستهدف العلو على الواقع بعض العذر، وإن كان معظمها يذهب، كما ذكرنا من قبل، إلى حد إقامة عالم مفارق انقطعت كل الأسباب بينه وبين عالم الوجود الإنساني الفعلي — فليس هناك، في رأي ماركيوز، حد فاصل قاطع بين الممكن والواقع؛ إذ إن الإمكانات الكاملة لأي شيء لا تتحقق في أية لحظة بعينها من لحظات واقعه، كما أن الواقع، من جهة أخرى، لا يفهم إلا بالإشارة إلى وجود هذه الممكنات في الماضي واحتمال تحققها في المستقبل، ومن هنا كان الموجود والممكن متداخلين، يستحيل فهم أحدهما بدون الآخر.

وعلى أساس هذا الفهم للفلسفة العينية عند ماركيوز نستطيع أن نقدم عرضًا موجزًا لبعض تحليلاته الفلسفية التي ارتكزت على فهمه هذا، والتي يتجلى فيها كلها وجود خط واحد يتبعه في تحليل المفاهيم الفلسفية من ناحية، وفي تحليل المذاهب من ناحية أخرى. وسوف نختار نماذج من تحليلاته هذه توضح، بصورة أقرب إلى الطابع العلمي، طريقته في التراث الفلسفي.

•••

لا شك في أن أشهر المفاهيم التي قام ماركيوز بتحليلها هو مفهوم «الماهية» Essence الذي خصَّص له دراسة كاملة أُعيد نشرها حديثًا في كتاب Negations. ففي رأيه أن مفهوم «الماهية» كان يعبر دائمًا عن الوجود الحق، الأصيل، في مقابل الوجود العارض المتغير. وتتجلى هذه الصفة بوضوح منذ أول استخدام فلسفي عميق لهذا المفهوم؛ أي منذ عهد أفلاطون؛ ذلك لأن أفلاطون عندما أكد أن الوجود الحق هو الوجود الكلي الشامل، وهو الوحدة داخل الكثرة، لم يكن يقدم رأيًا معينًا في المعرفة أو في كيفية حصول العلم فحسب، ولم يكن يعبِّر عن رأي أنطولوجي في طبيعة الوجود فحسب، بل كان يعرض فكرة أخلافية نقدية في أساسها. إن التفرقة بين الماهية وبين المظهر أو المثال الجزئي هي في واقع الأمر تفرقة بين وجود أصيل يستحق أن يكون، ووجود زائف يتصف بأنه كائن فحسب. وحين يبني أفلاطون نظريته في المُثل على أساس وجود عالم آخر «حقيقي» من وراء عالم الحواس الخادعة، فإن في هذه التفرقة بين العالمين تأكيدًا ضمنيًّا بأن وجود الأشياء لا يستنفد كله فيما تكون عليه هذه الأشياء في صورتها المباشرة، وبأنها لا تبدو على النحو الذي تسمح لها إمكاناتها بأن تكون عليه، أي أن الوجود المباشر (المظهر) ناقص بالقياس إلى الإمكانات التي يدركها الذهن بوصفها ماهية للشيء. وعندئذٍ تكون فكرة المثال أو الصورة eidos عند أفلاطون تعبيرًا عن معيار تقاس به المسافة التي تفصل بين الوجود المباشر للشيء، وبين ما يمكن أن يكونه الشيء،٢ أي أن هذه الفكرة في أساسها نقدية تعبر عن موقف سلبي من العالم الذي يعيش فيه الفيلسوف.

وقبل أن نمضي قدمًا في متابعة هذا التحليل الطريف الذي يقدمه ماركيوز لمفهوم الماهية عند أكبر فلاسفة اليونان، نود أن نتأمل تحليله هذا بنظرة ناقدة، حتى لا يستقر في ذهن القارئ أن رأي ماركيوز هذا تعبير عن حقيقة موضوعية، وحتى يوضع هذا الرأي في موضعه الصحيح، بوصفه مجرد اجتهاد شخصي قد يكون فيه قدر غير قليل من التعسف.

ذلك لأن أحدًا لا يستطيع أن ينكر أن كل مذهب يقول بازدواج العالم، ويضع في مقابل العالم الذي نعيش فيه عالمًا آخر يتميز بكل ما يفتقر إليه عالمنا هذا من فضائل — كل مذهب كهذا يقف من عالمنا الواقعي موقفًا سلبيًّا ويعبر عن رفضه له. ولكن الموقف السلبي أو الرفض يختلف معناه، وتتباين دلالته تباينًا تامًّا، حسب نوع العالم المرفوض، ففي حالة أفلاطون كان العالم الذي رفضه هو عالم الديمقراطية الأثينية التي كان أفلاطون يضمر لها كراهية عميقة — كان عالمًا ديناميًّا متغيرًا يتنافى مع المُثل العليا الأوليجاركية السكونية التي يؤمن بها مفكر أرستقراطي مثل أفلاطون؛ ولذلك كانت نظرية المُثل عنده أبعد ما تكون عن الدعوة إلى التغيير والنقد، بل كانت في حقيقتها رفضًا لعالم متغير، وأملًا في عودة العالم التقليدي السكوني القبلي مرة أخرى. أو هي — بعبارة أخرى — رفض لممكنات ظهرت وتحققت وازدهرت بالفعل في سبيل العودة بالأشياء إلى وضعها الأقدم والأكثر ثباتًا، الذي كانت فيه ممكناتها هذه مطوية مخفية. ومجمل القول إن ماركيوز تجاهل نزعة أفلاطون المحافظة تجاهلًا تامًّا، وأضفى على بحثه عن الماهية «طابعًا ديناميًّا» هو أبعد ما يكون عنه.

وفي وسع المرء أن يذهب في هذا النقد شوطًا أبعد، فيقول — ضد ماركيوز — إن البحث عن عالم الحقيقة تمثل الماهية الحقة للأشياء يمكن أن يكون في أساسه سعيًا إلى إيقاف كل تغير، وكبت كل نقد، وقبول للأمر الواقع على ما هو عليه. ولدينا على ذلك مثال واضح في التفسير الرجعي لفكرة «العالم الآخر» في الأديان، وهو التفسير الذي يؤدي إلى الاستسلام لكل المظالم والشرور السائدة في عالمنا هذا، بحجة أنها ستعوَّض في العالم الآخر، وأن الظالم سيلقى جزاءه الحق في الآخرة، ومن ثم فلا داعٍ للقصاص منه، أو حتى لمقاومته، في هذه الحياة. فإذا علمنا أن فكرة العالم الآخر تمثل «عالم الماهية الحقة» بالنسبة إلى العالم الحاضر الزائل والزائف، وأنه هو الذي تتحقق فيه الممكنات التي لا يكشف عنها الوجود الراهن للأشياء كشفًا كاملًا؛ لتبين لنا أن فكرة الماهية، بالمعنى الذي عرضها به ماركيوز، لا يتعين أن تكون ناقدة رافضة، بل قد تكون في بعض الأحيان تعبيرًا عن أوضح أنواع الاستسلام وقبول الأمر الواقع.

ويشير ماركيوز إلى التحول الذي طرأ على مفهوم الماهية في العصر الحديث، وخاصة عند ديكارت، فينبه إلى أن وجود القوى اللاشخصية المجهولة، قوى السوق والعمل، قد جعل الفرد ينقل الماهية إلى ذاته بحيث يرى أنه هو وحده الثابت المضمون وسط عالم خارجي لا يمكن السيطرة على تقلباته، ومن هنا أصبحت الماهية الوحيدة هي ماهية الذات المفكرة، وأصبح الشعار الفلسفي السائد هو أنني «أدرك نفسي على أنني كائن تنحصر ماهيته الوحيدة في كونه مفكرًا» ذلك لأن البورجوازية، التي حملت لواء الفلسفة الحديثة، قد فسرت العلاقة بين الماهية والمظهر في فجر عهدها، على أساس أن استقلال الذات العاقلة هو الذي يشيد ويبرر الحقائق النهائية القصوى التي تتوقف عليها كل حقيقة نظرية وعملية، فالفرد المفكر لديه حرية تضم في داخلها ماهية الإنسان والأشياء.٣

والخطوة الرئيسية التالية في تطور مفهوم الماهية، تتمثل في ظاهريات هوسرل. هنا تصبح الماهية ما لا يتغير في تلك التمثلات التي يمكن أن تطرأ عليها شتى أنواع التحول والتبدل بفعل الخيال. صحيح أن الماهية تظل في هذه الحالة، كما كانت دائمًا على مر تاريخ الفلسفة، هي الثابت وسط المتغيرات، ولكن التقابل لا يعود هنا بين ثبات الفكر الداخلي وتغير العالم الخارجي، بل بين ثبات وتغير ينتميان معًا إلى مجال الذاتية. فالماهية لا تعود معبرة عن توتر بين الأنا المفكر وبين الوجود الواقعي ولا بين ما هو موجود بحكم الأمر الواقع وما يمكن أو يجب أن يوجد، بل إن الماهيات التي تصفها الظاهريات تتميز بأنها ماثلة على ما هي عليه، دون أي توتر في داخلها. ويرى ماركيوز في قبول الظاهريات لما يرد إلينا على النحو الذي يرد عليه، وفي اكتفائها بوصفه، ومناداتها بشعار «العود إلى الأشياء»؛ يرى في ذلك كله تعبيرًا عن طابع الاستسلام، واختفاء لروح النقد والرفض التي كانت تميز الفلسفات الكبرى الماضية. ولنذكر ها هنا أن «الأشياء» التي تدعو الظاهريات إلى العودة إليها ليست تلك الأشياء المادية التي تصادفها في العالم الموضوعي، وإنما هي أشياء منتمية إلى مجال الذات الترنسندنتالية، وهو المجال الذي يتساوى فيه كل شيء من حيث هو واقعة للوعي؛ ولذلك فإن زعم الظاهريات أنها تتحرر من كل المسلمات والفروض السابقة (بشأن الوجود الفعلي للأشياء) يعني، في حقيقة الأمر، أنها تضع الأشياء جميعًا على قدم المساواة.

إن الظاهريات تصل إلى ماهيات الأشياء عن طريق تجريد واقعيتها الحادثة Facticité فحسب، أي تجريد انتمائها إلى العالم المكاني الزماني فحسب. «ولكن استخلاص فيلسوف الظاهريات لتجريداته عن طريق البدء بما هو موجود، هو الذي يجعل الظاهريات تتخلى عن فكرة وجود أي تعارض أساسي بين الواقع والإمكان.»٤ فعالم الإمكان عند الظاهريات هو ذاته عالم الواقع وقد أعيد ترديده على مستوى آخر. ومن هنا كان الطابع الوصفي الذي تتسم به الظاهريات عيبًا يفرضه عليها منهجها، وليس ميزة كما تصور هوسرل؛ إذ إن هذا الوصف الظاهرياتي، وإن كان قد احتفظ بالتمييز بين الماهية والوجود، قد أزال عن هذا التمييز أهم وظيفة له، ألا وهي الوظيفة التي تؤدي إلى الوقوف من الواقع موقفًا نقديًّا.
ومن هنا كان حكم ماركيوز القائل إن «مفهوم الماهية في مذهب الظاهريات يذهب في ابتعاده عن أية دلالة نقدية إلى حد أنه ينظر إلى الأساسي وغير الأساسي، وموضوع الخيال فضلًا عن موضوع الإدراك الحسي، على أنها جميعًا «وقائع». ومن هنا فإن الخصومة الإبستمولوجية التي يبديها هذا المذهب للفلسفة الوضعية لا تكاد تنجح في إخفاء اتجاهه الخاص الذي كان بالفعل وضعيًّا.»٥

•••

وكما أعاد ماركيوز تفسير مفاهيم فلسفية رئيسية، فقد كان له رأيه الخاص، المتميز، في فهم المذاهب الفلسفية السابقة. ونستطيع القول إنه ما من مذهب فلسفي عرض له ماركيوز إلا وألقى عليه ضوءًا جديدًا مستمدًّا من طريقته الأصيلة في تفسير التاريخ السابق للفلسفة. ولقد أشرنا من قبل، بصورة ضمنية، إلى موقف ماركيوز من فلسفة أفلاطون وبعض الفلسفات الحديثة، وبخاصة فلسفة الظاهريات. ولو شاء المرء أن يقدم عرضًا لطريقته في فهم المذاهب الفلسفية لاقتضى ذلك منه جهدًا شاقًّا، وشغل حيزًا كبيرًا؛ إذ إن هناك دائمًا ما هو جديد، وما هو شائق، في هذا الفهم. ولكنا سوف نكتفي ها هنا بمثلين؛ أحدها تفسيره لهيجل، والآخر تفسيره للفلسفة الوضعية. أما تفسيره لماركس وفرويد فإن بقية أجزاء هذا البحث سوف تتضمن عرضًا أوسع له، وذلك من خلال مناقشة رأي ماركيوز في المشكلات التي حدد هذان المفكران إطارها العام.

لقد استطاع هيجل — كما يفسره ماركيوز — أن ينقل المذهب المثالي من مرحلة الاستسلام للأمر الواقع والدفاع عنه إلى مرحلة النقد المكافح الذي يعتمد أساسا — في مجال الفكر — على مفهوم السلب؛ ذلك لأن الكثيرين يعرفون عن هيجل أنه جعل للفكر مسارًا ديالكتيكيًّا، تحتل فيه فكرة السلب مكانة رئيسية، ويعلمون أن من صميم فلسفة هيجل القول باستحالة فهم، أو تحقيق أي تطور فيها، إلا إذا أصبح السلب جزءًا لا يتجزأ من كيانها ومن طبيعتها الباطنة. فكل شيء لا يكون له معنًى حقيقي إلا من خلال السلب الكامن فيه، هذا كله معروف، وهو من بدهيات فلسفة هيجل. ولكن القليلين فقط هم الذين تساءلوا عن دلالة هذا الاهتمام بالسلب عند هيجل وعن أثره في تحويل مجرى المثالية من فلسفة تتجاهل الواقع وتغمض عينيها عنه، وتدعو إلى تركيز آمال الإنسان في عالم مفارق منقطع الصلة بعالم الحياة النابضة، إلى فلسفة تسهم بدور إيجابي، لا في فهم الواقع فحسب، بل في محاولة تغييره، بالفكر على الأقل. وإنها لمفارقة عجيبة أن تكون فكرة السلب هي وسيلة الفلسفة المثالية في الانتقال إلى اتخاذ موقف إيجابي من العالم المحيط بنا، غير أن العجب يزول إذا أدركنا أن السلب هنا هو النبض المحرك للفكر والواقع معًا، وهو الذي يضفي عليهما القدرة على اتخاذ مواقع جديدة تزيد من ثراء الحياة وامتلائها.

ذلك لأن المثالية تكتفي عادة بتركيز جهدها على عالم الفكر، وتصل في تعمقها لذلك العالم إلى أبعاد يعجز أي مذهب آخر عن بلوغها. ولكنها خلال ذلك لا تبدي اهتمامًا كبيرًا بالتناقض الذي يولِّده جهدها هذا بين الفكر والواقع. إنها تتصور الواقع معقولًا؛ لأن العقل هو الذي يضفي على الواقع طابعه وقالبه، بل هو الذي يكون بناء الواقع ذاته. غير أن بعض مجالات الواقع، على الأقل، تظل متحدية لتنظيم العقل، وتلك بعينها هي المجالات التي تتجاهلها المذاهب المثالية التقليدية. أما مثالية هيجل فإنها تتخذ نقطة بدايتها من هذه المجالات بعينها. ففي كتابات هيجل عود دائم إلى عالم التجربة، ومحاولة لا تكلُّ من أجل إيجاد دور للعقل في تنظيم هذا العالم. ولكن هيجل كان يؤكد، في الوقت ذاته، أن كل وضع لعالم التجربة يكون فيه ذلك العالم متناقضًا مع العقل إنما هو وضع مؤقت، ومن ثم يتعيَّن رفضه وتجاوزه. وهكذا تكون المثالية الهيجلية، كما فسرها ماركيوز،٦ مرتبطة بنزعة الرفض والسلب — رفض للواقع القائم في لا معقوليته، وسعي دائم إلى إقرار حكم العقل في عالم التجربة.

إن هيجل لم ينظر إلى الوضع القائم، في أي مجال، على أنه وضع يمكن أن يستقر ويدوم، مهما بدا لأول وهلة متمشيًّا مع العقل؛ فأي وضع لا بد أن ينظر إليه في ضوء ما فيه من إمكانات لم تتحقق بعد، والاكتفاء بالحالة الراهنة يعني خنق هذه الإمكانات وهي لم تزل في مهدها، وحرمانها من أية فرصة لرؤية النور. ومن هنا كانت مهمة العقل الرئيسية هي إدراك ما هو ممكن من خلال ما هو موجود؛ أعني أن يلمح فيما هو متحقق فعلًا إمكانات أخرى أوسع وأرحب يمكنها بدورها أن تتحقق. وتلك هي السمة التي تتميز بها قدرة العقل؛ فهو وحده الذي يستطيع أن يدرك الممكنات، واحتمالات التطور، في كل وضع قائم، وهو وحده الذي يمكنه أن يتجاوز حالة الأشياء الراهنة في الوقت الذي لا يكون فيه أمامنا سواها.

وهكذا يبدو العقل الهيجلي — في نظر ماركيوز — قوة ثورية في المحل الأول. إنه سعي لا يتوقف إلى الحركة والدينامية، ونزوع لا يكل إلى التجاوز والعلو وإن لم يكن ذلك علوًّا منقطع الصلة بما يعلو عليه، وإنما هو علو مستمد من قلب ما هو موجود، وتجاوز منتزع من باطن الوضع القائم. وذلك بعينه هو الشرط الأول للثورة؛ أعني وجود القدرة على إدراك وضع جديد ممكن داخل الوضع الراهن الموجود. فلم يكن من المستغرب إذن أن يربط ماركيوز مفهوم العقل، عند هيجل، بمفهوم الثورة، ويرى في مثالية هيجل — على عكس كثير من التفسيرات الشائعة — أداة لا غناء عنها في يد القوى الثورية التي ظهرت منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. فعلى يد هيجل أصبح العقل — بصورة صريحة واضحة لأول مرة — أداة في يد قوى التغيير، بعد أن ظل منذ العصور القديمة قوة تنزع بطبيعتها إلى المحافظة وتنحو نحو الاستقرار وتتجه إلى تثبيت كل وضع قائم، وربما إعادة أوضاع كانت قائمة في عهود سالفة (كما هي الحال عند أفلاطون). صحيح إن هذا الاتجاه إلى استخدام العقل أداة للتغيير قد بدأت بوادره في الظهور منذ أوائل العصر الحديث، حين عمدت البورجوازية الصاعدة إلى إعلاء شأن العقل من أجل تأكيد مكانة الإنسان في هذا العالم، وإقرار دوره في تشكيل الطبيعة والتسيد عليها. ولكن هذا الاتجاه بأكمله قد غرق في خضم المثاليات التقليدية المتعددة التي لم تستطع أن تدرك الدلالة الحقيقية لسيادة العقل على العالم، وجعلت من هذه السيادة وسيلة لتجاهل الواقع والاكتفاء ببحث مطالب العقل وشروطه. وكان هيجل هو أول من أقام فلسفة كاملة، مترامية الأطراف، على أساس مبدأ دينامية العقل وقدرته على تجديد ذاته، وتجديد العالم معه، بلا انقطاع. وقد شيَّد هيجل هذه الفلسفة على أساس من المنطق أراد به أن يُرسي دعائم نظريته الجديدة إلى العقل، فوضع منطقه الجدلي في مقابل المنطق الشكلي الأرسطي، أو على الأصح جعل من ذلك المنطق الأخير مجرد لحظة من لحظات بناء منطقي أوسع يضمن للفكر حركته من ناحية، ويزيل، من ناحية أخرى، ما بين عالم الصورة والشكل وعالم التجربة والواقع من حواجز.

وهكذا قدم ماركيوز تفسيرًا جديدًا لهيجل، لا يعود فيه هيجل آخر الفلاسفة التقليديين الكبار فحسب، ولا يعود فيه مذهبه آخر بناء عقلي شامخ شيدته الفلسفة الغربية فقط، بل يصبح فيه هيجل أول المعاصرين، ويغدو فيه تفكيره نقطة البداية التي تفرعت عنها مختلف الاتجاهات العقلية والسياسية والاجتماعية — التقدمية منها والرجعية — في عالم اليوم.

•••

وعلى هذا النحو ذاته أعاد ماركيوز تفسير الفلسفة الوضعية، في اتجاهاتها المتعددة، على نحوٍ يلقي عليها ضوءًا جديدًا لم ينتبه إليه من قبله أحد. والواقع أن نظرة ماركيوز إلى الوضعية كانت هي الوجه الآخر، المقابل لنظرته إلى هيجل. فإذا كان هيجل قد استطاع أن يجعل من العقل قوة ثورية بفضل قدرته على السلب والرفض، فإن الوضعية قد جعلت منه قوة محافظة لأنها تصورت أن مهمته الأولى هي تحليل ما هو موجود على ما هو عليه، وقبول الواقع واتخاذ موقفًا إيجابيًّا منه. بل إن اسم الوضعية ذاته يعني، في الوقت نفسه، الإيجابية Positivism؛ أي استبعاد كل اتجاه فكري رافض سالب. وربما اقترب هذا المعنى إلى ذهن قارئ العربية لو ربط بين لفظ «الوضعية» وبين «الوضع» الذي توجد عليه الأشياء في حالتها الراهنة، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تقف الفلسفة الوضعية — بكل أشكالها — موقف العداء من فكر هيجل ومن كل نزعة مستمدة أساسًا من روح الهيجلية.

ولقد ركز ماركيوز جهوده، في نقده للوضعية، على وضعية القرن التاسع عشر في كتاب «العقل والثورة»، أما وضعية القرن العشرين، أو الوضعية المعاصرة، فقد وجَّه إليها نقده في الباب الثاني من كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد». وعلى الرغم من المسافة الزمنية الكبيرة التي تفصل بين نوعَي الوضعية هذين، بل تفصل بين كتابَي ماركيوز اللذين أشرنا إليهما الآن، فليس من الصعب أن يهتدي القارئ إلى نقاط التقاء كثيرة بينهما تحدد الأساس المشترك للروح الوضعية في نظر ماركيوز.

لقد كان أعظم وأشهر نتاج لوضعية القرن التاسع عشر هو ذلك العلم الجديد الذي رأى فيه «أوجست كونت» خلاصة لكل المعارف البشرية السابقة، وهو علم الاجتماع. وكان هناك ارتباط وثيق بين مفهوم علم الاجتماع، كما تصوره كونت، وبين هدف الفلسفة الوضعية؛ فالمجتمع الإنساني ينبغي أن يدرس بنفس الأساليب الدقيقة المضبوطة التي تدرس بها العلوم الطبيعية. وهذا هدف يبدو في ظاهره مغريًا لكل من يحرص على تقدم العلوم الإنسانية؛ إذ إنه يخضع المعرفة التي تتخذ من الإنسان موضوعًا لنفس الشروط المنضبطة التي تخضع لها دراسة الطبيعة ويجعل لفكرة القانون الضروري الشامل انطباقًا على مجال المجتمع البشري الذي ظل حتى ذلك الحين مستعصيًا على كل قانون. ولكن قليلًا من التعمق كفيل بأن يكشف، من وراء هذه الغيرة المتحمسة على المضي قدمًا بدراسة الإنسان، عن سعي خفي إلى الحيلولة دون وقوع أي تغيير ثوري في نظام المجتمع؛ إذ إن المطلوب، في دراستنا للمجتمع، أن نحذو حذو العالم الطبيعي، ومن المعروف أن العالم الطبيعي لا يخترع شيئًا ولا يغير الظواهر التي يبحثها، بل يكتفي بتسجيل ما هو موجود منها، وتحليل الطريقة التي تسلك بها هذه الظواهر بالفعل. وهكذا ينبغي أن يكون الحال في أية دراسة «علمية» أو «وضعية» للمجتمع البشري؛ فعلينا أن نحلل الظواهر الموجودة، ونصفها بأكبر قدر من الدقة، على أن يتم ذلك كله في إطار وجودها كأمر واقع لا سبيل إلى الاعتراض عليه. أما محاولات الثورة على هذا الواقع أو تغييره من جذوره، فتوصف بأنها «غير علمية» — وهو وصف لا يعود غريبًا ما دام الأنموذج الوحيد للعلم، في نظر الوضعية، هو أنموذج العلم الطبيعي.

ويقدم ماركيوز شواهد أخرى يدلِّل بها على صحة تحليله هذا للفلسفة الوضعية، ويُثبت بها أن دفاع هذه الفلسفة عن الوضع الراهن ومحاربتها لكل دعوة إلى الثورة عليه ليس استنتاج نظري يستخلص من موقفها الفكري العام، وإنما هو اتجاه ظهر واضحًا صريحًا في كتابات الوضعيِّين أنفسهم. فهو يجمع عددًا من النصوص والاقتباسات التي تدل دلالة واضحة على أن أوجست كونت كان في صميمه مدافعًا عن النظام القائم، وكان عدوًّا لأي اتجاه إلى إدخال تغيير ثوري عليه.٧ ولقد كان ماركيوز بارعًا حقًّا حين جمع هذه الاقتباسات واستطاع أن يهتدي إلى الخيط الجامع بينها، وهو الخيط الذي وصفه بأنه محافظ في أساسه. والحق أنه ليس هناك ما يدعو إلى الاستغراب في أن تجتمع النزعة العلمية الدقيقة والنزعة المحافظة في مركب واحد؛ ذلك لأن كل اتجاه ثوري أصيل كان يقتضي نوعًا من الخروج عن معايير الدقة والإحكام، وعن الالتزام الدقيق بالأمر الواقع، فالتخيل وتكوين صورة عن المستقبل لا تستمد كلها من الحاضر، هو عنصر لا غناء عنه في كل محاولة لإدخال تغيير جذري على حياة الناس. وهذا العنصر هو بعينه ما تحاربه الوضعية باسم «العلم».
وعند هذه النقطة الأخيرة تلتقي وضعية القرن التاسع عشر بوضعية القرن العشرين؛ ذلك لأن الوضعية المنطقية المعاصرة، وما يرتبط بها من فلسفات تحليلية لغوية متعددة، تركز بدورها جهودها على أن تحقق للفكر الوضوح عن طريق الاستخدام الدقيق للألفاظ، والتحليل التشريحي للقضايا اللغوية، آملة بذلك أن تفصل بين ماله معنى وما يبدو كأن له معنًى وهو في واقع الأمر ليس كذلك. والهدف النهائي، كما قلت، هو الدقة والوضوح — وهذا هو بعينه الهدف الذي كانت تسعى إليه وضعية القرن التاسع عشر، ولكن عن طريق الالتجاء إلى منهج العلم الطبيعي، لا المنهج التحليلي اللغوي. إن الهدف واحد، وإن اختلفت الوسائل، ولا بد أن يترتب على الاهتمام المفرط بالتحليل اللفظي إيجاد حاجز بين الفكر وبين الواقع، وتقوقع الفكر في مجاله الخاص موصدًا نوافذه في وجه رياح التغيير التي تعصف بعالم الواقع؛ ذلك لأن من حق المرء أن يتساءل: وما هدف الوضوح آخر الأمر؟ هل الوضوح غاية في ذاته، كما يعتقد الوضعيون المحدثون؛ من الجلي أن الوضوح وسيلة لخدمة هدف آخر خارج عن مجال التحليل، بل خارج عن مجال اللغة بوجه عام. فهل يكون من الصواب أن نوصد هذا الباب أمام الفلسفة، لكي نقصر مهمتها على ضمان الوضوح اللغوي أو الفكري فحسب؟ لقد كانت الفلسفة، على مر عصورها، شيئًا أجلَّ من ذلك وأخطر. كانت على الدوام جهدًا يبذله الإنسان من أجل فهم نفسه وعالمه، وتمهيد الطريق لتغيير ما يستحق أن يتغير من الظواهر المحيطة به.٨ وفي سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل لم تكن الفلسفة تتردد حتى في اقتحام مجالات غامضة تضطر من أجل التعبير عنها إلى استخدام تعبيرات لا تنطبق عليها كل شروط الوضوح، وتبدو كما لو كانت خلوًا من المعنى. ولكن هذه بعينها هي المخاطرة التي تُقدِم عليها الفلسفة وهي تعلم ما يكتنفها من الصعوبات، ولو كانت الفلسفة تستهدف التعبير الدقيق الواضح وحده، ولأجل ذاته، لكانت مهمتها هينة ميسورة، ولكنها كانت ستحقق هذا الهدف على حساب قدرتها على خوض تجارب جديدة، وعلى استشفاف عالم المجهول، وتلمُّس الطريق إلى مستقبل لم تتحدد معالمه بعد.

إن الوضعية التحليلية فلسفة لا تعترف بالعلو أو التجاوز، هي فلسفة تعترف ضمنا بكل ما هو قائم وبكل ما هو واقع، لسبب بسيط هو أنها لا تقترب منه ولا تبذل أدني جهد من أجل تغييره، بل وتعد ذلك خروجًا عن مهمة الفلسفة التي تقتصر، في رأيها، على تحليل عبارات اللغة — واللغة العلمية بوجه خاص — دون أن تتعرَّض لمضمون الفكر ولمشكلاته الفعلية من قريب أو من بعيد.

فإذا أدركنا أن كتابات الفلاسفة التحليليين هي ذاتها أبعد ما تكون عن الوضوح، وأن قراءتها تمثل جهدًا شاقًّا للعقل الذي كانت تسعى في الأصل إلى أن تجعل كلَّ شيء واضحًا أمامه، تبيَّن لنا أن هذه الفلسفة ترتكب خطأً مزدوجًا إذ تعزل الفكر عن الواقع بعد أن ظل طوال تاريخه مشتبكًا وملتحمًا به، وتفعل ذلك لحساب وضوح لا تبلغه قط.

إن الفلسفة في صميمها نقدية، وحتى في الحالات التي كانت الفلسفة تبدو فيها منطوية على ذاتها، محتمية داخل أسوار «الفكر الخالص» المنيعة (كما هي الحال في كثير من تيارات الفكر المثالي)، كانت الفلسفة تمارس نوعًا خاصًّا من عملية تحرير الإنسان «في داخله»، وعلى المستوى الفكري وحده، تعوِّض به عدم قدرتها على التحكم في الواقع الخارجي. بل إن التجاء الفلسفة المثالية إلى العقل المجرد هو جزء من طبيعة الواقع الذي تظهر فيه هذه الفلسفة، وهو الواقع الذي يضطر فيه العقل إلى الانطواء على ذاته دون مساس بما يحدث في المجتمع. ومن هنا كانت أشد المذاهب المثالية تجريدًا معبرة عن الواقع بمعنى ما؛٩ لأنها تحتمي بمجال العقل الخالص تعبيرًا عن رفضها لهذا الواقع وسعيها إلى كشفه وفضحه على طريقتها الخاصة. أما الوضعية، بكافة أشكالها، فتقبل هذا الواقع على ما هو عليه، ولا تتخذ منه موقفًا نقديًّا ولو بصورة ضمنية، وتتركه — من حيث المبدأ — سليمًا لا يمس. إنها قمة ذلك الاتجاه الأيديولوجي المستسلم للوضع القائم، الذي يرى ماركيوز أنه كان ملازمًا للمنطق الصوري منذ نشأته على يد أرسطو،١٠ إذ إن كل اهتمام بالصورة وإغفال للمضمون يساعد المسيطرين على إحكام قبضتهم على زمام الأمور بتركه لمحتوى الحياة على ما هو عليه.

•••

من هذه النماذج لطريقة ماركيوز في تفسير المفاهيم والمذاهب الفلسفية، يتبين لنا بوضوح أنه كان له، ككل فيلسوف ذي شأن، منهجه الخاص في النظر إلى التراث السابق عليه، فهو قد أعاد بناء هذا التراث من منظوره الخاص، وفسَّر الأفكار والمذاهب وفقًا لنظرته الخاصة إلى العالم الذي يعيش فيه، وللدور الذي يود أن يقوم به في هذا العالم بوصفه مفكِّرًا، وقد تكون هذه الطريقة غير مرغوب فيها بالنسبة إلى المؤرخ، الذي تعد الموضوعية فضيلته الرئيسية. أما في حالة الفيلسوف فإن تمثل الماضي من جديد لا يعد نقيصة على الإطلاق، بل إنه ليبدو — من فرط شيوعه بين الفلاسفة — كما لو كان شرطًا لكي يصبح المرء فيلسوفًا له طريقه الخاص؛ فمعظم الفلاسفة الكبار مؤرخون سيئون للفلسفة، إذا حكمنا عليهم بمقياس التعبير الموضوعي عن آراء الغير؛ ذلك لأن الفيلسوف الذي يتسم بالأصالة لا يستطيع أن ينسى نفسه حتى وهو يسترجع آراء الآخرين؛ إنه لا يقبل أن يكون مرآة تنعكس عليها أفكار السابقين، بل يريد أن يتخذ من هذه الأفكار وسيلة أو أداة تتيح له أن يعبر عن الطريق الذي اختطَّه لنفسه على نحوٍ لا تنقطع روابطه بتراث الفكر الماضي، وربما كان يريد أن يجعل من ذلك الماضي كله وسيلة لتبرير فلسفته وإثبات أن التاريخ بأسره يشير إليها ويتجه نحوها.

وليس من شك في أن عرض ماركيوز للتراث الفلسفي السابق عليه مليء بالمآخذ، وأن طريقة فهمه لهيجل والوضعيين، وكذلك لماركس وفرويد وهيدجر، لا تُرضي الباحث المتخصص. ولكننا إذا أدركنا أن ماركيوز إنما أراد أن يعبِّر عن نفسه من خلال هؤلاء جميعًا، لغدونا أكثر استعدادًا لغفران أية أخطاء في تفسيره للآخرين، ولقبول وجهة نظر «نيكولاس» القائلة: «إن هرطقات ماركيوز هي حقيقة ماركيوز.»١١  Les hérésies de Marcuse sont la verité de Marcuse.
١  H. Marcuse, “The Concept of Essence” in Negations: Essays in Critical Theory; Beacon Press, 1969, P. 43.
٢  Op. cit. P. 45.
٣  Ibid. P. 44.
٤  Alasdair Macintyre: Marcuse. Fontana Books, London 1970, P. 12.
٥  The Concept of Essence (op. cit). P. 60.
٦  انظر كتاب ماركيوز عن «العقل والثورة»، ترجمة كاتب الدراسة، القاهرة، الهيئة العامة للتأليف والنشر، ١٩٧٠م.
٧  للاطلاع على نصوص من كتاب أوجست كونت، تؤيد هذا الرأي، انظر «العقل والثورة»، الترجمة العربية، ص٢٣٠–٢٤٣.
٨  انظر مقالنا: «الفلسفة الوضعية بين لينين وماركيوز»، مجلة الفكر المعاصر، العدد ٦٤ (يونيو ١٩٧٠م).
٩  Marcuse, “Philosphy and Critical Theory” in Negations, P. 142.
١٠  Id: One Dimensional Man, Boston 1964, P. 114.
١١  André Nicolas, Marcuse, Seghers, Paris 1970. P. 13.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤