فلما كانت الليلة ١٠٦

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان لما أتاه الخبر بأن زوجته ولدت ولدًا ذ كرًا، فرح فرحًا شديدًا وقال: الآن اشتدَّ ظهري؛ حيث رُزِقت ولدًا اسمه «كان ما كان»، ثم قال للوزير دندان: إني أريد أن أترك هذا الحزن، وأعمل لأخي ختمات وأمورًا من الخيرات. فقال الوزير: نِعْمَ ما أردتَ. ثم أمر بنصب الخيام على قبر أخيه فنصبوها، وجمعوا من العسكر مَن يقرأ القرآن، فصار بعضهم يقرأ وبعضهم يذكر الله إلى الصباح، ثم تقدَّم السلطان ضوء المكان إلى قبر أخيه شركان، وسكب العَبَرات وأنشد هذه الأبيات:

خَرَجُوا بِهِ وَلِكُلِّ بَاكٍ خَلْفَهُ
صَعِقَاتُ مُوسَى يَوْمَ دُكَّ الطُّورُ
حَتَّى أَتَوْا حَدَثًا كَأَنَّ ضَرِيحَهُ
فِي قَلْبِ كُلِّ مُوَحِّدٍ مَحْفُورُ
مَا كُنْتُ آمَلُ قَبْلَ نَعْشِكَ أَنْ أَرَى
رَضْوَى عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ تَسِيرُ
كَلَّا وَلَا مِنْ قَبْلِ دَفْنِكَ فِي الثَّرَى
أَنَّ الْكَوَاكِبَ فِي التُّرَابِ تَغُورُ
أَمُجَاوِرَ الدِّيمَاسِ رَهْنُ قَرَارَةٍ
فِيهَا الضِّيَاءُ بِوَجْهِهِ وَالنُّورُ
كَفَلَ الثَّنَاءُ لَهُ بِرَدِّ حَيَاتِهِ
لَمَّا انْطَوَى فَكَأَنَّهُ مَنْشُورُ

فلما فرغ ضوء المكان من شعره بكى وبكى معه جميع الناس، ثم أتى إلى القبرِ الوزيرُ دندان ورمى نفسه عليه وهو حائر وأنشد قول الشاعر:

تَرَكْتَ الَّذِي يَفْنَى وَنُلْتَ الَّذِي يَبْقَى
وَمِثْلُكَ أَقْوَامٌ فَقَدْ سَبَقُوا سَبْقَا
وَفَارَقْتَ هَذِي الدَّارَ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ
فَفِي هَذِهِ الدُّنْيَا تُسَرُّ بِمَا تَلْقَى
وَكُنْتَ مِنَ الْأَعْدَاءِ تُبْدِي وِقَايَةً
إِذَا مَا سِهَامُ الْحَرْبِ حَاوَلَتِ الرَّشْقَا
أَرَى هَذِهِ الدُّنْيَا غُرُورًا وَبَاطِلًا
وَجُلُّ مُرَادِ الْخَلْقِ أَنْ يَطْلُبُوا الْحَقَّا
حَبَاكَ إِلَهُ الْعَرْشِ فَوْزًا بِجَنَّةٍ
وَأَسْكَنَكَ الْهَادِي بِهَا مَقْعَدًا صِدْقَا
وَإِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ فِيكَ بِحَسْرَةٍ
أَرَى الْغَرْبَ مَحْزُونًا بِفَقْدِكَ وَالشَّرْقَا

فلما فرغ الوزير دندان من شعره بكى بكاءً شديدًا، ونثرت عيونُه الدموعَ درًّا نضيدًا، ثم تقدَّم رجل كان من ندماء شركان، وبكى حتى حكت دموعه الخلجان، وذكر ما لشركان من المكرمات، وأنشد هذه الأبيات:

أَيْنَ الْعَطَاءُ وَكَفُّ جُودِكَ فِي الثَّرَى
وَالْجِسْمُ بَعْدَكَ بِالسِّقَامِ قَدِ انْبَرَى
يَا حَادِيَ الْأَظْعَانِ سَرَّكَ مَا تَرَى
كَتَبَتْ دُمُوعِي فَوْقَ خَدِّي أَسْطُرَا
تُعْنَى بِهَا وَتَلَذُّ مِنْهَا مَنْظَرَا
وَاللهِ مَا حَدَّثْتُ عَنْكَ ضَمَائِرِي
كَلَّا وَلَا خَطَرَ الْمصَابُ بِخَاطِرِي
إِلَّا وَقَدْ جَرَحَ الدُّمُوعُ مَحَاجِرِي
وَإِذَا صَرَفْتُ إِلَى سِوَاكَ نَوَاظِرِي
جَذَبَ الْغَرَامُ عِنَانَ طَرْفِي فِي الْكَرَى

فلما فرغ الرجل من شعره بكى ضوء المكان هو والوزير دندان، وضجَّ جميع العسكر بالبكاء، ثم إنهم انصرفوا إلى الخيام، وأقبل السلطان على الوزير دندان، وأخذَا يتشاوران في أمر القتال، واستمرَّا على ذلك أيامًا وليالي، وضوء المكان يتضجر من الهم والأحزان، ثم قال: إني أشتهي سماع أخبار الناس، وأحاديث الملوك، وحكايات المتيَّمِين؛ لعلَّ الله يفرج ما بقلبي من الهم الشديد، ويذهب عني البكاء والعديد. فقال الوزير: إنْ كان ما يفرج همَّك إلا سماع قصص الملوك من نوادر الأخبار، وحكايات المتقدمين من المتيَّمِين وغيرهم، فإن هذا أمر سهل؛ لأنني لم يكن لي شغل في حياة المرحوم والدك إلا بالحكايات والأشعار، وفي هذه الليلة أحدِّثك بخبر العاشق والمعشوق لأجل أن ينشرح صدرك. فلما سمع ضوء المكان كلامَ الوزير دندان، تعلَّقَ قلبه بما وعده به، ولم يبقَ له اشتغال إلا انتظار مجيء الليل لأجل أن يسمع ما يحكيه الوزير دندان من أخبار المتقدمين من الملوك والمتيَّمين، فما صدق أن الليل أقبل حتى أمر بإيقاد الشموع والقناديل، وإحضار ما يحتاجون إليه من الأكل والشرب وآلات البخور، فأحضروا له جميع ذلك، ثم أرسل إلى الوزير دندان فحضر، وأرسل إلى بهرام ورستم وتركاش والحاجب الكبير فحضروا، فلما حضروا جميعهم بين يديه التفت إلى الوزير دندان، وقال له: اعلم أيها الوزير أن الليل قد أقبل، وسدل جلابيبه علينا وأسبل، ونريد أن تحكي لنا ما وعدتَنا من الحكايات. فقال الوزير: حبًّا وكرامة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤