البيضة البلورية

حتى عامٍ مضى، كان هناك متجر ضيق وكئيب المنظر يقع بالقرب من شارع سِفن ديالز، وكانت تعلوه بحروف صفراءَ تآكلت بفعل الطقس الكلماتُ التالية: «سي كيف، عالِم طبيعة وتاجر تحف قديمة». كانت محتويات نافذة المتجر متنوعة على نحو غريب؛ فقد كانت تضم أنيابًا من العاج، ومجموعة ناقصة من بيادق الشطرنج، وخرزًا، وأسلحة، وصندوقًا به عيون، وجمجمتَيْ نَمِرين، وجمجمة بشرية، وبضع دُمَى قرود تآكلت بفعل العُثَّة (إحداها تحمل مصباحًا) وخزانة من طراز قديم، وبيضة نعامة — أو ما يشبهها — أفسدها الذباب، وعُدَّة لصيد السمك، وحوضَ سمك زجاجيًّا فارغًا بالغ القذارة. كان هناك أيضًا — في لحظة بدء قصتنا — كتلةٌ من البلور على شكل بَيْضة مصقولة على نحو مدهش. كان يتطلع إليها شخصان وقفا من وراء نافذة العرض؛ أحدهما قس نحيل وطويل، والآخر شاب أسود اللحية، داكن البشرة، يرتدي زيًّا غير مبهرج. تحدَّث الشاب الداكن البشرة بإيماءات متلهفة، وبدا راغبًا بشدة في أن يشتريَ رفيقُه البيضة.

وبينما كانا واقفَيْن هناك، دخل السيد كيف إلى متجره وما زالت لحيته ملوثة بالخبز والزبد اللذين تناولهما مع الشاي. وحين رأى هذين الرجلين وما يحدقان فيه، تغيَّر وجهه، ونظر نظرة من فوق كتفه مليئة بالذنب، وأغلق الباب في هدوء. كان عجوزًا ذا وجه شاحب وعينين زرقاوين مُغْرورقتين غريبتين؛ أما شعره فكان مختلطًا بالشيب، وكان يرتدي معطفًا مشقوق الذيل أزرق رثًّا يصل إلى الركبتين، وقبعة حريرية عتيقة، وخُفَّين تآكل كعباهما. ظل السيد كيف يشاهد الرجلين وهما يتحدثان. فتش القس في جيب بنطاله، وتفقد حفنة من النقود، وابتسم في رضًا كاشفًا عن أسنانه، بينما ازدادت الكآبة التي عَلت وجه السيد كيف حين دلفا إلى المتجر.

بلا مقدمات، سأل القس عن سعر البيضة البلورية. نظر السيد كيف بتوتر تجاه الباب المؤدي إلى غرفة الجلوس، وقال: خمسة جنيهات. أبدى القس اعتراضه على السعر الباهظ لرفيقه وللسيد كيف في آنٍ واحد. كان السعر بالفعل أكثر كثيرًا مما كان السيد كيف ينوي أن يطلبه حينما حصل عليها؛ وبدأت محاولة للمساومة. توجه السيد كيف ناحية باب المتجر، وأبقاه مفتوحًا. وقال: «ثمنها خمسة جنيهات.» وكأنه كان يتمنى أن يوفر على نفسه عناء النقاش العقيم. أثناء ذلك، ظهر الجزء العلوي من وجه امرأة من فوق الستارة التي تغطي الجزء الزجاجي العلوي من الباب المؤدي إلى غرفة الجلوس، وحدقت بفضول في الزبونين. كرر السيد كيف كلامه بصوت متهدج: «خمسة جنيهات سعرها النهائي.»

إلى ذلك الحين كان الشاب الأسمر يكتفي بدَوْر المتفرج، وأخذ يشاهد السيد كيف باهتمام. والآن تحدث. قال: «أعطِه خمسة جنيهات.» نظر القس إليه ليتأكد من أنه جاد، وحينما تطلع إلى السيد كيف رأى وجهه شاحبًا. قال القس: «هذا مبلغ كبير.» وبدأ يعد ما لديه مادًّا يده داخل جيبه. كان يمتلك أكثر بقليل من ثلاثين شلنًا، ثم نظر لرفيقه مناشدًا إياه حيث بدا أن بينهما صداقةً حميمة. أتاح هذا للسيد كيف الفرصة لترتيب أفكاره، وبدأ يقول بأسلوب مُحتدٍّ إن البيضة البلورية ليست في الواقع معروضةً للبيع. فوجئ الرجلان بالطبع، وسألا: لمَ لمْ يفكر في هذا قبل أن يَشرعَ في المساومة؟ حار السيد كيف، لكنه تمسَّك بقوله إن البيضة لم تكن للبيع في تلك الظهيرة، وإن شاريًا محتملًا ظهر بالفعل. اعتبر الرجلان أن هذا محاولةً من التاجر لرفع سعر البيضة، فتظاهرا بأنهما سيتركان المتجر. غير أنه في تلك اللحظة، فُتِح باب غرفة الجلوس، وظهرت صاحبة القُصَّة السوداء والعينين الصغيرتين.

كانت امرأة سمينة ذات ملامح غليظة، وكانت أصغر من السيد كيف، وأضخم كثيرًا، مشت بخطوات ثقيلة، وكان الدم يتدفق في وجهها. قالت: «تلك البلورة للبيع، وخمسة جنيهات سعر مناسب تمامًا لها. لا أستطيع أن أفهم ما تفكر فيه يا كيف برفضك عرض السيد المهذب!»

نظر السيد كيف إليها في غضب من فوق إطار نظارته، وقد أثار تدخُّلها ارتباكه بشدة. وبلا حزم مفرط، أكد حقه في إدارة عمله كما يحلو له. وبدأت مشاحنة. كان الزبونان يشاهدان ما يحدث باهتمام وبقدر من التسلية، ويساعدان السيدة كيف بين الحين والآخر ببعض الاقتراحات. أصر السيد كيف بعزم على قصته المُربكة غير المنطقية عن أن شخصًا أراد شراء البيضة صباحَ ذلك اليوم؛ وأصبح اضطرابُه مؤلمًا، لكنه تمسك بكلامه بإصرار مدهِش. كان الشرقي الشاب هو الذي أنهى هذا الجدل العجيب؛ إذ اقترح أن يزوراه مرة أخرى خلال يومين ليعطي الشخص المزعوم الذي يريد شراءها فرصة عادلة. وقال القس: «وحينها سنصر على شرائها بخمسة جنيهات.» اعتذرت السيدة كيف لهما نيابة عن زوجها مفسرة أنه أحيانًا ما يتصرف بغرابة. وحالما رحل الزبونان، استعد الزوجان لمناقشة ما حدث بحرية، ومن جميع جوانبه.

خاطبت السيدة كيف زوجها بوضوح فريد. وبينما كان الرجل المسكين يختلج بمشاعره، ارتبك بين قصَّتَيْه، مصرًّا من جانب على أن هناك شاريًا آخر محتملًا، ومدعيًا من جانب آخر أن البلورة تساوي حقًّا عشرة جنيهات. قالت له زوجته: «لمَ طلبْتَ إذًا خمسة جنيهات؟» فردَّ السيد كيف: «دعيني أُدير عملي بطريقتي!»

كان يعيش مع السيد كيف ابنُ زوجته وابنتُها. وفُتِح النقاش مرة أخرى عن المعاملة على مائدة العشاء في تلك الليلة. لم يكن أحد منهم يقدِّر أساليب السيد كيف في التجارة، وبدا لهم فعله حماقة كبرى.

قال الصبي الأخرق ذو الثمانية عشر عامًا: «لقد رفض بيع هذه البلورة من قبل.»

وقالت ابنة الزوجة ذات الستة والعشرين عامًا المولَعة بالجدال: «لكنها خمسة جنيهات!»

كانت ردود السيد كيف بائسة؛ فلم يستطع إلا أن يتمتم بادعاءات واهية أنه هو الأدرى بعمله. دفعوه إلى أن يقوم، ولم يُنهِ عشاءه، إلى المتجر ليغلقه ما تبقى من الليل، وكانت أذناه متَّقدتَين، ودموع الغيظ تحتشد وراءَ عدسات نظارته. لماذا ترك البلورة في نافذة العرض هذه المدة الطويلة؟ يا له من أحمق! كانت هذه هي المشكلة التي تسيطر على تفكيره. لم يستطع لمدة أن يجد طريقة لتفادي بيعها.

بعد العشاء، تأنقت ابنة الزوجة وابنها وخرجا من المنزل، بينما انسحبت زوجته إلى الطابق العلوي لتفكر في احتمالات بيع البلورة وهي تحتسي الليمون الساخن المُحلى بقليل من السكر. ذهب السيد كيف إلى المتجر وظل فيه حتى وقت متأخر، متظاهرًا بأنه يصنع صخورًا مزخرفة لأحواض الأسماك الذهبية، لكن ذلك كان في الحقيقة لغرضٍ سرِّيٍّ سنشرحه لاحقًا. في اليوم التالي، وجدت السيدة كيف أن البلورة أُزيلت من نافذة العرض، وكانت تقبع وراء بعض الكتب المستعملة في إحدى زوايا المتجر، فأعادت السيدة كيف وضعها في مكان ظاهر، لكنها لم تُكثر من المجادلة بشأنها؛ إذ منعها صداع شديد من النقاش، أما السيد كيف فقد كان دائمًا كارهًا للنقاش. مرَّ اليوم وهما على خلاف. كان السيد كيف شارد الذهن أكثر من المعتاد، وفوق ذلك، كان نزِقًا على نحو غريب. وفي الظهيرة، حينما كانت زوجته في قيلولتها اليومية، أزال البلورة من نافذة العرض مرة أخرى.

في اليوم التالي، كان على السيد كيف تسليم شحنة من أسماك قرش كلب البحر لأحد المستشفيات، حيث كانت مطلوبة لتشريحها. في غيابه، استولى على فكرها موضوع البلورة والسبل المناسبة لإنفاق الجنيهات الخمسة، وهو مبلغ كبير لم يكن متوقعًا. كانت قد فكرت بالفعل في بعض السبل المناسبة لإنفاق المبلغ؛ من بينها شراء فستان من الحرير الأخضر لنفسها، والقيام برحلة إلى ريتشموند، لكن رنين جرس الباب الأمامي قطع حبل أفكارها لتذهب إلى المتجر. كان الزبون مدرب فحص أتى ليشتكي من أن بعض الضفادع التي طلبها في اليوم السابق لم تُسلَّم بعدُ. لم توافق السيدة كيف على هذا الجانب من عمل السيد كيف، ورحل الرجل الذي جاء بمزاج حاد بعض الشيء، بعدما تبادلا بضع كلمات، بأسلوب متحضر تمامًا فيما كان يعنيه. تحولت عينا السيدة كيف تلقائيًّا إلى النافذة؛ حيث كانت رؤية البلورة تطمئنها على الجنيهات الخمسة وعلى أحلامها. وكم أدهشها أن وجدت أنها اختفت!

ذهبت لتفحص ما وراء الخزانة التي تقبع فوق المنضدة، حيث وجدَتْها في اليوم السابق. لم تكن هناك؛ فشرعت بتفتيش محموم في أنحاء المتجر.

ولما عاد السيد كيف من توصيل قرش كلب البحر في حوالي الثانية إلا ربعًا بعد الظهر، وجد المتجر في حالة فوضى، ووجد زوجته في حالة غضب شديد، وهي راكعة على ركبتيها وراءَ النَّضَد، تفتش بين المواد التي يستخدمها في التحنيط. رفعت وجهها أعلى النَّضَد، وكان ساخنًا وغاضبًا، حالما أعلن جرس الباب عودته، واتهمت زوجها مباشرة ﺑ «إخفائها».

سأل السيد كيف: «إخفاء ماذا؟»

«البلورة!»

هُرع السيد كيف عندئذٍ إلى نافذة العرض، حيث ظهر عليه الاندهاش، وقال: «أليست هنا؟ يا إلهي! ماذا حدث لها؟»

وحينئذٍ، دخل ابن زوجة السيد كيف إلى المتجر من الغرفة الداخلية، حيث عاد إلى المنزل قبلَ السيد كيف بدقيقة تقريبًا، وكان يتفوَّه بالشتائم بلا تحفُّظ. كان أجيرًا لدى تاجر أثاث مستعمل في نهاية الشارع، لكنه كان يتناول طعامه في المنزل، وثارت ثائرته بالطبع حينما لم يجد الغداء جاهزًا.

لكنه إذ سمع بضياع البلورة، نسيَ طعامه، وتحول غضبه من والدته إلى زوجها. كان أول ما خطر على بالهما بالطبع هو أنه خبأها. لكن السيد كيف نفى بحزم أي معرفة له بمصيرها، معبِّرًا عن رأيه المشوش في الموضوع بحرية؛ وانتهى به الأمر إلى حد اتهام زوجته أولًا ثم ابنها بأخذ البلورة بِنيَّة بيعها سرًّا. هكذا بدأ جدال قاسٍ وانفعاليٌّ كثيرًا، انتهى بأن أصبحت السيدة كيف في حالة عصبية غريبة ما بين الهيستريا والجنون، وتسببت في أن يتأخر ابنها نصف ساعة عن العودة إلى متجر الأثاث بعد الظهيرة. ولجأ السيد كيف إلى المتجر هربًا من انفعالات زوجته.

في المساء، تجدَّد النقاش حولَ الأمر، بانفعال أقل، وبروح عقلانية، برئاسة ابنة الزوجة. مرَّ وقت العشاء تعيسًا، وبلغ ذروته في مشهد مؤلم؛ إذ استسلم السيد كيف في النهاية للاستفزاز المفرط، وخرج صافقًا الباب بعنف. أما بقية أفراد العائلة، بعد مناقشتهم أمر السيد كيف بحرية في غيابه، ففتشوا المنزل من العُلِّيَّة حتى القبو؛ على أمل العثور على البلورة.

في اليوم التالي، رجع الزبونان مرة أخرى. واستقبلتْهما السيدة كيف وهي على وشك البكاء. كان من الجليِّ أن أحدًا لم يكن بوسعه أن يتخيَّل كم تحملتْ من السيد كيف خلال أوقات متقلبة من رحلة زواجها، وروت لهما أيضًا قصة مبتورة عن اختفاء البلورة. تبادل القس والشرقي الابتسام في صمت، وقالا إن الأمر عجيب. وحينما بدا أن السيدة كيف على وشك أن تحكيَ تاريخ حياتها الكامل لهما، عزما على الرحيل من المتجر، لكن السيدة كيف، التي لم تزل يحدوها الأمل، طلبت من القس عنوانه حتى يمكنَها التواصل معه إذا حصلت على أي معلومات من كيف. أعطاها الرجل عنوانه بدقة لكنها أضاعته، ولم تستطع أن تتذكر أي شيء بشأنه.

في مساء ذلك اليوم، بدا أن أفراد الأسرة استنفدوا انفعالاتهم، وتناول السيد كيف — الذي كان في الخارج في الظهيرة — عشاءه في عزلة كئيبة، تناقضت تمامًا مع النقاشات الانفعالية التي سادت المنزل في الأيام الماضية. لفترة من الزمن، كانت الأمور متوترة للغاية في بيت آل كيف لكن لم تظهر البلورة ولا الزبونان مرة أخرى.

الآن، يجب الإقرار بلا مواربة بأن السيد كيف كان كاذبًا. كان يعلم تمامًا مكان البلورة. كانت في حوزة السيد جاكوبي ويس، المدرس المساعد في مستشفى سانت كاثرين في شارع ويستبورن. وكانت تقبع فوق نضد، مغطاة جزئيًّا بقطعة من المُخْمَل الأسود بجانب قِنِّينة الويسكي الأمريكي. والواقع أن التفاصيل التي قامت عليها هذه القصة أتت من السيد ويس. ذهب كيف إلى المستشفى مُخفيًا البلورة في كيس قرش كلب البحر، وهناك ألح على المفتش الشاب أن يحتفظ بها من أجله. كان السيد ويس متشككًا في البداية. كانت صداقته مع كيف غريبة. كان ينجذب للشخصيات الفريدة، وسبق أن دعا الرجل العجوز أكثر من مرة للتدخين والشراب والإفضاء بآرائه المسلية بعض الشيء عن الحياة عمومًا، وعن زوجته خصوصًا. كذلك، قابل ويس السيدة كيف في مناسبات لم يكن السيد كيف موجودًا فيها في المنزل ليقابله. كان يعرف بتدخلها المستمر في شئون كيف، وبعد أن فكَّر في القصة بعقلانية، قرر توفير ملاذٍ للبلورة. وعده السيد كيف بتفسير أسباب حبه الملحوظ للبلورة بمزيد من التفصيل في مناسبة أخرى، لكنه تحدث تحديدًا عن رؤيته رؤًى من خلالها. ودعا السيد ويس لزيارته في مساء اليوم نفسه.

حكى قصة معقدة، فقال إنه حصل على البلورة مع أشياءَ أخرى متنوعة في بيع إجباري لممتلكات تاجر تحف آخر، وإذ لم يكن يعرف قيمتها، قدَّر ثمنها بعشرة شلنات. ظلت البلورة في حوزته شهورًا عدة حتى إنه فكَّر في تخفيض المبلغ، قبل أن يكتشف أمرًا عجيبًا.

في ذلك الوقت، كانت صحته معتلَّة للغاية — ويجب ألَّا ننسى أنه خلال هذه التجرِبة كانت حالته الجسدية متدهورة — وكان في ألم شديد بسبب الإهمال، بل حتى المعاملة السيئة من زوجته وابنيها. كانت زوجته مغرورة ومبذِّرة وقاسية المشاعر، وأخذت تعتاد شرب الخمر سرًّا، أما ابنة زوجته فكانت خسيسة ومخادعة، وكان ابن زوجته يكرهه بشدة، ولم يفوِّت فرصة لإظهار هذا. كانت متطلبات عمله تُثقله، ويعتقد ويس أنه كان يسكر أحيانًا. بدأ حياته في وظيفة مريحة، وحصل على تعليم جيد، وكان يعاني — على امتداد أسابيع — من الاضطراب العقلي والأرق. ولخوفه من أن يزعج عائلته، كان يَنسلُّ في صمتٍ من جانب زوجته ويتجول في المنزل حينما تصبح أفكاره لا تُحتمل. وفي الثالثة من صباح أحد أواخر أيام شهر أغسطس، قادته الصدفة إلى المتجر.

كان المكان القذر الضيق غارقًا في الظلام فيما عدا بقعة واحدة رأى فيها لمعانًا غير معتاد. باقترابه منها، اكتشف أن اللمعان صادر من البيضة البلورية الموضوعة عند ركن نضد المتجر قبالة النافذة. كان هناك شعاع ضوء رفيع ينبعث من شق في مصراعَي النافذة ليقع على البلورة، وبدا كما لو أنه ملأ داخلها بالضوء تمامًا.

خطر للسيد كيف أن هذا ينافي قوانين البصريات التي كان يعرفها في صغره. كان بإمكانه أن يفهم انعكاس الأشعة عن البلورة وتَركُّزها في نقطة داخلها، لكن انتشار الضوء هكذا ناقضَ مفاهيمه الفيزيائية. اقترب من البلورة وحدَّق فيها وفيما حولها بطريقةٍ أيقظت فضوله العلمي الذي حسم في شبابه اختياره للمهنة. أدهشه أن يجد أن الضوء لم يكن ثابتًا، ولكنه كان يتلوَّى داخل مادة البيضة كما لو كانت كُرة مفرَّغة بها بخار مُشع. أثناء تَحرُّكه للحصول على زوايا رؤية مختلفة، وجد فجأة أنه وقف بينها وبين الشعاع، ومع ذلك بقيت مضيئة، وبدهشةٍ بالغة، رفعها بعيدًا عن شعاع الضوء وحملها إلى أكثر أجزاء المتجر ظلامًا. ظلت البلورة ساطعة أربع دقائق أو خمسًا، قبل أن يخفت الضوء تدريجيًّا ليختفي تمامًا. وضع البلورة في شعاع النور الرفيع فما لبثت أن استعادت وهجها.

حتى الآن على الأقل، كان السيد ويس قادرًا على تأكيد صحة قصة السيد كيف الغريبة. حمل بنفسه هذه البلورة في مسار شعاع ضوئي (لا يبلغ قطره مليمترًا واحدًا). وفي ظلام دامس، أمكن الحصول عليه بغطاء مخملي، بدت البلورة بلا شك وامضة بقدر قليل للغاية. على الرغم من ذلك، بدا الوهج كما لو كان من نوع استثنائي، ولا يراه كل من ينظر إليه بالتساوي؛ لأن السيد هاربينجر — الذي سيكون اسمه معروفًا لاحقًا للقارئ العلمي، وسيرتبط بمعهد باستير — لم يستطع رؤية أي ضوء على الإطلاق. وكانت قدرة السيد ويس على تقدير هذا الوهج أدنى بكثير من قدرة السيد كيف. وحتى بالنسبة إلى السيد كيف، كانت القوة تتفاوت بدرجات كبيرة؛ فكانت رؤيته أوضح ما تكون في أقصى حالات ضعفه وتعبه.

الآن، من البداية، مارس هذا الضوء الكامن في البلورة فتنة عجيبة على السيد كيف. ومما يدل على شعوره بالوحشة الروحية بأكثر مما يمكن أن يفعله مجلد من الكتابة المتعاطفة أنه لم يخبر أي إنسان عن ملاحظاته المثيرة. يبدو أنه يعيش في مناخ من الكراهية والازدراء لدرجة أنه لو أعلن عن إحساسه بأي متعة فسيخاطر بفقدانها. اكتشف أنه كلما اقترب الفجر، وزادت كَمية الضوء المنتشر، أصبحت البلورة غير متوهجة مطلقًا. ولبعض الوقت، كان عاجزًا عن رؤية أي شيء فيها إلا في الليل، في أركان المتجر المظلمة.

لكن خطر له استخدام قطعة المُخْمَل الأسود التي كان يستخدمها خلفيةً لمجموعة من المعادن. وبمضاعفة سُمْكها ووضعها فوق رأسه ويديه، استطاع رؤية الحركة المتوهجة داخل البلورة حتى أثناء النهار. كان حذرًا للغاية من أن تكتشف زوجته أمره، ومارس هذه الهواية في أوقات ما بعد الظهيرة فقط، وهي نائمة في الطابق العلوي، ثم بعد ذلك كان يمارسها بحذر في تجويف تحت النَّضَد. وذات يوم، رأى شيئًا وهو يقلب البلورة بين يديه، ظهر واختفى كوميض، لكنه أعطاه الانطباع بأن البلورة أتاحت له لوهلة رؤية بلد واسع وشاسع وغريب؛ وبتقليبها مرة أخرى، رأى بمجرد خفوت الضوء، الرؤية نفسها مرة أخرى.

الآن، يبدو مرهِقًا وغير ضروري أن نذكر كل مراحل اكتشاف السيد كيف من هذه النقطة. يكفي أن نذكر أن النتيجة كانت كما يأتي: عندما تُحمل البلورة بزاوية ١٣٧ درجة من الشعاع المضيء، كانت تعطي صورة واضحة وثابتة لريف فسيح وغريب. لم تكن تشبه الحلم على الإطلاق؛ فقد تركت داخله انطباعًا أكيدًا بالواقع، وكلما كان الضوء أقوى كانت الصورة أوضح وأكثر تماسكًا. كانت صورة متحركة؛ أي إن أجسامًا معينة كانت تتحرك فيها، لكن ببطء وبانتظام كالأشياء الحقيقية، كما كانت الصورة تتغير طبقًا لتغيُّر اتجاه الضوء والرؤية. لا بد أن الأمر كان يشبه حقًّا النظر من خلال زجاج بيضاوي إلى منظر، وإدارة الزجاج لاستكشاف جوانب مختلفة.

يؤكد لي السيد ويس أن عبارات السيد كيف كانت تفصيلية للغاية، وخالية تمامًا من أي طابع انفعالي مما يَسِم التهيؤات الهلاوسية. لكن يجب أن نتذكر أن كل جهود السيد ويس لرؤية أي منظر واضح في اللمعان الخافت للبلورة باءت بالفشل كلما حاول. كان الفارق في وضوح الصورة الذي أدركه الرجلان كبيرًا للغاية، وكان مفهومًا تمامًا أن ما كان منظرًا للسيد كيف كان مَحض ضبابية مشوشة للسيد ويس.

كان المنظر، كما وصفه السيد كيف، على الدوام لسهل ممتد، وبدا أنه كان ينظر إليه دائمًا من ارتفاع ملحوظ، كما لو كان من برج أو صارِيَة. وإلى الشرق وإلى الغرب، كانت تحد السهل من بعيد منحدرات حمراء شاسعة، ذكَّرته بما رآه في صورة ما، لكن السيد ويس لم يكن قادرًا على تحديد ماهية الصورة بدقة. امتدت هذه المنحدرات شمالًا وجنوبًا — كان يستطيع معرفة الاتجاهات بالنجوم التي كانت واضحة ذات ليلة — حتى تنحسر عند الأفق الذي لا حدود له تقريبًا، لتختفي في الضباب البعيد قبل أن تلتقي مجددًا. كان أقرب للمنحدرات الشرقية؛ وفي المرة الأولى لرؤيته، كانت الشمس تُشرق على المنحدرات، بينما ظهرت مجموعة أجسام محلقة، سوداء في ضوء الشمس، وشاحبة في ظل المنحدرات، اعتبرها السيد كيف طيورًا. كان هناك مجموعة كبيرة من الأبنية التي امتدت من تحته؛ وبدا أنه كان يطل عليها؛ وحالما اقتربت من الطرَف الضبابي المتكسر من الصورة أصبحت مبهمة. كان هناك كذلك مجموعة من الأشجار غريبة الشكل، وكان لونها مزيجًا من الأخضر الطحلبي والرَّمادي اللامع، إلى جانب قناة مائية عريضة رقراقة. ثم طار شيء ضخم زاهي الألوان عبر الصورة. غير أنه في أول مرة يرى فيها السيد كيف هذه الصور التي رآها على شكل ومضات، ارتجفت يداه، ودار رأسه، وتذبذبت الرؤية، وصارت ضبابية ومُبهَمة. وكانت الصعوبة الكبيرة في البداية في العثور على الصورة مرة أخرى بمجرد فقدان اتجاهها.

وفي رؤياه الثانية الواضحة، التي أتت بعد حدوث الأولى بأسبوع، لم تُثمر المشاهدة إلا عن لمحات لم تَزد إلا عذابه، لكنها أمدَّته بخبرة مفيدة؛ إذ رأى المشهد على امتداد الوادي كله. كان المنظر مختلفًا، لكن السيد كيف كان على اقتناع غريب أكدته ملاحظاته التالية بقدر كبير، وهو أنه كان يشاهد العالم الغريب من المكان نفسه، رغم أنه كان ينظر في اتجاه مختلف. كانت الواجهة المرتفعة للمبنى الكبير الذي كان يقف فوق سطحه ناظرًا للمشهد تتراجع في منظوره. ميز السطح. أمام الواجهة، كانت هناك شرفة شديدة الاتساع والطول، وفي وسط الشرفة على أبعاد متساوية صَوارٍ ضخمة، لكنها جميلة للغاية، حاملة أجسامًا صغيرة لامعة تعكس الشمس الغاربة. لم يُدرك السيد كيف أهمية هذه الأجسام الصغيرة فوق الصواري ولا فائدتها إلا لاحقًا، حينما كان يصف المشهد للسيد ويس. كانت الشرفة تطل على أَجَمة من النباتات الوارفة البديعة، ووراءَ هذا المنظر كان هناك مَرْج واسع مليء بالحشائش، ترقد عليه كائنات عريضة تشبه الخنافس، لكنها أضخم بشكل هائل. خلفها، كان طريق مرتفع مكوَّن من صخور وردية، ومزين بغزارة. ووراء ذلك، كان ممر مائي عريض تلتمع مياهه كالمرآة، محفوفًا بأعشاب حمراء كثيفة، ويمر في الوادي بموازاة المرتفعات البعيدة. أما السماء فكانت مليئة بأسراب طيور عملاقة تتحرك في منحنيات كبيرة، بينما كانت على الجانب الآخر من النهر مجموعة كبيرة من الأبنية البديعة الزاهية، تلمع بزخارف نباتية قوطية، وأسطح صغيرة معدِنية، وسط غابة من الأشجار التي تنمو عليها أشنات. فجأة، قطعت مجال رؤيته رفرفة متكررة كمهواة يدوية مزينة بالمجوهرات أو ضربات جناح، أعقبها ظهور وجه، أو للدقة، الجزء الأعلى من وجه به عينان كبيرتان، وكان قريبًا للغاية من وجهه كما لو كان ينظر إليه من الجانب الآخر من البلورة. أجفل السيد كيف، وكان مندهشًا للغاية لوجود هاتين العينين حتى إنه أبعد رأسه عن البلورة لينظر وراءها. استغرقت المشاهدة السيد كيف حتى إنه اندهش إذ وجد نفسه يجلس وحيدًا في الظلام الدامس لمتجره الصغير المليء بروائح الميثيل والتعفن والتحلل. وبمجرد أن رمش بعينيه، خفَت لمعان البلورة واختفت الرؤية.

هكذا كانت الانطباعات العامة الأولى للسيد كيف. كانت قصته واضحة ومُفصَّلة بعناية. منذ البداية، حينما شاهد الوادي من خلال الومضات الخاطفة بحواسِّه، وتأثر خياله على نحو غريب، وحالما بدأ يركز في تفاصيل المشهد الذي رآه، تزايد تعجبه حتى صار شغفًا. باشر عمله بفتور واضطراب، ولم يكن يفكِّر إلا في الوقت الذي سيقدر فيه على العودة لمشاهدته البلورة. بعد مرور بضعة أسابيع على أول رؤية له للوادي، جاء الزبونان، وحدث ما حكيته عن الإجهاد والانفعال اللذين انتاباه بسبب عرضهما، وإنقاذ البلورة من البيع بصعوبة.

الآن، بينما كانت البلورة سِر السيد كيف، فقد بقيتْ مَحْض أعجوبة، شيئًا يتسلل إليه سرًّا، ويتطلع فيه، كما قد يتطلع طفل إلى حديقة محظورة. لكن السيد ويس، بوصفه باحثًا شابًّا، كان ذا فكر رائق ومرتَّب بامتياز. فور معرفته بقصة البلورة، وبإشباع فضوله برؤية وميضها الفوسفوري بعينيه، أدرك أن هناك دليلًا ما بالفعل على صحة رواية السيد كيف، فاستمر في تفصيل الموضوع على نحو منظم. كان السيد كيف مسرِفًا في المجيء وإمعان النظر في العالم العجيب الذي رآه، وكان يحضر كلَّ ليلة من الثامنة والنصف حتى العاشرة والنصف، وأحيانًا — في غياب السيد ويس — بالنهار. كان يأتي كذلك في ظهيرة أيام الآحاد. منذ البداية، دوَّنَ السيد ويس ملاحظات غزيرة، وبفضل منهجه العلمي أثبت وجود علاقة بين اتجاه دخول أول شعاع لضوء البلورة واتجاه الصورة التي تظهر خلالها. وبتغطية البلورة داخل صندوق به ثقب وحيد لعبور شعاع الضوء المثير، وباستخدام المُخمل الأسود بدلًا من مِصراعَي نافذته، حسَّن ظروف الملاحظات، حتى إنهما أصبحا قادرَيْن في وقت وجيز على مسح الوادي في أي اتجاه يرغبان فيه.

بعد أن مهدنا الطريق، يمكننا الآن إعطاء وصف مختصر للعالم الخيالي داخل البلورة. كانت رؤية الأشياء من نصيب السيد كيف في كل الحالات، وكان منهج العمل باستمرار هو أن يشاهد البلورة ويُبلِغ بما يرى، بينما كان السيد ويس (الذي تعلَّم بوصفه طالبًا للعلوم إتقان الكتابة في الظلام) يكتب ملحوظات مختصرة عما يُبلَغ به. وحينما تخفت البلورة، كانت تُوضع في صندوقها في وضع مناسب وتُضاء الأنوار. كان السيد ويس يطرح الأسئلة ويقترح ملاحظات لتذليل الصعوبات. في الواقع، لم يكن ليوجد ما هو أقل خيالًا وأكثر واقعية.

تحوَّل انتباه السيد كيف بسرعة إلى المخلوقات التي تشبه الطيور التي كان يراها حاضرة بكثرة في كل رؤاه الأولى. وسرعان ما صوب انطباعه الأول، وظن لفترة أنها ربما تمثل نوعًا نهاريًّا من الوطاويط. ثم فكر، بغرابة، أنها مجموعة من الملائكة. كانت رءوسها مستديرة، وتشبه رءوس البشر بشكل غريب؛ وكانت عينا أحدها هي ما روَّعه بشدة في ملاحظته الثانية؛ كانت لها أجنحة فِضية عريضة بلا ريش، لكنها كانت تلمع مثل قشور السمك الذي اصطِيد للتوِّ، وبالتموج الغامض للألوان نفسه. ولم تكن هذه الأجنحة مبنية على غرار أجنحة الطيور أو الوطاويط، التي درسها السيد ويس، ولكنها كانت مُدعمة بضلوع مقوَّسة تشع من الجسد (أفضل وصف لها أنها أجنحة فراشات مُدعمة بضلوع مقوَّسة). كان الجسد صغيرًا، لكنه مُزوَّد بمجموعتين من أعضاء الإمساك، تشبه المِجَسات، تحت الفم مباشرة. رغم أن هذا بدا مذهلًا للسيد ويس، لكنه لم يملك إلا الاقتناع في النهاية بأن هذه الكائنات هي التي كانت تملك الأبنية العملاقة التي تشبه أبنية البشر والحديقة الفخمة التي تجعل الوادي الفسيح رائعًا. علاوة على ذلك، أدرك السيد كيف أن الأبنية، بجانب العجائب الأخرى، بلا أبواب، ولكن النوافذ الدائرية الواسعة التي تنفتح في سهولة، كانت توفر للكائنات المدخل والمخرج. كانت تلك الكائنات تحطُّ على مِجساتها، وتطوي أجنحتها حتى تصير صغيرة مثل العصا، وتَثِب داخلَ الأبنية. لكن، كانت بينَها كثرةٌ من كائنات مجنَّحة أصغر حجمًا تشبه اليعاسيب والعِثَاث والخنافس الطائرة الضخمة. وعبر الأرض العشبية، كانت تزحف ببطء خنافسُ أرضية عملاقة زاهية ذَهابًا وإيابًا. عَلاوة على ذلك، على الممرات المرتفعة والشرفات، كانت تظهر كائنات ذات رءوس عملاقة تشبه الذباب المجنَّح الكبير، لكنها بلا أجنحة، وكانت منشغلة بالقفز على شبكة مِجَساتها التي تشبه الكف.

أشرنا بالفعل إلى الأجسام اللامعة فوق الصواري التي كانت تنتصب على شرفةِ أقرب مبنى. تجلى للسيد كيف — بعد مشاهدة أحد هذه الصواري بتدقيق شديد في يوم شديد الإشراق — أن تلك الأجسام اللامعة كانت بلورات تشبه التي ينظر فيها. وبالمزيد من التدقيق، اقتنع السيد كيف أن كل واحدة، في مشهد يضم نحو عشرين صارية، كانت تحمل جسمًا مشابهًا.

كان الواحد من الكائنات المجنَّحة الضخمة يرفرف عاليًا إلى أحد الصواري، ويشاهِد — بعد أن يطويَ جناحَيه ويلف عددًا من مِجساته حول الصارية — البلورةَ بثبات لفترة زمنية تمتد أحيانًا إلى خمس عشرة دقيقة. اقتنع الرجلان، بعد سلسلة من الملاحظات التي اقترحها السيد ويس، أنه فيما يخص هذا العالم الخيالي الذي يشاهدانِه، أن البلورة التي ينظران من خلالها كانت تقف على قمة أبعد تلك الصواري في الشرفة، وأنه في إحدى المرات على الأقل نظر أحد سكان ذلك العالم في وجه السيد كيف أثناء ملاحظاته لعالمهم.

كفانا حقائق أساسية لهذه القصة الفريدة. ما لم نرفضها كلها على اعتبار أنها اختلاق بارع من السيد ويس، يجب علينا تصديق أحد أمرين: إما أن بلورة السيد كيف كانت في عالمَيْن في وقت واحد، وبينما كانت تُحمَل في أحدهما من مكان إلى آخر ظلت ثابتة في الآخر، وهذا ما يبدو سخيفًا إجمالًا؛ وإما أن هناك علاقة غريبة بينها وبين بلورة أخرى مشابهة لها تمامًا في هذا العالم الآخر، حتى إن ما يُرى داخل البلورة التي في هذا العالم، يمكن لمراقِب من العالم الآخر رؤيته في ظروف مناسبة في البلورة المناظرة، والعكس صحيح. في هذا الوقت، لا نعرف حقًّا بأي طريقة يمكن أن ترتبط بلورتان، لكننا نعرف اليوم ما يكفي لندرك أن الأمر ليس مستحيلًا بالكلِّية. كان وجود ارتباط بين البلورتين هو الفرضية التي طرأت للسيد ويس، وهي تبدو لي على الأقل مقبولة للغاية.

لكن أين كان هذا العالم الآخر؟ أوضح ذكاء السيد ويس اليقظ هذا الأمر أيضًا بسرعة. بعد الغروب، أظلمت السماء بسرعة — في الواقع كانت هناك فترات شَفَق قصيرة للغاية — وبزغت النجوم. كانت تشبه تلك التي نراها في عالمنا ومُرتَّبة في المجموعات الكوكبية ذاتها. رأى السيد كيف مجموعات الدُّب والثريا ونَجْمَي الدَّبَران والشِّعرَى، وهو ما يعني أن العالم الآخر لا بد أنه يقع ضمن مجموعتنا الشمسية، ويبعد عن عالمنا على أقصى تقدير بضع مِئات الملايين من الأميال. باتباع هذا الدليل، أدرك السيد ويس أن سماء منتصف الليل كانت أغمق في زُرقتها من سماء عالمنا في منتصف الشتاء، وأن الشمس بدت أصغر قليلًا في ذلك العالم. «كما كان هناك قمران صغيران» «مثل قمرنا لكن أصغر ولهما سمات مختلفة تمامًا»، كان أحدهما يتحرك بسرعة كبيرة حتى إن حركته كانت واضحة لمن ينظر إليه. ولم يكن هذان القمران عاليَيْن في السماء قطُّ، وإنما كانا يختفيان حالَما يرتفعان؛ ويعني هذا أنهما كانا يتعرضان للخسوف في كل مرة يكملان فيها دورة كاملة؛ لأنهما كان قريبَيْن للغاية من كوكبهما الأم. كل هذا يعبِّر بشكل كامل عما هي عليه الأمور على كوكب المريخ، رغم أن السيد كيف لم يكن يعلم هذا.

في الواقع، يبدو الاستنتاج القائل بأن السيد كيف كان ينظر إلى سطح المريخ وسكانه من خلال البلورة معقولًا للغاية. وإذا كان هذا هو الأمر بالفعل، فإن نجم المساء الذي كان يلمع بشدة في السماء من تلك المسافة البعيدة لم يكن سوى كوكبنا المألوف، الأرض.

لبعض الوقت، لم يكن يبدو أن المريخيين — إذا كانوا مريخيين — على علم بملاحظة السيد كيف لهم. كان الواحد منهم يأتي مرة أو مرتين ليحدق، وينصرف سريعًا إلى صارية أخرى، وكأن الرؤية لم تكن مُرضية. خلال ذلك الوقت، استطاع السيد كيف مشاهدة سير حياة هذا الشعب المجنَّح دون أن تزعجَه ملاحظاتهم، ورغم أن تقريره غامض ومفكَّك لا محالة، فإنه مع ذلك يوحي بالكثير. تخيل الانطباع عن الإنسانية الذي يمكن أن يحصل عليه مراقب مريخي كان بإمكانه — بعد تحضير صعب وإرهاق كبير للعينين — التحديق في لندن من برج كنيسة سان مارتن على فترات تبلغ أطول فترة منها أربع دقائق. كان السيد كيف عاجزًا عن التأكد مما إن كان المريخيون المجنَّحون هم أنفسهم المريخيون الذين كانوا يتقافزون في الممرات المرتفعة والشرفات، وما إن كان بإمكان هؤلاء أن يرتدوا أجنحة حينما يريدون. رأى مرارًا حيوانات خرقاء ذات قدمين، تشبه القردة على نحو غامض، وبيضاء، وشفافة جزئيًّا، تتغذى وسط نوع من الأشجار التي تنمو عليها الأشنات. وفي مرة هرب بعض هؤلاء من أمام أحد المريخيين ذوي الرءوس الدائرية المتقافزين. أمسك المريخي بأحدهم في مِجَساته، وحينئذٍ اختفت الصورة فجأة، وتركت السيد كيف في الظلام متشوقًا لمعرفة ما حدث. وفي مرة أخرى، ظهر شيء ضخم، ظنه السيد كيف في البداية حشرة عملاقة، وهو يتقدم في الممر المرتفع بجوار القناة المائية بسرعة رهيبة. وحالما أصبح هذا الشيء أقرب، أدرك السيد كيف أنه كان آلة مكونة من معادن لامعة، ومعقدة للغاية. وبعد ذلك، حينما نظر مرة أخرى، اختفى عن نظره.

بعد فترة، طمح السيد ويس لجذب انتباه المريخيين؛ وفي المرة التالية التي ظهرت له فيها عينا أحدهم الغريبتان قريبة من البلورة، صرخ السيد كيف، وهرب بعيدًا، وأشعلا النور على الفور، وبدءا في الإيماء بأسلوب يوحي بإرسال الإشارات. لكن حينما عاد السيد كيف في النهاية لفحص البلورة وجد أن المريخي قد اختفى.

بعد ذلك الوقت، زادت هذه المشاهدات في أوائل شهر نوفمبر، وحينئذٍ بدأ السيد كيف في اصطحاب البلورة معه أينما ذهب بعد شعوره بأن شكوك عائلته بشأن البلورة بدأت تهدأ؛ حتى يسليَ نفسه — سواء بالنهار أو بالليل — بمشاهدة ما أصبح بمرور الوقت أكثرَ شيء واقعي في حياته.

في شهر ديسمبر، أصبح عمل السيد ويس المرتبط بالامتحانات المقبلة عبئًا ثقيلًا، وكانت جلساتهما تتوقف على مضض لمدة أسبوع، وطوال عشرة أيام أو أحد عشر يومًا — لم يكن متأكدًا من هذا — لم يرَ السيد كيف مطلقًا، وحينئذٍ ازدادت لهفته لاستئناف هذه المشاهدات. وبانخفاض ضغط عمله المعملي الموسمي، ذهب إلى شارع سفن ديالز، وعلى الناصية لاحظ أن مصاريع نوافذ متجرَيْ مربي الطيور والإسكافي مغلقة، وكان متجر السيد كيف مغلقًا.

دق على الباب، وفتحه ابن زوجة السيد كيف مرتديًا ملابس سوداء. نادى فورًا على السيدة كيف التي لم يستطع السيد ويس إلا أن يلاحظ أنها كانت ترتدي ثياب حِداد رخيصة لكنها فضفاضة بشكل مهيب. دون أن يفاجأ السيد ويس بشكل كبير، عرف أن كيف مات ودُفِن بالفعل. كانت دامعة، وكان صوتها أجش قليلًا، كانت قد عادت لتوِّها من ضاحية هايجيت، وبدا أن عقلها كان منشغلًا بشئونها، والتفاصيل الرسمية للمأتم، لكن السيد ويس نجح في النهاية في معرفة تفاصيل موت السيد كيف. عُثِر عليه ميتًا في متجره في الصباح الباكر بعد آخر زيارة منه للسيد ويس، وكانت البلورة بين يديه المتصلبتين الباردتين، كان وجهه باسمًا، حسب قول السيدة كيف، كما كانت قطعة المُخمل التي يستخدمها لحفظ المعادن ملقاة عند قدميه. لا بد أنه مات قبل خمس ساعات أو ستٍّ من العُثور عليه هكذا.

مثَّل هذا صدمة كبيرة لويس، وأخذ يوبخ نفسه بشدة لأنه تجاهل الأعراض الواضحة لاعتلال الرجل العجوز. لكن تفكيره الرئيس انصبَّ على البلورة، واقترب من هذا الموضوع بحذر شديد لمعرفته بغرابة أطوار السيدة كيف، وصُعِق حينما عرف أنها بيعت.

كان أول ما فكرت فيه السيدة كيف، بعد اصطحاب جسد زوجها للطابق العلوي، هو أن ترسل إلى القس المجنون الذي عرض خمسة جنيهات مقابل البلورة، لتخبره بأنها عثرت عليها، لكن بعد بحث شديد عن عنوانه بمساعدة ابنتها، اقتنعتا بأنهما فقدتاه، ولما لم تكن لديهم النفقات اللازمة لنَعْي كيف، ودفنه بشكل يليق بساكن قديم لشارع سفن ديالز، نشدوا تاجرًا من أصدقاء العائلة في شارع جريت بورتلاند. اشترى التاجر عن طيب خاطر جزءًا من بضائع المتجر بعد تقييمها. كان هو من قيَّمَ البضائع بنفسه، وكانت البيضة البلورية من بين ما حصل عليه. بعد تقديم قليل من التعازي الملائمة، المقدمة دون تحضير مسبق، هُرع السيد ويس فورًا إلى شارع جريت بورتلاند، لكنه علم هناك أن البيضة البلورية بيعت لرجل طويل أسمر يرتدي ملابس رَمادية. وهنا تنتهي الحقائق المادية لهذه القصة الغريبة، والموحية من وجهة نظري على الأقل، بشكل مفاجئ. لم يدرِ تاجر شارع جريت بورتلاند مَن كان الرجل الطويل الأسمر ذا الملابس الرَّمادية، ولم يرَه بالانتباه الكافي ليصفَه بدقة. لم يكن حتى يعرف أي طريق ذهب فيه الرجل بعد مغادرته المتجر. ظل السيد ويس في المتجر لفترة يختبر صبر التاجر بأسئلة لا طائل من ورائها، ليُنفِّس عن غضبه. في النهاية، وبعد أن أدرك فجأةً أن الأمر خرج برُمَّته عن نطاق سيطرته، وتبدَّد مثل حُلم عابر، عاد إلى غرفته، مندهشًا قليلًا لوجود الملحوظات التي كتبها، ما زالت كما هي على طاولته غير المرتبة.

كان إحباطه وضيقه عظيمين بالطبع. قام بزيارة ثانية (بلا طائل بالمثل) لتاجر شارع جريت بورتلاند، ولجأ لنشر إعلانات في الدوريات التي يَحْتَمل أن تقع في أيدي جامعي التحف والخردوات، كما بعث برسائل إلى مطبوعتَيْ ذا ديلي كرونيكل ونيتشر، لكن المسئولين عن المطبوعتَيْن شكُّوا في أن الأمر خُدعة، وطلبوا منه أن يُعيد التفكير في الأمر قبل نشر الخطابات، ونصحوه بأن مثل هذه القصة الغريبة، التي تفتقر لأي دليل يدعمها مع الأسف، ربما تهدد سمعته بصفته باحثًا. علاوة على ذلك، فإن عمله الرفيع كان له متطلباته العاجلة؛ لذا، وبعد مرور شهر أو نحوه — فيما عدا تذكرة بين الحين والآخر لبعض التجار — اضْطُر على مَضض إلى التخلي عن سعيه للعثور على البيضة البلورية، ومنذ ذلك اليوم حتى الآن، ما زالت البيضة مختفية. ورغم ذلك، يخبرني السيد ويس بين الحين والآخر، وأنا أصدقه بالفعل، أنه أحيانًا ما تنتابه نوبات حماس يتخلى فيها عن شغله الأكثر إلحاحًا، ويستأنف البحث عنها.

إن أمورًا مثل ما إذا كانت البلورة ستظل مفقودة أم لا، وكذلك ما يتعلق بطبيعة مادتها وأصلها، كلها تظل تخمينية تمامًا في الوقت الراهن. إذا كان مشتريها الحاليُّ جامعًا للتحف، فمن المتوقع أن استفسارات السيد ويس قد وصلته من خلال التجَّار. لقد تمكن السيد ويس من معرفة أن قس السيد كيف ورجله الشرقي لم يكونا سوى الموقَّر جيمس باركر وأمير بوسو الشاب كوني في جزيرة جاوة. يجب عليَّ ذكر بعض الأمور بشأنهما؛ فقد كان غرض الأمير الشاب هو مجرد الفضول والبذخ. وكان متلهفًا على الشراء لأن كيف كان ممانعًا — بالمقابل — في البيع. من المحتمل أن الشاريَ في المرة التالية كان شاريًا عابرًا وليس جامعًا للتحف على الإطلاق، وربما تكون البيضة البلورية الآن — على حد علمي — على بُعد مِيل مني، تُزين مَرسمًا، أو تُستخدم ثُقَّالة ورق، دون معرفة وظائفها المميزة. والواقع أن فكرة هذا الاحتمال هي ما دفعتني جزئيًّا لنشر هذه القصة بشكل يمنحها فرصة ليقرأها قارئ القصص الخيالية العادي.

أما أفكاري بشأن ما حدث فهي تتطابق تقريبًا مع أفكار السيد ويس. أعتقد أن البلورة التي تقبع على الصارية في أرض المريخ وبلورة السيد كيف، مرتبطتان ارتباطًا ماديًّا، لكن بشكل لا يمكن تفسيره في الوقت الراهن، ويؤمن كلانا بأن بلورة عالمنا من المحتمل أن تكون قد جاءت من المريخ في الماضي السحيق ليلقي سكان المريخ من خلالها نظرة مقرَّبة على أحوالنا اليومية. ربما كانت هناك بلورات أخرى في عالمنا تقابل بقية البلورات التي كانت على الصواري، لكن لا يمكن لأي نظرية خيالية أن تُغْني عن الحقائق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤