الفصل الثاني عشر

ولكن الشهر مضى، ورجع الأزهريُّ إلى القاهرة، وظلَّ صاحبنا حيث هو كما هو، لم يسافر إلى الأزهر، ولم يتَّخذِ العِمَّةَ ولم يدخل في جُبَّة أو قفطان.

كان لا يزال صغيرًا، ولم يكن من اليسير إرساله إلى القاهرة، ولم يكن أخوه يحب أن يحتمله، فأشار بأن يبقى حيث هو سنةً أخرى، فبقيَ ولم يَحْفِل أحدٌ برضاه أو غضبه.

على أنَّ حياته تغيَّرت بعض الشيء؛ فقد أشار أخوه الأزهريُّ بأن يقضيَ هذه السنة في الاستعداد للأزهر، ودفع إليه كتابين يحفظ أحدهما جملة، ويستظهر من الآخر صُحفًا مُختلفة.

فأمَّا الكتاب الذي لم يكن بُدٌّ من حفظه كلِّه فألفيَّةُ ابن مالك، وأمَّا الكتاب الآخر فمجموع المتون. وأوصى الأزهريُّ قبل سفره بأن يبدأ بحفظ الألفيَّة، حتى إذا فرغ منها وأتقنها إتقانًا، حفظ من الكتاب الآخر أشياءَ غريبةً، بعضها يسمَّى «الجوهرة»، وبعضها يسمى «الخريدة»، وبعضها يسمى «السراجية»، وبعضها يسمى «الرَّحَبيَّة»، وبعضها يسمى «لاميَّة الأفعال»، وكانت هذه الأسماء تقع من نفس الصبي مواقعَ تيهٍ وإعجاب؛ لأنه لا يفهم لها معنًى، ولأنه يقدِّر أنها تدل على العلم، ولأنه يعلم أنَّ أخاه الأزهري قد حفظها وفهمها فأصبح عالمًا وظفر بهذه المكانة الممتازة في نفس أبويه وإخوته وأهل القرية جميعًا، ألم يكونوا جميعًا يتحدثون بعودته قبل أن يعود بشهر، حتى إذا جاء أقبلوا إليه فرحين مبتهجين متلطفين! ألم يكن الشيخ يشرَب كلامه شُربًا، ويُعيده على الناس في إعجابٍ وفخار! ألم يكن أهل القرية يتوسَّلون إليه أن يقرأ لهم درسًا في التوحيد أو الفقه! وماذا عسى أن يكون التوحيد؟ وماذا عسى أن يكون الفقه؟ ثم ألم يكن الشيخ يتوسَّل إليه، مُلِحًّا مستعطفًا مسرفًا في الوعد، باذلًا ما استطاع وما لم يستطع من الأمانيِّ، ليُلقِيَ على الناس خُطبة الجمعة! ثم هذا اليوم المشهود يوم مولد النبيِّ، ماذا لَقِي الأزهريُّ من إكرامٍ وحفاوةٍ، ومن تَجلَّةٍ وإكبارٍ! كانوا قد اشترَوا له قفطانًا جديدًا، وجُبَّةً جديدةً وطربوشًا جديدًا، و«مركوبًا» جديدًا، وكانوا يتحدَّثون بهذا اليوم وما سيكون فيه قبل أن يُظِلَّهم١ بأيام، حتى إذا أقبل هذا اليومُ وانتصف، أسرعت الأسرة إلى طعامها فلم تُصب منه إلا قليلًا، ولبس الفتى الأزهريُّ ثيابه الجديدة، واتَّخذ في هذا اليوم عمامة خضراء، وألقى على كتفيه شالًا من الكشمير، وأمه تدعو وتتلو التعاويذ، وأبوه يخرج ويدخل جذلان مضطربًا، حتى إذا تَمَّ للفتى من زِيِّه وهيئته ما كان يُريد، خرج فإذا فرسٌ ينتظره بالباب، وإذا رجالٌ يحملونه فيضعونه على السَّرج، وإذا قومٌ يكتنفونه٢ من يمين ومن شمال، وآخرون يسعَون بين يديه، وآخرون يمشُون من خلفه، وإذا البنادق تطلق في الفضاء، وإذا النساء يزغردن من كل ناحية، وإذا الجوُّ يتأرَّج٣ بعَرْف البخور، وإذا الأصوات ترتفع متغنيَّة بمدح النبيِّ، وإذا هذا الحفل كله يتحرك في بطء وكأنما تتحرك معه الأرض وما عليها من دور. كل ذلك لأن هذا الفتى الأزهري قد اتُّخِذ في هذا اليوم خليفة، فهو يُطاف به في المدينة وما حولها من القرى في هذا المهرجان الباهر. وما باله اتُّخذ خليفة دون غيره من الشبان؟ لأنه أزهري قد قرأ العلم وحفظ الألفية والجوهرة والخريدة! فلِمَ لا يبتهج الصبيُّ حين يرى أن سيقرأ من العلم ما قرأ أخوه، وأن سيمتاز من رفاقه وأترابه بحفظ الألفية والجوهرة والخريدة؟!
figure

وكم كان فرحًا مختالًا حين غدا إلى الكتَّاب يوم السبت، وفي يده نسخة من «الألفية»! لقد رفعته هذه النسخة درجات، وإن كانت هذه النسخة ضئيلةً قذرةً سيئة الْجِلْد؛ ولكنها على ضآلتها وقذارتها، كانت تعدل عنده خمسين مُصحفًا من هذه المصاحف التي كان يحملها أترابه.

المصحف! لقد حفظ ما فيه فما أفاد من حفظه شيئًا، وكثيرٌ من الشبان يحفظونه فلا يحفِل بهم أحدٌ، ولا يُنتخبون خلفاء يوم المولد النبوي.

ولكن الألفية! وما أدراك ما الألفية؟! وحسبك أنَّ سيِّدنا لا يحفظ منها حرفًا، وحسبك أن العريف لا يُحسن أن يقرأ الأبيات الأولى منها، والألفية شعر، وليس في المصحف شعر.

الحق أنه ابتهج بهذا البيت:

قال محمدٌ هو ابنُ مالكِ
أَحْمَدُ رَبِّي اللهَ خَيْرَ مالكِ

ابتهاجًا لم يشعر بشيء مثله أمام أيِّ سورة من سور القرآن.

١  يظلهم: يأتيهم ويغشاهم.
٢  يكتنفونه: يحيطون به من كل جانب.
٣  تأرَّج الجو والمكان: فاحت فيه رائحة طيبة ذكية. والعَرْف: الرائحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤