الفصل الثامن

وغرفة أخرى من غرفات هذا الربع كانت تقوم فيه غير بعيد عن شمالك إذا صعدت السلم، وكانت مصدر فكاهة ودعابة ولهو لهؤلاء الشباب أيضًا.

كان يسكنها شاب لعله كان أكبر من هؤلاء الطلاب شيئًا، وقد كان أقدم منهم عهدًا بالأزهر، ولكنه كان من جيلهم ومن طبقتهم على كل حال. كان نحيف الصوت يكفي أن تسمعه لتضحك من صوته، وكان ضيق العقل لم يأذن الله للون من ألوان العلم أن يستقر في رأسه؛ لأن عقله كان محدودًا محصورًا. وكان قصير الذكاء لم يأذن الله لذهنه أن ينفذ إلى أقرب شيء وراء ما كان يقرأ في الكتب على اختلافها. وكان مع ذلك واسع الثقة بنفسه بعيد الطمع في مستقبله مطمئنًّا في غير تكلُّفٍ إلى أنه كأصحابه هؤلاء الذين يعيش معهم ويشاركهم في أكثر ما يختلفون إليه من الدروس.

كان يشهد معهم درس الفقه ودرس البلاغة ودرس الأستاذ الإمام. ولم يكن يَخِفُّ لدرس الأصول؛ لأن هذا الدرس كان يقتضيه أن يخرج من غرفته مع الفجر، وقد كان لراحته مؤثرًا وبها ضنينًا. وكان يشارك أصحابه في بعض مطالعاتهم، وكان يشاركهم بنوع خاص في هذه المطالعات التي لا تتصل بالدروس المنظمة ولا بالكتب التي كان الشيوخ يقرءونها.

فقد كان هؤلاء الشبان يضيقون بكتب الأزهر ضيقًا شديدًا، يتأثرون في ذلك برأي أستاذهم «الإمام» في كتب الأزهر ومناهجه. وكانوا يسمعون من الأستاذ الإمام حين يشهدون درسه أو حين يزورونه في داره أسماء كتب قيمة في النحو والبلاغة والتوحيد والأدب أيضًا، وكانت هذه الكتب القيمة بغيضة إلى شيوخ الأزهر؛ لأنهم لم يألفوها، وربما اشتد بغضهم لهذه الكتب؛ لأن الأستاذ الإمام قد دَلَّ عليها ونوَّه بها. وكان الذين ينافسون الأستاذ الإمام من الشيوخ الأعلام يحاولون أن يذهبوا مذهبه فيدلون طلابهم على كتب قيمة أخرى، لا تقرأ في الأزهر؛ لأن الأزهريين لم يألفوا قراءتها. وكان هؤلاء الطلاب لا يكادون يسمعون اسم كتاب من هذه الكتب حتى يسرعوا إلى شرائه إن وسعهم ذلك، وربما كلفوا أنفسهم في هذا الشراء جهدًا ثقيلًا وحرمانا شديدًا، فإن أعياهم ذلك استعاروه من مكتبة الأزهر، ثم أقبلوا عليه ينظرون فيه، ثم اتفقوا على أن يقرءوه جماعة، ويتعاونوا على فهمه.

كان يدفعهم إلى ذلك حبهم الصادق للأستاذ الإمام ورغبتهم الصادقة في العلم والاطلاع. وربما دفعهم إلى ذلك مع هذه العاطفة شيء من غرور الشباب؛ فقد كانوا يفخرون بتلمذتهم للأستاذ الإمام وللشيخ بخيت وللشيخ أبي خطوة وللشيخ راضي، وكانوا يملئون أفواههم بأنهم تلاميذ هؤلاء الأئمة وبأنهم من تلاميذهم المقربين المصطفين. ولم يكونوا يكتفون بالاختلاف إلى هؤلاء الشيوخ في دروسهم، وإنما كانوا يزورون شيوخهم في بيوتهم، وربما شاركوهم في بعض البحث، وربما استمعوا منهم دروسًا خاصة في يوم الخميس بعد أن تُصلَّى الظهر أو بعد أن تُصلَّى العشاء. وكانوا لا يكرهون أن يعرف عنهم زملاؤهم هذا كله، وأن يتحدث عنهم زملاؤهم بأنهم يقرءون بينهم هذا الكتاب أو ذاك في هذا الفن أو ذاك، وكانوا قد وصلوا بهذا كله إلى شيء ظاهر من الامتياز بين زملائهم، حتى عرفوا في الأزهر كله بأنهم أنجب طلاب الأزهر وأخلقهم بالمستقبل السعيد. فكان من المعقول أن يسعى إليهم الأوساط من زملائهم يلتمسون التفوق في الاتصال بهم والامتياز حين يعرف الناس أنهم من أصدقائهم وأصفيائهم، ويلتمسون بذلك الوسيلة إلى أن يتصلوا بكبار الشيوخ وأئمة الأساتذة. وكان صاحبنا من هؤلاء الطلاب الأوساط، قد اتصل بهذه الجماعة من الطلاب؛ ليقول زملاؤه إنه واحد منهم، وليستطيع بحكم هذه الصلة أن يصحبهم في زياراتهم للأستاذ الإمام أو الشيخ بخيت.

وكان غرور الشباب يحبب إلى هذه الجماعة هذا النوع من الامتياز، ويهون عليها قبول هؤلاء الطفيليين في العلم من ضعاف الطلاب وأوساطهم، ثم يتيح لهم بعد ذلك، حين يخلون إلى أنفسهم وقد أحصَوا على هؤلاء الزملاء جهالاتهم وسخافاتهم وأغلاطهم الشنيعة، أن يعيدوا ذلك وأن يضحكوا منه ملءَ أفواههم وملءَ جنوبهم أيضًا. وأكبر الظن أن صاحبهم هذا قد عرفهم في بعض الدروس، فما زال يدني نفسه منهم حتى اتصل بهم فزارهم. ثم أعجبه رَبعهم وأعجبه جواره لهم في هذا الربع، فاتخذ فيه غرفة وأصبح واحدًا منهم، يشاركهم في الدرس، ويشاركهم في الشاي، ويشاركهم في الزيارات ويشاركهم في بعض الشهرة. ولكن الله لم يفتح عليه قط بأن يشاركهم في العلم والفهم، وفي الإبانة والإيضاح. ويظهر أنه كان أوسع منهم يدًا، وأكثر منهم مالًا، أو قل: إنه كان يقتر على نفسه إذا خلا إليها، فإذا اتصل بأصحابه يسرَّ على نفسه وأنفق عن سعة. وربما كان يشعر بحاجتهم إلى النقد لشراء كتاب، أو لأداء دين عاجل، أو لإرضاء حاجة ملحة؛ فيقدم إليهم من ذلك ما يريدون رفيقًا بهم متلطفًا لهم. وكانوا يعرفون ذلك له ويحمدونه، ولكنهم لم يكونوا يطيقون جهله، وربما لم يملكوا أنفسهم فضحكوا من هذا الجهل بمحضر منه، وردوا عليه سخفه ردًّا عنيفًا فيه كثير من الازدراء القاسي، ولكنه كان يقبل ذلك راضيًا، ويتلقاه باسمًا، وما أظن أنهم قد عرفوا في وجهه الغضب يومًا على كثرة ما كانوا يثقلون عليه بالغض منه والازدراء له. وكان أجمل ما كانوا يتندرون به عليه علمه بالعروض، أو جهله بالعروض فكلاهما سواء. كان يطالع معهم كتابًا في النحو، فلا يكاد يعرض لهم شاهد — وما أكثر ما تعرض الشواهد في كتب النحو — حتى يكون أسرعهم إلى رد هذا الشاهد إلى بحر من أبحر العروض، لم يكن يختلف قط وإنما كان «البسيط» دائمًا، وقد يكون البيت من «الطويل»، وقد يكون من «الوافر»، وقد يكون من أيِّ بحر من أبحر الشعر، ولكنه كان «بسيطًا» دائمًا.

والغريب أنه لم يكن يكتفي بالإسراع إلى إعلان أن هذا البيت من البسيط، وإنما كان يسرع فيأخذ في تقطيع البيت يرده إلى البسيط، مهما يكن وزنه، فيقطع على الجماعة درسهم، ويدفعهم إلى بحر من الضحك لا يكاد يُعرف له حدٌّ. وقد كثر منه ذلك حتى أغرى به أصحابه وأطمعهم فيه؛ فكانوا كلما عرض لهم بيت من الشعر أظهروا العجز عن رده إلى وزنه حتى ينبئهم صاحبهم بأنه من البسيط، فإذا فعل أظهروا العجز عن تقطيع البيت حتى يأخذ صاحبهم في تقطيعه فيرده إلى البسيط، وهناك يستأنفون الضحك، ويستأنفون الاستهزاء، ويلقاهم هو بهذه الابتسامة الراضية التي لا تعرف الغضب ولا الغيظ.

وقد أقام هذا الشاب على ذلك مع أصدقائه أعوامًا طوالًا لم يغاضبهم ولم يغاضبوه. وكأنه أحسَّ آخر الأمر أنه ليس من تلك الحلبة، وأنه لا يستطيع أن يجري في ذلك الميدان؛ فأخذ يتخلَّف قليلًا قليلًا عن الدروس، ويتكلَّف التَّعلَّات والمعاذير، لا يشارك القوم في مطالعتهم، ويكتفي بالمشاركة في الشاي والطعام أحيانًا، والزيارات دائمًا.

وقد تقدمت السنُّ بالصبي في أثناء ذلك، وتقدَّم به الدرس أيضًا، وإذا هذا الشاب يُظهر العطف عليه والقدر له، وإذا هو يعرض عليه أن يقرأ معه الكتب، ويُعرض عن مشاركة أقرانه وأنداده إلى مشاركة هذا الغلام الناشئ، ويأخذ الغلام في أن يقرأ معه كتبًا في الحديث وأخرى في المنطق وأخرى في التوحيد، ولكنه لا يجد عنده غناء. وليس الغلام فارغًا للضحك منه والتندر به، وليس هو قادرًا على ذلك ولا راغبًا فيه، وإذا هو يحتال في التخلص منه والمضي لشأنه.

وإذا هذا الرجل يترك العلم أو يتركه العلم، ولكنه يظل محسوبًا على الأزهر طالبًا فيه مشاركًا لأصحابه في الناحية الاجتماعية من حياتهم، وقد ارتقت حياتهم بعض الشيء؛ رقَّاها ذكاؤهم وجِدُّهم وتفوقهم ورضا الأستاذ الإمام عنهم وتقريبه إيَّاهم، وإذا هم يتصلون بفلان وفلان من أبناء الأسر الغنية الثرية الذين كانوا يطلبون العلم في الأزهر إذ ذاك، وإذا الزيارات تتصل بينهم وبين هؤلاء الشبان الأغنياء الأثرياء، وصاحبهم معهم يزور ويزار، وترتقي حياته الاجتماعية كما ارتقت حياة أصحابه. ولكنَّ أصحابه لا يحسُّون هذا الارتقاء ولا يكادون يشعرون به، وهم إذن لا يتحدَّثون به ولا يتمدَّحون بزياراتهم لتلك البيوت الممتازة وجلوسهم إلى أصحابها النابهين، وإنما يرون ذلك شيئًا طبيعيًّا مألوفًا. فأما صاحبهم فهو الذي يراه المجد كل المجد، ويستمد منه الغبطة كل الغبطة والغرور كل الغرور، ويستغله لبعض منافعه المادية أحيانًا، ويتحدَّث به دائمًا إلى من أراد أن يسمع له ومن لم يرد.

وتمضي الأيام ويتفرَّق هؤلاء الطلاب، وقد أخذ كل واحد منهم طريقه في الحياة. ولكن هذا الرجل لا ينساهم ولا يسمح لهم أن ينسَوه، قد عجز عن تتبعهم في العلم فليتتبعهم في غيره مما تمتلئ به الحياة؛ يزورهم وإن لم يزوروه، ويلقاهم في زيارتهم عند فلان أو فلان من أصحاب المنزلة والثراء.

وقد خرج الأستاذ الإمام من الأزهر في تلك المحنة السياسية المعروفة، وإذا صاحبنا متصلٌ بالأستاذ وشيعته، متصل بخصوم الأستاذ الإمام وشيعتهم أيضًا. وقد أخذ الأزهر يضطرب، ودخلت السياسة في ذلك الاضطراب، واختصمت فيه السلطتان، وإذا صاحبنا يتَّصل بالمضربين مشاركًا لهم في الإضراب، ويتَّصل بخصوم الإضراب مفشيًا لهم أسرار المضربين، ويتكشَّف الأمر ذات يوم، ويا له من يوم! عن أن صاحبنا قد كان متصلًا بالمحافظة، فتقطع الصلة قطعًا عنيفًا بينه وبين أصدقائه، ويُرد عن البيوت التي كان يسعى إليها ويُستقبل فيها، ويقبع في غرفته تلك في الربع قد خسر الناس جميعًا ولم يخسره أحد. وقد قصرت به همته عن درجة الأزهر فهو ينفق حياته الخاملة وحيدًا بائسًا محتملًا خموله على مضض مكتسبًا عيشه في مشقة.

ثم يُنبئ المُنبئ ذات يوم بأنه قد مات، أمات من علة؟ أمات من حسرة؟ أم مات من الحرمان؟ ولكن أصدقاءه يسمعون النَّعْيَ فلا يأخذهم وجوم، ولا يمس نفوسهم حزن، وإنما يتلون هذه الآية الكريمة التي نتلوها دائمًا حين يُنْعَى إلينا الناس: إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤