تقديم

بقلم  محمد حسين هيكل

ما أعجب لعب الحوادث بنا، وتوجيهها إيانا! فلو أن هذا الكتاب نشر من عام مضى لنشر باسم غير اسمه، ولنظمت مواده غير نظامها الحاضر؛ فإلى عام مضى كان عزمي أن أجعل عنوانه «خلال أوربا»، وأن أرتب مواده على أنه كتاب سياحة، وأن أجعل إهداءه إلى زوجي أن كان من أجلها اجتيازنا أوربا شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، ولم يكن عنوان «ولدي» ليدور يومئذ بخاطري أو لتجرؤ أن تخطه يدي، أن كانت كلمة «ولدي» جديرة بأن تثير في نفسي وفي نفوس أحب الناس إليَّ آلم الذكرى وأفجع الأثر، لكن رحمة الله بنا وعطف القدر علينا وما عوضنا عما احتسبنا، خفف من لوعة هذه الذكرى الأليمة التي يثير خيال ورودها إلى النفس عبرات من مآق يعز عليَّ أن تنهل منها دمعة ألم واحدة. واليوم وإن بقيت في القلب ندوبه فإن الثغر ليفترُّ عن ابتسامة لهذه الطفلة التي رزقنا، والتي نرجو لها ما يرجوه أبر الآباء لأحب البنين، ونرجو بها في الحياة متاعًا حرمناه مدى سنوات أربع كنا نمد النظر نحو صيف كل واحدة منها بصبر ذاهب لنفرَّ من بلاد الذكرى المحزونة، آملين في فسحة بلاد الله عنها عوضًا. وهيهات أن تعوض بلاد الله جميعًا نفسًا كليمة، وقلبًا كسيرًا، وفؤادًا يتنزى ألمًا، إلا ما في تنوع مظاهرها واختلاف الليل والنهار فيها مما يصرف القلب إلى الجديد الذي يقع عليه، فينسيه من حر لوعته، ويسكن من نيران جراحه.

فقد ولد لي «ممدوح» في ٦ من يونيو سنة ١٩١٩ بالقاهرة، في بيت جده لأمه، وكانت جدته لأمه في السادسة والثلاثين من عمرها، ولم يبقِ القدر لها من خلف غير زوجي وأختها. وكانت هذه الجدة الشابة يسيل وجودها كله رقة، وتكاد الأمومة تنسيها كل ما سواها من العواطف، وكانت مريضة بالسكر، فلما أنجبت ابنتها ولدًا جهدت في العناية بالطفل وأمه، وبالغت في الجهد حتى انهدت كل قواها، فمرضت واشتد بها المرض، فلم تستطع مداومة العناية بالطفل وبابنتها التي كانت في فراش الميلاد ما تزال. وكانت ابنتها الصغرى لمَّا تبلغ الثانية عشرة من عمرها، وكانت تتردد على المدرسة، فلم يكن يقع عليها — وهي في سنها وفي تلمذتها — أن تقوم بخدمة أمها، واضطرت ابنتها التي كانت موضع جهدها ورعايتها أن تترك فراشها لتقوم في خدمة هذه الأم المريضة في الليل وفي النهار أيامًا طوالًا أعلن الطبيب بعدها أنها في خطر، وأجريت لها عملية جراحية أسلمت روحها بعد يومين من إجرائها، وغادرت هذه الحياة صبح ٣ من يوليو سنة ١٩١٩؛ أي بعد مولد ممدوح بسبعة وعشرين يومًا.

وحزنت زوجي لفقد أمها حزن جنون أنساها حالها، وأنساها ابنها، وأنساها صحتها، وعبثًا حاولت في الأيام الأولى أن أرد إليها شيئًا من صوابها. ولئن نسيت فلن أنسى قولها إنها كانت تتمنى لو أن الولد هو الذي مات، فنحن شابان ما نزال، والابن يعوض لكن الأم لا تعوض. ولعل فرط الحزن الذي أنطقها بهذه الكلمة غشَّى على بصرها فلم ترَ في حجب الغيب ما يكنه القدر لها، ثم لابنها. وأسلمت للحزن نفسها، وجعلت من واجبها المقدس زيارة قبر أمها وسيلة لمضاعفة أساها وحزنها. وأشهد أن المصاب كان جديرًا بكل هذا الأسى، لكنا في الحياة ألاعيب يعبث بها القدر، ولئن بلغنا على الحياة ما بلغنا من جاه ومكانة، ولئن امتلأت نفوسنا بما امتلأت به من عاطفة وفضيلة، لا يفوتنا أنَّا من القدر هاته الألاعيب، وأن عبث القدر بها بعض حقه، وأنَّا إذا أردنا أن نسمو على الحياة فنحدق إلى القدر وجهًا لوجه فلن يكون ذلك بالسخط منه والحقد عليه، ولكن بالإذعان له، والتسليم بحقه، والرضا بكل ما يصيبنا من جانبه. على أن أفدح ما تصيبنا به الحياة غير جدير أن يترك من الأثر في نفوسنا إلا ما يذره أعظم ما يسرنا، وكما أن السعي والعمل أكبر مسرة في الحياة تزيدنا رضًا على رضانا وغبطة على غبطتنا بكل خير نناله، فالسعي والعمل هما كذلك أكبر عزاء في أفدح شجن وأجل كارثة.

وتوالت الفصول والسنون، وهدأت في النفوس لوعة الحزن، لكن القدر الذي حرم زوجي أمها أبقى لها «ممدوحًا» وحيدًا يرجوها في براءة طفولته أن تجعل له أخًا وأختًا، فتكتفي هي عن الحرمان بحمد الله على جوده به علينا، وبالرجاء الحار أن يبقيه لنا. وكنت أشاركها من أعماق قلبي في هذا الدعاء أن كان الولد قرة عين لنا، وأن دفع تتابع السنين إلى نفوسنا أنه كل ما قدر لنا من خلف. وإنا لفي الأسبوع الأول من شهر ديسمبر سنة ١٩٢٥ إذا الولد يمرض مرضًا لم يلقِ الطبيب إليه أول الأمر بالًا، ثم إذا به يعلن بعد ثلاثة أيام أن المرض حمى الدفتريا. في تلك اللحظة اخترقت بصيرة الأمومة حجاب الغيب، وانهدت الأم باكية تنتحب كأنما رأت الموت رأي العين يمد يده إلى صغيرها يتخطفه منها، ثم تنبهت إلى واجبها نحوه فأسرعت ترعاه وتمرضه، وعالج الطبيب المرض أيامًا خيِّل إلينا فيها أن كل خطر زال، وأن دموع الأم التي انسكبت على قسوة القدر ألانت منه فرد اليد الغادرة الممتدة في جنح الظلام. وفي مساء السبت ١٢ من ديسمبر ذهبت إلى عملي وأنا أشد طمأنينة من كل يوم سبقه منذ مرض الطفل، فلما عدت عند منتصف الليل رأيت الأنوار في مسكني والباب مفتوحًا، فدخلت فقابلتني زوجي بهذه الكلمة: «ممدوح مات!».

تسري الرجفة إلى بدني ويقشعر الآن جسمي لكتابة هاتين الكلمتين وقد مضى على سماعي إياهما خمس سنوات وأشهر. نطقت زوجي بهذه العبارة الفاجعة في صمت الليل الخؤون، فأسرعت لأرى أين هو، ودخلت إلى غرفة النوم فإذا أمي جالسة إلى جانب السرير والطفل الذي أورثنا الثكل على ركبتيها، ومن حولها أختاي، اختار الله إحداهما إلى جواره في ٢ من أغسطس سنة ١٩٣٠، وثلاثتهن واجمات كسيرات القلب ينظرن في حسرة ملتاعة إلى هاته الأم الشابة التي فقدت وحيدها وهي ذاهلة لما تقدر مدى هذا المصاب الكارث، وتركتهن بعد أن قبَّلت جبين ولدي، وانتقلت إلى غرفة أخرى وقد هوى الحزن بقلبي إلى قرار سحيق. وانتقل ممدوح في عصر اليوم التالي من بيت أبويه إلى فلاة الصحراء ليرقد إلى جانب جدته الشابة في جوار الله، وعدت بعدما ودعته هذا الوداع الأخير ولا شيء أخشاه أكثر من ساعة ألتقي مرة أخرى بزوجي وقد تغيرت حياتنا وقد انطفأ سراجها وخيم عليها الظلام.

والتقينا في الصباح، فإذا ذهنها في شغل بمسائل كثيرة يحاول أن يظفر لكل منها بجواب، وإذا هي لما يرتكز الحزن في قرارة نفسها بمثل ما تركز بعد ذلك بأيام قلائل، وكانت كبرى المسائل التي تشغلها وتكاد تستأثر بتفكيرها، مبلغ ما علينا، هي وأنا، من تبعة في هذا الحادث، وهل كان محالًا علينا أن نتغلب على القدر وأن ندفع الموت عن فلذة كبدنا؟ وفي سبيل الجواب على هذه المسألة جعلت تحلل التفاصيل، وما فعلنا، وما كان يجب علينا أن نفعل، وكيف عاملنا طفلنا أثناء مرضه، وهل قسونا في كلمة صدرت منا إليه. وعلى أساس هذا البحث جعلت ترتب أحكامًا كالأحكام التي يرتبها الناس عادة — والسيدات بنوع خاص — على ما يؤديه غيرهم لهم من المجاملات، وما يترتب عليهم من دين لهذا الغير مقابل مجاملاته. وأدى هذا البحث بزوجي إلى تقدير فداحة ما أصابنا، وما ربما كان في مقدورنا دفعه، إلى نتائج خفتها وارتعت لها. ولست أدرى ما كان يؤول إليه الأمر لو أن شقيقتيَّ لم تكونا يومئذ إلى جانبها، ولم تقفا كل جهدهما على محاولة صرفها عن فاجع الأسى الذي ألقت بحياتها بين يديه، وكأنما كانت تستطيب عذابه وتجد اللذة في المزيد من مرارته.

أما أنا فأذعنت لحكم القضاء، وأسلمت أمري لله، إليه مصير الأمور، وواجهت الزمن ألتمس فيه ما عليَّ من واجب أؤديه، وكان أكبر واجبي يومئذ أن أعمل لعزاء زوجي، فهو لي أكبر عزاء؛ وهل كان يزعجني أكثر من أن أرى إنسانًا ارتبطت بحياته حياتي منذ عقدنا شركة نلتمس بها زينة للحياة تنسينا متاعبها، بل تجعل هذه المتاعب لذة ونعيمًا، فإذا زينة حياتنا تحطمت في لحظة ووقف اليأس البشع بشبحه المخيف يصدم شبابها الجدير بالأمل، وينذره بجدب الحياة، وأن لم يبقَ لزينة فيها رجاء! ولولا هذا الواجب الذي كنت أراه ملموسًا محسوسًا أمامي كل يوم مرات، لهون عليَّ القضاء من فجيعتي؛ فقد رأيت يومئذ أن لا عزاء في الحياة عن مصاب كمصابنا تتحطم له العزائم وتنشق منه المرائر خير من العمل يلقي الإنسان بنفسه في أحضانه، ويضاعفه ما استطاع إلى مضاعفته سبيلًا. لذلك عدت إلى مكتبي في اليوم الثالث، وأسلمت نفسي لمشاغل الصحافة الكثيرة المشاغل، وجعلت كل همي أن أنسى في العمل نفسي، وأن ألقي إليه كل بالي وكل تفكيري. والعمل خير بلسم لجراح الحياة بما يستغرق من انتباهنا، فيشغلنا عن جراحاتنا ويترك للزمان تضميدها في أناة ورفق. لكنى كنت لا ألبث حين أعود إلى بيتي أن أرى وأسمع ما يحرك ألمي، فجعلت ألتمس في بعدنا عن موضع الفجيعة سببًا للعزاء، وخيِّل إليَّ أني نجحت فيما حاولت من سفرنا إلى السودان لنشهد افتتاح خزان سنار، غير أني علمت عشية السفر بأن لا سبيل إلى مصاحبة زوجي إياي، وبعد تردد في السفر دونها رأت هي ضرورة سفري حتى تتفرغ هي لما كنا شرعنا فيه من البحث عن مسكن آخر لا تحدثنا جدرانه ولا يحدثنا نظامه، ولا تحدثنا كل صغيرة وكبيرة فيه، بما يحرك القلب ويهيج الشجن.

وعدت من السودان فألفيتها أتمت بحثها، وتبدأ يوم وصولي إلى القاهرة انتقالنا إلى المسكن الجديد. إذن فقد شغلت بعمل هي أيضًا، وإذن فهي واجدة في هذا العمل الجديد بعض السلوى. كان ذلك بعض رجائي، وبخاصة أن كان لها بنظام المنزل عناية تستغرق عادة الكثير من اهتمامها، لكنها هذه المرة اكتفت بالإشراف دون الاشتراك بالفعل، وتركت أكثر الأمر للعمال يقومون به بإرشادها، وما لبثت أن انتهت من وضع النظام الذي أرادت أن تتم كل واحدة من الغرف على نسقه حتى عادت يخترمها الهم وتتناوبها ألوان الألم.

وأخذت نفسي يومئذ بأن أقلَّ ما استطعت من الحديث في شجننا المشترك، وأن أنصرف بها إلى ضروب مختلفة من التفكير، لعلي أنجو بها ولو بعض الشيء من خيالاتها السوداء المضنية. ولست أدرى حتى اليوم أأسأت أم أحسنت في اختيار هذا المسلك، فقد فجعت من قبل ذلك ومن بعده في أخي وفي أختي وهما في ريعان الشباب الناضر، فلم يكن لأمنا حديث شهورًا متوالية بعد هاتين الفاجعتين غير ترديدها ما لمصابها في أغوار نفسها وطيات قلبها من عميق الأثر. أفترى تجد السيدات عن الألم عزاء في تذكر الألم؟ أم هن يرين في استذكار فلذة الكبد التي ذابت وذهبت ما يرد إليها في نفوسهن وهمًا من حياة؟ أم تراهن يحسبن القدر أبرَّ بهن في مستقبل أيامهن حين تدعوه كل أم بما تتقلى عليه نفسها من ذلك الحزن إلى الرثاء لها والإشفاق عليها؟ لست أدري! إلا أنني لو اعتقدت أن القدر يقبل بأي ثمن رجاء فذلك ألا يفجع أمًّا في ولدها، وألا يجود به عليها إذا كان قد كتب في لوحه أنه متوفيه قبلها؛ فالدمعة التي تسكبها الثاكل ولدها لا تنهمل من مآقيها، بل تنهار بنصيب من حبة عينها، ومن سواد نظرها، متصعدة إلى هناك زفرات ملتهبة متأججة من ذوب قلبها ومن حشاشة فؤادها. وأية دمعة وأية زفرة تذهب بالبصر وتحرق الكبد وتهدم الحياة غير هاته الدموع! ليست دموع أسى، ولا دموع حزن، ولا دموع ألم بالغة ما بلغت شدته وقسوته، بل هي أجزاء من الحياة تسيلها العين، وهي نفس تساقطها المآقي أنفسًا. وإني لأذكر وأنا أكتب هذه العبارة أمهات ثكلن بعد سن متقدمة وحيدًا لهن خلف أبناء، فلم يجدن في أبنائه عنه العزاء، وبقين السنين يذهب بصرهن، ثم سمعهن، ثم أبعاض حياتهن، وهن يحملن مع ذلك في كل موسم في محفة حزن سوداء إلى قبر هذا الذاهب تاركًا إياهن يتقلين على جمر الحسرات واللوعات. أفيردد الإنسان لأولئك البائسات بنكبتهن اليائسات من عيشهن ما يحرك شجونهن؟ أم يصرفهن عن هاته الناحية السوداء لعلهن يجدن في قبس من رحمة الله رجاء وأملًا؟

الناس فيما يخيل إليَّ من هذه الناحية أمزجة، ولعل النساء والرجال في اختلاف المزاج سواء، ولعل للأمل ولانقطاعه في المزاج أثرًا بالغًا؛ فما أزال حتى اليوم أذكر هذا الشيخ الذي كان يذري الغلال في قريتنا، وقد فقد وحيده البالغ ما يزيد على الأربعين، والذي رُزِقه بعد عدد من الأبناء ماتوا صغارًا، فلما فجع فيه ولم يبقَ لديه في عوض عنه رجاء، تولاه الذهول وانقلب الجو كله أمام نظره مليئًا بخيال وحيده الذاهب، حتى كان كلما سأله إنسان عن حاله وقف يرسل «المواويل»، يصعد في ألفاظها ما يكتوي به من نيران الهم واليأس، ويردد فيها ما أصابه من فجيعة جعلت حاله، وجعلت حياته، وجعلت الجو المحيط به، وجعلت كل بقية له في الحياة فجيعة تطير به على أجنحة من سعير الألم لتهوي به آخر الأمر إلى خلد الموت المريح يلقى فيه ابنه ويستعيد وإياه فيه ذاهب سعادته وهناءته.

وأذكر شيخًا آخر أوتي حظًّا من العلم غير قليل، مرض ولده الأكبر مرضًا خيف منه على حياته، فكان على ضعف بصره يقضي النهار على مقربة من ولده ينتف شعيرات ذقنه وتنهل الدموع الصامتة من عينيه، وظل كذلك حتى جاوز ولده الخطر ثم نجا.

وأذكر غير هؤلاء شيوخًا وشبابًا يختلف من العلم ومن الإيمان حظهم، وهم يذعنون للقدر ويأبون أن ينهدَّ ركن عزمهم، ويرون الحياة واجبًا يؤدي، وخير ما يعين على أدائه مواصلة الجهد للمزيد منه، فإن أصابهم التوفيق فذاك، وإلا فضمائرهم وقلوبهم وعقولهم في نجوة من الأسف والأسى، فإذا غلبهم ضعف الإنسان زمنًا فليكن واجبهم مغالبته والسمو فوقه والعود للقيام بأداء واجب الحياة.

وأنا من هؤلاء، فليس يسيغ عقلي أن ينهزم الإنسان أمام حادث من حوادث الحياة أيًّا كان جلاله، وأن يهن ويضعف، وإذا اضطر الإنسان للوقوف أو للتراجع يومًا، فليس وقوفه ولا تراجعه هزيمة تدك ركن عزمه، وإنما هي بعض أعمال الحياة كالتقدم والاندفاع سواء، وكما يصيب السوء المتقدم والمندفع وهما في أشد أوقات اعتزازهما بنصرهما وظفرهما، كذلك قد يفيد الواقف والمتراجع من موقفه الخير الوفير. ثم إن الحياة كثيرًا ما تهزمنا في ناحية لتصرفنا إلى ناحية غيرها يكون ظفرنا فيها أكبر أثرًا، ويكون ما نؤديه من واجب الحياة فيها أجدى على الحياة وأعود علينا بطمأنينة النفس، بل بالمجد، بل بالسعادة. فليس خليقًا إذن بإنسان أن يبقي كلمة الهزيمة في سجل ما يدور بخاطره من لفظ أو معنى، وليس خليقًا كذلك بإنسان أن يجعل للنصر معنى يقابل هذه الهزيمة التي يضطرب لهولها المتواكلون وضعاف العزم، وإنما النصر الحق المؤزر أن يتغلب الإنسان على ضعف نفسه، وأن يؤدى في الحياة واجبه بإخلاص للحياة.

هذا الإيمان عندي هو الذي دعاني أن أقل من التحدث إلى زوجي في شجننا المشترك، وأن أحاول صرفها إلى ضروب من التفكير مختلفة علَّها تجد في أحدها ما يعوضها عن سابق حياتها. ونجحت في حملها على القراءة والإكثار منها، وعاونتها على اختيار كتب من الأدب الفرنسي بالغة من جمال الأسلوب والتصوير ما يستهوي النفس ويأخذ باللب، على أني رأيتها تندفع في قراءتها باحثة عما يحرك شجنها، حتى إذا عثرت بشيء منه وقفت عنده وأعادت قراءته، ثم نقلته إلى كراسة خاصة واستذكرته عن ظهر قلب، واتخذته وسيلة لإسالة عبراتها في الفترات القصيرة التي تتاح لها الوحدة فيها. ولم تكن القراءة وحدها هي التي تستحيل في نفسها عبرة وشجنًا، بل كانت تجد في كل شيء تعالجه صورة الأسى والألم اللذين دستهما الفجيعة إلى قلبها وإلى أعصابها وإلى دمها وإلى وجودها كله، واللذين كسوا الحياة أمامها لونًا صحراويًّا ممحلًا هو لون اليأس القاتل. وضلت بأحلامها في هذه الصحراء المحيطة بها بعد أن أجدبت الواحة الوحيدة النضرة التي اشتملت كل رجائها، فإذا هذه الأحلام لا تجد رجاء إلا في الموت، أو فيما يشبه الموت من انقطاع عن العالم إلى دير من الأديرة أو خلوة من الخلوات. وكنت أحسب هذه الحال يذهب بها الزمان، وهذه الجراح يأسوها النسيان، فإذا صاحبتها هي التي يذهب الزمان رويدًا رويدًا بها، وكأن حياتها كلها جرح برؤه في انطفائه، وإذا هي تحول شخصًا آخر نظرته غير نظرتها التي عرفت وإبصاره مضطرب وأعصابه منهدة، وكل ما فيه نذر مخيفة، رغم ما كان لها من عنفوان شباب وصحة. ورأى الأطباء أن لا شيء من المرض بها، ونصحوا جميعًا بضرورة سفرها لتغيير الهواء.

وكنت يومئذ قد بلغ بي الملال ففكرت في هذا السفر، ولم أجد خيرًا من أوربا مصحًّا لزوجتي ولي، فسافرت وإياها في ١٩ من يوليو سنة ١٩٢٦ على الباخرة مونجوليا من بواخر (بنينسيولار وأورينتال) قاصدين مارسيليا فباريس، وكان لي أربعة عشر عامًا لم أرها لما ضربت الحرب ثم تصاريف الزمن بيني وبين أوربا جميعًا من حجاب، وقضينا في باريس ثلاثة أسابيع، ثم غادرناها إلى لندن حيث قضينا سبعة عشر يومًا، ومنها عدنا إلى باريس لنمر بها مرورًا، فقضينا بها أسبوعين آخرين. ومن باريس سافرنا في ١٢ من سبتمبر قاصدين جبال الألب في السافوا العليا لننتقل منها إلى سويسرا نقطعها من الطرف الفرنسي إلى الطرف الإيطالي، ثم ننحدر إلى البندقية نزورها ونأخذ بعد ذلك الباخرة حلوان من بواخر (اللويد ترييستينو) لترسو بنا في الإسكندرية في ١٨ من أكتوبر يوم تمام الشهر الثالث لمغادرتنا مصر. وبحسبي تقديرًا لأثر هذه السياحة أن أذكر كلمة كانت تكررها زوجي: «إن باريس ردت إليَّ طعم الحياة»، وأن أذكر كذلك ساعة ارتقينا الباخرة في تريستا لتعود بنا إلى مصر، وحين نظرت هي إلى الشاطئ فانهملت من عينها دمعة اختلطت بماء البحر أسفًا على سياحتنا الجميلة الساحرة التي انقضت وكأنها حلم معسول. وكان لمسافر ظريف ملاحظة أن العبرة المختلطة بماء البحر تعود بصاحبها إلى البحر والسياحة، والحق أنَّا من تلك الساعة نذرنا أن نجعل مصيفنا بعيدًا عن مصر، وكانت زوجي أشد على تحقيق هذا النذر حرصًا وأشد بضرورة الوفاء به إيمانًا؛ فكانت إذا انتصف الربيع تذكرني به، فنعد العدة ونختار الباخرة ونجهز متاعنا. وكذلك قضينا صيفي سنة ١٩٢٧ وسنة ١٩٢٨؛ ففي صيف ١٩٢٧ اخترقنا أوربا من الآستانة إلى بوخارست، فبودابست، ففينا، فبراج، فباريس، ثم عدنا إلى الوطن. وفي صيف ١٩٢٨ ذهبنا من جنوة إلى برن، فمايانس، فكولونيا، فبرلين فميونيخ، فبادجاستين، فباريس، ففيشي، ومنها إلى مارسيليا، فالإسكندرية. فلما كانت سنة ١٩٢٩ عاودنا الرجاء في أن نعود بآفاقنا إلى طفل تعوض علينا ابتسامته جمال أوربا وجمال العالم بأسره.

وإنا اليوم لنشكر القدر كلما ابتسمت طفلتنا، وكلما جمعت حياة الوجود كلها إلى جانبنا، سواء أكنا وإياها في غرفة صغيرة أو كبيرة من غرف منزلنا، أم كنا في الهواء الفسيح نسعد بها وهي تسعد هذا الهواء وتسعدنا به، وترينا زينة الحياة الدنيا، نجد فيها على الحياة عزاء، بل بالحياة سعادة، وتغنينا بذلك إلى حد عظيم عن التجوال في فضاء الله كأنا موكلون به نقطعه. وإني أذكر هذه السنين التي جبنا فيها أوربا من أقصاها إلى أقصاها لأذكر كثيرين، ولأذكر أضعافهم كثيرات، كانوا يقضون حياتهم يذرعون العالم من أمريكا إلى أوربا إلى مصر إلى الصين واليابان، ثم لا تجد نفوسهم إلى أي مكان في العالم مستقرًّا؛ لأنها نفوس قلقة هائمة تفتقد شيئًا كان سر حياتها وموضع رجائها، وكانت عنده تقف وبه تتعلق، فلما انتزع منها جعلت من العالم كله مسرح قلقها عليه وافتقادها رجاء جديدًا في عوض عنه. فأما الذين يسعدهم الحظ بالعوض فيعودون إلى ما كانوا قبل هيامهم في بلاد الله فيه، وأما الآخرون فيظلون تضيق بهم فسحة العالم زمنًا ثم يجدون في بعض العالم عن ضيقهم بعض السلوى زمنًا آخر، حتى تطمئن نفوسهم إلى الرجاء أو إلى اليأس. واليأس — كما قالوا — إحدى الراحتين.

وقد تركت هذه السنون الثلاث التي حببت إلينا الارتحال بعيدين عن مكان الذكرى الممضة آثارًا كانت الذكرى تتخلل بعضها فتزيده قداسة وجلالًا. والذكرى والرحيل وآثارهما هي التي أملت هذا الكتاب، وزوجي التي كانت الصورة الحية لقداسة الذكرى هي صاحبة الوحي لخير ما فيه، ولها من أجل ذلك الفضل الأكبر في تحريره فضلًا جعلني أطمع في إهدائه إليها، لكنها رأت أن يكون الإهداء لولدنا الذي تركناه إلى جوار ربه، والذي لو بقي حيًّا لكان اليوم يتدرج إلى الشباب ويمتع كهولتنا بما يفيض عنه من روعة الشباب وروائه. أما اليوم فحسبنا ما عوضنا القدر، ورجاؤنا أن تكون الحياة أبرَّ بنا من بعد، وأحنى على قلبين ذاقا ألم الفجيعة والثكل واليأس قرابة أربعة أعوام، ورأيا من قبل ذلك ومن بعده ما يهيض القلب ذكره، ولنا في عدل القدر أكبر الثقة بأن يحقق هذا الرجاء، وأن يجعل رحيلنا في المستقبل وما نكتب عنه مضيئًا بنور النعمة يكسوه ثوب من الطمأنينة للحياة، ويدفع إليه التفكير في مجد الإنسان وسعادته، بدل السعي لتبريد لوعة القلب والعمل لسلوته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤