جنوا – برن

وحدة الوجود أيضًا

هذه جنوا وشوارعها المرصوفة بالبلاط المتصاعدة من شاطئ البحر رويدًا رويدًا أحيانًا، المتمردة أحيانًا أخرى حتى لتضطرك أن ترتقي أسبابها بسلم، وهذه العربة تجري بنا وبمتاعنا وسط طرق المدينة القديمة الضيقة حتى ما تكاد تتسع لعربتين، ومع ذلك يقوم على جانبيها أفخم المباني وأكثرها عظمة وجمالًا. وتجتاز العربة هذه الطرق إلى ميدان واسع كبير، فيه بناء أوبرا المدينة ومتحفها الأكبر، ومنه شقت الطرق الحديثة المتسعة، ثم ها هي ذي تقف بنا أمام فندق «برستول» في شارع ٢٠ سبتمبر، فيصعد رجاله إلى إحدى الغرف بمتاعنا، ومنه نتحدث إلى القنصلية المصرية لنجد في القنصل خير عون لنا في مدى اليومين اللذين أقمناهما بالثغر الإيطالي القديم.

أتدري لماذا جعلت جنوا فاتحة طريقي إلى أوربا هذا العام؟ لقد أذكر لك سببًا له قيمته على بساطته، ولكنه في الحقيقة ليس كل السبب؛ ذلك أني رأيت أن أغير ما استطعت الثغور التي أصل عن طريقها أو أغادر منها أوربا، لكي أرى من هذه الثغور وأقف من الطرق التي تتصل بها على ما يزيدني بأوربا معرفة وبصور بلادها علمًا. ذلك هو القصد الظاهر — على حد تعبير القانونيين — من تصرفي، لكن سببًا آخر أقوى بكثير من هذا، هو الذي جذبني إلى ذلك الثغر، سببًا جعلني ألزم نفسي السفر عن طريقه أو العودة منه هذا العام؛ ذلك أني منذ زرت مقبرة ميلانو من سنتين مضتا ورأيت فيها تلك التماثيل الحزينة الناطقة بآلام الإنسان لفقد أعزائه، والتي يسيل فيها الحجر عبرات ودموعًا سخينة، حتى لكأنما تسري إلى جموده أشجان القلوب الكليمة، من ذلك اليوم نذرت زيارة جنوا لزيارة مقبرتها. أليس الذين رأوها يتحدثون بعظمتها ويذكرون أنها أكبر المقابر، وأن تماثيلها أفصح التماثيل نطقًا وأبلغها عبارة عن آلام النفس عند فراق الأعزة! فكيف لي ألا أزورها، وألا أجدد فيها عهودًا مضت، وألا أذكر فيها من جديد قول الشاعر:

لقد لامني عند القبور على البكى
رفيقي لتذراف الدموع السوافك
وقال: أتبكـي كـل قبر رأيتـه
لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك؟!
فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا
فدعني فهـذا كلـه قبر مالـك

لذلك ما لبثت أن سألت عن «الكامبوسانتو»، وأن ذهبنا إليها نذكر فيها غيرها من المقابر، ونذكر في تماثيلها مقبرة ميلانو، وليس في جنوا إلا من يدلك على «الكامبوسانتو»؛ أين هي. وهل بين الأحياء من لا يعرف مقره الأخير والمقر الأخير لأحبته وأعزته من قبله! وهل بينهم من لم يذرف الدمع الغزير على قبر من القبور!

ووقفنا على باب المقبرة العظيمة خشعًا تملأ قلوبنا الرهبة، وقفنا ونحن لم نرَ بعد قبرًا ولا تمثالًا ولا شيئًا يدل عليها، فهي ليست كمقبرة ميلانو يرى الداخل من أبوابها الأولى ما وراء هذه الأبواب، وإن كانت أكثر من مقبرة ميلانو ظهورًا من الخارج؛ لأنها تقع على سفوح مرتفعة بعضها فوق بعض درجات، فأنت ترى أعاليها قبل أن تصل إليها، كما أنك تراها كلها كلما ارتفعت فوق السفوح الصاعدة أعلى منها ذاهبة إلى قمة «الريجي» المطل على جنوا كلها. وقفنا خشعًا تملأ قلوبنا الرهبة، ثم تخطينا الباب خطوات، فإذا عن يميننا وعن شمالنا دهاليز تمتد إلى عشرات الأمتار وقد حجبت بين جدارين، وضع في كل جدار منها توابيت الموتى أصبحت كأنها بعض الجدار، ونقش على كل منهم اسم صاحبه وتاريخ مولده ووفاته، وطلب الغفران والرحمة له، فلخصت بذلك حياته الإنسانية جميعًا؛ عظيمًا كان أو حقيرًا، كبيرًا كان أو صغيرًا، وهذه التوابيت التي يكاد يخطئها العد، هي توابيت الذاهبين من أهل جنوا، وتوابيت أغراب اختاروا جنوا واختارتهم جنوا لتكون مثواهم الأخير ومقرًّا لرفاتهم، فنقش ذووهم على توابيتهم ما يدل على مكان مولدهم. ومن بعد هذه الدهاليز دهاليز أخرى تمتد مثلها عشرات الأمتار، وهي أكثر منها عرضًا بعض الشيء؛ فعلى جانبيها مكان التوابيت مقابر، وعلى المقابر تماثيل تحكي فجيعة قوم في عائلهم، ومن حول القوم ملائكة الرحمة يعزونهم إن كان عن فقد الأعزة عزاء، ومثل هذه الدهاليز دهاليز أخرى في أماكن كثيرة من المقبرة المتسعة التي تضم بين الجدران والدهاليز ألوفًا وألوفًا من قبور الفقراء لا تماثيل عليها، وترتفع الدهاليز درجات على سفح المقبرة الفسيحة، فلا تضيق بالعصور المختلفة ممن يغادرون هذه الدنيا، فيبكيهم أهلهم ويجسدون بكاءهم في الحجر الصامت المحزون. يا ما أخصب خيال الإنسان في التعبير عن الألم! فهذه سيدة ترفع الغطاء عن وجه فقيدها وتنظر إليه مرة أخرى لعل دبيب الحياة يدب إليه من جديد! وهي خلال هذا الوهم من الأمل الكاذب قد رسم الحزن اليائس على ملامحها صورة الألم المجسد، وهذه أسرة تندب ربها ومنهم الطفل لما يعرف الهم ولا الألم وهو مع ذلك يبكي لبكاء أهله! وهذا ملك يطير بجناحيه نحو تمثال الرجل الذاهب إلى ربه بعد حياة قضاها في المحاماة، والملك يمسك بين يديه لوح المحامي وقد خطت عليه كلمتان هما فخر حياة المحامي: الأمانة والحقيقة، وهذا نبيل يأبى أهله بعد موته إلا أن يكون قبره نبيلًا، وإن كانوا لا يذكرون عنه هو شيئًا. وبين الدهاليز تقوم قباب رفيعة، بعضها كنائس وبعضها قبور، وكلها تأخذك بعظمة عمارتها وجمال ما يحيط بها من عمد ونقوش، كما تأخذك قبور الفقراء الذين ذكرت، وهي ألوف مؤلفة بهيبة بساطتها وقد افترشت كلها ثرى المقبرة العظيمة يذهب النظر لدرك غايتها فإذا النظر يرتد وهو أقصر من أن يدرك لها غاية.

وعدنا أدراجنا إلى باب المقبرة، فقابلتنا عند مدخلها عربة تحمل ميتًا وأهله يسيرون وراءه حافين من حوله رجالًا ونساء وأطفالًا خشعًا أبصارهم منكسة رءوسهم بطيئة خطاهم إلى المقر الأخير يوارون فيه جثمان عزيزهم، أو هم يذهبون به إلى الأتون يحرقون فيه هذا الجثمان لتبقى منه حفنة من تراب يودعونها قبرًا يزورونه بعد ذلك. أولا يستحيل كل جثمان ترابًا فيزوره الناس؟ وقد تزور هذا التراب أجيال بعد أجيال إذا كان صاحبه عظيمًا. والحق أن الناس لا يزورون التراب، ولكنهم يزورون الذكرى؛ لأنهم يكونون أشد لها تمثلًا كلما كانوا أكثر من بعض آثارها قربًا. وأي أثر أقدس عندهم من هذا التراب الذي كان يومًا من الأيام إنسانًا مثلهم ذا حركة وإدارة وحياة، والذي لم يروه حين استحالته ترابًا، فهم يتصورونه كما كان إنسانًا أيام حياته، وفي نفوسهم اليوم منه ذكرى أقدس مما كانت حياته ألف مرة!

وأخذنا الطريق إلى مقر الأحياء من جديد، فعادت بي مقبرة جنوا إلى التفكير في وحدة الوجود، وأرتني صورة أكثر أخذًا للنفس من الصورة التي أحيت هذه الفكرة في نفسي وأنا على الباخرة؛ فتلك الألوف المؤلفة من قبور العظماء والبسطاء إنما تحوي خلالها فترة من حياة الإنسانية هي التي نسميها الماضي، وهي صاحبة الأثر الأكبر في الحاضر وفي المستقبل. وهذه المباني الضخمة مما رأينا ونرى في جنوا، وهذه الأشجار المغروسة على سفوح الريجي، وهذه الصور من آثار الحياة ومما نتمتع نحن ويتمتع غيرنا من الأجانب ويتمتع أهل جنوا به، هي من عمل هذه الأجيال المتعاقبة الثاوية في تلك البقعة الضيقة إلى جانب سعة جنوا وفسحتها.

وهذه الأجيال لم تكن تفكر فينا يوم أقامت تلك المباني ورصفت تلك الطرق وغرست تلك الأشجار، وإنما كانت تفكر في حاضرها مأخوذة به عن الماضي وعن المستقبل، كما أنَّا لا نفكر في هذه الأجيال التي سبقتنا حيث نرى آثارها، وإنما نفكر في متاعنا نحن بهذه الآثار، ومتاعنا بعض حياتنا بل هو قوام حياتنا، وإذن فقوام حياتنا هذا هو في كل ذرة من ذراته أثر من عمل تلك الأجيال التي سبقتنا، وأثر من الكائنات المحيطة بنا؛ يابسة كانت أم بحرًا أم سماء، مادة كانت أم قوة. وإذن فليس ثمة ماضٍ أو حاضر أو مستقبل وليس ثمة زمان ولا مكان إلا بمقدار ما يحتاج إليه عرف حياتنا القصيرة أداة للتفاهم، كي نزداد بما في الوجود متاعًا لنزداد به اتصالًا وفيه اندماجًا، وإنما الكائن الحقيقي هو هذه الوحدة للوجود، ليس ما فيه من مختلف الصور إلا بعض مظاهره الدائمة التشكل والتلون في مختلف الأجرام التي نسميها الكواكب، وفي مختلف الصور الصغرى التي نسميها كائنات كل كوكب، وأقل الكائنات إحساسًا بوجوده الخاص أكثرها سلامة اندماج في وحدة الوجود، وأكثرها لذلك طمأنينة وسعادة؛ ألست ترى أنك لا تفكر في معدتك وفي قلبك وفي أي عضو من أعضائك ما دام هذا العضو سليمًا قائمًا بأداء وظيفته في وحدة وجودك الخاص مطمئنًّا إلى ذلك غير مستشعر له ألمًا، فإذا أصاب هذا العضو ما تألم له وأفقده طمأنينته بدأت تشعر له بوجود خاص وتفكر فيه تفكيرًا خاصًّا، ليس هو الطمأنينة ولا السعادة التي تبتغي والتي لا تعرفها كاملة إلا في نسيانك نفسك كل النسيان. وفي أدائك واجبك للوجود أداء تحس أنت أنه طبيعي، كأداء القلب أو أي عضو من أعضائك ما له من وظيفة في مجموع وجودك، وهذه الطمأنينة الساجية إلى الاندماج في الوجود هي أسمى صور حكمة الوجود؛ لأنها مظهر وحدته، وهي لذلك قوام السعادة لكل من أسبغها عليه الوجود.

وبلغنا الفندق وقد أجهدنا القيظ، فأوينا إليه لنستريح زمنًا، وأقبل المساء فخرجنا إلى أنحاء المدينة طمعًا في جو أجمل، لكنا لم نجد من ذلك إلا ما نجده في ليالي الإسكندرية الساكنة الهواء الرطب المبلل، فلما كان الصباح أخذنا تذاكرنا توًّا إلى «برن» عاصمة سويسرا، وحدثتنا النفس بالسفر لوقتها لولا موعد الشاي الذي دعينا إليه، وتناولناه وخرجنا نبتغي عند قمة الريجي هواء ألطف وأصفى. وصعد بنا الأوتموبيل متعرجًا في طرق أذكرتنا طرق لبنان، يحاذي الطريق الجبل عن جانب والهاوية عن الجانب الآخر، ونطل نحن من ناحية الهاوية على سفوح قليلة الشجر أو قاحلة، ونطل في قاع الهاوية على مباني جنوا وعلى «الكامبوسانتو»، ونرتفع والأوتموبيل تجري مستديرة مع السفح حتى تبلغ بنا فنادق الريجي، وفي أحدها جلسنا نطل على المدينة كلها ونستمتع فعلًا بهواء رقيق ونسيم خفيف تمنينا معه لو أنَّا نزلنا في هذا الفندق من ساعة جئنا إلى جنوا، والمساء يقبل في بطء، والنسيم يزداد صفوًا، ومباني جنوا في قاع الهاوية تتدثر رويدًا رويدًا بالظلم، فلما انتصفت الساعة التاسعة نزلنا إلى المدينة من جديد لنقيم بها ليلتنا ولنغادرها ظهر اليوم التالي.

•••

وقام القطار بعد الزوال بخمس دقائق وبلغ بنا ميلانو في الساعة الثانية والربع، وفيها انتقلنا إلى قطار آخر قام الساعة الثالثة والثلث، وفي هذه الساعات الثلاث كان الحر أشد ما يلهب الأنفس وتضيق به الأنفاس، ولقد ظل كذلك طيلة مسيرة القطار من ميلانو إلى أن وصل شواطئ «لوجانو» إحدى البحيرات الإيطالية الكبرى. هنالك لَطُف بعض الشيء، وهنالك بدأت تباشير الألب. هذه الجبال البديعة التي تحيل الصيف شتاء والماء ثلجًا. على أن لطف الجو لم يقترن بجمال المنظر، حتى تخطينا نفق سمبلون وصرنا في أرض سويسرا، في هذه الفلذة الأخرى من فلذات الجنان هوت إلى أرضنا لتكون للعالم متاعًا وسحرًا، ولست أدري كيف صنع بالجبال في هذه البقعة من بقاع الأرض لتبلغ من الجمال هذا المبلغ الذي ينسيك كل متاعب جسمك وهموم نفسك، والذي يقصر معه خيالك عن أن يجد لوصفه ما يضارعه روعة وبهرًا، والذي يشد إليه بصرك وأنفاسك وأعصابك وكل وجودك، فما تكاد تعود إلى نفسك أو إلى رفيقك لتحدثه عن هذا الجمال هنيهة حتى تتجلى صورة أخرى من صوره فتقطع عليك حديثك وتجرك إلى نافذة القطار يجري فيشق النفق بعد النفق، ويريك بعد كل نفق جمالًا جديدًا، جمالًا يجمع إلى العظمة الروعة، وإلى السحر البهر، جبال تحجب الشمس، وقد كست الخضرة كل سفوحها، وتوَّج الثلج هاماتها، وجرت المياه في أخاديدها، فأسمعك خريرها أنغامًا عذابًا، ورأيت من اجتماعها نهرًا يجري ماؤه صافيًا سلسبيلًا، وتنفسح الجبال عن غوطة كست الزرع أرضها من الخضرة ألوانًا متفاوتة، وكست الأزهار خضرتها بالبنفسجي وبالأصفر وبالأحمر، وكل واحد منها مختلف ألوانه، ويتعاقب ذلك بعضه في أثر بعض كأنك تشهده في «السينما»، ولكن أي سينما؟! سينما الخالق العظيم، سينما الوجود الحي بعظمته وجلاله، ويزداد الجلال وتتعاظمك العظمة كلما انحدرت الشمس وراء سلاسل الأجبال، فلا تكاد أنت تحقق أخيالًا ما ترى أم حقيقة؟ وفي الغوطات الخضرة تقوم منازل قليلة كما تقوم على السفوح أكواخ منعزلة، كأنما قصد بها أربابها أن تكون صوامع للعبادة، فإذا هبطت الظلم رأيت هذه المنازل تضيء بالكهرباء، حتى لتمسي وقد حجبها الضوء فلم يبقَ منها إلا ضياؤها، وكأنما هي ثريات منثورة في الوادي بين زروعه التي اكتست هي أيضًا ظلمة، ويرتفع القمر وما يزال في العاشرة من ليالي ميلاده فوق هذه الكائنات جميعًا، فيغمرها بضياء رقيق رطب، لا يقطع ظلمة الوادي ولكنه ينير السماء فيحيل سواد الليل فيها زرقة لا تخلو من سواد، ويجري القمر مع القطار الذاهب بنا إلى برن، ثم يقف في إحدى المحطات ليرينا منظرًا فريدًا من مناظر الطبيعة الساحرة. فقد ارتفع إلى يميننا جبل جلل الثلج قمته، ثم ألقى القمر على هذه القمة بشعاعه، فعكس الثلج ضياءه وتبلج بنوره، فشف حتى صار بلورًا منيرًا. وخيل إليَّ في بهري بهذا المنظر أن القمة قمر ندف ثلجًا، أو أنها قمة نسجت أقمارًا، أو أن الثلج والقمر تضامَّا فجعلا من هذا الضياء فجوة من نور الفجر البشير بالحياة والنور تبعث إلى ركن من الخليقة مطمئن إلى الليل الساجي حياة ونورًا، ونسينا القطار ونسينا السفر ونسينا كل ما حولنا، سوى طاقة القدر، هذه هي وحدها منية المتمني، وجعلنا نلتمس لها صورة في كل ما يدور بالخاطر من صور الخيال، فإذا كل خيال دونها جمالًا، وإذا كل خيال يستطيع أن يستمد منها له خيالًا.

وفيما نحن في بهرنا مأخوذون، إذا القطار تحرك، وإذا هذا المنظر الفريد يتوارى عن أعيننا لتشهده أعين غيرنا، وإذا الظلمة تحجب عنا ما حولنا إلا أضواء المساكن المنعزلة على السفوح والقرى المبعثرة في بطون الوادي. وبقينا زمنًا نتحدث عن فجوة الفجر وطاقة القدر، ثم أغمضت عيني فذكرت جان جاك روسو، هذا الكاتب الفيلسوف الذي عاد بالناس إلى عبادة جمال الطبيعة، والذي جعل من وطنه سويسرا معبد هذا الجمال، ذكرته وذكرت كيف اختص بحيرة ليمان بالحظ الأكبر من وصفه ومن عبادة جمال الطبيعة؛ لأن ليمان بحيرة جنيف، وجنيف مسقط رأس روسو، فعجبت كيف يكتفي عابد جمال الطبيعة بركن من الأرض ضيق يقصر عليه عبادته كما يكتفي عابد جمال المرأة بإحدى بنات حواء يجعل منها قدس عبادته جميعًا. وإذا كانت واحدة من النساء تمسك رجلًا بأسره مستعينة عليه في ذلك بغريزة بقاء الجنس في خير ظروف الحياة، فأية غريزة تمسك رجلًا كذلك بأسره في حدود بقعة من الأرض؟ أليس ذلك لأن الوطنية غريزة أيضًا، وأنت ترى في بقعة الأرض المحبوبة كما ترى في المرأة المحبوبة صورة الوجود كاملة في ظنك، فأنت لذلك ترى فيهما كل وحدة الوجود!

ثم أحسب لو أن روسو حاول أن يصف جمال الطبيعة في سويسرا كلها بدل أن يقتصر على ليمان، لضاق بذلك ذرعًا، ثم لوقف من وصفه عند هذه الصور التي نراها، جماعةَ المسافرين، فلا نستطيع أكثر من تسجيل أثرها في أنفسنا. وليست هذه عبادة الجمال عبادة حقيقية؛ فالعبادة استغراق العابد في المعبود، هي نوع من الفناء يرضاه الإنسان طائعًا مختارًا؛ لأنه يشعر فيه بلذة عظيمة هي لذة انضمام الجزء لصورة من الكل الأعظم الذي يصوره من الوجود لنفسه. وهؤلاء الذين يعبدون ويفنون في عبادتهم هم الشعراء حقًّا، وهم الذين يتركون على الحياة أثرًا باقيًا ما دام لمعبودهم على القلوب سلطان يبهر القلوب.

وفيما كنت أفكر مأخوذًا بما رأيت، مرت بخاطري صورة ماضي الشرق وعظمته، يومئذ كانت سويسرا وكانت جبال الألب وكان القمر يلمع على الثلج ويخلف منه ليلة القدر. فما لهذا الجمال لم يخلق في نفوس أهله من العظمة مثلما كان لأهل الشرق؟! وهل كانت هذه الصحاري الفسيحة الممتدة على جانبي النيل أيام الفراعنة امتدادها اليوم، والصحراء الممتدة حول بيت المقدس مبعث الديانتين الموسوية والمسيحية، وصحراء العرب المحيطة بمهبط الرسالة على محمد (عليه السلام)، هل كانت هذه الصحاري يومئذ أفعل أثرًا من تلك الجبال البديعة؟ ثم ما لها تبعث إلى من تحيط بهم خمولًا واستسلامًا بعد أن كانت تبعث إليهم بالنشاط والقوة؟ أم لعلها كانت في الماضي مبعث القوة الروحية صاحبة الأثر الأكبر في الجماهير، على حين كانت القوة المادية الكمينة في جبال الألب ما تزال لم تفترع ولم تلد للناس هذه الكهرباء وما قلبت الكهرباء والقوى المحركة الأخرى من نظام العالم، فلما بدت هذه القوى الكمينة في المادة أشعلت أرواح المحيطين بها من الناس بأقوى مما كانت الصحاري تشعل أرواح من تحيط بهم فتمدهم بالخيال والشعر؟ وهل لنا، إن صح هذا، أن نيأس وأن نستسلم لليأس؟ أم لعل في خيال الصحاري وفي سرابها قوى كمينة لم تفترع، فإذا آن لها أن تفيض على الناس ما عندها غاضت الألب وقواها، وتجلت روح الشرق بازغة من جديد؟ أم الحق أن لا شرق ولا غرب ولكنها وحدة لا تعرف زمانًا ولا مكانًا، تنتقل مظاهر القوة فيها لأعيننا نحن الذين نرى من كل ما في الحياة فترات قصيرة فنحسبها في ناحية تارة وفي أخرى تارة أخرى، في حين هي قوة الكل حيثما بدت مظاهرها؛ فهي ملك الكل، بل هي من هذا الكل جزء لا يتجزأ؟

وفيما أنا في تفكيري في روسو، وفي وحدة الوجود، وفي جمال الطبيعة، وفي الشرق والغرب، إذا أنوار تبدو، هي أنوار العاصمة السويسرية، وإذا نحن يجب أن نعنى بمتاعنا عند وقوف القطار. ووقف القطار ونزلنا، وأوينا إلى فندقنا بعد يوم قائظ قضيناه نقطع أراضي إيطاليا، وبعد مساء استقبلتنا به سويسرا، فأنسانا القيظ وإجهاده، وأنسانا بجماله الفتان كل ما سوى سويسرا وطبيعتها البارعة الفتنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤