أعياد سويسرا

ليست طبيعة البلاد المحيطة بالعاصمة السويسرية (برن) من الجمال بمثل ما ترى محيطًا ببحيرة ليمان ولا عند أنترلاكن أو لوسرن، فأنت تقطع الطريق بينها وبين بازل وبينها وبين زوريخ وشافوزن. فلا ترى من شاهقات الجبال المغطاة بالثلج ومن الأودية المنخفضة تجري خلالها المياه، مثلما ترى حول ليمان وحول البحيرات السويسرية الأخرى، لكنك مع ذلك واجد حول برن من صور الجمال ما امتازت به سويسرا جميعًا؛ يجري خلال المدينة نهر «الآر» متعرجًا ملتويًا، وترتفع على جانبيه منازل ومروج محيطة بتلك المنازل، وسفوح ترتفع وترتفع لتكون طرق المدينة ومبانيها الكبرى. وفي برن من المباني الكبرى عدد غير قليل يبهر النظر لعظمته وجماله؛ فمقر حكومة الولايات السويسرية والبنك السويسري وبنك المقاطعة تقع كلها في ميدان واحد، وتقع معها أفخم فنادق المدينة، وتطل كلها من ظاهرها على الآر وجبال الجورتون، فتستهوي إليها أهل برن والسائحين يجلسون فيها على مقاعد كثيرة مدت خلال الحدائق الخضراء زانتها أزهار ألوانها ذات بهجة تتوسط خضرة الحدائق وتروق العين بروائها وجمال منظرها الضاحك العذب الابتسام، وإلى الجانب الثاني من المدينة تقوم جبال متصلة بجبال الجورتون، وهي مثلها ليست شاهقة ولا مهوبة. وفي هذا الجانب الثاني مستشفيات بديعة الموقع فخيمة العمارة، لكن «برن» مع هذا كله مدينة وليس فيها ما في البلاد الصغرى من بهجة الجبل والبحيرات، ثم إن الجو كان فيها أول يوم نزولنا إياها حارًّا يذكر أهلها أنهم لم يروا مثله منذ سنة ١٩١١ مضرب المثل في حرارة الجو بسويسرا؛ لذلك آثرنا بعد يومين أن نقيم بأعلى قمة الجورتون، فنكون على ربع ساعة من وسط برن، ونتمتع في الوقت نفسه بجمال الجبل وغاباته، وبمناظر الجبال الشاهقة الأخرى المنثورة في أنحاء سويسرا المختلفة.

يصل بين برن والجورتون ترام صاعد (فنكلير)، وعلى دقيقة أو دقيقتين من أعلى الفنكلير فندق الجورتون، نزلناه وأقمنا به أربعة أيام، وأكبر غايتنا أن نشهد من فوق ثلوج اليونج فراو والبيلات وغيرهما من شاهقات سويسرا منظر الشمس الغاربة والقمر الطالع متوردًا ثم فضيًّا ناصعًا، ولقد شهدنا هذا المنظر في آخر أيام مقامنا بالجورتون ونحن خشية ألا نشهده في وجل أي وجل؛ ففي اللحظة التي بلغنا فيها الجورتون تلبد الجو بالسحاب، ثم بدأ المطر يهتن تتبعه بروق ورعود، ذكر لنا صاحب الفندق أنه كان في انتظارها بعد أربعة أسابيع جافة من كل مطر، صافية السماء لضوء الشمس ولشعاع القمر. وانتظرنا أن تقلع السماء، وأن يغيض الماء، وأن يطلع القمر، وأن تتبدى القمم وثلوجها ساعة طلوعه ومغيب الشمس بما يشفي ظمأ نفوسنا المشوقة لهذا المنظر الساحر، لكن المطر ظل يهتن طول الليل إلا قليلًا. على أنَّا استعضنا يومئذ بمنظر قلَّ من مثله نظيره، ذلك منظر قوس قزح في ساعة المغيب؛ فقد وجدت الشمس الغاربة خلال الركام فرجة نفذ منها شعاعها متخللًا بلورات الماء المتساقط مطرًا، فإذا قوس قزح بألوانه السبعة ينتشر في السماء ويشطرها شطرين: مظلم ومضيء؛ مظلم ناحية الغرب القريبة من الشمس، ومضيء ناحية الشرق البعيدة عنها، وما أكثر ما رأيت قوس قزح في أرياف مصر وفي غابات أوربا! لكن أقواس قزح تتفاوت على ما يظهر في جمالها كما يتفاوت جمال منظر عن منظر، وصورة عن صورة، وامرأة عن امرأة. ولعلي لا أذكر أني شهدت قوس السماء في مثل بهر قوسها؛ إذ شهدته من الجورتون في صفاء ألوانه أو في جمال المنظر الذي كشف عنه؛ فلقد كان هذا القوس كأنما نظمت وراءه الأجبال والغابات والثلوج بيد ماهرة، أو كأنما رفع الستار عن مسرح ينظمه الإنسان بما لا يدع لصورة من الجمال في الخلق أن تبذه، وكلما ازدادت الشمس نحو المغيب انحدارًا ازدادت ألوان القوس سطوعًا وازداد ما وراءها ضياء. ولم يستطع أحد ممن كانوا معنا في صالة الطعام ساعتئذ ألا يترك طعامه وألا يذهب إلى جانب النافذة يقدس من خلالها هذا السحر الذي اندمج في نفوسنا واندمجت فيه نفوسنا فما نطيق له تركًا أو إلى الطعام عودة. وبين المأخوذين ببهر هذه الساعة التي تجلى فيها جمال الخلق في أبهى صورة شيخ جاوز السبعين طويل اللحية أبيضها، ومن حوله ابنته وحفيدته، وهم جميعًا معجبون بالمنظر، وهو من بينهم أشدهم إعجابًا، وكأنه وهو في سنه المتقدمة أقربهم إلى سمو الفناء في وحدة الوجود، وأدناهم إلى هذه الوحدة وأكثرهم كلفًا، وبقي هذا القوس الساحر يأخذ القلوب إليه حتى آن لمبعثه ذات البهاء أن يتوارى، وأن يترك عالمنا لليل يبتلعه في جوفه الأسود الداكن.

على أن قوس قزح جدد في أنفسنا الأمل أن تنقشع السحب وأن يطلع القمر، وأن نخف إلى المنظر الذي شد ما شاقنا مرآه: منظر القمر يتوج هام الجبال وثلوجها، فلما تناولنا طعامنا خففنا إلى ناحية باب الفندق لنأخذ طريقنا إلى أعلى مكان في قمة الجورتون المطلة على سائر قمم الألب الرفيعة، لكنا ما كدنا نبلغه حتى ألفينا السماء قد عادت تهمي فيذهب تهتانها بأملنا الذي كان قد تجدد. وفيما نحن واقفون أقبل صاحب الفندق يجري وقد بلله المطر، فرأى ما تنم عنه وجوهنا من شكاية؛ إذ ذاك هز كتفيه وضحك وقال: «وماذا تريدون؟ إن لنا لأربعة أسابيع جافة من كل مطر، حتى يبس الزرع وجف الضرع، وصرنا ننتظر مثل هذا اليوم بصبر ذاهب! ألستم ترون إلى الأرض كيف اقشعرَّت، وإلى المرعى كيف جف، وإلى الشجر كيف عراه الذبول؟ فإذا جاءت السماء يومين أو ثلاثة أيام بمطرها المحسن عادت إلى الأرض بهجتها وأخذت من جديد زخرفها، ولم يكن لإنسان إلا أن يزداد لذلك بهجة، ثم عادت المواشي ترعى ويدرُّ ضرعها وتعطي من خيراتها، وعادت الخضر إلينا بعد أن كدنا نكون منها في يأس مقيم، وإنكم لواجدون في بهاء الصباح غدًا ما يعوضكم من هذه الليلة المطيرة …».

وصدق الرجل، فكان الصباح صفو السماء، جميل الشمس، رفيق الجو، مما سمح لنا بالتجول في الغابات ما شئنا، حتى إذا أحسسنا الجهد جلسنا إلى مقعد بين الأشجار الرفيعة تحجب شعاع الشمس، وإن عني أهل المنطقة بأن يقصوا أمام النظر أغصان الأشجار ليستطيع الاستمتاع بالسفوح الهابطة إلى برن، وبنهر الآر وبعاصمة سويسرا ومبانيها المختلفة. لكن النهار ما كادت تجيء مولياته، والشمس ما كادت تنحدر إلى ناحية الغرب لترسل حولها من لهبها المطمئن ما يصبغ السماء وردًا ودمًا، حتى كانت السحب قد تراكمت من جديد، وحتى نزل المطر فأذهب أملنا في رؤية القمم الشماء المجللة بالثلوج تحت أشعة مغيب الغزالة ومطلع البدر. وظللنا كذلك ثلاثة أيام تباعًا نستمتع طوال النهار بصحو، حتى إذا جاءت الساعة المرجوة، ساعة المغيب، التهمتها منا السحب والتهمها المطر التهامًا، وكاد اليأس يتولانا من الاستمتاع بهذا المنظر، حتى إذا كانت آخر ليالي مقامنا بالجورتون — وكانت ليلة تمام القمر بدرًا — إذا كل أملنا يتحقق، وإذا نحن نشهد من أعلى قمة الجورتون عيدًا من أبهى أعياد الطبيعة، كان مقدمة لنشهد بعد يومين من زوريخ عيد استقلال سويسرا، ولنشهد بعد يوم ثالث عيدًا محليًّا ظريفًا في شافوزن.

كانت الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم الأخير من مقامنا بالجورتون حين عدنا من وسط الغابات قاصدين أعلى قمة الجبل، لكن الشمس كانت ما تزال عالية في السماء فآثرنا البقاء على مقعد نطل منه على برن حتى تقرب ساعة المغيب. وقبيل الساعة الثامنة حانت منا التفاتة نبهتنا إلى أن الشمس بدأت تنحدر، فيجب أن نذهب إلى أعلى القمة. وذهبنا فألفينا عندها جمعًا عظيمًا جاءوا كلهم لمثل ما جئنا له من استمتاع بعيد الطبيعة. واتجهت الأنظار إلى ناحية الألب الشماء، وحدقت العيون إلى الثلوج الناصعة تحت ضياء الشمس لما يلهبه المغيب، وكنت لا تسمع إلا همسًا يتخلل الوقت بعد الوقت صمتًا مطلقًا. ومن بين هذا الجمع عجائز يمتعن أنظارهن وأفئدتهن ونفوسهن بمتاع طالما شهدنه عهد الصبا وهن اليوم له أشد شوقًا. ومن بين أولئك العجائز واحدة ما تكاد تمسك نفسها جالسة، فهي تعتمد إلى كتف ممرضة تلزمها جلست إلى جانبها وإلى جانب العجائز صبية وأطفال غير السيدات والرجال، جاءوا جميعًا يحققون بمجيئهم وحدة الحياة الإنسانية، ويحققون بفنائهم في المنظر الذي ينتظرونه وحدة الوجود.

وانحدرت الشمس نحو الغرب واحمر نورها … انظر الآن إلى قمم الثلج؛ يا لبهاء الجمال الباهر! ما أشد هذا العيد سحرًا، لقد استحال الثلج وردًا، فالورد عسجدًا، فالعسجد دمًا، فدكن الدم حتى أظلم، ويستحيل الثلج في هذه الألوان مبطئًا متمهلًا والأنظار إليه مشدودة حتى لا يفوتها منه منظر، والقمر يحبو من وراء الثلوج متوردًا ليستحيل هو أيضًا رويدًا رويدًا إلى لون الذهب، والسماء من وراء ذلك تضرب فيها أشعة الشمس وتطوق ما بها من سحب بمثل ما تصبغ به الثلج من ألوان، وأنت بين هذه المناظر كلها تائه اللب مشرد النفس مسحور، يتجاذبك الخوف أن ينتهي العيد، والرجاء أن ترى استحالات أخرى في لون الثلج وفي ضياء القمر. وتضيء أنوار الكهرباء في برن فلا تلتفت إليها عين، وكانت ترى لها في الليالي السابقة، وهي سترى لها بعد سويعات، روعة وجمالًا. ثم أظلم الثلج كله، وبدأ بعض الحاضرين يقومون، وقامت هذه العجوز المتهدمة تتداعى أوصالها، فما تكاد الممرضة الشابة تقيم أعضاءها المحطمة. لكن هذا القتام في الثلج لم تمضِ عليه فترة حتى عكس لون السماء الذي استحال كله لهبًا ودمًا. انظر الآن من جديد واستمع إلى آهات الإعجاب تنفثها الصدور وتصدرها القلوب! لكن وا أسفا! لقد كانت هذه الفتنة في السماء صحو الاحتضار … فما هي إلا دقائق حتى اختفى كل شيء فلم يبقَ لشعاع الشمس أثر، وإن أضاءت السماء جميعًا بنور القمر. ولم يكن شعاعه لينعكس على الثلوج وراءه، فلم نكن لنرى منها فجوة الفجر أو ليلة القدر، فحمدنا الطبيعة على أن لم تضاعف عيدها بسحر جديد، حتى لا تمسكنا طيلة الليل إلى جانب منظر ما أشك في أنه كان ينسينا طعام العشاء ونوم الليل. وعدنا أدراجنا إلى الفندق يملأ أفئدتنا البهر وقلوبنا السحر، وتلهج ألسنتنا بالحديث عن متاع بالجمال قلَّ أن يكون مثله متاع.

وغادرنا الجورتون ضحي اليوم التالي إلى برن، وغادرناها بعد الظهر إلى زوريخ فأمضينا بها ليلتنا، ثم قمنا أول يوم من أغسطس نبتغي أن نطوف أرجاءها لنرى ما فيها، فلم نلبث أن غادرنا الفندق، فسارت أقدامنا إلى البحيرة، وسألنا عن موعد قيام الباخرة التي تطوف أنحاءها، وعلمنا أن الباخرة التي تقوم صباحًا قد أقلعت من ربع ساعة، وأن الأخرى تقوم في الساعة الثانية بعد الظهر، فاتجهنا مع شاطئ البحيرة لحظة، وركبنا الترام نبتغي ظاهر المدينة، ودلتنا أعلام الطريق على أن صاعد الجبل على مقربة منا، وأنه يرتفع بنا إلى غابات «ولدر». وفيما نحن في طريقنا إلى محطة الصاعد قابلتنا فتيات يبعن شارات لم نعرف ما هي، ولذلك لم نشترها. وصعدنا إلى «ولدر»، وقضينا بين الغابات البديعة إلى الظهيرة، ثم عدنا فتناولنا طعام الغداء في الفندق. ماذا عسى أن تكون هذه الشارات التي أرادت الفتيات بيعها لنا؟ إن كثيرين من النازلين في الفندق وكذلك رجاله جميعًا ليحملونها! لعلها شارة جمعية من الجمعيات الخيرية، ولعل لها أمرًا لا بد أن سنقف عليه، لكن الوقت الباقي على موعد قيام الباخرة قليل؛ لذلك أسرعنا في تناول الطعام، وقمنا إلى الباخرة التي طافت بنا في أنحاء البحيرة جميعًا. ولبحيرة زوريخ ما لسائر بحيرات سويسرا من روعة وسحر، ولتشكل مياهها مع ألوان السماء تارة وخضرة الشجر أخرى ما يأخذ النظر ويسحر اللب. وكنا بهذا الجمال في سحر أي سحر، لكن الناس على ظهور الباخرة كثيرون جدًّا، حتى لتستوقف كثرتهم النظر، ومنهم كثيرون يحملون هذه الشارة التي أرادت الفتيات بيعها لنا؛ فماذا عسى أن تكون؟ وأي شيء دعا هؤلاء الكثيرين، رجالًا ونساء، إلى ترك أعمالهم؟ وكنا على وشك السؤال عن هذا وعن غيره من مثله لولا أن عاد فأنسانا إياه جمال البحيرة وجمال شواطئها، فلم يبقَ في أذهاننا موضع للالتفات إلى غير هذا الجمال وتلك الفتنة صورت خضرة، وماء، وسماء. فلما أتمت الباخرة سياحتها وعادت في الساعة السابعة مساء إلى زوريخ وعدنا إلى الفندق، رأينا عددًا من هذه الشارات عند بواب الفندق، فسارعت إليه وسألته عنها، فإذا بهذا اليوم عيد حرية سويسرا، وإذا هذه الشارات شارات عيد الحرية، طبعت لذكراه في يوم أول أغسطس سنة ١٩٢٨.

عيد الحرية في سويسرا! بلاد الحرية والمثل الأعلى فيها! أليس هذا جميلًا؟ أليس جميلًا أن يذكر الغني المفرط الغنى يوم غناه، والرجل العظيم أول أيام عظمته؟ أَوَليس أجمل من هذا أن تذكر الأجيال التي تستمتع بالحرية في يوم مولد الحرية تضحيات الأسلاف الذين أراقوا دماءهم وأهدروا منافعهم في سبيل حرية غيرهم من غير أن تكون لهم هم مطامع خاصة وغايات عاجلة؟ وإذ يذكر الناس ما فعل أسلافهم لهم يشعرون بهذا الدين الكبير عليهم الذي يجب أن يؤدوا مثله لأخلافهم، كما يطالب الإنسان بأداء دين حياته لابنه لا لأبيه.

وشاركنا السويسريين في عيدهم، فحملت على صدري شارة من شارات عيدهم، ونزلنا نطوف في المدينة علَّنا أن نجد فيها ما يدلنا على ميول أهلها، لكن الحوانيت مقفلة جميعًا، والطرقات خالية أو تكاد، والناس في مرحهم بعيدهم قد خرجوا إلى ظاهر المدينة نهارهم كما خرجنا نحن أيضًا، ومنهم من آب ومنهم من لا يزال في مرحه، والذين آبوا ينتظرون في منازلهم الساعة العاشرة من المساء؛ ساعة العيد الكبرى.

وعدنا إلى الفندق، ولبسنا كما لبس القوم ملابس العيد، وشاركناهم في الاحتفال به، وكيف لا نشاركهم فيه والفندق الذي نقيم به يكاد يكون مستقر العيد! فلقد ازدانت حدائقه بالكهرباء تخللت أشجارها جميعًا، وازدانت حشائش الحدائق بالشموع صفت على حافاتها بعد أن وضعت في أكواب ملونة تقي ضوءها عبث النسيم، وازدانت البحيرة أمامه بأبدع الزينة؛ إذا اتشحت بواخرها جميعًا بالأنوار المختلفة الألوان، ورسم في مقدماتها بالأنوار كذلك علم سويسرا يتوسط فيه الصليب الأبيض رمز السلام رقعة حمراء هي الدماء التي ما تفتأ الأمم تريقها آنًا بعد آن باسم حرية الشعوب تارة، وباسم سلامها أخرى.

وكانت الساعة العاشرة حين بدأت الألعاب النارية تقذفها مياه البحيرة، فتعلو وتعلو، ثم تنفجر في جوف السماء وفي لجة ضوء القمر، وتهبط بعد ذلك شهبًا ساطعة إلى الماء من جديد. وما كاد الناس يسمعون فرقعة الألعاب حتى خفوا إلى ناحيتها؛ ما أعظم عيد الحرية وما أروعه! انظر إلى هذا الشعب السويسري من أهل زوريخ اجتمع كله في بقعة ضيقة فوق جسر البحيرة حتى ليشفق الإنسان على الجسر أن يميد به! اجتمع في هذه البقعة ليحيي الحرية في يوم عيدها، وليشهد كل واحد صاحبه على أنه وصحته وماله وحياته فداء هذه الحرية، ثم ليبتهج حتى يبلغ ابتهاجه حد اللهو أن بقيت هذه الحرية مصونة لا يفكر أحد في الاعتداء عليها، وأن بقي الشعب السويسري اليوم كما كان من قبل مضرب المثل في الحرية الكاملة والديمقراطية الصحيحة.

وكانت الألعاب النارية مدى الساعة التي استمر إطلاقها فيها من أماكن مختلفة في البحيرة جميلة حقًّا، فلما أطلق آخر سهم من سهامها فارتسم العلم السويسري خلاله، بدأ القوم ينصرفون عائدين لاستكمال لهوهم بعيدهم، أو للاستجمام في منازلهم استعدادًا لعمل الصباح، وأقلعت باخرة بأنوارها ذاهبة من زوريخ إلى البلاد الواقعة على جوانب البحيرة، والتي جاء أهلها يشاركون أهل عاصمة المديرية في العيد الأكبر، وبدأت الأنوار كلها تخبو رويدًا رويدًا، والليل يستعيد حكمه، ثم كانت الهجعة انتظارًا ليوم جديد.

•••

وأصبحنا نطوف في شوارع زوريخ، وترى فيها النظام الجذاب الذي برع أهالي سويسرا فيه تجميلًا لبلادهم ليجذبوا السائحين إليها، فهي جميلة في طبيعتها، جميلة في مدنها، جميلة في حوانيتها، جميلة في طريقة عرض بضائعها، جميلة في كل ما يلتفت إليه النظر من صور الجمال مما يستطيع الإنسان توفيره للإنسان. وغادرنا المدينة بعد الظهر قاصدين شافوزن لنرى مساقط الرين، ثم لنتخطى الغابة السوداء، ولنصل إلى ماينس فنركب الرين منها إلى كولونيا، كي نرى معرض الصحافة ونحضر مؤتمرها.

ولست أتحدث الآن عن مساقط الرين وروعة جمالها؛ فلهذا الحديث موضع من بعد، ولست أتحدث عن شافوزن فهي قرية أو تكاد، وإنما أتحدث عن عيد محلي ظريف في شافوزن ساقته المصادفة لنشهده في الليلة الوحيدة التي أقمناها بها، كما ساقت لنا المصادفة عيد الجمهورية في زوريخ وعيد الطبيعة في الجورتون، وكما ساقت لنا قبل ذلك عيد الليلة الأخيرة من ليالي سفرنا على البحر قبل إرساء الباخرة بنا في جنوا.

فلشافوزن، كما لكل كورة سويسرية، موسيقاها، وقد طلبت الجالية السويسرية في باريس إلى بلدية شافوزن أن ترسل لها بموسيقاها كي تحيي بها عيد الحرية السويسرية في قلب العاصمة الفرنسية، وأجابت بلدية شافوزن الطلب مغتبطة مبتهجة. وأحيت الموسيقى العيد، فدعاها عمدة باريس ودعتها بلدية العاصمة الكبرى، ثم آن لها أن تعود إلى شافوزن، وكان ذلك حين وجودنا بها ووقوفنا على مقربة من محطة السكة الحديدية فيها. وكما اجتمع أهل زوريخ في الليلة السابقة على جسر البحيرة يحيون عيدهم اجتمع أهل شافوزن حول المحطة يستقبلون موسيقاهم ويحيونها بالأعلام والأزاهير، فلما أقبل القطار اهتزت الأعلام في المحطة، فقابلتها أعلام الموسيقى تهتز في وسط القطار، ثم صدحت الموسيقى بنشيد اهتزت له الأفئدة والقلوب. ما أجمل الشعور القومي العام صادرًا من أعماق النفوس وتحركه عاطفة بريئة من كل غاية، منزهة إلا من حب الوطن! واصطف الناس في الطريق وفسحوا لرجال موسيقى بلدتهم ممرًّا يسيرون فيه، ونزل هؤلاء الموسيقيون إلى الطريق، ثم صدحوا فحركوا القلوب والأشجان من جديد، وانفرط عقد القوم حيث توارت الموسيقى عن أنظارهم في ظلمة الليل وذهب كل إلى ناحية.

ولم ندرِ نحن كيف نقضي برهة من الزمن، حتى دلنا رب الفندق على «الكونسرت» تصدح فيه الموسيقى، فلما استقر بنا المقام فيه وطابت لسماع موسيقاه نفوسنا، إذا ضجة كبيرة تعلو خلاله، وإذا رجال موسيقى البلدية يتخللونه وعلى وجوههم البشر بعد أوبتهم من أم العواصم، وإذا الناس من أهل شافوزن يصافحون أولئك القادمين ويقبلونهم، وإذ أحدهم يقبل على مائدة اصطف إلى جانبها بعض الفتيات فيقبِّل إحداهن ويجلس إلى جانبها، وإذا مرح عام يسود المكان ويغطي على صوت موسيقاه وعلى أحاديث المتحدثين على مسرحه، وإذا هذه الضجة تستمر حتى قيامنا إلى فندقنا نأوي إليه.

وفي الصباح الباكر أخذنا القطار الذاهب إلى كولونيا بعد أن يقطع الغابة السوداء ويحاذي الرين، لكنا آثرنا أن نغادره عند ماينس لنقيم بها يومين، ثم لنذهب منها إلى كولونيا على الرين لنرى بدائع ضفافه. ولشدَّ ما سعدنا لهذا التدبير، وابتهجنا بما أتاح لنا أثناء مقامنا بماينس أن نذهب إلى فرانكفورت، وأن نرى بيت الشاعر الفيلسوف الألماني العظيم جيتى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤