معرض الصحافة في كولونيا

تقع كولونيا على ضفة الرين اليسرى، وتتصل مع ضفته اليمنى بجسرين وبجسر ثالث كان قائمًا من القوارب المتصل بعضها ببعض من شاطئ إلى شاطئ، وقد زال الآن ليحل محله جسر آخر. وعلى هذه الضفة اليسرى تقوم نواحٍ ضمت إلى كولونيا منذ سنة ١٩١١، وإن كانت مبعثرة على الضفة هنا وهناك بحيث ترى بين كل واحدة منها والأخرى منبطحات فسيحة مغطاة بالحشائش الخضراء. ويقوم أحد هذه المنبطحات على الرين مقابلًا لكولونيا، وكانت تقوم على بعض أجزائه في الماضي معسكرات ألمانية من معسكرات عاصمة الرين التي كانت من أمنع الحصون، ولم تكن منعتها ترجع إلى حاجات الدفاع عن ألمانيا وكفى، بل كانت ترجع كذلك إلى أن كولونيا حصن الكاثوليكية في ألمانيا البروتستانتية، فكان من رأي الحكومة المركزية أن تحتفظ فيها بقوى كثيرة حتى لا تفاجأ فيها بثورة أو بانتفاض.

على المنبطح المقابل لكولونيا أقيم معرض الصحافة، أو بعبارة أدق، أقيمت مدينة الصحافة، وهذا الحصن القديم الذي جرد منذ زمن من قواته، قلب نظامه فأصبح قسمًا من هذا المعرض، نظم فيه تاريخ الصحافة في العالم على وجه علمي له حديث بعد، وبُني بعد هذا الحصن قسم فسيح عرضت فيه الصحافة الحديثة وحاجاتها المتعددة وصلاتها بكل أسباب المعرفة والإذاعة في العالم.

ومن بعد هذا القسم أقامت بعض الصحف الألمانية وبعض مصانع المطابع «الروتاتيف» الألمانية دورًا لها، ثم أقيم بعد ذلك في نصف دائرة، معرض صحافة الدول المختلفة، خصص فيه لكل دولة مكان بمقدار ما طلبت منذ بداءة المعرض، وأمام هذا القسم نافورة مياه بديعة تقع وراءها وعن جوانبها مقاهٍ ومطاعم، ثم تمتد الخضرة بعد ذلك فسيحة ذات نضرة إلى مرمى النظر. وفي منتهاها وعند حدود المعرض تقوم أماكن اللهو «غير الخفي» على حد تعبير القائم بأعمال القسم المصري. وفي هذا القسم قسم الملاهي تعلن المتاجر والمصانع المختلفة عن تجارتها وعن مصانعها في صور من الإعلان شتى.

ويكاد يستحيل على العين أن تحيط بجوانب المعرض ولو وقف الناظر في نقطة الوسط منه، على أنه يؤخذ، ولا ريب، في موقفه هذا بحدائق المعرض وبفروش الحشائش فيه، قبل أن يؤخذ بدوره ومبانيه، وليس ذلك لأن عمارة هذه الدور لا تلفت النظر، كلا! فهي ببنائها جميعًا بالأجر، وببرجها العالي، وباستدارة قسم معارض الدول تأخذ العين وتستوقف الالتفات. على أن حدائق المعرض ونافوراته ومباني المقاهي والمطاعم المبعثرة فيه ذات بهجة، وأبهجها هذا القسم الفاصل بين مباني المعرض ومقاهي الحشيش، فهو حديقة جميلة تزينها الأزهار وترتفع فيها مياه نافورة، على حين تنعقد فوق نافورة أخرى قبة المياه المندفعة من جوانبها يداعبها شعاع الشمس أثناء النهار، كما تنعكس عليها في الليل مختلف ألوان ضوء الكهرباء المنبعث هو أيضًا من بين منابع المياه.

ولقد عنيت مدينة كولونيا إلى جانب هذا التجميل للمعرض وإقامة أسباب الراحة والسرور به بتجميل ما جاور المعرض من أجزاء المدينة وتمهيد أسباب الراحة لزائريها الذين يقصدون المعرض؛ ففي كل ليلة تنير جسر «هوهنزلرن» وتنير لجة مجاوراته بما يضيء صفحة النهر بضياء عسجدي يكاد يكسف أنوار البواخر النهرية التي ما تفتأ على النهر في ذهاب وأوبة. وفي مكانين مختلفين على شواطئ النهر ينزل زوار المعرض إلى فلائك بخارية تنقلهم من المعرض وإليه طيلة النهار وإلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل. أليست المقاهي والملاعب تبقى مفتوحة إلى الساعة الثالثة صباحًا؟ فليتوافر لقاصديها أكبر قسط من الراحة كما توفر المدينة لهم في أنوار الجسر من بهجة العين ما يسرها، وكما تزيدهم سرورًا بين آن وآن حين تضيء قبة الكنيسة التاريخية الكبرى.

وحسنًا يفعل الذين يقيمون المعارض إذ يجمعون فيها اللهو إلى جانب ما يعرضون؛ ففي اللهو ما يغري كثيرين بالذهاب إليها وبمشاهدة المعروضات، والاستفادة من هذه المشاهدة استفادة يثابون بها رغم أنوفهم. ثم إن الذين يقصدون المعارض للدراسة والبحث في حاجة إلى الراحة كلما أجهدتهم الدراسة وأتعبهم البحث، وفي حاجة كذلك إلى التسلية واللهو. ومثل معرض الصحافة أحوج لهذا الجمع من سواه من المعارض، فهو معرض عقلي وعلمي، وهو لذلك أشد للباحث إجهادًا وأقل لغير الخبير استلفاتًا. فإذا لم يكن إلى جانبه ما يسلي المجهود وما يستبقي غير الخبير تثاقل قاصدوه ومل زائروه، وفاتت بذلك الفائدة الكبيرة المرجوة منه.

وهذا المعرض الدولي بكولونيا من أشد المعارض استنفادًا لمجهود الخبراء وأقلها لفتًا لغيرهم، ما عدا بعض أجزاء منها كانت الدعاية فيها مقصودة أكثر من الصحافة ومن العلم، وهو لذلك أشد احتياجًا لما يجذب إليه؛ فهذه الحدائق والمقاهي والملاهي هي بعض الضروريات التي لا مفر منها فيه، وهذا القطار الصغير، أو القطار القزم، كما أسمته إدارة المعرض، يطوف بالزائرين في مختلف جوانبه ويروِّح عنهم بعض الشيء من تعبهم. ثم إن المعرض في حاجة إلى ذلك كله؛ لأنه متسع مناحي البحث، لا يكفيك لزيارته زيارة مفيدة يوم أو أيام، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن الذي يقصد إلى دراسة المعرض دراسة علمية صحيحة بحاجة إلى أسابيع يقصرها على هذا الغاية وينتهي منها إلى الإحاطة بالصحافة كعلم إحاطة جمة الفائدة.

ومع هذا التوسع في عرض تاريخ الصحافة والطباعة توسعًا يكفي للإحاطة العلمية بهما، فقد توجه أكثر من واحد من الكتاب والصحفيين في الأمم المختلفة باعتراض على المعرض وعلى وصفه بالدولية؛ لأن ألمانيا وحدها استقلت بعرض تاريخ الصحافة والطباعة، ولأنها استأثرت في الصحافة الحالية بوضع ما رأت عرضه من أسبابها وأدواتها، ولأنها لم تترك للدول الأخرى أكثر من عرض ما عندهم في دورهم المختلفة. وزاد بعضهم على هذا الاعتراض اعتراضًا آخر، هو أن لوحات المعرض كتبت جميعًا بالألمانية، والألمانية ليست من جهة اللغة الدولية المعترف بها، وليس من جهة أخرى ما يحول دون كتابة هذه اللوحات بعدة لغات. وقد يكون لكل من هذين الاعتراضين وجاهته، وإن كان الإنصاف لا يبرئ كلا الاعتراضين من التطرف في معنى الدولية. وهو تطرف دعا إليه اعتزاز كل بقوميته يريد أن يكون لها نصيب من الاشتراك في المعرض وإدارته، ومن التطرف مطالبة الألمان أن يعترفوا بأن لغتهم ليست لغة دولية؛ إذ كل اعتراف من هذا القبيل في الظروف الحاضرة يجرح عزتهم القومية ويعيد لهم ذكرى مؤلمة لما أصابهم في الحرب الكبرى.

وكان للألمان بالقسم التاريخي الذي نظموه اعتزاز أي اعتزاز! سألني مدير المعرض بعد أربعة أيام من مقامي بكولونيا ومن مقابلتي الأولى له: أزرت المعرض؟ وهل أعجبني؟ فلما أجبته أني طفت به جميعًا ولم يبقَ إلا القسم التاريخي، كان جوابه: لكن القسم التاريخي أهم أقسام المعرض وأدعاها للإعجاب. ولقد صدق الرجل إلى حد كبير، وتجلى لي صدقه في اليوم التالي لحديثنا هذا، مع أن زيارتي لذلك القسم التاريخي كانت زيارة عجلى، حتى لقد فاتني أن أمر ببعض غرفه العليا، ومع أن سكرتير المعرض الذي تفضل فصحبني أثناء هذه الزيارة لم يكن لديه من فسحة الوقت أكثر من ساعتين يدلني فيهما على ما لم أتمكن من معرفته بتلك اللوحات المكتوبة بالألمانية وحدها.

فهذا القسم التاريخي يعرض الطباعة، ويعرض صناعة الورق ويعرض الصحافة من أول نشأتها، ويعرض كذلك الأدوات التي استعانت بها الصحافة لاستقاء أخبارها من رجالة وفرسان وحمام زاجل ومركبات تجرها الخيل وبريد وبرق ولاسلكي في عصورها المختلفة، ويعرض ذلك كله عرضًا علميًّا دقيقًا، ويبين لك الكثير منه، ويبينه لك كله كما كان في مختلف عصوره. فمطبعة جوتنبرج موجودة شبيهتها، وموجود إلى جانبها من العمال من يرتدون ملابس عصر جوتنبرج، وصناعة الورق في أيامها الأولى كذلك، أما طرق الأخبار فمصورة بالرسوم أحيانًا وبالتماثيل الصغيرة أحيانًا أخرى. ولعل الكثيرين يضحكون مما كان يصنع آباؤنا في عصورهم الماضية، وإن كان آباؤنا في تلك العصور كانوا يزهون بما عندهم زهونا نحن اليوم بما عندنا. على أنك إذا انتقلت من هذا القسم الذي يعد قديمًا ويعد فاتحة عهد الطباعة والصناعة إلى ما تلاه حتى يومنا الحاضر، رأيت تطورات مدهشة في فكرة الصحافة نفسها وفي طريقة عرضها للأشياء والآراء؛ فصحافة الثورة الفرنسية غير صحافة نابليون، وغير صحافة سنة ١٨٤٨، وغير صحافة الأجيال التي تلت ذلك حتى جيلنا الحاضر، ولعلك مستطيع أن تستخرج من هذه التطورات التاريخية مذاهب في الصحافة لا تقل شيئًا في تأثيرها في الحياة العالمية عن المذاهب الاقتصادية والمذاهب الدينية. ولا ريب أنه إذا كانت المذاهب الاقتصادية قد تركت في حياة الإنسانية أثرًا كالذي تركته المذاهب الاجتماعية والمذاهب الدينية والمذاهب العلمية، فإن المذاهب الصحفية قد تركت مثل هذا الأثر أو أكثر منه، وتدل معروضات القسم التاريخي فيما تدل عليه على أن الصحافة قد حظيت بنصيب من الحرية في مختلف العصور أكثر مما حظيت المذاهب الاقتصادية والدينية، وقد أباحت هذه الحرية الصحفية لمذاهب الصحافة المختلفة — صحافة الرأي وصحافة الأخبار وصحافة التهكم بالكلام أو بالتصوير — أن تتجاور في غير عداوة كالعداوة التي توجد بين مذاهب الاقتصاد أو الدين المختلفة مما يتدخل القانون لقمعه. ثم إني ما أحسب قوة اجتماعية كالصحافة استطاعت أن تستفيد من كل مبدعات العقل البشري في الكشف أو الاختراع استفادتها مما أنتجه الخيال والشعر والفنون جميعًا؛ وقوة هذا شأنها جديرة بالبحث العلمي الصحيح.

وأنت تستطيع أن تستكمل صورة تطور الصحافة إذا انتقلت من القسم التاريخي الذي لم يترك صورة من صور الصحافة في مذاهبها المختلفة، ومن بينها الصحف العلمية والصحف الأدبية والصحف النسوية والصحف الفنية وصحف الألعاب الرياضية وتطورات كل من هذه الصحف في مختلف العصور، إلى القسم المجاور له في المعرض والذي يعرض تفاصيل صحافة العصر الحاضر والأدوات المتصلة بها. وإذا كان طابع هذا القسم ألمانيًّا صرفًا فإن الصحافة في ألمانيا اليوم لا تختلف عن الصحافة في غيرها من أمم العالم. فإذا أنت وقفت من هذا القسم عند الصورة التي وضعت لتبين كيفية اتصال العالم التلغرافي واللاسلكي ورأيت المحطات المختلفة مصورة أثناء اشتغالها بما يتصل بها ويصدر عنها من حركات الكهرباء، لم تكن أمام صورة للصحافة الألمانية وحدها، بل للصحافة في كل أمم العالم في الوقت الحاضر. وإذا أنت انتقلت إلى قسم البريد ونظامه، كنت كذلك أمام نظام البريد في مختلف أمم العالم. على أن الصحفي المصري يشعر أمام ما يرى بالأسف أن كانت هذه الاختراعات وكل هذا التقدم العلمي دون أن يكون لمصر من نصيب، ثم هو يشعر كذلك بأسف خاص حين يقف أمام ماكينات كثيرة تستفيد منها الصحافة في أمم أوربا ولا تستطيع الصحافة العربية الاستفادة منها، بسبب عدم إتقان أشياء كثيرة خاصة بالحروف العربية؛ من ذلك «اللينوتيب» في صوره المختلفة، فهو يسمح للصحف الغربية أن تطبع كل يوم بحروف جديدة يراها القارئ نظيفة واضحة سهلة، على حين تبقى صحفنا في استعمالها للحروف الموزعة في الصناديق تطبع شهورًا متعاقبة بهذه الحروف عينها، حتى تراها في زمن من الأزمان متآكلة يكاد يغيب عنك منها الشيء الكثير، ويكاد يضيع لذلك عليك ما يقصده الكاتب. كذلك ماكينات الكتابة المتصلة اتصالًا كهربائيًّا والتي تسمح لك أن تكتب على إحداها في بلد من البلاد، فإذا ما كتبته قد خطته الماكينة الأخرى في بلد آخر، كما تحدِّث أنت شخصًا بالتليفون وأنت في بلد وهو في آخر. وربما كان لدى الصحفي المصري ما يقلل دواعي الأسف ألا تتمتع الصحافة العربية بهذه الاختراعات الجديدة باستعارة ما في أوربا، وهو صعوبة هذه الاستعارة، لحاجتها إلى ما يمهد للعربية ما تفيده من هذه الاختراعات، ولحاجتها بجانب ذلك إلى رءوس أموال طائلة ما تزال الصحافة وما تزال الطباعة العربية على العموم قاصرة دون الحصول عليها.

ومن إضاعة الوقت وصف هذه الآلات والأدوات التي تشغل طابقين كبيرين في المعرض؛ فلن يستطيع الواصف تصوير الأشياء تصويرًا يجعل القارئ بحيث يراها أو يدرك من أمرها إلا بمقدار ما يسمع من المخترعات الكثيرة في التلغراف اللاسلكي والتليفون اللاسلكي والراديو، وما يقرأ عن المطابع التي تطبع أربعين ألفًا في الساعة وأكثر. ثم إن هو حاول هذا التصوير فلن تكفي لوصف كل ماكينة رسالة طويلة ينتهي الشعر والخيال بالتغلب فيها على الوصف الفني الدقيق الذي لا يعنى به إلا الفنيون، وقليل هم بين القراء، وقليلة حاجتهم إلى الوصف؛ لأنهم يريدون أن يروا رأي العين وأن يفهموا، فإذا أنا أشرت إلى التلغراف وإلى البريد في الحديث من أقسام المعرض، وأشرت إلى تطور الطباعة وتاريخ الصحافة في القسم التاريخي، فما ذلك إلا لتكون أمام القارئ فكرة عن كل من هذين القسمين اللذين يعرضان تطور الصحافة عرضًا مستوفى دقيقًا.

يبقى بعد القسمين السابقين قسم ثالث اصطلحت إدارة المعرض على تسميته بأقسام الدول أو بمعارض الدول، وفي هذا القسم عرضت كل دولة ما رأت عرضه من أمر صحافتها وتاريخها وحاضرها عدا ألمانيا؛ ذلك بأنها كما رأيت العامل المهم في المعرض كله، وبأنها تريد أن تكون للمعرض إلى جانب صبغته الدولية صبغة ألمانية، معناها أن لألمانيا برغم الأحداث الأخيرة من العظمة ما لا تزعزعه الأحداث؛ لذلك تركت ألمانيا لكل صحيفة ألمانية شاءت أن تقيم لنفسها معرضًا خاصًّا مستقلًّا تعرض فيه مطبعتها وتعرض فيه مطبوعاتها.

وأقسام الدول أو معارض الدول تستثير من عنايتك الشيء الكثير؛ ذلك بأن أكثرها لا يقف عند عرض الصحافة وتاريخها وأطوارها وأدواتها عند هذه الأمم، بل يتعدى ذلك إلى شيء من نشر الدعوة لما ترى هذه الأمم ضرورة نشر الدعوة له مما في بلادها؛ فروسيا التي تشغل قسمين كاملين من أقسام المعرض تبهر الأنظار بشيء لا علاقة له بالصحافة ألبتة؛ فأنت ترى حركة دائمة في أسطوانات تدور، وعجلات تدير شرائط طويلة كتبت عليها عبارات مختلفة، وأنوارًا تضيء وتنطفئ، وضجة تقفك عندها بالرغم منك، هذه الضجة هي الدعاية للبلشفية ولما يزعم الروسيون لها من أنها أسبغت على روسيا من خيرات وجرَّت لها من مغانم دفعت الكل إلى التلذذ بالعمل والسعادة في الحياة. وما أكثر ما يقع نظرك على أرقام يزعمون أنهم يؤيدون بها أقوالهم هذه، وليس يدري أحد مبلغ حظها من الصدق ولا مدى إمعانها في الكذب.

كما تنشر روسيا الدعوة للبلشفية تعرض السويد في صورة رقيقة ظريفة مصنوعاتها المختلفة وما امتازت به من ثروة وما في بلادها من جمال تتيسر رؤيته لمن يشاء بسبب سهولة المواصلات. فأما سويسرا فشطر من معرضها مخصص للدعوة إلى السياحة فيها، والسياحة في سويسرا هي في الحق شطر كامل من حياة سويسرا، وأما إسبانيا فدلت بما بالغت في تجميل معرضها بأنها لا تزال يجري في عروق أبنائها مقدار غير قليل من دم العرب الأندلسيين.

لم يتلُ القارئ فيما سلف شيئًا عن الصحافة في معارض الدول، ولي عن تقديم ما قدمت مما في هذه المعارض عذري؛ فهو أكثر فيها ظهورًا من الصحافة وأمرها، وهو الذي يستوقف النظر للوهلة الأولى، ثم هو كل شيء في بعض المعارض، فليس في معرض تركيا إلا بضع سجاجيد عرضها محل من محلات السجاجيد. وليس في معرض رومانيا إلا بعض ملابس للسيدات تباع وتشترى، فأما الصحافة في هذين المعرضين فلا تزيد على مجموعة جرائد ملقاة على منضدة كتلك المجموعات التي تراها في الفنادق والمقاهي معدة ليسلي القراء بها وقتهم فلا يشعروا خلاله بالملال. لكن ذلك ليس معناه أن الصحافة لم تعرض في المعارض كلها على الصورة الواجبة؛ فلقد عنيت بعض الدول بأمرها العناية التي تجعلها حقًّا في المحل الأول من مرافقها جميعًا؛ عنيت بعض الدول بأمرها من الجهة التاريخية، ومن الجهة الإحصائية، ومن ناحية الطباعة والتوزيع، عناية بالغة غاية الجمال، قريبة كل القرب من تصوير الحالة العلمية للأمور الصحفية في كل واحدة من تلك الدول. ولنأخذ سويسرا مثلًا، فأنت ترى على جدرانها خرائط إحصائية بالصحف التي كانت تظهر فيها منذ مائة سنة أو أكثر، وبتطور هذه الصحافة مع الزمن إلى وقتنا الحاضر. وليست تقف تلك الإحصائية عند الأرقام العامة عن مجموع الصحف، بل هي تتناول مع ذلك من التقسيم ما يدلك على تطور الصحف على اختلاف أنواعها من سياسية واجتماعية وعلمية وغيرها، وإلى جانب هذه الخرائط الإحصائية إحصائية بالصحف السويسرية الحاضرة، وأخرى بتقسيم هذه الصحف إلى جرائد رأي وجرائد أخبار، ونسبة جرائد الرأي إلى جرائد الأخبار في سويسرا هي ٩٨ في المائة لجرائد الرأي، و٢ في المائة لجرائد الأخبار. ويدهش الناظر لهذه النسبة المئوية في زمننا هذا الذي تتزايد فيه الجرائد الإخبارية حتى تكاد تطغى على جرائد الرأي وتضطرها إلى أن تجعل القسم الإخباري منها ذا أهمية كبيرة، لكن دهشته تزول حين يرى إلى جانب هذه النسبة السبب الذي أدى إليها؛ فسويسرا هي المثل الأعلى للبلد الديمقراطي؛ كل مديرية من مديرياتها (Canton) مستقلة بشؤونها الداخلية، وكل واحدة من هذه المديريات تحكم نفسها، لا بطريق الانتخاب المباشر، بل بطريق التصويت المباشر؛ فكلما أريد اعتماد مبلغ من المبالغ، أو سن قانون من القوانين، وجب أخذ رأي الشعب، ولكي يستنير الشعب يجب أن تؤيد أمامه أوجه النظر المختلفة لقبول الاعتماد أو لرفضه، والصحافة هي الوسيلة لهذا التأييد؛ لهذا كانت صحافة سويسرا صحافة رأي. ولتعدد المديريات كانت صحف سويسرا كثيرة العدد جدًّا بالنسبة لمجموع السكان والمساحة، وكان السويسريون لهذين السببين من أكثر أهل الأمم قراءة للجرائد، وكان لا بد لذلك من استنباط الوسائل لسهولة توزيعها. ووسائل التوزيع وغيرها مما يتصل بالصحافة في سويسرا معروض أيضًا على صورة جذابة أخاذة للنظر.

وبمثل هذه العناية عرضت السويد وعرضت بولونيا وغيرهما شؤون صحافتها على صورة تختلف عن الصورة التي عرضتها بها سويسرا؛ لأنها تتفق مع الحياة العامة لكل واحدة من هذه الأمم، وقد يعجب الإنسان إذ يعلم أن فرنسا وإنجلترا وأمريكا أقل الدول عناية بعرض شئون صحافتها في هذا المعرض الألماني الدولي. وقسم فرنسا معروضة فيه شؤون الصحافة الفرنساوية ونتف من تاريخها عرضًا أنيقًا، ولكنه لا يدل على كثير مما يريد المدقق أن يقف عليه من شؤون صحافة بلاد الثورة الكبرى والثورات التي تلتها.

وقد يود القارئ أن يقف على الطريقة التي عرضت بها شؤون الصحافة المصرية، والحق أن المجهود الذي بذل في عرضها غير قليل؛ فهي حديثة العهد بالوجود، لا يرجع تاريخها إلى أكثر من خمسين أو ستين سنة مضت. وإلى أواخر القرن الماضي كانت الصحافة المصرية ضعيفة ضعفًا ظاهرًا، وصحافة اليوم لا سبيل إلى عرضها بأكثر من وضع مجموعاتها لمن شاء أن يتصفحها؛ لذلك عرضت نماذج من الصحف المنقرضة، كما عرضت نماذج من الصحف الحديثة؛ لكن ذلك لم يُشفع بشيء من الإحصاء، ولم ينل حظًّا من التقسيم العلمي الذي تحتاج إليه المعارض.

•••

أمام نصف دائرة أقسام الدول حدائق تتلوها نافورات المياه وبركها، ثم الحدائق والمطاعم وأماكن اللهو مما سبق أن تكلمنا عنه، ومن هذه المجموعة كلها يتكون معرض الصحافة، وقد أثار هذا المعرض عند طائفة من علماء الألمان وأساتذتهم البحث في الصحافة والعلوم الصحفية، وهل تكون الصحافة علمًا يدرس أو لا تكون. وللقيام بهذا البحث عقدوا في أبنية المعرض مؤتمر الصحافة الدولي الذي اجتمع في يوم ٨ أغسطس واختتم في يوم ١٠ أغسطس، والذي تناول بحث هذا الموضوع بما لا يدخل في نطاق هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤