مقدمة الطبعة الثانية

خواطر عامة حول موضوع الرسالة

كتبت هذه الرسالة في النضال بين الأهواء والمبادئ، واستكناه وجه الحكمة التي تبدأ منها وتعود إليها أعمال الناس ومساعيهم في هذه الحياة، وفحواها «أن الخير والشر في هذه الدنيا لا ينفصلان، وأن أشرف ما يعرفه الناس من الحق غيرتهم على ما يعتقدون أنه الحق، وأن الحق الذي نعرفه ونغار عليه غير الحق الذي تتوخاه حركات الكون المتجلية في تاريخ البشر، فليس ما نعتقده حقًّا إلا أداة موصلة إلى الحق العميق المكنون عنا، والذي يرتسم طرفٌ منه في عقائد الطبائع القوية السليمة، ومهما بلغ من إجحاف هذه العقائد وقسوتها فهي أرحم بالناس من الموت، والموت كائن لا محالة في خُلُوِّ الناس من العقائد، أفرادًا كانوا أو جماعات.

وإننا إذا أردنا أن نعرف رحمة القُوى المسخرة لهذا الوجود، فلا نعرفها بقياس قوانينها إلى القوانين التي نتخيَّلها ونفترضها ونود أن نجريها في الوجود لو كان الأمر بيدنا، ولكننا نعرف هذه الرحمة المحجوبة بشيء بيِّن واضح؛ هو اليقين بأن القانون الذي يُوضَع لبقاء فرد واحد في عصرٍ واحدٍ، غير القانون الذي يوضع لبقاء جميع الأمم في جميع العصور. وإننا لو سألنا ساخطًا متمردًا على الكون أي الحكمتين أعم رحمة وأوفر خيرًا؛ الحكمة التي تضع القانون الأول، أو الحكمة التي تضع القانون الثاني؟ لما تردَّدَ في الجواب، وحينئذٍ نعلم أن نظامًا ترسمه الحكمة الخالدة لا يمكن أن تكون سعادته وقفًا على مخلوق يُولَد اليوم ويموت غدًا، وأن السعادة المطْلَقة للفرد معناها الإبادة المطْلَقة للنوع، وليس أرحم من حكمة تفدي الوجود الإنساني قاطبة بسعادة واحد منه، ولكنها رحمة لا نعلم أي الناس أحق بظهور آياتها في أعماله وآماله؛ لأننا لا نعلم غايتها، وإذا جهلنا هذه الغاية فنحن لا نجهل حقيقة ثابتة مقررة لا مراء فيها ولا جدال، وهي أنه ليس في العالم فرد أو شعب مهما عظم اقتداره واشتدَّ سعيه وضخمت أهبته وأُحكِمت تدبيراته، يحق له أن يزعم أنه قد صنع في مدته الزائلة ما يؤهِّله لأن يستوعب غاية الكون الأبدية في غايته الموقوتة، فإذا هو اقتدَرَ وسعَى وتأهَّبَ ودبَّرَ، ثم كان من غاية الكون أن لا تتحقق غايته كما يريدها ويتخيلها، فكل ما في الأمر أن غاية الكون أكبر من غاية هذا الفرد أو ذاك الشعب، ومتى تعارضت الغايتان — ولا بد أن تتعارضا في حادثة من الحوادث — فلا ظلم في تضحية الصغرى منهما لأجل الكبرى، بل الظلم أن يُدرَك بمجهود أحد الشعوب ما لا يجوز أن يُدرَك إلا بمجهود الشعوب كافةً ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وقد يأسف الإنسان لهذا القضاء أسفًا يقتل نفسه، ويغم على عقله، ويشل حواسه وطبائعه، فيقف حائرًا لا يدري بِمَ ينصح الذين يريد لهم الخير! وقد يرى أن الشر والخير سواء في أداء غاية الوجود، وأن فوز الشعب الخامل قد يفضي إلى أسباب هذه الغاية كما تفضي إليها خيبة الشعب العامل، فكيف ينصح لهذا الشعب أو ذاك بالجد والعمل، ولا ينصح له بالتواني والجمود؟! وكيف يقيس الأعمال بعضها إلى بعض، وليس لديه المقياس الذي تُقدَّر به نتائج هذه الأعمال؟! وماذا يقول وماذا يصنع وكل قول ككل قول، وكل صنع ككل صنع؟! وهذا أعظم ما يبتلى به العقل من ضروب الحيرة، وربما غلَّه وقيَّد حركته وأيأسه، ولكن العقول الكبيرة لا تلبث أن تنصل من هذه الحيرة مطمئنة صافية، ولن تضيرها شيئًا إذا سلم الجسم من رجة صدمتها، فتعلم أن الظلام الذي كان يغشاها ويلفها في كفن الخبال والتردد ليس هو ظلام العماية المخيمة على أعين الأقدار، وإنما هو ظلام ينتهي إليه كل بصر يرمي إلى ما وراء طفاوة النور المفاضة حوله، ويثبت عنده أن ما أعنته من الألم اللاذع، إنما هو ألم العجز عن استشفاف حجب المستقبل البعيد، لا ألم الكون المتخبط في فوضى ذلك المستقبل، ويعزيه عن هذا العجز أنه لم يؤت العقل ليضبط به أعنة الحوادث، ويصرف به مقادير الخلق، ويسيطر على قوانين الأرض والسماء.

وليس من الحرمان أن تنقصه هذه القدرة، ويعوزه الحكم على أمورٍ لا سلطانَ له على تصاريفها، ولا يَدَ له بتعديلها، فهو إما أن يعلمها ويقبض على أزِمَّتها ليطمئن ويهدأ — فلعمري ما أعظم الثمن الذي يطلبه من الكون جزاء اطمئنانه وهدوئه! إذ هو ثمن لا يقل عن التحكم في نظامه تحكُّمَ الأرباب الخالقين — وإما أن يجهلها، وهذا قصاراه ومبلغ حقه على الكون، فلا يذهب به القلق وراء حده، ولا يحسب أن كل مجهول فريسة الجهل، وأن كل مخبوء ضائع، وأن البلاء كل البلاء على مَن يجيئون بعده أنه جهلهم ولم يشرف عليهم، ولعله بعد ذلك يرتاح إلى هذا الذي كان يحيره ويضله، ونعنى به اختلاف الجزاء عن العمل، فيأنس فيه أثرًا من اللطف بالناس، ومدعاة إلى التعادل بين أنصبتهم؛ لأنهم لو جزموا بفوز كل متفوق في مقدرته وأهبته، لَمَا بقي لِمَن تُسَدُّ في وجوههم أبواب التفوق، أو تحول الحوائل يومًا من الأيام بينهم وبين المقدرة والأهبة؛ سبيلٌ إلى مطمع في الحياة.

على أن يأس المغبون، إذا تمادى به الحزن ولج في الاستسلام، لن يجتث من طبائع الناس بواعث الحياة والتجديد، ولن يطمس ذلك المعين الفوَّار في صدر الإنسان، فهو من قديم الزمن ينحسر من جانب ليطغى من جانب آخَر، ويغيض هنا لينبع هناك، ومهما سلم لهذا المخلوق كيانه وهواؤه وأواصره التي تربطه بالمخلوقات أشباهه، فينابيعه معه موفورة وافية، وأصوله فيه مستقلة نامية، بل معه على غير علم منه مبادئه ومصائره، وأسلافه وسلائله، ونعيمه وعذابه، وأصنامه وأربابه، لا يضعفه حملها بل يقويه، ولا يثقله احتواؤها بل ينشطه ويحييه، وما هو بضائره أن يختل حكمه على حكمة الوجود، أو يكثر من التأويل في افتراض أوائله وأواخره، ما دام ذلك لا يُخرِجه من قلب هذا الوجود أو ينحيه عن مؤثراته، فَلْيبدأ أول الوجود أي مبدأ، وَلْينته آخِره أي منتهى، فإنما قلبه هو قلبه، وصميمه على تعاقب الأزمان هو صميمه، والإنسان عالق بحياته في هذا الصميم لا في أوائله الأزلية ولا في نهايته الأبدية، فهو أيان عاش أحاط به هذا العالم، وحيثما نظرَتْ له عين تحسن أن ترى، فثَمَّ شيء لها تراه، وأينما وجدت نفس تحسن أن تدرك، فثَمَّ حقائق أمامها تدركها، ولن تظمأ حاجة من حاجات النفس وهذه الموارد باقية. اللهم إلا تلك الحاجة المحكوم عليها بالظمأ الأبدي، والتي تموت إن رُوِيت، وهي الحاجة إلى الكمال، وبها تتم الحاجات جميعًا، ومن قبلها يجذبنا زمام الغيب القدير. هذه ينابيع الإنسان التي يعول عليها؛ كلما أضاع أملًا أخرجت له أملًا جديدًا، وكأنها خزانة الجدة العجوز تتربص بالأبناء المسرفين حتى يقنطوا ويضيقوا ذرعًا، فتفرج أزمهم وتسرِّي عنهم وتزوِّدهم بالنصائح الموفقة لهم، وهذه الجدة العجوز لا تبض لك بأمل وعندك أمل خلافه، ولا تفتح لك بابها وأمامك باب سواه، وربما أقنعتك في كل مرة بأنك تحرز الأمل الأخير، فلا تكاد تصدقها حتى يتبيَّنَ لك أنها خزانة لا تنفد، وكنز ذو أوانٍ لا يفتأ يتجدد ولا يتبدد!»

في هذا المعنى وما ذهب مذهبه كتبتُ هذه الرسالة، ولم أزل منذ دارت في نفسي هذه الخواطر أسمع حجة واحدة هي أكثر ما يورده الناس على فساد نظام الكون، وهي مع ذلك أوهن الحجج وأظهرها بطلانًا، وتلك الحجة هي تباين موازين الجزاء، وتنزلها على خلاف المقرر المسلَّم به في عُرْفهم، فهم يقولون: أَمَا كان العدل يقضي بالتسوية بين الناس في منازلهم وحظوظهم؟ أَلَيْس من الغبن أن يغتضر الشاب ويؤخر الهرم، وأن يُحرَم العامل ويُغدَقَ على العاجز، وأن يرتفع الوضيع ويبتذل الكريم، وإن كان هذا مراد الأقدار أَفَمَا كان في وسعها أن ترضي كل مخلوق بنصيبه، وتغني كل طالب عما ليس في يده؟ وازدادت هذه الشكوى بعد الحرب الكبرى فسُمِعت في كل مكان، وكان لها فعل عجيب في تغيُّر الأحوال، وستُسمَع في كل حين ما دام الاختلاف بين الناس، فتكون من أقوى دوافع التيار الإنساني.

والشاكون بهذا اللسان لا يداخلهم الريب في عدل شكواهم، بَيْدَ أنهم ينسون أن أنانيتهم هي الشاكية المتلهفة على التغيير، وأن ليس العالم هو المفتقر إليه، المتوقف نظامه عليه. وإن أحدهم ليقول في أيام رضاه ما لا يقول في أيام سخطه، ثم يتقلب أمله في حالتي الرضا والسخط … فهل يريد أن يتحول العالم معه كلما تحولت به الصروف وتقلَّبت عليه الآمال؟

يشكون من تفاوت الأعمار والحظوظ، وهم إنما تعجبهم من الرجل شجاعته وهمته وجوده، لأن الأعمار مجهولة، ولن يكون لرجل فَضْل بشجاعة أو همة أو وجود لو زالت المخاطر من الدنيا وتساوى الناس في الآجال أو أمنوا بالموت إلا في وقت معلوم، فإذا أمن الشيب والشبان فهل يرضيهم هذا العدل الذي لا تعيش معه فضيلة، والذي يجعل الإنسان أشبه بالإنسان من اللبنة باللبنة، فتبطل مزايا البأس والذكاء والأريحية والمروءة؛ لا قائد ولا مقود، ولا سيد ولا مسود، ولا حاسد ولا محسود، ولا تتشعب علوم أو تتنوع صناعات، أو تتعدد خصال وأعمال، أو تتفرع أجناس وأديان، فأي دنيا تكون هذه وأي حياة؟ إن هؤلاء الشاكين، لو أُسنِد إليهم أمر الكون، لحاروا في تصوُّر هيئةٍ غير هيئته، ولهدموه قبل أن يؤسسوه؛ لأنهم يحسبون أن العالم إذا احتاج بعض أجزائه إلى متمم من أجزائه الأخرى، كان ذلك حجة على نقصه في مجموعه، فتراهم ينكرون الفوضى والفوضى ما يطلبونه، ويريدون العدل والعدل ما يتبرمون به؛ إذ كيف يكون العدل في غير نظام، وكيف يكون النظام في غير اختلاف؟ أليس قضاءً على الكون بالعدم أَلَّا يختلف جزء منه عن جزء في شيء من الأشياء؟ ثم أليس من الجور والخلل أن تتفاوت أجزاؤه في خصائصها وصفاتها وتتساوى في أعمالها ومزاياها؟ ومتى علمنا هذا فَلْنعلم أن من تمام هذا العدل في هذا النظام أن يسلب الناس الرضا به كما سلبوا التساوي فيه؛ لأن الرضا عائد بهم إلى التساوي، والتساوي عائد بهم إلى الفناء، ولن يرضى الناس إلا كرهوا التحول، وكفوا عن العمل، ولن يكف الناس عن العمل إلا تلفوا واضمحلوا. ولنعلم كذلك أن سلامة الأشرار وسوء عقبى الأخيار، بعض الأحيان، هي قوام الخير في هذه الحياة، وإلا فكيف يكون في الأخلاق فضيلة ورذيلة إذا تحقَّقَ جزاؤهما في كل عمل وفي كل يوم؟ وأي فضيلة هذه التي يحملها صاحبها أولًا فأولًا لينال ثوابها، كما يحمل الأجير دفتره يومًا فيومًا وهو على ثقة من قبض أجرته؟ أَوَلَيْسَ جديرًا إذن أن يحمدوا هذا الخلاف، وإن كانت طبائعهم لتتألم منه على رغمها؟ وأن يزداد حمدهم له متى علموا أن هذا الألم هو بغية تُطلَب لذاتها، لا عرض يأتي في طريق ذلك الخلاف المحمود؟

ولستُ أقول إن هذا الألم قربان على مذبح غرض أسمى من الحياة، ولكني أقول إنه قربان الفرد للنوع في سبيل الحياة نفسها، وقد يترقى النوع بهذا القربان أو يقتصر الأمر فيه على التجدد المتكرر، ولكن الحياة وحدها كافية لمَن يحيا ولو لم يتحقق بعدها الكمال المنشود … انظروا إلى الفرق الذي لا حد له بين العدم والوجود! ثم انظروا إلى الفرق الذي لا يحاط به بين الوجود المجرد والحياة الشاعرة الناطقة. انظروا إلى هذا الفرق ما مسافته من الزمان، وما عمقه من الإحساس والإدراك، وما حده من الجمال، واذكروا أنكم تتمتعون في كل لحظة من لحظات عمركم بالفرق السحيق بين العدم والحياة … اذكروا أن روح الوجود تثب فيكم كل لحظة من تلكم اللحظات من هاوية العدم إلى قلب الدنيا النابض الجيَّاش، ويا لها من وثبة! … ما أعظمها وأجلها وما أكبر فرح النفس بها! واذكروا أن أحقر عمل يأتي به المرء في حياته بينه وبين العدم مسافة لا تُعبَر، وأن من جلائل أعمال الحياة ما يجعل الحياة الحقيرة كالعدم، فترى أن الموت أهون عليها من فقده، ولعل أضعف ممَّن يحتقر الحياة إيمانًا بعظمتها أولئك الذين يجعلون بعض الحياة غرضًا لكلها، أولئك الذي يحسبون أنهم إذا قالوا إن غرض الحياة اللذة أو السعادة أو القوة، كانوا أبعد عن الهذر ممَّن يقول إن الغرض من النبات امتصاص زبدة الطين أو اجتذاب ألوان النور، الذين يزعمون أنهم إذا فرقوا بين حياة مُرضِية في نظرهم وحياة أخرى غير مُرضِية لا يطالبون بالفرق بين الحياة والموت؛ هؤلاء ضعاف الإيمان بالحياة لأنهم يتجاوزون عنها اكتفاءً ببعضها، ومثلهم في ذلك مثل المختلفين على الغرض مِن تكوُّن البحر؛ فيقولون تارة إنه اللآلئ والجواهر، وتارة إنه إنشاء السحب وتلطيف الهواء، وتارة إنه التيارات والرياح، وتارة إنه المد والجزر، وتارة إنه نقل السفن عليه، والحقيقة بعيدة عن كل هذا، وليس البحر بحرًا لجملة هذه الأغراض أو لواحد منها، وكذلك الحياة لا تحصر أغراضها ولا تدفع بنا إلى الأغراض التي تفهمها عقولنا، فمَن أراد أن يفهم غرضها فَلْيسألها تُجِبْهُ في نفسه؛ لأن السائل هو الجواب، بل هو كلمة من لغتها المكتوبة الناطقة بغرضها، وعلى قدر ما في هذه الكلمة من المعنى يكون حظ السائل من فهم جواب الحياة.

فَلْنفهمها بلغتها ولا نحاول التعبير عنها بلغتنا، وأقرب ما نشبه به تلك اللغة المبدعة أنها وحي ناطق بالمجاز، كامن في العقول والقلوب والأرواح والحواس، تكتبه بطريقة تصويرية كطريقة المعبرين عن المعاني برموز الكتابة المصورة؛ فتنبت شجرة لتقول النضرة والنماء، وتنشئ ربيعًا لتقول الحب والرواء، وتسعر حربًا لتقول التنازع على البقاء، بل تبدع كونًا لتقول الله والسماء. أو هي تصور ولا تلفظ ونحن نفسِّر ولا نقرأ، وقد صوَّرت حقائقها مرة واحدة في كتاب واحد نحن حروفه وكلماته وأرقامه، فلا نحاول أن نكون قارئين محيطين بهذا الكتاب، وحسبنا منه ما ننطوي عليه من مغزاه.

•••

ولقد كان تأليف هذه الرسالة وطبعها في إبَّان الحرب الكبرى، تلك الحرب التي بلغ فيها الصراع بين المبادئ والأهواء ما لم يبلغه في حروب العالم قديمها وحديثها، فبعثت مخلفات القرون الأولى في نفوس الناس، وقلقلت دعائمها كأنها اعتزمت أن تنشئها نشأة جديدة، فشككت قومًا كانوا يؤمنون، وجذبت إلى الإيمان قومًا كانوا يشكون أو ينكرون، وخُيِّلَ إلى أناس أنها الوقعة الفاصلة بين الحق والباطل، لا تقوم للمقهور منهما قائمة بعدها، وربما كانت هواجسها هذه مما حرَّكني إلى استعراض الخواطر التي كانت تدور بخلدي من قبلُ، ثم إلى تدوينها في هذه الرسالة. والآن وقد انتهت الحرب نهايتها، وجاءت بما في الحسبان وما ليس في الحسبان؛ أراني لا أجد في أسبابها أو أدوارها أو نتائجها تفسيرًا جديدًا للمنازعات بين الناس، فالحريق هائل ولكن النار قديمة، وإن عود الثقاب ونظام المجموعة الشمسية ليستمدان النار من مصدر واحد، وقد يلخص كل ما صنعته الحرب في جملة وجيزة، وهي أنها عجلت التدرج القديم المطرد في نقل الحكم من أيدي الأَقَلِّين إلى أيدي الأكثرين، وسوف يكون لذلك شأن خطير في تصريف أعمال الأمم وضبط معاملاتها وعلاقاتها؛ إذ من البديهي أن الفرق بعيد بين حكومة لا تحتمل خطرًا كبيرًا أو صغيرًا ما لم تحتمه مطالب الأكثرين ممَّن تلحق بهم مغبته، وحكومة أخرى كالحكومات المعهودة تحتمل كل الأخطار إرضاءً للأفراد المعدودين من المتربعين في دسوتها.

ولا أزال أعتقد بعد الحرب — كما كنتُ أعتقد قبلها — أن الغيرة على الحق هي روح الإنسانية، أو هي مظهر أنانيتها وحب البقاء فيها، فإذا هي رضيت لأمة أن تستنزف موارد الأمم بغير الحق ثم اطمأنت إلى هذه الحالة، فقد آذن ذلك بانحلالها، وكان منها بمثابة ضعف الوطنية في الأمة وضعف الحيوية في الفرد، وكلاهما نذير الفناء.

وأختم هذه المقدمة كما ختمت الرسالة قائلًا: اسمعوا صوت الطبيعة، اسمعوه همسًا قبل أن تضطركم إلى سماعه زمجرة ووعيدًا، وَلْيسمعه كل حي على شاكلته؛ يسمعه الشرير فيتمادى في شره، وتسمعه الأمة فتقضي على ذلك الشرير، وتسمعه الإنسانية فتنحي على الأمة التي تفرط في حقوق الحياة، أو التي تمسخ عناصرها الباقية في الأمم إيثارًا لمنافعها المحدودة. وما دام هذا الصوت مسموعَ النداء، فالعالم الإنساني ممدود البقاء.

عباس محمود العقاد
القاهرة في ٨ يناير سنة ١٩٢٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤