الْفَصْلُ الثَّانِي

(١) حَارِسَةُ النَّهْرِ

لَمْ يَكُفَّ «الْجَبَلُ الْآدَمِيُّ» عَنْ صَرَخَاتِهِ الْمُرَوِّعَةِ، وَصَيْحَاتِهِ الْمُفْزِّعَةِ، فِي كُلِّ مَكَانٍ حَلَّ بِهِ. كَانَتْ مَنَابِعُ الْمَاءِ — كَمَا عَلِمْتَ — غَاضَتْ وَجَفَّتْ. كَانَتِ الْحُقُولُ — بَعْدَ قُدُومِهِ — بَارَتْ وَيَبِسَتْ.

كَانَتِ الْقَرْيَةُ فِي كَرْبٍ وَعَنَاءٍ، وَبُؤْسٍ وَشَقَاءٍ، لَمْ يَسْبِقْ لَهَا بِمِثْلِهِمَا عَهْدٌ.

خَرَجَتْ فَتَاةٌ صَغِيرَةٌ حِينَ مَالَتْ شَمْسُ الْيَومِ لِلْغُرُوبِ.

خَرَجَتِ الْفَتَاةُ تَبْحَثُ عَنِ الْمَاءِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ، وَعَنَاءٍ شَدِيدٍ، حَالَفَهَا التَّوْفِيقُ: ظَفِرَتْ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْمَاءِ فِي يَنْبُوعٍ صَغِيرٍ. كَانَ الْيَنْبُوعُ مُشْرِفًا عَلَى الْجَفَافِ.

مَلَأَتِ الْفَتَاةُ الْحَسْنَاءُ جَرَّتَهَا الصَّغِيرَةَ الزَّرْقَاءَ.

كَانَتْ هَذِهِ الْفَتَاةُ حَارِسَةَ النَّهْرِ وَأَمِيرَةَ جِنِّيَّاتِهِ.

(٢) الْعِمْلَاقُ الْعَطْشَانُ

سَارَتِ الْفَتَاةُ فِي طَرِيقِهَا عَائِدَةً إِلَى بَيْتِهَا.

اعْتَرَضَ الْفَتَاةَ الْجَبَلُ الْآدَمِيُّ. سَدَّ عَلَيْهَا مَنَافِذَ الطَّرِيقِ. كَانَ يَصْرُخُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ. سَأَلَهَا أَنْ تَمْنَحَهُ مَا فِي جَرَّتِهَا الصَّغِيرَةِ مِنَ الْمَاءِ.

تَفَزَّعَتْ أَمِيرَةُ الْجِنِّيَّاتِ مِمَّا رَأَتْ. قَفَزَتْ أَمِيرَةُ الْجِنِّيَّاتِ إِلَى الْوَرَاءِ. كَادَتِ الْجَرَّةُ تَسْقُطُ مِنْ يَدِهَا. أَدْرَكَهَا لُطْفُ اللهِ وَعِنَايَتُهُ؛ فَلَمْ تَسْقُطِ الْجَرَّةُ.

أَعَادَ الْجَبَّارُ صَيْحَتَهُ. كَرَّرَ الْجَبَّارُ قَوْلَتَهُ:

«ظَمْآنُ! ظَمْآنُ! لَا بُدَّ مِنْ إِرْوَاءِ عَطَشِي.

عَلَيَّ بِالْمَاءِ! أَسْرِعِي وَلَا تُبْطِئِي.»

قَالَتِ الْفَتَاةُ: «لَا سَبِيلَ إِلَى إِرْوَاءِ ظَمَئِكَ، أَيُّهَا الْعِمْلَاقُ الْعَظِيمُ.»

صَرَخَ الْعِمْلَاقُ: «كَيْفَ تَقُولِينَ؟ أَلَا تَسْتَطِيعِينَ أَنْ تُطْفِئِي نَارَ ظَمَئِي؟

كَيْفَ تَمْتَنِعِينَ؟ إِنَّ جَوْفِي يَكَادُ يَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ.»

دَبَّ الْخَوْفُ إِلَى قَلْبِ الْفَتَاةِ. تَوَسَّلَتْ إِلَيْهِ ضَارِعَةً مُسْتَعْطِفَةً.

قَالَتْ لِلْعِمْلَاقِ: «كَانَ يُسْعِدُنِي أَنْ أَرْوِيَ ظَمَأَكَ، لَو أَسْتَطِيعُ.»

دَوَّى صَوْتُ الْعِمْلَاقِ مُجَلْجِلًا فِي الْفَضَاءِ. كَانَ صَوْتُهُ يُدَوِّي كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ. قَالَ لِلْفَتَاةِ غَاضِبًا: «أَعْطِينِي هَذِهِ الْجَرَّةَ الصَّغِيرَةَ.»

تَوَسَّلَتْ إِلَيهِ الْفَتَاةُ. قَالَتْ لَهُ ضَارِعَةً:

«إِنَّ مَا تَحْوِيهِ الْجَرَّةُ مِنْ قَطَرَاتِ الْمَاءِ الْقَلِيلَةِ لَنْ يُرْوِيَ غَلِيلَكَ (حَرَارَةَ عَطَشِكَ)، وَلَنْ يُطْفِئَ نَارَ ظَمَئِكَ الْمُلْتَهِبَةَ.»

(٣) حِوَارُ الْفَتَاةِ

اشْتَدَّ غَيْظُ الْعِمْلَاقِ. كَادَ يَسْحَقُ الْفَتَاةَ بِقَدَمِهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ.

لَجَأَتِ الْفَتَاةُ إِلَى الْحِيلَةِ. أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ مُتْوَدِّدَةً. حَاوَلَتْ أَنْ تُرَوِّضَهُ كَمَا يُرَوِّضُ السَّائِسُ الْمَاهِرُ جَوَادَهُ حِينَ يُرَبِّتُ ظَهْرَهُ.

قَالَتْ لِلْعِمْلَاقِ مُسْتَعْطِفَةً: «أَشْفِقْ عَلَيَّ يَا سَيِّدِي الْعِمْلَاقُ. ارْحَمْ أُسْرَتِي الْمِسْكِينَةَ الْبَائِسَةَ. إِنَّ مَا تَحْوِيِه الْجَرَّةُ — مِنْ قَطَرَاتِ الْمَاءِ — ضَرُورِيٌّ لِحَيَاتِهَا. لَوْ شَرِبْتَ مَا تَحْوِيِه الْجَرَّةُ مِنْ مَاءٍ قَلِيلٍ هَلَكَتْ أُسْرَتِي عَطَشًا.»

اشْتَدَّ ظَمَأُ الْعِمْلَاقِ. لَمْ يَتْرُكِ الْعَطَشُ فِي قَلْبِهِ مَجَالًا لِلتَّفْكِيرِ فِي غَيْرِهِ.

أَصَرَّ الْعِمْلَاقُ عَلَى إِرْوَاءِ ظَمَئِهِ، وَلَوْ هَلَكَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ فِي الدُّنْيَا.

صَاحَ الْعِمْلَاقُ مُرَدِّدًا: «ظَمْآنُ! ظَمْآنُ!»

رَفَضَتِ الْفَتَاةُ أَنْ تُجِيبَ الْعِمْلَاقَ إِلَى طِلْبَتِهِ.

قَالَتْ لَهُ فِيْ إِصْرَارٍ وَحَزْمٍ، وَثَبَاتٍ وَعَزْمٍ:

«كَلَّا. لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ. لَوْ أَعْطَيْتُكَ جَرَّتِي، لَأَهْلَكْتُ أُسْرَتِي.»

قَالَ الْعِمْلَاقُ مُتَوَعِّدًا: «أَيَّتُهَا النَّمْلَةُ الْجَرِيئَةُ، إِذَا خَالَفْتِ مَشِيئَتِي، وَلَمْ تُذْعِنِي لِإِرَادَتِي، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ أَسْحَقَ جِسْمَكِ بِقَدَمَيَّ.»

مَدَّ الْعِمْلَاقُ يَدَهُ الطَوَيلَةَ لِيَخْطَفَ الْجَرَّةَ.

هَرَبَتِ الْفَتَاةُ مُسْرِعَةً إِلَى بَعْضِ أَشْجَارِ الْغَابَةِ الْقَرِيبَةِ.

اخْتَبَأَتِ الْفَتَاةُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ. انْدَفَعَ الْعِمْلَاقُ نَحْوَ الْفَتَاةِ. دَاسَ بِقَدَمِهِ شَجَرَةً تُجَاوِرُ الشَّجَرَةَ الَّتِي اخْتَبَأَتْ فِيهَا.

حَطَّمَ الْعِمْلَاقُ الشَّجَرَةَ.

كَانَ الْعِمْلَاقُ يَحْسَبُ الْفَتَاةَ مُخْتَبِئَةً بَيْنَ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ الَّتِي دَاسَهَا بِقَدَمِهِ.

نَجَتْ أَمِيرَةُ الْجِنِّيَّاتِ. حَمْدًا للهِ. لَوْلَا لُطْفُهُ لَهَلَكَتِ الْأَمِيرَةُ الْفَتَاةُ.

لَوْ لَمَسَتْهَا قَدَمُ الْعِمْلَاقِ لَسَحَقَتْهَا، وَهَالَتْ عَلَيهَا تُرَابَ الْغَابَةِ وَدَفَنَتْهَا.

نَدَّتْ مِنَ الْفَتَاةِ صَرْخَةٌ حَزِينَةٌ تَرِقُّ لَهَا الْقُلُوبُ.

قَالَتْ الْفَتَاةُ: «رُحْمَاكَ أَيُّهَا الْقَوِيُّ الْغَلَّابُ. أَشْفِقْ عَلَيَّ. لَا تَبْطِشْ بِي.

بِرَبِّكَ إِلَّا رَحِمْتَنِي وَخَلَّيْتَ سَبِيلِي لِأَعُودَ إِلَى أُسْرَتِي، وَأَنْعَمَ بِلِقَاءِ أَهْلِي وَعَشِيرَتِي. أَنَا فَتَاةٌ ضَعِيفَةُ الْحَوْلِ، لَا قُوَّةَ لِي وَلَا طَوْلَ.»

يَا لَقَسْوَةِ الْعِمْلَاقِ! كَرَّرَ صَيْحَتَهُ قَائِلًا: «ظَمْآنُ! ظَمْآنُ!»

قَالَتِ الْفَتَاةُ: «رِفْقًا بِي وَبِأُسْرَتِي. رُحْمَاكَ أَيُّهَا السَّيِّدُ الْعَظِيمُ. إِنَّ جَدَّتِي مُشْرِفَةٌ عَلَى الْمَوْتِ.»

قَالَ الْعِمْلَاقُ: «ظَمْآنُ! ظَمْآنُ!»

قَالَتِ الْفَتَاةُ: «غَاضَ مَاءُ النَّهْرِ. جَفَّ مَاءُ الْعُيُونِ. نَضَبَ مَاءُ الْآبَارِ. يَبِسَ الزَّرْعُ. صَوَّحَتِ الْأَزْهَارُ!

رُحْمَاكَ أَيُّهَا الْعِمْلَاقُ رُحْمَاكَ. أَشْرَفَ أَوْلَادِي عَلَى الْهَلَاكِ.»

قَالَ الْعِمْلَاقُ: «ظَمْآنُ! ظَمْآنُ!»

بَكَتِ الْفَتَاةُ. قَالَتْ لِلْعِمْلَاقِ:

«مَهْمَا يَكُنْ مِنْ أَمْرٍ، فَلَنْ أَكُونَ سَبَبًا فِي هَلَاكِ أُسْرَتِي مِنْ أَجْلِكَ.»

(٤) حِيلَةُ الْفَتَاةِ

طَالَ الْحِوَارُ بَيْنَ الْفَتَاةِ وَالْعِمْلَاقِ عَلَى غَيْرِ فَائِدَةٍ. لَمْ يُصْغِ الْعِمْلَاقُ إِلَى رَجَائِهَا. لَمْ يَرِقَّ لِبُكَائِهَا.

أَبَى إِلَّا أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْجَرَّةِ الْجَمِيلَةِ الزَّرْقَاءِ. أَوْشَكَ أَنْ يَخْطَفَهَا.

أَبْصَرَتِ الْفَتَاةُ بَطَلَ قِصَّتِنَا الْعَظِيمَ. رَأَتْ «سُلَيْمَانَ الْحَطَّابَ» كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ. كَانَ يَمْشِي فِي طَرِيقِهِ إِلَيْهَا.

كَانَ يَحْمِلُ فَأْسَهُ فِي يَدِهِ، وَحَقِيبَتَهُ تَحْتَ إِبِطِهِ.

عَاوَدَ الْفَتَاةَ الرَّجَاءُ. رَأَتْ أَنْ تَلْجَأَ إِلَى الْحِيلَةِ.

رَأَتْ أَلَّا تُغْضِبَ الْعِمْلَاقَ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْفَرَجُ. أَرَادَتْ أَنْ تَكْسِبَ الْوَقْتَ. تَظَاهَرَتْ بِالاقْتِنَاعِ.

تَوَدَّدَتْ إِلَى الْعِمْلَاقِ. تَظَاهَرَتْ بِالْإِذْعَانِ. خَيَّلَتْ إِلَيهِ أَنَّهَا لَنْ تُعَارِضَ فِي مَنْحِهِ الْجَرَّةَ لِيَرْوِيَ ظَمَأَهُ.

قَالَتْ لَهُ مُبْتَسِمَةً:

«لَكَ مَا تَشَاءُ، عَلَى شَرِيطَةٍ وَاحِدَةٍ: هِيَ أَلَّا تَكْسِرَ الْجَرَّةَ.»

قَالَ الْعِمْلَاقُ: «ذَلِكَ لَكِ، أَيَّتُهَا الْفَتَاةُ.»

(٥) تَارِيخُ الْجَرَّةِ

قَالَتِ الْفَتَاةُ لِلْعِمْلَاقِ: «لَوْ عَرَفْتَ تَارِيخَ الْجَرَّةِ، لَعَرَفْتَ سَبَبَ حِرْصِي عَلَيْهَا، وَاحْتِفَاظِي بِهَا.»

قَالَ الْعِمْلَاقُ:

«دَعِيكِ مِنْ تَارِيخِ الْجَرَّةِ. إِنَّ الظَّمَأَ يَكَادُ يَقْتُلُنِي.»

قَالَتِ الْفَتَاةُ:

«أَخِي فِي الرَّضَاعِ صَنَع لِي هَذِهِ الْجَرَّةَ.

صَنَعَهَا مِنْ أَحْسَنِ أَنْوَاعِ الْفَخَّارِ، كَمَا تَرَى.

لَا تَعْجَبْ مِمَّا تَسْمَعُ. كُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِمَّا أَقُولُ. حَذَارِ أَنْ يُخَامِرَكَ الشَّكُّ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. إِنَّنِي مَعْرُوفَةٌ بِالصِّدْقِ.

أَلَا تَعْرِفُ أَخِي؟! إِنَّهُ خَزَّافٌ كَبِيرٌ. إِنَّهُ صَنَّاعٌ بَارِعٌ.

بَذَلَ أَخِي فِي صُنْعِ هَذِهِ الْجَرَّةِ كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ جُهْدٍ وَمَالٍ وَفَنٍّ.

أَلَا تَرَى كَيْفَ لَوَّنَهَا أَخِي — بَعْدَ أَنْ أَتَمَّ صُنْعَهَا — بِهَذَا اللَّوْنِ الْبَدِيعِ؟ أَلَا تَرَى كَيْفَ اسْتَعَارَ هَذَا اللَّوْنَ مِنْ زُرْقَةِ السَّمَاءِ.

هَيْهَاتَ أَنْ تَخْفَى بَرَاعَةُ أَخِي عَلَى فِطْنَتِكَ وَذَكَائِكَ وَحَصَافَتِكَ.

هَيْهَاتَ أَنْ يَغِيبَ عَنْ فَهْمِكَ مِقْدَارُ مَا بَذَلَهُ أَخِي فِي صُنْعِ هَذِهِ الْجَرَّةِ مِنْ أَنَاقَةٍ، وَدِقَّةٍ وَرَشَاقَةٍ، فِي تَثْبِيتِ أَصْبَاغِهَا الْفَاتِنَةِ، الَّتِي لَا يَمْحُو الزَّمَنُ نَضْرَتَهَا، وَلَا يُبْلِي الدَّهْرُ جِدَّتَهَا.

أَلَا تَرَى كَيْفَ صَوَّرَ أُذُنَيْهَا عَلَى لَوْنِ الْغَابِ الْأَخْضَرِ؟

بِرَبِّكَ إِلَّا مَا نَظَرْتَ إِلَى فِدَامِهَا (غِطَائِهَا) الرَّقِيقِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ يُغَطِّي فُوَّهَةَ الْجَرَّةِ فِي بَرَاعَةٍ وَإِحْكَامٍ، وَدِقَّةٍ وَانْسِجَامٍ؟!

لَا تَضِنَّ عَلَيَّ بِرَأْيِكَ الْعَالِي.

بِرَبِّكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي فِي صَرَاحَةٍ وَجَلَاءٍ: أَيُّ شَيْءٍ يُشْبِهُهُ؟

أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى شَقَائِقِ النُّعْمَانِ؟

أَتَعْرِفُ كَمْ بَذَلَ أَخِي فِي صُنْعِهِ مِنْ جَهْدٍ وَفَنٍّ وَوَقْتٍ؟

لَا تَدْهَشْ إِذَا قُلْتُ لَكَ: إِنَّ أَخِي صَنَعَ هَذِهِ الْجَرَّةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ لَا تَنْقُصُ يَوْمًا وَلَا تَزِيدُ يَوْمًا.

لَعَلَّكَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ هَذِهِ الطُّرْفَةَ الْخَزَفِيَّةَ الثَّمِينَةَ هِيَ آخِرُ مَا صَنَعَهُ أَخِي.

لَكَ الْعُذْرُ يَا سَيِّدِي. إِنَّكَ لَا تَعْرِفُ شَيْئًا عَنْ أَخِي، كَمَا لَا تَعْرِفُ شَيْئًا عَنْ تَارِيخِ هَذِهِ الْجَرَّةِ وَصَانِعِهَا.

لَا يَفُوتُنِي أَنْ أُخْبِرَكَ أَنَّ هَذِهِ الْجَرَّةَ هِيَ آخِرُ مَا أَبْدَعَهُ أَخِي مِنْ بَدَائِعَ وَتُحَفٍ. نَعَمْ؛ هِيَ آخِرُ مَا أَبْدَعَهُ الصَّانِعُ الْمَوْهُوبُ.

شُكْرًا لِأَخِي! مَا أَبْدَعَ صُنْعَهُ، وَمَا أَرْوَعَ فَنَّهُ!

إِنَّ أَخِي سَيَبْتَهِجُ حِينَ أَحْمِلُ إِلَيْهِ إِعْجَابَكَ بِفَنِّهِ وَبَرَاعَتِهِ، وَثَنَاءَكَ عَلَى صِدْقِ أَصَالَتِهِ، وَتَفَوُّقِهِ وَأَلْمَعِيَّتِهِ.»

(٦) الْهَدْهَادُ

غَضِبَ الْعِمْلَاقُ. كَادَ الضَّجَرُ وَالسَّآمَةُ يَقْتُلَانِه. لَمْ يُطِقْ سَمَاعَ هَذِهِ الثَّرْثَرَةَ. قَاطَعَ الْفَتَاةَ قَائِلًا: «مَنْ أَخُوكِ هَذَا الَّذِي تَتَحَدَّثِينَ عَنْهُ؟

مَاذَا يَعْنِينِي مِنْ خَزَّافٍ يَصْنَعُ الْجِرَارَ؟

خَبِّرِينِي: أَكَانَ أَخُوكِ سَقَّاءً يَرْوِي أَمْثَالِي مِنَ الظَّامِئِينَ؟

أَكَانَ تَاجِرَ مَاءٍ يَسْقِي الْعَطَاشَى الْهَائِمِينَ؟»

قَالَتِ الْفَتَاةُ: «كَلَّا، يَا سَيِّدِي الْعِمْلَاقَ. مَا كَانَ أَخِي سَقَّاءً وَلَا تَاجِرَ مَاءٍ. كَانَ أَخِي — فِي طُفُولَتِهِ — صَنَّاعًا بَارِعًا. كَانَ فَنِيًّا مَوْهُوبًا. مَرْضِيَّ الشَّمَائِلِ مَحْبُوبًا. كَانَتْ تَبْدُو النَّجَابَةُ عَلَى مُحَيَّاهُ (وَجْهِهِ)، لِكُلِّ مَنْ يَرَاهُ.

كَانَتْ سِيمَاهُ تُبَشِّرُ مَنْ يَرَاهُ، بِمُسْتَقْبَلٍ عَظِيمٍ فِي الْحَيَاةِ. لِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ لَقَبَ «الْوَاعِدِ».

كَبِرَ أَخِي. أَصْبَحَ فَتًى بَعْدَ أَنْ كَانَ طِفْلًا. اكْتَمَلَتْ مَوَاهِبُ الْفَتَى، تَجَلَّتْ لِلنَّاسِ شَمَائِلُهُ، وَبَهَرَتْهُمْ فَضَائِلُهُ.

كَانَ أَخِي يَتَمَيَّزُ بِأَلْمَعِيَّةٍ نَادِرَةِ الْمِثَالِ، وَعَبْقَرِيَّةٍ لَمْ أَرَهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ. كَانَ ذَا بَرَاعَةٍ فَائِقَةٍ، وَقُدْرَةٍ خَارِقَةٍ، عَلَى النَّفَاذِ إِلَى الدَّقَائِقِ، وَتَفَهُّمِ مَا صَعُبَ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَحَلِّ مَا تَعَقَّدَ مِنَ الْمَشَاكِلِ.

عَرَف النَّاسُ فِيهِ كُلَّ هَذِهِ الْمَزَايَا الْبَارِعَةِ، فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَقَبَ الْهَدْهَادِ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤