الْفَصْلُ الثَّالِثُ

(١) غَضَبُ الْعِمْلَاقِ

اشْتَدَّ غَضَبُ الْعِمْلَاقِ. قَالَ لِلْفَتَاةِ ثَائِرًا:

«الْوَيْلُ لَكِ أَيَّتُهَا النَّمْلَةُ الحقيرة. كَيْفَ تَسْخَرِينَ مِنِّي بِهَذِهِ الْأَضَاحِيكِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ؟ كَيْفَ تُضَيِّعِينَ وَقْتِي بِتِلْكَ الْأَبَاطِيلِ وَالتُّرَّهَاتِ. أَلَا تَكُفِّينَ عَنِ الثَّرْثَرَةِ وَالْهَذَيَانِ. هَاتِي الْجَرَّةَ. حَذَارِ أَنْ تَنْطِقِي بِكَلِمَةٍ أُخْرَى.

صَهٍ أَيَّتُهَا الْحَمْقَاءُ. مَهٍ أَيَّتُهَا الْخَرْقَاءُ.»

كَانَ الْحَطَّابُ يُوَاصِلُ السَّيْرَ. هَا هُوَ ذَا يَقْتَرِبُ. أَصْبَحَ الْآنَ عَلَى بُعْدِ خُطُوَاتٍ. هَا هِيَ ذِي تَسْمَعُ وَقْعَ أَقْدَامِهِ.

لَاحَ لِلْفَتَاةِ أَمَلٌ فِي النَّجَاةِ. غَوَّثَتِ الْفَتَاةُ. خَرَجَتْ مُسْتَنْجِدَةً.

سَمِعَ الْحَطَّابُ صَيْحَتَها. سُرْعَانَ مَا اهْتَدَى الْحَطَّابُ إِلَى مَكَانِ الْفَتَاةِ.

(٢) بَيْنَ الْعِمْلَاقِ وَالْحَطَّابِ

أَسْرَعَتِ الْفَتَاةُ إِلَيْهِ مُسْتَنْجِدَةً بِهِ. طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَحْمِيَهَا مِنْ فَتْكِ الْعِمْلَاقِ الَّذِي لَا تَعْرِفُ الرَّحْمَةُ إِلَى قَلْبِهِ سَبِيلًا.

سَمِعَ الْعِمْلَاقُ شَكْوَاهَا وَاسْتِغَاثَتَهَا. اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ. كَادَ الشَّرَرُ يَتَطَايَرُ مِنْ عَيْنَيْهِ. ضَرَبَ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْهِ ضَرْبَةً شَدِيدَةً؛ تَكَاثَفَتْ عَلَى أَثَرِهَا سُحُبُ الْعِثْيَرِ وَالْغُبَارِ. كَادَ التُّرَابُ الْمُثَارُ يَدْفِنُ الْفَتَاةَ حَيَّةً.

أَوْشَكَ الْحَطَّابُ أَنْ يَسْقُطَ عَلَى ظَهْرِهِ. كَادَ يُدْفَنُ مَعَ الْفَتَاةِ حَيًّا بَيْنَ كَوْمَاتِ التُّرَابِ الَّتِي أَثَارَهَا الْعِمْلَاقُ الْغَاضِبُ.

تَسَلَّلَتِ الْفَتَاةُ بَيْنَ سَاقَيِ الْعِمْلَاقِ هَارِبَةً.

(٣) شَجَاعَةُ الْحَطَّابِ

سُرْعَانَ مَا تَمَاسَكَ الْحَطَّابُ وَاعْتَصَم بِشَجَاعَتِهِ وَثَبَاتِهِ.

قَالَ لِلْعِمْلَاقِ فِي هُدُوءٍ وَاطْمِئْنَانٍ: «مَا شَأْنُكَ — أَيُّهَا الْعِمْلَاقُ — بِهَذِهِ الْفَتَاةِ الضَّعِيفَةِ. كَيْفَ تُرَوِّعُهَا؟ أَلَا تَرْثِي لِضَعْفِهَا؟ مَا بَالُكَ تُهَاجِمُهَا وَهِيَ لَا تَسْتَطِيعُ دَفْعَكَ، وَلَا تَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَتِكَ؟»

غَضِبَ الْعِمْلَاقُ مِمَّا سَمِعَ، دَمْدَمَ الْعِمْلَاقُ صَارِخًا:

«ظَمْآنُ! لَا بُدَّ لِي مِنَ الرِّيِّ. أَكَادُ أَمُوتُ مِنَ الظَّمَإِ، وَالْمَاءُ فِي جَرَّتِهَا.»

أَجَابَهُ الْحَطَّابُ: «إِنَّ كُلَّ مَا تَحْوِيهِ الْجَرَّةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ الْمَاءِ قَطَرَاتٌ قَلِيلَةٌ لَا تُرْوِي ظَمَأَكَ.»

قَالَ الْعِمْلَاقُ صَارِخًا: «كَذَبْتَ وَافْتَرَيْتَ.

مَا لَكَ وَمَا لِي؟ مَا أَنْتَ وَالْفَتَاةَ؟ كُفَّ عَنْ فُضُولِكَ، أَيُّهَا الثَّرْثَارُ.»

الْتَفَتَ الْعِمْلَاقُ إِلَى الْفَتَاةِ قَائِلًا:

«هَاتِيَ الْجَرَّةَ — أَيَّتُهَا الْفَتَاةُ — وَإِلَّا سَاءَتِ الْعَاقِبَةُ.»

أَجَابَتْهُ الْفَتَاةُ مُتَحَمِّسَةً:

«إِنَّ حَيَاةَ أُسْرَتِي رَهْنٌ بِهَذَا الْمَاءِ. إِذَا شَرِبْتَهُ أَنْتَ هَلَكْنَا جَمِيعًا.»

صَاحَ الْحَطَّابُ مُتَوَعِّدًا: «لَوْ أَسْتَطِيعُ لَحَوَّلْتُ هَذَا الْمَاءَ سَمًّا زُعَافًا، حَتَّى لَا تَشْرَبَ مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً.»

صَاحَ الْعِمْلَاقُ غَاضِبًا مُتَوَعِّدًا: «تَبًّا لَكَ مِنْ غَبِيٍّ. الْوَيْلُ لَكَ أَيُّهَا الْفُضُولِيُّ. أَفِي الدُّنْيَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَجْرُؤُ عَلَى مُعَارَضَتِي؟!»

أَجَابَ الْحَطَّابُ فِي هُدُوءٍ وَثَبَاتٍ: «لَا تَسْتَبْعِدْ ذَلِكَ. إِنَّ الْحَطَّابَ الْوَاقِفَ أَمَامَكَ يَقْدِرُ عَلَى تَنْفِيذِ مَا يَقُولُ.»

(٤) سُخْرِيَةُ الْعِمْلَاقِ

تَضَاعَفَ غَضَبُ الْعِمْلَاقِ مِمَّا سَمِعَ.

رَفَعَ الْعِمْلَاقُ يَدَهُ الضَّخْمَةَ يُلَوِّحُ بِهَا فِي الْفَضَاءِ، وَيَشُقُّ الْهَوَاءَ. انْدَفَعَ إِلَى الْحَطَّابِ مُنْذِرًا مُتَوَعِّدًا بِتَحْطِيمِ رَأْسِهِ الصَّغِيرِ.

ارْتَجَفَتِ الْفَتَاةُ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهَا وَعَلَيْهِ.

لَمْ يُبَالِ الْحَطَّابُ الشُّجَاعُ بِوَعِيدِهِ.

أَجَابَ فِي ثِقَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ:

«لَا بُدَّ مِنْ حِمَايَةِ الْفَتَاةِ، كَلَّفَنِي ذَلِكَ مَا كَلَّفَنِي. سَأُنْقِذُ الْفَتَاةَ مِنْكَ وَلَوْ كُنْتَ شَيْطَانَ الشَّيَاطِينِ، وَزَعِيمَ الْمَرَدَةِ الْأَبَالِسَةِ أَجْمَعِينَ.»

اِنْدَفَعَ الْحَطَّابُ نَحْوَ الْعِمْلَاقِ يُلَوِّحُ بِمِلْطَسِهِ مُنْذِرًا مُتَوَعِّدًا.

لَمْ يَتَمَالَكِ الْعِمْلَاقُ أَنْ يَضْحَكَ. لَهُ الْعُذْرُ فِي ذَلكَ.

مَا أَعْظَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ! يَحَارُ الْعَقْلُ فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَهُمَا.

(٥) مُبَارَاةُ الرُّمَاةِ

كَانَ الْحَطَّابُ — كَمَا حَدَّثْتُكَ — مَعْرُوفًا بَيْنَ النَّاسِ بِالاِسْتِقَامَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالثَّبَاتِ وَالنَّجْدَةِ وَالْبَرَاعَةِ. لَمْ يَنْسَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ مَا صَنَعَهُ — مُنْذُ عَامَيْنِ — فِي الْمُبَارَاةِ الَّتِي أَقَامَهَا أَمِيرُهُمْ.

كَانَتْ مُبَارَاةً عَجِيبَةً، حَشَدَ لَهَا الْأَمِيرُ أَبْرَعَ الرُّمَاةِ مِنْ جَبَابِرَةِ عَصْرِهِ، وَأَعَدَّ جَائِزَةً كَبِيرَةً لِمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصِيبَ بِسَهْمِهِ الْهَدَفَ عَلَى بُعْدِ خَمْسِينَ مِتْرًا.

بَذَلَ الرُّمَاةُ جُهُودَهُمْ عَلَى غَيْرِ طَائِلٍ.

لَمْ يَظْفَرْ بِالْجَائِزَةِ أَحَدٌ مِنْهُمْ. اسْتَطَاعَ مِائَةٌ مِنْ جَبَابِرَةِ الرُّمَاةِ أَنْ تَقْتَرِبَ سِهَامُهُمْ مِنَ الْهَدَفِ؛ لَكِنَّهَا لَمْ تُصِبْهُ.

كَادَتِ الْمُبَارَاةُ تَنْتَهِي بِإِخْفَاقِ الرُّمَاةِ جَمِيعًا.

هُنَا أْقَبَلَ الْحَطَّابُ. اسْتَأْذَنَ الْأَمِيرَ فِي مُشَارَكَةِ الرُّمَاةِ.

أَذِنَ لَهُ الْأَمِيرُ فِي دُخُولِ الْمُبَارَاةِ.

وَقَفَ النَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ جُرْأَةِ الْحَطَّابِ.

أَتُرَاهُ قَادِرًا عَلَى إِصَابَةِ الْهَدَفِ وَالظَّفَرِ بِالْجَائِزَةِ، بَعْدَ أَنْ أَخْفَقَ الرُّمَاةُ؟ مَنْ يَدْرِي. لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ.

وَقَفَ الْحَطَّابُ مُتَحَفِّزًا. سَدَّدَ فَأْسَهُ إِلَى الْهَدَفِ الْبَعِيدِ. قَذَفَ بِهَا فِي بَرَاعَةٍ وَسَدَادٍ. يَا لَلْبَرَاعَةِ! أَصَابَتْ فَأْسُهُ الْهَدَفَ فِي الصَّمِيمِ.

انْغَرَسَتْ فِيهِ. لَمْ تَحِدْ عَنْهُ قِيدَ (مَسَافَةَ) شَعْرَةٍ.

هَشَّ الْحَاضِرُونَ. تَعَالَتْ أَصْوَاتُهُمْ مُهَلِّلِينَ. صَفَّقُوا لَهُ مُعْجَبِينَ.

أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ وَالْمُتَبَارُونَ مُهَنِّئِينَ.

أَطْلَقُوا عَلَيْهِ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — لَقَبَ «قَاهِرِ الْجَبَابِرَةِ».

•••

أَيُّهَا الْقَارِئُ الْعَزِيزُ: لَعَلَّكَ عَرَفْتَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ «قَاهِرَ الْجَبَابِرَةِ» لَيْسَ بِالرَّجُلِ الضَّعِيفُ.

لَعَلَّكَ أَدْرَكْتَ أَنَّ بَطَلَ قِصَّتِنَا لَنْ يَكُونَ — عَلَى أَيِّ حَالٍ — لُقْمَةً سَائِغَةً يَزْدَرِدُهَا الْعِمْلَاقُ.

(٦) مَصْرَعُ الْعِمْلَاقِ

نَظَرَ الْعِمْلَاقُ إِلَى الْحَطَّابِ فِي احْتِقَارٍ وَاسْتِخْفَافٍ.

عَجِبَ مِنْ غُرُورِهِ وَحَمَاقَتِهِ، وَاعْتِدَادِهِ بِنَفْسِهِ وَجَراءَتِهِ.

أَغْرَقَ الْعِمْلَاقُ فِي الضَّحِكِ حِينَ رَأَى الْحَطَّابَ يُلَوِّحُ بِمِلْطَسِهِ وَيَهُمُّ يَقْذِفُهُ بِهِ، كَمَا تَعَوَّدَ أَنْ يَقْذِفَ شَجَرَةَ الْبَلُّوطِ الْكَبِيرَةَ.

اشْتَدَّتْ دَهْشَةُ الْعِمْلَاقِ حِينَ رَآهُ يَتَهَيَّأُ لِمُصَارَعَتِهِ وَالِاشْتِبَاكِ مَعَهُ.

كَيْفَ أَقْدَمَ الْحَطَّابُ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى تَفَاوُتِ الْقُوَّتَيْنِ، وَتَبَايُنِ الْجِسْمَيْنِ؟!

قَالَ الْعِمْلَاقُ ضَاحِكًا: «أَتَعْرِفُ أَنَّ صَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ يَدِي كَفِيلَةٌ أَنْ تَسْحَقَ مِائَةً مِنْ أَمْثَالِكَ، وَتُلْصِقَ أَجْسَادَهُمْ بِالتُّرَابِ؟»

أَجَابَهُ الْحَطَّابُ: «لَا تَغْتَرَّ بِقُوَّتِكَ. حَذَارِ أَنْ تَسْتَهِينَ بِي.

إِنَّ الْمَطَرَ الْقَلِيلَ طَالَمَا سَكَّنَ الْعَاصِفَةَ الْهَوْجَاءَ.»

رَأَى الْحَطَّابُ يَدَ الْعِمْلَاقِ تَمْتَدُّ إِلَيْهِ لِتَسْحَقَهُ. انْدَفَعَ الْحَطَّابُ مُتَحَمِّسًا.

سَدَّدَ مِلْطَسَهُ إِلَى قَلْبِ الْعِمْلَاقِ، كَمَا سَدَّدَ الْفَأْسَ مُنْذُ عَامَيْنِ إِلَى الْهَدَفِ.

عَاجَلَ الْعِمْلَاقَ بِضَرْبَةٍ سَرِيعَةٍ حَاسِمَةٍ، كَانَتْ لِحَيَاتِهِ خَاتِمَةً.

انْتَصَرَ الْحَطَّابُ الشُّجَاعُ. هَوَى الْعِمْلَاقُ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا تَهْوِي شَجَرَةُ الْبَلُّوطِ الشَّامِخَةِ، بَعْدَ أَنْ تَقْتَلِعَهَا الْعَاصِفَةُ.

شَكَرَتِ الْفَتَاةُ لِقَاهِرِ الْجَبَابِرَةِ مَا أَسْدَى إِلَيْهَا مِنْ جَمِيلٍ.

انْطَلَقَتِ الْفَتَاةُ إِلَى بَيْتِهَا نَاجِيَةً. انْقَضَتْ عَلَى الصِّرَاعِ سَاعَةٌ. أَفَاقَ الْعِمْلَاقُ مِنْ إِغْمَاءَتِهِ. نَهَضَ خَائِرًا مُضَعْضَعًا. كَانَ الدَّمُ يَنْزِفُ مِنْ وَجْهِهِ.

انْطَلَقَ يَجْرِي حَائِرًا. جَهَدَهُ الظَّمَأُ. اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ. دَوَّى صَوْتُهُ فِي الْفَضَاءِ مُجَلْجِلًا مُرَدِّدًا: «ظَمْآنُ! ظَمْآنُ! أَلَا مَنْ يُغِيثُ الْعَطْشَانَ!؟»

خَارَتْ قُوَّةُ الْعِمْلِاقِ. هَوَى إِلَى الْأَرْضِ صَرِيعًا. فَاضَ رُوحُهُ. ذَهَبَ إِلَى أَعْمَاقِ الْجَحِيمِ. تَمَّ لِلْحَطَّابِ الْفَوْزُ وَالاِنْتِصَارُ، عَلَى الشَّقِيِّ الْجَبَّارِ.

اسْتَرَاحَ الْجَمِيعُ مِنْ شَرِّ الْعِمْلَاقِ وَأَذَاهُ. حَمْدًا للهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤